Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 7-8)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ } الآية لما حكى تعالى عنهم بأنَّهم لما عصوا ، سلَّط الله عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنَّهب ، فعند ذلك ظهر أنهم أطاعوا ، فقال تعالى : إن أطاعوا ، فقد أحسنوا إلى أنفسهم ، وإن أصرُّوا على المعصية ، فقد أساءوا إلى أنفسهم ، وقد تقرَّر في العقول أن الإحسان إلى النَّفْسِ حسنٌ مطلوبٌ ، وأن الإساءة إليها قبيحةٌ ، فلهذا المعنى قال تعالى : { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } . قوله تعالى : { فَلَهَا } : في اللام أوجه : أحدها : أنها بمعنى " على " أي : فعليها كقوله : [ الطويل ] @ 3380 - … فَخَرَّ صَرِيعاً لليَدَيْنِ وللْفَمِ @@ أي : على اليدين . وحروف الإضافة يقوم بعضها مقام بعضٍ ؛ كقوله : { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا } [ الزلزلة : 5 ] أي : إليها . والثاني : أنها بمعنى " إلى " . قال الطبريُّ : " أي : فإليها ترجعُ الإساءة " . الثالث : أنها على بابها ، وإنما أتى بها دون " على " للمقابلة في قوله : " لأنْفُسكُمْ " فأتى بها ازدواجاً . وهذه اللام يجوز أن تتعلق بفعل مقدرٍ كما تقدَّم في قول الطبريِّ ، وإمَّا بمحذوف على أنها خبر لمبتدأ محذوف تقديره : فلها الإساءةُ لا لغيرها . قال الواحدي : لا بُدَّ في الآية من إضمارٍ ؛ والتقدير : وقلنا : " إنْ أحسَنْتُم ، أحسنتم لأنفُسِكُمْ " والمعنى : إنْ أحْسَنْتُمْ بفعل الطاعات ، فقد أحسنتم إلى أنفسكم من حيث إن تفعلوا تلك الطاعة يفتح الله عليكم أبواب الخيرات والبركات وإن أسأتم بفعل المحرَّمات ، أسأتم إلى أنفسكم من حيث إنَّ شُؤم تلك المعاصي يفتحُ الله عليكم أبواب العقوبة . قال أهل المعاني : " هذه الآيةُ تدلُّ على أن رحمة الله تعالى غالبةٌ على غضبه ؛ بدليل أنَّه لما حكى عنهم الإحسان ، أعاده مرتين ؛ فقال : { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ } ولما حكى عنهم الإساءة ، اقتصر على ذكرها مرة واحدة ، فقال : { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } ولولا أن جانب الرحمة غالبٌ ، وإلاَّ لما كان ذلك " . قوله : " فإذا جَاءَ وعدُ الآخِرةِ " ، أي : المرَّة الآخرة ، فحذفت " المرَّةُ " للدلالة عليها ، وجواب الشرطِ محذوفٌ ، تقديره : بَعَثْناهُم ، ليَسُوءوا وُجُوهَكمْ ، وإنما حسُن هذا الحذف لدلالة ما تقدَّم عليه من قوله : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ } [ الإسراء : 5 ] والمرةُ الآخرة هي إقدامهم على قتل زكريا ويحيى - عليهما الصلاة والسلام - وقصدهم قتل عيسى حين رفع . قال الواحديُّ : " فبعث الله عليهم بختنصَّر البابليَّ المجوسيَّ ، فسبى بني إسرائيل ، وقتل ، وخرَّب بيت المقدس ، وسلَّط عليهم الفرس والرُّوم : خردوش وطيطوس ؛ حتَّى قتلوهم ، وسبَوْهُم ، ونَفوهُمْ عن ديارهم " . قال ابن الخطيب : " والتواريخُ تشهد أنَّ يختنصر كان قبل بعث عيسى وزكريَّا بسنين متطاولةٍ ، ومعلوم أنَّ الملك الذي انتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملكٌ من الرُّوم ، يقال له : قُسطَنْطِينُ " . قوله : { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } متعلق بالجواب المقدر . يقال : سَاءَهُ يَسُوءهُ ، أي : أحْزنَهُ وإنما عزا الإساءة إلى الوجوه ؛ لأنَّ آثار الأعراض النفسانيَّة الحاصلة في القلب إنَّما تظهر على الوجه ، فإن حصل الفرح في القلب ظهرت النُّضرة والإشراق والإسفار في الوجه ، وإن حصل الحزن والخوف في القلب ظهر الكلوح والغبرة والسَّواد في الوجه ، فلهذا عزيت الإساءة إلى الوجوه في هذه الآية ، ونظير هذا المعنى في القرآن كثيرٌ . وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر " لِيَسُوءَ " بالياء المفتوحة وهمزة مفتوحة آخراً . والفاعل : إما الله تعالى ، وإمَّا الوعد ، وإمَّا البعثُ ، وإمَّا النَّفيرُ ، والكسائي بنون العظمة ، أي : لِنَسُوء نحنُ ، وهو موافقٌ لما قبله من قوله { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ } و " ردَدْنَا " و " أمْدَدْنَا " وما بعده من قوله : " عُدْنَا " و " جَعلْنَا " وقرأ الباقون " لِيَسوءُوا " مسنداً إلى ضمير الجمع العائد على العباد أو أولي البأسِ ، أو على النَّفير ؛ لأنه اسم جمعٍ ، وهو موافقٌ لما بعده من قوله { وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ } وفي عود الضمير على النفير نظر ؛ لأن النفير المذكور من المخاطبين ، فكيف يوصف ذلك النفير بأنه يسوءُ وجوههم ؟ اللهم إلا أن يريد هذا القائلُ أنه عائدٌ على لفظه ، دون معناه ؛ من بابِ " عِندِي دِرْهمٌ ونِصْفهُ " . وقرأ أبيٌّ " لِنَسُوءَنْ " بلام الأمر ونون التوكيد الخفيفة ونون العظمة ، وهذا جواب لـ " إذا " ولكن على حذف الفاء ، أي : فَلِنَسُوءَنْ ، ودخلت لامُ الأمر على فعل المتكلِّم ؛ كقوله تعالى { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } [ العنكبوت : 12 ] . وقرأ ابنُ أبي طالبٍ " لَيسُوءَنَّ " و " لَنَسُوءَنَّ " بالياء والنون التي للعظمة ، ونون التوكيد الشديدة ، واللام التي للقسم ، وفي مصحف أبيِّ " لِيَسُوءُ " بضم الهمزة من غير واوٍ ، وهذه القراءة تشبه أن تكون على لغةِ من يجتزىءُ عن الواو بالضمة ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 3381 - فَلوْ أنَّ الأطبَّا كَانُ حَوْلِي … @@ يريد : " كَانُوا حَوْلِي " وقول الآخر : [ الكامل ] @ 3382 - … … إذَا مَا النَّاسُ جَاعُ وأجْدَبُوا @@ يريد " جَاعُوا " ، فكذا هذه القراءة ، أي : لِيَسُوءوا ، كما في القراءةِ الشهيرة ، فحذف الواو . وقرىء " لِيُسِيءَ " بضمِّ الياء وكسر السين وياء بعدها ، أي : ليُقَبِّحَ الله وجوهكم ، أو ليقبِّح الوعد ، أو البعث . وفي مصحف أنس " وَجْهَكُمْ " بالإفراد ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 3383 - كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكمُ تَعِفُّوا … @@ وكقوله : [ الرجز ] @ 3384 - … في حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وقَدْ شَجِينَا @@ وكقوله : @ 3385 - … وأمَّا جِلدُهَا فَصَلِيبُ @@ قوله : " وليَدْخُلوا " من جعل الأولى لام " كَيْ " كانت هذه أيضاً لام " كَيْ " معطوفة عليها ، عطف علة على أخرى ، ومن جعلها لام أمرٍ كأبيٍّ ، أو لام قسم ؛ كعلي بن أبي طالب ، فاللام في " لِيدْخُلوا " تحتمل وجهين : الأمر والتعليل ، و " كَمَا دَخلُوهُ " نعتُ مصدرٍ محذوفٍ ، أو حالٌ من ضميره ، كما يقول سيبويه ، أي : دخولاً كما دخلوه ، و " أوَّل مرَّةٍ " ظرف زمانٍ ، وتقدَّم الكلام عليها في براءة . والمراد بالمسجد بيت المقدس ونواحيه . قوله : { وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } التتبير الهلاك ، يقال : تبر الشيء تبراً وتباراً وتبرية إذا هلك ، وتبَّرهُ : أهلكه ، وكلُّ شيء جعلته مكسَّراً مفتَّتا ، فقد تبَّرتهُ ، ومنه قيل : تبرالزجاج ، وتبر الذَّهب لمكسره ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } [ الأعراف : 139 ] ، وقوله : { وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً } [ نوح : 28 ] وقوله : " ما عَلَوْا " يجوز في " ما " أن تكون مفعولاً بها ، أي : ليهلكوا الذي عَلوْهُ ، أي : غلبوا عليه وظفروا وقيل : لِيهْدمُوه : كقوله : [ الطويل ] @ 3386 - ومَا النَّاسُ إلاَّ عَامِلانِ ، فعَاملٌ يُتَبِّرُ مَا يَبْنِي وآخَرُ رَافِعُ @@ ويحتمل : " ويُتَبِّرُوا ما داموا غالبين " أي : ما دام سلطانهم جارياً على بني إسرائيل ، وعلى هذا تكون ظرفية ، أي : مدَّة استعلائهم ، وهذا يحوجُ إلى حذف مفعولٍ ، اللهم إلا أنْ يكون القصدُ مجردَ ذِكْرِ الفعل ؛ نحو : هو يعطي ويمنع . وقوله : " تَتْبيراً " ذكر للمصدر على معنى تحقيق الخبر ، وإزالة الشكِّ في صدقه كما في قوله تعالى : { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } [ النساء : 164 ] أي حقًّا ، والمعنى ليُدمِّرُوا ويخرّبوا ما غلبوا عليه . ثم قال : { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } والمعنى : لعلَّ ربَّكم أن يرحمكم ، ويعفُوَ عَنْكُم يا بني إسرائيل بعد انتقامهِ منكم بردِّ الدَّولة إليكم . { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } أي : إن عدتم إلى المعصية ، عدنا إلى العقوبة ، قال القفال : وإنَّما حملنا هذه الآية على عذاب الدنيا ؛ لقوله تعالى في سورة الأعراف خبراً عن بني إسرائيل : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } [ الأعراف : 167 ] ثم قال : { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } أي وإنهم قد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي ، وهو التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل ، فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب ، فجرى على بني النضير ، وقريظة وبني قينقاع ، ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء ، ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية ، لا ملك لهم ولا سلطان . ثم قال تعالى : { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } . يجوز أن تكون " حصيراً " بمعنى فاعل ، أي : حاصرة لهم ، محيطة بهم ، وعلى هذا : فكان ينبغي أن تؤنَّث بالتاء كجبيرة . وأجيب : بأنها على النَّسب ، أي ذات حصرٍ ؛ كقوله : { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } [ المزمل : 18 ] ، أي ذات انفطارٍ ، وقيل : الحصيرُ : الحبسُ ، قال لبيد : [ الكامل ] @ 3387 - ومَقامَةٍ غُلْبٍ الرِّجالِ كَأنَّهم جِنٌّ لَدى بَابِ الحَصِير قِيَام @@ وقال أبو البقاء : " لم يؤنثه ؛ لأنَّ فعيلاً بمعنى فاعلٍ " وهذا منه سهوٌ ؛ لأنه يؤدِّي إلى أن تكون الصفةُ التي على فعيلٍ ، إذا كانت بمعنى فاعل ، جاز حذف التاء منها ، وليس كذلك لما تقدَّم من أن فعيلاً بمعنى فاعل يلزمُ تأنيثه ، وبمعنى مفعول يجب تذكيره ، وما جاء شاذًّا من النوعين يؤوَّلُ . وقيل : إنما لم يؤنَّث لأنّ تأنيث " جهنَّم " مجازيٌّ . وقيل : لأنها في معنى السِّجْن والمحبس ، وقيل : لأنها بمعنى فراشٍ . ويجوز أن تكون بمعنى مفعول أي : جعلناها موضعاً محصوراً لهم ، والمعنى : أنَّ عذاب الدنيا ، وإن كان شديداً إلا أنه قد يتفلَّت بعض النَّاس عنه ، والذي يقع فيه يتخلَّص عنه إمَّا بالموت ، أو بطريق آخر ، وأما عذاب الآخرة ، فإنَّه يكون محيطاً به ، لا رجاء في الخلاص منه .