Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 70-70)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وهذه نعمة أخرى عظيمة من نعم الله - تعالى - على الإنسان ، وهي تفضيل الإنسان على غيره . واعلم أنه ليس المراد من الكرمِ في المالِ . وعدَّاه بالتضعيف ، وهو من كرم بالضَّم كـ " شَرُفَ " ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : كلُّ شيءٍ يأكل بفيه إلاَّ ابن آدم يأكل بيديه . وروي عنه أنه قال : بالعقل . وقال الضحاك : بالنُّطق والتَّمييز . وقال عطاء : بتعديل القامة ، وامتدادها . وينبغي أن يشترط مع هذا شرطٌ ، وهو طول العمر ، مع استكمال القوَّة العقليَّة والحسيَّة والحركيَّة ، وإلاَّ فالأشجار أطول قامة من الإنسانِ ، والدَّوابُّ منكبَّة على وجوهها . وقيل : بحسنِ الصورة ؛ كقوله تعالى : { فَأَحْسَنَ صُوَرَكُـمْ } [ غافر : 64 ] ولما ذكر خلقه للإنسان ، قال : { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [ المؤمنون : 14 ] وقال جلَّ ذكره { صِبْغَةَ ٱللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً } [ البقرة : 138 ] . وتأمَّل عضواً واحداً من أعضاء الإنسان ، وهو العين ، فخلق الحدقة سوداء ، ثم أحاط بذلك السَّواد بياض العين ، ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار ، ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان ، ثم خلق فوق بياض الجفن سواد الحاجبين ، ثم خلق فوق سواد الحاجببين بياض الجبهة ، ثمَّ خلق فوق بياض الجبهة سواد الشَّعر . وقيل : الرِّجال باللحى ، والنِّساء بالذَّوائب . وقيل : بأن سخَّر لهم سائر الأشياء . وقال بعضهم : من كرامات الآدميِّ أن آتاه الله الخطَّ . وتحقيق الكلام : أن العلم الذي يقدر الإنسانُ على استنباطه يكون قليلاً ، فإذا أودعه في كتابٍ ، جاء الإنسان الثاني ، واستعان بذلك الكتاب ، ضمَّ إليه من عند نفسه آخر ، ثم لا يزالون يتعاقبون ، ويضمُّ كلُّ متأخرٍ مباحث كثيرة إلى علم المتقدِّمين ، فكثرت العلومُ ، وانتهتِ المباحثُ العقليَّة ، والمطالب الشرعيَّة إلى أقصى الغايات ، وأكمل النهايات ، وهذا لا يتأتَّى إلا بواسطةِ الخطِّ ، ولهذه الفضيلة ؛ قال تعالى : { ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 3 - 5 ] . وقال بعضهم : إنَّ المخلوقاتِ أربعة أقسامٍ : قسم حصلت له القوَّة العقليَّة الحكميَّة ، ولم تحصل له القوَّة الشهواتيَّة ، وهم الملائكة - صلوات الله عليهم - وقسمٌ بالعكس ، وهم البهائم ، وقسم خلا عن القسمين ، وهم النباتُ والجمادات ، وقسم حصل النوعان فيه ، وهو الإنسان ، ولا شكَّ أنَّ الإنسان ؛ لكونه مستجمعاً للقوَّة العقلية ، والقوى الشهوانيَّة ، والبهيميَّة والنفسيَّة والسبعيَّة يكون أفضل من البهيمة والسَّبع ، وهو أيضاً أفضل من الخالي عن القوتين ؛ كالنبات والجمادات ، وإذا ثبت ذلك ، ظهر أنَّ الله تعالى فضَّل الإنسان على أكثر أقسام المخلوقات . وأيضاً : الموجود : إمَّا أن يكون أزليًّا وأبدياً معاً ، وهو الله تبارك وتعالى . وإمَّا ألاَّ يكون أزليًّا ولا أبديًّا ، وهم عالم الدنيا مع ما فيه من المعادن ، والنبات ، والحيوان ، وهذا أخسُّ الأقسام ، وإمَّا أن يكون أزليًّا ، ولا يكون أبديًّا ، وهو الممتنعُ الوجود ؛ لأنَّ ما ثبت قدمه ، امتنع عدمهُ ، وإمَّا ألاَّ يكون أزليًّا ، ولكنَّه يكون أبديًّا ، وهو الإنسان ، والملك ، وهذا القسمُ أشرف من الثاني والثالث ، وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر المخلوقات . ثمَّ قال تعالى : { وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } . قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - : في البرِّ على الخيل والبغالِ والحميرِ والإبلِ ، وفي البحر على السُّفن . { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } يعني لذيذ الطَّعام والمشارب ، { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } . واعلم أنَّه قال في أوَّل الآية { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } . وقال في آخرها : { وَفَضَّلْنَاهُمْ } ولا بدَّ من الفرق بين التكريم والتفضيل ، وإلا لزم التَّكرار ، والأقرب أن يقال : إنه تعالى فضَّل الإنسان على سائرِ الحيوانات بأمور خلقيَّة طبعيَّة ذاتيَّة ؛ كالعقل ، والنطق ، والخطِّ ، والصورة الحسنة ، و القامة المديدة ، ثم إنه تعالى عرضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقَّة ، والأخلاق الفاضلة ، فالأول : هو التكريم ، والثاني : هو التفضيل . فصل ظاهرُ الآية يدلُّ على أنَّه فضَّلهم على كثيرٍ من خلقه ، لا على الكلِّ ، فقال قومٌ : فضِّلوا على جميع الخلق ، لا على الملائكة ، وهذا قول ابن عباس ، واختيارُ الزجاج على ما رواهُ الواحديُّ في " البسيط " . وقال الكلبيُّ : فضِّلوا على جميع الخلائف كلِّهم ، إلاَّ على طائفةٍ من الملائكة : جبريل ، ميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت - صلوات الله عليهم أجمعين - وأشباههم . وقال قوم : فضِّلوا على جميع الخلق ، وعلى الملائكةِ كلِّهم ، وقد يوضع الأكثر موضع الكلِّ ؛ كقوله سبحانه { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَٰطِينُ } [ الشعراء : 221 ] إلى قوله : { وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [ الشعراء : 223 ] أي : كلُّهم . وروى جابرٌ يرفعه : قال " لمَّا خلق الله - عزَّ وجلَّ - آدم ، وذريَّته ، قالت الملائكة : يا ربُّ ، خلقتهم يَأكلُونَ ، ويَشْرَبُونَ ، ويَنكِحُونَ ، فاجعلْ لهمُ الدُّنْيَا ، ولنَا الآخِرةَ ، فقال تعالى : لا أجعل من خلقته بيدي ، ونفخت فيه من روحي ، كمن قلت له : كن فكان " . والأولى أن يقال : عوامُّ الملائكة أفضل من عوامِّ المؤمنين ، وخواصُّ المؤمنين أفضل من خواصِّ الملائكة ، قال تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ } [ البينة : 7 ] . ورُوِيَ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " المُؤمِنُ أكْرَمُ على الله مِنَ المَلائِكَةِ الَّذينَ عِندَهُ " رواه البغويُّ وأورده الواحدي في " البسيط " . واحتجَّ القائلون بتفضيل الملائكة على البشر على الإطلاق بهذه الآية . قال ابن الخطيب : وهو في الحقيقة تمسُّكٌ بدليل الخطاب ، وتقريره أن يقال : تخصيص الكثير بالذكر يدلُّ على أنَّ الحال في القليل بالضدِّ ، وذلك تمسُّك بدليل الخطاب .