Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 94-99)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ } الاية . لمَّا حكى الله تعالى شبهة القوم في اقتراح المعجزات الزَّائدة ، وأجاب عنها حكى شبهة أخرى وهي أنهم استبعدوا أن يبعث الله للخلق رسولاً من البشرِ ، بل اعتقدوا أنَّ الله تعالى ، لو أرسل رسولاً إلى الخلق ، لكان ذلك الرسول من الملائكةِ ، وأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بوجوهٍ : أحدها : قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ } . وتقرير هذا الجواب : أنَّ بتقدير أن يبعث الله ملكاً رسولاً إلى الخلق ، فالخلق إنما يؤمنون بكونه رسولاً من عند الله ؛ لأجل قيام المعجزات الدالة على صدقه ؛ وذلك المعجز هو الذي يهديهم إلى معرفة صدق ذلك الملك في ادِّعاء رسالته ، فالمراد من قوله : { إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ } هو المعجز ، [ وإذا كان كذلك ، فنقول : لما كان الدليل على الصِّدق هو المعجز ] فقط فهذا المعجز سواءٌ ظهر على الملكِ ، أو على البشرِ ، وجب الإقرارُ برسالته ، فقولهم : " لا بُدَّ وأن يكون الرسول من الملائكة " : تحكم فاسد باطل . والجواب الثاني عن شبهتهم ، وهي أنَّ أهل الأرض لو كانوا ملائكة ، لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة ؛ لأنّ الجنس إلى الجنس أميل ، فلما كان [ أهل الأرض ] من البشر ، فوجب أن يكون رسولهم من البشر ؛ وهذا هو المراد من قوله تعالى : { لَّوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] . الجواب الثالث : قوله تعالى : { قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } . وتقريره أنَّ الله تعالى ، لمَّا أظهر المعجزة على وفق دعواى ، كان ذلك شهادة من الله تعالى على كوني صادقاً ، ومن شهد الله على صدقه ، فهو صادق ، فقولكم بأنَّ الرسول يجب أن يكون ملكاً ، فذلك تحكُّم فاسدٌ ؛ لا يلتفت إليه . ولمَّا ذكر الله تعالى هذه الأجوبة الثلاثة ، أردفها بما يجري مجرى التهديد ، والوعيد ؛ فقال : { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } [ الإسراء : 96 ] . أي : يعلم ظواهرهم وبواطنهم ، ويعلم أنَّهم لا يذكرون هذه الشبهات إلا لمحض الحسد ، وحبِّ الرياسة . قوله : { أَن يُؤْمِنُوۤاْ } : مفعولٌ ثانٍ لـ " مَنَع " ، أي : ما منعهم إيمانهم ؛ و " أن قالوا " هو الفاعل ، و " إذْ " ظرف لـ " مَنعَ " ، والتقدير : وما منع الناس من الإيمان وقت مجيء الهدى إيَّاهم إلا قولهم : أبعث الله . وهذه الجملة المنفيَّة يحتمل أن تكون من كلام الله ، فتكون مستأنفة ، وأن تكون من كلام الرسول ، فتكون منصوبة المحلِّ ؛ لاندراجها تحت القول في كلتا القراءتين . قوله : { بَشَراً رَّسُولاً } تقدَّم في نظيره وجهان ، وكذلك قوله { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } . قوله تعالى : { قُل لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ } : يجوز في " كَانَ " هذه التمام ، أي : لو وجد ، وحصل ، و " يَمشُونَ " صفة لـ " مَلائِكَة " و " في الأرض " متعلِّق به ، " مُطْمئنينَ " حال من فاعل " يَمشُونَ " ، ويجوز أن تكون الناقصة ، وفي خبرها أوجه ، أظهرها : أنه الجار ، و " يَمشُون " و " مُطمَئنِّينَ " على ما تقدم . وقيل : الخبر " يمشُون " و " في الأرض " متعلق به . وقيل : الخبر " مُطمئنِّينَ " و " يمشُونَ " صفة ، وهذان الوجهان ضعيفان ؛ لأنَّ المعنى على الأول . فإن قيل : إنَّه تعالى لو قال : قل لو كان في الأرض ملائكة ، لنزَّلنا عليهم من السَّماء ملكاً رسولاً كان كافياً في هذا المعنى . فما الحكمة في قوله : { يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ } ؟ ! . فالجواب : أن المراد بقوله : { يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ } أي : مستوفين مقيمين . قوله : { وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ } الآية . لما أجاب عن شبهات القوم في إنكار النبوة ، وأردفها بالوعيد بقوله : { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } على الإجمال ، ذكر بعده الوعيد الشديد على التَّفصيل ، فقال : { وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ } . المراد تسليةُ الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أنَّ الذين حكم لهم بالإسلام والهداية سابقاً ، وجب أن يصيروا مؤمنين ، ومن سبق لهم حكم الله بالضَّلال والجهل ، استحال أن ينقلبوا عن ذلك . واحتجَّ أهل السنة بهذه الآية على صحَّة مذهبهم في الهدى والضَّلال ، والمعتزلة حملوا هذا الضلال تارة على طريق الجنَّة ؛ وتارة على منع الألطاف ، وتارة على التَّخلية ، وعدم التعرُّض لهم بالمنع . والواو مندرجة تحت القول ، فيكون محلُّها نصباً ، وأن يكون من كلام الله ، فلا محلَّ لها ؛ لاستئنافها ، ويكون في الكلام التفاتٌ ؛ إذ فيه خروجٌ من غيبة إلى تكلُّم في قوله : { وَنَحْشُرُهُمْ } . وحمل على لفظ " مَنْ " في قوله " فَهُوَ المُهتدِ " فأفرد ، وحمل على معنى " من " الثانية في قوله " ومَن يُضلِلْ ، فلنْ تَجدَ لَهُم " ، [ فجمع ] . ووجه المناسبة في ذلك - والله أعلم - : أنه لمَّا كان الهدي شيئاً واحداً غير متشعِّب السبل ، ناسبه التوحيد ، ولمَّا كان الضلال له طرقٌ متشعبةٌ ؛ نحو : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] ناسب الجمع الجمع ، وهذا الحمل الثاني مما حمل فيه على المعنى ، وإن لم يتقدمه حمل على اللفظ ، قال أبو حيان : " وهو قليل في القرآن " ، يعني : بالنسبة إلى غيره ، ومثله : { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس : 42 ] ويمكن أن يكون المحسِّن لهذا هنا كونه تقدَّم حمل على اللفظ ، وإن كان في جملة أخرى غير جملته . وقرأ نافعٌ ، وأبو عمرو بإثبات ياء " المهتدي " وصلاً ، وحذفها وقفاً ، وكذلك في التي تحت هذه السورة ، وحذفها الباقون في الحالين . قوله : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } يجوز أن يتعلق الجار في قوله { عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } بالحشر ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من المفعول ، أي : كائنين ومسحوبين على وجوههم . فإن قيل : كيف يمكنهم المشي على وجوههم ؟ . فإن قيل : كيف يمكنهم المشي على وجوههم ؟ . فالجواب من وجهين : الأول : أنَّهم يسحبون على وجوههم ، قال تعالى : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] . والثاني : " قال أبو هريرة : قيل : يا رسول الله ، كيف يمشون على وجوههم ؟ قال : الذي يُمشِيهمْ على أقْدامِهمْ قَادرٌ أن يُمشِيهُمْ على وُجوهِهمْ " . قوله : " عُمْياً " يجوز أن تكون حالاً ثانية من الضمير ، أو بدلاً من الأولى ، وفيه نظر ؛ لأنه لا يظهر فيه أنواع البدل ، وهي : كلٌّ من كلٍّ ، ولا بعض من كلٍّ ، ولا اشتمال ، وأن تكون حالاً من الضمير المرفوع [ في الجارِّ ] لوقوعه حالاً ، وأن تكون حالاً من الضمير المجرور في " وُجوهِهمْ " . فصل في توهم الاضطراب بين بعض الآيات والجواب عنه قال رجل لابن عباس : أليس أنه تعالى يقول : { وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ } [ الكهف : 53 ] . وقال : { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] . وقال : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] . وقال : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } [ النحل : 111 ] . وقال حكاية عن الكفَّار : { وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] . وأثبت لهم الرؤية ، والكلام ، والسَّمع ، فكيف قال ههنا : " عُمياً وبُكماً وصُماً " ؟ . فأجاب ابن عباس وتلامذته من وجوه : الأول : قال ابن عباس : " عُمْياً " : لا يرون شيئاً يسرهم ، و " صُمًّا " : لا يسمعون شيئاً يسرهم ، و " بُكْماً " لا ينطقون بحجَّة . والثاني : في رواية عطاء : " عُمْياً " عن النَّظر إلى ما جعله الله إلى أوليائه ، و " بُكْماً " عن مخاطبة الله تعالى ، ومخاطبة الملائكة المقرَّبين . الثالث : قال مقاتلٌ : حين قال لهم : { ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] يصيرون صمًّا بكماً ، أما قبل ذلك ، فهم يرون ، ويسمعون ، وينطقون . الرابع : أنَّهم يكونون رائين ، سامعين ، ناطقين في الموقف ، ولولا ذلك ، لما قدروا على مطالعة كتبهم ، ولا سمعوا إلزام حجة الله تعالى عليهم ، إلا أنَّهم إذا ذهبوا من الموقف إلى النَّار ، صاروا صمًّا ، وبكماً ، وعمياً . وقيل : يحشرون على هذه الصفة . قوله : { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } يجوز في هذه الجملة الاستئناف ، والحالية إمَّا من الضمير المنصوب أو المجرور . قوله : " كُلَّما خَبتْ " يجوز فيها الاستئناف ، والحالية من " جهنَّم " ، والعامل فيها معنى المأوى . وخَبتِ النَّار تَخْبُوا : إذا سكن لهيبها ؛ قال الواحدي : خبت سكنت ، فإذا ضعف جمرها ، قيل : خمدتْ ، فإذا طفئت بالجملة ، قيل : همدتْ ؛ قال : @ 3468 - وَسْطهُ كاليَراعِ أوْ سُرجِ المِجْـ ـدَلِ طَوْراً يَخْبُو وطَوْراً يُنِيرُ @@ وقال آخر : [ الهزج ] @ 3469 - لمن نَارٌ قُبَيْلَ الصُّبْـ ـحِ عند البَيتِ ما تَخْبُو إذا مَا أخمدَتْ ألْقِي عَليْهَا المَندلُ الرَّطْبُ @@ وأدغم التاء في زاي " زِدْنَاهُمْ " أبو عمرو ، والأخوان ، وورش ، وأظهرها الباقون . قوله : { زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } . قال ابن قتيبة : زدناهم تلهُّباً . فإن قيل : إنه تعالى لا يخفف عنهم العذاب . وقوله : { كُلَّمَا خَبَتْ } يدلُّ على أنَّ العذاب محققٌ في ذلك الوقت . فالجواب : أن قوله " كُلَّما خَبَتْ " يقتضي سكون لهب النار ، أما أنه يدل على تخفيف العذاب ، فلا ؛ لأنَّ الله تعالى قال : { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } [ الزخرف : 75 ] . وقيل : معناه : " كلَّما خبت " [ أي : ] كلما أرادت أن تخبو { زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } أي : وقوداً . وقيل : المراد من قوله : { كُلَّمَا خَبَتْ } أي : نضجت جلودهم ، واحترقت ، أعيدوا إلى ما كانوا عليه . قوله تعالى : { ذَٰلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ } يجوز أن يكون مبتدأ وخبراً ، و " بأنهم " متعلق بالجزاء ، أي : " ذلك العذاب المتقدم جزاؤهم بسبب أنَّهم " ويجوز أن يكون " جَزاؤهُمْ " مبتدأ ثانياً ، والجار خبره ، والجملة خبر " ذلك " ، ويجوز أن يكون " جَزاؤهُمْ " بدلاً ، أو بياناً ، و " بِأنَّهُم " الخبر . وهذه الآية تدلُّ على أنَّ العمل علَّة الجزاءِ . قوله : { وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } . لمَّا أجاب عن شبهات منكري النبوة ، عاد إلى حكاية شبهة منكري المعاد . وتلك الشبهة : هي أنَّ الإنسان بعد أن يصير رفاتاً ، ورميماً ، يبعد أن يعود هو بعينه ، فأجاب الله عنه : بأنَّ من قدر على خلق السموات والأرض في عظمتها وشدَّتها قادر على أن يخلق مثلهم في صغرهم ، وضعفهم ؛ نظيره قوله تعالى : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } [ غافر : 75 ] . وفي قوله : { قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } قولان : الأول : [ معناه ] قادر على أن يخلقهم ثانياً ، فعبَّر عن خلقهم بلفظ " المثل " ؛ كقوله المتكلِّمين : إنَّ الإعادة مثل الابتداء . والثاني : قادر على أن يخلق عبيداً آخرين يوحِّدونه ، ويقرُّون بكمال حكمته وقدرته ، ويتركون هذه الشبهات الفاسدة ؛ وعلى هذا ، فهو كقوله تعالى : { وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } [ إبراهيم : 19 ] وقوله : { وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } [ التوبة : 39 ] . قال الواحديُّ : والأول أشبه بما قبله . ولمَّا بيَّن الله تعالى بالدَّليل المذكور : أنَّ البعث يمكنُ الوجود في نفسه ، أردفه بأنَّ لوقوعه ودخوله في الوجود وقتاً معلوماً عند الله تعالى ؛ وهو قوله : { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ } أي : جعل لهم وقتاً لا ريب فيه ، { فَأَبَىٰ ٱلظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً } أي : الظالمون إلا الكفر والجحود . قوله : { وَجَعَلَ لَهُمْ } : معطوف على قوله " أو لَمْ يَروْا " ؛ لأنه في قوة : قد رأوا ، فليس داخلاً في حيِّز الإنكار ، بل معطوفاً على جملته برأسها . وقوله : { لاَّ رَيْبَ فِيهِ } صفة لـ " أجلاً " ، أي : أجلاً غير مرتابٍ فيه ، فإن أريد به يوم القيامة ، فالإفرادُ واضحٌ ، وإن أريد به الموت ، فهو اسم جنسٍ ؛ إذ لكلِّ إنسانٍ أجلٌ يخصه . وقوله : { إِلاَّ كُفُوراً } قد تقدَّم .