Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 5-6)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَعْدُ } أي : موعود ، فهو مصدر واقع موقع مفعول ، وتركه الزمخشريُّ على حاله ، لكن بحذف مضافٍ ، أي : وعدُ عقاب أولاهما . وقيل : الوعدُ بمعنى الوعيد ، وقيل : بمعنى الموعد الذي يراد به الوقت ، فهذه أربعة أوجهٍ ، والضمير عائدٌ على المرَّتينِ . قوله : " عِبَاداً لَنَا " العامة على " عِبَاد " بزنة فِعَال ، وزيد بن عليٍّ والحسن " عَبِيداً " على فعيل ، وتقدَّم الكلام على ذلك . وقوله : " فَجاسُوا " عطف على " بَعثْنَا " ، أي : ترتَّب على بعثنا إياهم هذا . وجُوس بفتح الجيم وضمها مصدر جاسَ يَجُوسُ ، أي : فتَّش ونقَّب ، قاله أبو عبيدٍ ، وقال الفراء : " قَتلُوا " قال حسان : [ الطويل ] @ 3376 - ومِنَّا الَّذي لاقَى بِسيْفِ مُحمَّدٍ فَجَاسَ بِهِ الأعْداءُ عَرْضَ العَساكرِ @@ وقال أبو زيد : " الجُوسُ والجَوْسُ والحَوْسُ والهَوْسُ طلب الطَّوف باللَّيْلِ " . وقال قطربٌ : " جَاسُوا : نَزلُوا " . وأنشد : [ المتقارب ] @ 3377 - فَجُسْنَا دِيَارهُمْ عَنْوَةً وأبْنَا بِسَاداتِهمْ مُوثَقِينَا @@ وقيل : " جَاسُوا بمعنى دَاسُوا " ، وأنشد : [ الرجز ] @ 3378 - إلَيْكَ جُسْنَا اللَّيْلَ بالمَطِيِّ @@ وقيل : الجَوْسُ : التردُّد . قال الليث : الجَوْس ، والجوسان : التردُّد وقيل : طلب الشيءِ باستقصاءٍ ، ويقال : " حَاسُوا " بالحاءِ المهملة ، وبها قرأ طلحةُ وأبو السَّمَّال ، وقُرِىء " فجُوِّسُوا " بالجيم ، بزنة نُكِّسُوا . و " خلال الدِّيارِ " العامة على " خِلال " وهو محتملٌ لوجهين : أحدهما : أنه جمعُ خللٍ ؛ كجِبال في جبل ، وجمال في جَمل . والثاني : أنه اسمٌ مفردٌ بمعنى وسطٍ ، ويدل له قراءة الحسن " خَلَلَ الدِّيارِ " . قوله : " وكان وعْداً " ، أي : وكان الجوسُ ، أو وكان وعْدُ أولاهما ، أو وكان وعدُ عقابهم . قوله تعالى : { ٱلْكَرَّةَ } : مفعول " رَدَدْنَا " وهي في الأصل مصدر كرَّ يكُرُّ ، أي : رجع ، ثم يعبَّر بها عن الدَّولةِ والقهر . قوله : " عَليْهِم " يجوز تعلُّقه بـ " رَدَدْنَا " ، أو بنفس الكرَّة ؛ لأنه يقال : كرَّ عليه ، فتتعدَّى بـ " عَلَى " ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من " الكرَّة " . قوله : " نَفِيراً " منصوبٌ على التمييز ، وفيه أوجهٌ : أحدها : أنه فعيلٌ بمعنى فاعل ، أي : أكثر نافراً ، أي : من يَنْفِرُ معكم . الثاني : أنه جمع نفرٍ ؛ نحو : عَبْدٍ وعبيدٍ ، قاله الزجاج ؛ وهم الجماعة الصَّائرُون إلى الأعداء . الثالث : أنه مصدر ، أيك أكثر خروجاً إلى الغزو ؛ قال الشاعر : [ المتقارب ] @ 3379 - فَأكْرِمْ بقَحْطانَ مِنْ والِدٍ وحِمْيَرَ أكْرِمْ بقَوْمٍ نَفِيرَا @@ والمفضل عليه محذوفٌ ، فقدره بعضهم : أكثر نفيراً من أعدائكم ، وقدَّره الزمخشريُّ : أكثر نفيراً ممَّا كنتم . فصل في معنى الآية معنى الآية : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا } يعني أوَّل المرَّتين . قال قتادة : " إفسادهم في المرَّة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة وركبوا المحارم " . وقال ابن إسحاق : " إفسادهم في المرَّة الأولى قتل شعيا في الشجرة ، وارتكابهم المعاصي " . { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ } . قال قتادة : " يعني جالوت وجنوده ، وهو الذي قتلهُ داود ، فذاك هو عودُ الكرَّة " . وقال سعيد بن جبيرٍ : " سنحاريب من أرض نينوى " وقال ابن إسحاق : " بُخْتَنصَّر البابليّ وأصحابه " وهو الأظهر ، فقتل منهم أربعين ألفاً ممَّن يقرأ التوراة ، وذهب بالبقيَّة إلى أرضه ، فبقوا هناك في الذلِّ إلى أن قيَّض الله ملكاً آخر من أهل بابل ، واتَّفق أن تزوَّج بامرأةٍ من بني إسرائيل ، فطلبت تلك المرأةُ من ذلك الملك أن يردَّ بني إسرائيل إلى بيت المقدس ، ففعل ، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ، ورجعوا إلى أحسن ما كانوا ، وهو قوله : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ } . وقال آخرون : يعني بقوله : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ } هو أنه تعالى ألقى الرُّعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس ، فلما كثرت المعاصي فيهم ، أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس ، فقصدوهم ، وبالغوا في قتلهم ، وإفنائهم ، وإهلاكهم . واعلم أنه لا يتعلق كثير غرضٍ في معرفة الأقوام بأعيانهم ، بل المقصود هو أنهم لمَّا أكثروا من المعاصي ، سلَّط الله عليهم أقواماً قتلوهم وأفنوهم . فصل في الاحتجاج على صحة القضاء والقدر احتجُّوا بهذه الآية على صحَّة القضاء والقدر من وجهين : الأول : أنه تعالى قال : { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ } ، وهذا القضاءُ أقلُّ احتمالاته الحكم الجزم والخبر الحتم ، فثبت أنَّه تعالى أخبر عنهم أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي خبراً وجزماً ، حتماً ، لا يقبل النَّسخ ؛ لأنَّ القضاء معناه الحكم الجزم ، ثم إنه الله تعالى أكَّد القضاء بقوله : { وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } . فنقول : عدم وقوع ذلك الفساد منهم يستلزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً ، وانقلاب حكمه الجازم باطلاً ، وانقلاب علمه الحقِّ جهلاً ، وكل ذلك محال ، فكان عدم إقدامهم على ذلك الفساد محالاً ، وكان إقدامهم عليه واجباً ضرورياً ، لا يقبل النَّسخ والرفع ، مع أنَّهم كلِّفُوا بتركه ، ولعنوا على فعله ؛ وذلك يدل على أن الله قد يأمر بالشيء ويصدُّ عنه وقد ينهى عن الشيء ويسعى فيه . الثاني : قوله : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } والمراد به الذين تسلطوا على بني إسرائيل بالقتل والنَّهب والأسر ، فبيَّن تعالى أنَّه هو الذي بعثهم على بني إسرائيل ، ولا شكَّ أن قتل بني إسرائيل ونهب أموالهم وأسر أولادهم كان مشتملاً على الظلم الكبير والمعاصي العظيمة . ثم إنه تعالى أضاف كلَّ ذلك إلى نفسه بنفسه بقوله : { ثُمَّ بَعَثْنَا } وذلك يدلُّ على أن الخير والشر والطاعة والمعصية من الله تعالى . أجاب الجبائيُّ عنه من وجهين : الأول : قوله : " بَعَثْنَا " هو أنَّه تعالى أمر أولئك القوم بغزو بني إسرائيل ؛ لما ظهر فيهم من الفساد ، فأضيف ذلك الفعل إلى الله من حيث الأمرُ . والثاني : أنَّ المراد : خَلَّيْنَا بينهم وبين بني إسرائيل ، وما ألقينا الخوف من بني إسرائيل في قلوبهم ، فالمراد من هذا البعث التخليةُ وعدم المنع . والجواب الأوَّل ضعيفٌ ؛ لأن الذين قصدوا تخريب بيت المقدس ، وإحراق التوراة ، وقتل حفَّاظ التوراة لا يجوز أن يقال : إنهم فعلوا ذلك بأمر الله . والجواب الثاني أيضاً ضعيفٌ ؛ لأنَّ البعث عبارةٌ عن الإرسال ، والتخلية عبارةٌ عن عدم المنع ، فالأول فعلٌ ، والثاني تركٌ ، فتفسير البعث بالتخلية تفسير لأحد الضدَّين بالآخر ، وإنه لا يجوز ، فثبت صحَّة ما ذكرناه .