Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 32-44)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ } الآية . وجه النَّظم أن الكفار ، لمَّا افتخرُوا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، بيَّن الله تعالى أنَّ ذلك ممَّا لا يوجب الافتخار ، لاحتمال أن يصير الغنيُّ فقيراً ، والفقير غنيًّا ، وأما الذي تجبُ المفاخرةُ به فطاعة الله وعبادته ، وهي حاصلةٌ لفقراءِ المسلمين ، وبيَّن ذلك بضرب هذا المثل ؛ فقال : { وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ } أي : مثل حال الكافرين والمؤمنين كحال رجلين ، وكانا أخوين في بني إسرائيل : أحدهما : كافرٌ ، واسمه [ براطوس ] ، والآخر : مؤمنٌ ، اسمه يهوذا ، قاله ابن عباس . وقال مقاتل : اسم المؤمن تمليخا ، واسم الكافر قطروس . وقيل : قطفر ، وهما المذكوران في سورة " الصافات " في قوله تعالى : { إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدِّقِينَ } [ الصافات : 51 ، 52 ] على ما رواه عبد الله بن المبارك عن معمَّرٍ عن عطاءٍ الخراسانيِّ ، قال : كانا رجلين شريكين ، لهما ثمانية آلافِ دينارٍ . وقيل : كانا أخوين ، وورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينارٍ ، فأخذ كلُّ واحدٍ منهما أربعة آلاف دينارٍ ، فاشترى الكافر أرضاً بألفٍ ، فقال المؤمن : اللَّهم ، إنَّ أخي اشترى أرضاً بألف ، وإنِّي أشتري منك أرضاً بألف في الجنَّة ، فتصدَّق به . ثم [ بنى ] أخوه داراً بألف ، فقال المؤمن : اللَّهم ، إني أشتري منك داراً بألف في الجنَّة ، فتصدق به . ثم تزوج أخوه امرأة بألف ، فقال المؤمن : اللَّهم ، إني جعلت ألفاً صداقاً للحور العين ، وتصدَّق به . ثم اشترى أخوه خدماً ومتاعاً بألف دينار ، فقال المؤمن : اللهم ، إنِّي اشتريتُ منك الولدان بألف ، فتصدَّق به ، ثم أحاجه ، أي : أصابه حاجةٌ ، فجلس لأخيه على طريقه ، فمرَّ به في خدمه وحشمه ، فتعرَّض له ، فقال : فلانٌ ؟ ! قال : نعم ، قال : ما شأنك ؟ قال : أصابتني حاجةٌ بعدك ، فأتيتك لتصيبني بخير ، قال : ما فعل مالك ، وقد اقتسمنا المال [ سويَّة ] ، فأخذت شطره ؟ فقصَّ عليه قصَّتهُ ، قال : إنَّك لمن المصدِّقين ، اذهب ، فلا أعطيك شيئاً . وقيل : نزلتْ في أخوين من أهل مكَّة من بني مخزوم ، أحدهما : مؤمنٌ ، وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل ، وكان زوج أمِّ سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم والآخر كافرٌ ، وهو الأسود بن عبد الأسد بن عبد ياليل . قوله : { رَّجُلَيْنِ } : قد تقدم أنَّ " ضرب " مع المثل ، يجوز أن يتعدى لاثنين في سورة البقرة ، وقال أبو البقاء : التقدير : مثلاً مثل رجلين ، و " جَعلْنَا " تفسير لـ " مَثَل " فلا موضع له ، ويجوز أن يكون موضعه نصباً نعتاً لـ " رَجُليْنِ " كقولك : مررتُ برجلين ، جعل لأحدهما جنَّةٌ . قوله : { وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ } يقال : حفَّ بالشيء : طاف به من جميع جوانبه ، قال النابغة : [ البسيط ] @ 3523 - يَحُفُّهُ جَانِبَا نِيقٍ وتُتْبِعُهُ مِثلُ الزُّجاجةِ لمْ تُكْحَلْ من الرَّمدِ @@ وحفَّ به القوم : صاروا طائفين بجوانبه وحافَّته ، وحففته به ، أي : جعلته مطيفاً به . والحِفاف : الجانبُ ، وجمعه أحِفَّةٌ ، والمعنى : جعلنا حول الأعناب النَّخْل . قال الزمخشريُّ : وهذه الصفة ممَّا يؤثرها الدَّهاقين في كرومهم ، وهو أن يجعلوها محفوفة بالأشجار المثمرة ، وهو أيضاً حسنٌ في [ المنظر ] . قوله : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } قيل : كان الزَّرع في وسط الأعناب ، وقيل : كان الزَّرْع بين الجنَّتين ، أي : لم يكن بين الجنتين موضعٌ خالٍ . والمقصود منه أمورٌ : الأول : أن تكون تلك الأرض جامعة للأقوات والفواكه . والثاني : أن تكون متَّسعة الأطراف ، متباعدة الأكناف ، ومع ذلك ، لم يتوسَّطها ما يقطع بعضها عن بعض . والثالث : أنَّ مثل هذه الأرض تأتي كلَّ [ يوم ] بمنفعةٍ أخرى ، وثمرة أخرى فكانت منافعها دارّة متواصلة . قوله : { كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ } : قد تقدَّم في السورة قبلها [ الإسراء : 23 ] حكم " كلتا " وهي مبتدأ ، و " آتتْ " خبرها ، وجاء هنا على [ الكثير : وهو ] مراعاةُ لفظها ، دون معناها . وقرأ عبد الله - وكذلك في مصحفه - " كِلا الجنَّتَيْنِ " بالتذكير ؛ لأنَّ التأنيث مجازي ، ثم قرأ " آتتْ " بالتأنيث ؛ اعتباراً بلفظ " الجَنَّتينِ " فهو نظير " طَلعَ الشَّمسُ ، وأشْرقَتْ " . وروى الفراء عنه قراءة أخرى : " كُلُّ الجنَّتينِ أتَى أكُلَهُ " أعاد الضمير على اللفظ " أكل " . واعلم أنَّ لفظ " كل " اسمٌ مفردٌ معرفة يؤكَّد به مذكَّران معرفتان ، و " كِلْتَا " اسمٌ مفردٌ معرفة يؤكَّد به مؤنثان معرفتان ، وإذا أضيفا إلى المظهر كانا بالألف في الأحوال الثلاثة ؛ كقولك : " جَاءنِي كِلاَ أخَويْكَ ، ورَأيْتُ كِلاَ أخَويْكَ ، ومَررْتُ بِكلا أخَويْكَ ، وجَاءنِي كِلْتَا أخْتَيْكَ ، ورأيْتُ كِلْتَا أخْتَيْكَ ، ومَرَرْتُ بِكلْتَا أخْتيْكَ " ، وإذا أضيفا إلى المضمر ، كانا في الرَّفع بالألف ، وفي الجر والنَّصب بالياءِ ، وبعضهم يقول مع المضمر بالألف في الأحوال الثلاثة أيضاً . فصل ومعنى { ءَاتَتْ أُكُلَهَا } أعطت كلُّ واحدةٍ من الجنتين { أُكُلَهَا } ثمرها تامًّا ، { وَلَمْ تَظْلِم } لم تنقص ، { مِّنْهُ شَيْئاً } والظُّلم : النقصان ، يقول الرَّجُل : ظلمنِي حقِّي ، أي : نقصنِي . قوله : " وفجَّرنَا " العامة على التشديد ، وإنما كان كذلك ، وهو نهرٌ واحدٌ مبالغة فيه ، وقرأ يعقوب ، وعيسى بن عمر بالتخفيف ، وهي قراءة الأعمش في سورة القمر [ القمر : 12 ] ، والتشديد هناك أظهر لقوله " عُيُوناً " . والعامة على فتح هاء " نهر " وأبو السَّمال والفيَّاض بسكونها . قوله : { وَكَانَ لَهُ } أي : لصاحب البستان . قوله : { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } : قد تقدَّم الكلام فيه في الأنعام [ الأنعام : 99 ] ، وتقدَّم أنَّ " الثُّمُرَ " بالضمِّ المال ، فقال ابن عباس : جميع المال من ذهبٍ ، وفضةٍ ، وحيوانٍ ، وغير ذلك ، قال النابغة : [ البسيط ] @ 3524 - مَهْلاً فِداءً لَكَ الأقْوامُ كُلُّهمُ ومَا أثمِّرُ من مالٍ ومِنْ وَلدِ @@ وقال مجاهد : هو الذهبُ والفضَّة خاصة . " فقال " يعني صاحب البستان " لصاحبه " أي المؤمن . " وهو يُحَاوِرهُ " أي : يخاطبه وهذه جملة حاليَّة مبيِّنةٌ ؛ إذ لا يلزم من القول المحاورةُ ؛ إذ لمحاورة مراجعة الكلام من حار ، أي : رجع ، قال تعالى : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [ الإنشقاق : 14 ] . وقال امرؤ القيس : [ الطويل ] @ 3525 - ومَا المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْئهِ يَحُورُ رَماداً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ @@ ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل ، أو من المفعول . قوله : { أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } . والنَّفَرُ : العشيرة الذين يذبُّون عن الرجل ، وينفرون معه ، وقال قتادة : حشماً ، وخدماً . وقال مقاتلٌ : ولداً تصديقه قوله : { أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً } . قوله : { جَنَّتَهُ } : إنما أفرد بعد ذكر التثنية ؛ اكتفاء بالواحد للعلمِ بالحال ، قال أبو البقاء : كما اكتفي بالواحد عن الجمع في قول الهذليِّ : [ الكامل ] @ 3526 - فَالعيْنُ بَعدهُم كَأنَّ حِداقهَا سُمِلتْ بِشوْكٍ فهي عُورٌ تَدْمَعُ @@ ولقائلٍ أن يقول : إنما يجوز ذلك ؛ لأنَّ جمع التكسير يجري مجرى المؤنَّثة ، فالضمير في " سُمِلَتْ " وفي " فهي " يعود على الحداقِ ، لا على حدقةٍ واحدة ، كما يوهم . وقال الزمخشري : " فإن قلت : لم أفرد الجنَّة ، بعد التثنية ؟ قلت : معناه : ودخل ما هو جنَّتهُ ، ما له جنة غيرها ، بمعنى : أنه ليس له نصيب في الجنة الَّتي وعد المتَّقون ، فما ملكه في الدنيا ، فهو جنَّته ، لا غير ، ولم يقصد الجنتين ، ولا واحدة منهما " . فصل قال أبو حيان : " ولا يتصوَّر ما قال ؛ لأنَّ قوله : { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } إخبار من الله تعالى بأنَّ هذا الكافر دخل جنَّته ، فلا بدَّ أن قصد في الإخبار : أنه دخل إحدى جنتيه ؛ إذ لا يمكن أن يدخلهما معاً في وقتٍ واحدٍ " . قال شهاب الدين : من ادَّعى دخولهما في وقتٍ واحدٍ ، حتَّى يلزمه بهذا المستحيلِ في البداية ؟ وأمَّا قوله " ولم يقصد الجنَّتين ، ولا واحدة " معناه : لم يقصد تعيين مفردٍ ، ولا مثنى ، لا أنه لم يقصد الإخبار بالدخول . وقال أبو البقاء : " إنما أفرد ؛ لأنَّهما جميعاً ملكهُ ، فصارا كالشيء الواحد " . قوله : " وهُو ظَالِمٌ " حال من فاعل " دَخلَ " ، وقوله " لنَفْسهِ " مفعول " ظَالِمٌ " واللام مزيدة فيه ؛ لكون العامل فرعاً . قوله : { مَآ أَظُنُّ } فيه وجهان : أحدهما : أن يكون مستأنفاً بياناً لسبب الظلم . والثاني : أن يكون حالاً من الضَّمير في " ظَالِمٌ " ، أي : وهو ظالمٌ في حال كونه قائلاً . قوله : " أنْ تَبِيدَ " أي : تهلك ، قال : [ المقتضب ] @ 3527 - فَلئِنْ بَادَ أهْلهُ لبِما كَانَ يُوهَلُ @@ ويقال : بَادَ يَبيدُ بُيُوداً وبَيْدُودة ، مثل " كَيْنُونة " والعمل فيها معروفٌ ، وهو أنه حذفت إحدى الياءين ، ووزنها فيعلولة . قوله : { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } يعني الكافر آخذاً بيد صاحبه المسلم يطوف به فيها ، ويريه بهجتها وحسنها ، وأخبره بصنوف ما يملكه من المال { وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } بكفره ، وهذا اعتراضٌ وقع في أثناء الكلام ، والمعنى أنه لمَّا اغترَّ بتلك النِّعم ، وتوسَّل بها إلى الكفران والجحود ؛ لقدرته على البعث ، كان واضعاً لتلك النِّعم في غير موضعها ، { قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً } . قال أهل المعاني : لما أذاقه حسنها وزهوتها ، توهَّم أنها لا تفنى أبداً مطلقاً ، { وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً } فجمع بين كفرين . الأول : قطعه بأنَّ تلك الأشياء لا تبيدُ أبداً . والثاني : إنكار البعث . فإن قيل : هب أنَّه شكَّ في القيامة ، فكيف قال : ما أظنُّ أن تبيد هذه أبداً ، مع أنَّ الحسَّ يدلُّ على أنَّ أحوال الدنيا بأسرها ذاهبةٌ غير باقية ؟ . فالجواب : مراده أنَّها لا تبيد مدَّة حياته ، ثم قال : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } أي مرجعاً وعاقبة ، وانتصابه على التَّمييز ، ونظيره قوله تعالى : { وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ } [ فصلت : 50 ] . وقوله : { لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } [ مريم : 77 ] . فإن قيل : كيف قال : ولَئِنْ رددت إلى ربي وهو ينكرُ البعث ؟ . فالجواب : معناه : ولئنْ رددتُّ إلى ربِّي على زعمكَ ، يعطيني هنالك خيراً منها . والسَّبب في وقوعه في هذه الشُّبهة أنَّه تعالى لمَّا أعطاه المال والجاه في الدنيا ، ظنَّ أنه إنَّما أعطاه ذلك ؛ لكونه مستحقًّا له ، والاستحقاقُ باقٍ بعد الموت ؛ فوجب حصول الإعطاء ، والمقدِّمة الأولى كاذبةٌ ؛ فإن فتح باب الدنيا على الإنسان ، يكون في أكثر الأمر للاستدراج . وقرأ أبو عمرو والكوفيون " مِنْهَا " بالإفراد ؛ نظراً إلى أقرب مذكورٍ ، وهو قوله : " جنَّتهُ " وهي في مصاحف العراق ، دون ميمٍ ، والباقون " مِنْهُما " بالتثنية ؛ نظراً إلى الأصل في قوله : " جَنَّتيْنِ " و " كِلتَا الجنَّتيْنِ " ورُسِمَتْ في مصاحفِ الحرمينِ والشَّام بالميم ، فكل قد وافق رسم مصحفه . قوله : { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ } أي المسلم . قوله : { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } أي : خلق أصلك من تراب ، وهذا يدلُّ على أنَّ الشاكَّ في البعث كافرٌ . ووجه الاستدلال أنَّه ، لمَّا قدر على [ الابتداء ] ، وجب أن يقدر على الإعادة . وأيضاً : فإنَّه تعالى ، لمَّا خلقك هكذا ، فلم يخلقك عبثاً ، وإنَّما خلقك لهذا المعنى ، وجب أن يحصل للمطيع ثوابٌ ، وللمذنب عقابٌ ؛ ويدلُّ على هذا قوله : { ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } أي : هيَّأك تهيئة تعقل وتصلح أنت للتكليف ، فهل يحصل للعاقل مع هذه الآية إهمال أمرك ؟ ! . قوله : { مِن نُّطْفَةٍ } النُّطفة في الأصل : القطرة من الماء الصافي ، يقال : نَظفَ يَنطفُ ، أي : قطرَ يَقطُر ، وفي الحديث : " فَخرجَ ، ورَأسهُ يَنطفُ " وفي رواية : يَقطرُ ، وهي مفسِّرةٌ ، وأطلق على المنيِّ " نُطفَةٌ " تشبيهاً بذلك . قوله : " رجُلاً " فيه وجهان : أحدهما : أنه حالٌ ، وجاز ذلك ، وإن كان غير منتقلٍ ، ولا مشتقٍّ ؛ لأنه جاء بعد " سوَّاك " إذ كان من الجائز : أن يسوِّيهُ غير رجل ، وهو كقولهم : " خَلقَ الله الزَّرافةَ يَديْهَا أطْولَ من رِجْلَيْهَا " وقول الآخر : [ الطويل ] @ 3528 - فَجاءَتْ بِهِ سَبْطَ العِظامِ كأنَّما عِمامَتهُ بيْنَ الرِّجالِ لِوَاءُ @@ والثاني : أنه مفعول ثانٍ لـ " سَوَّاكَ " لتضمُّنه معنى خلقك ، وصيَّرك وجعلك ، وهو ظاهر قول الحوفيِّ . قوله : { لَّٰكِنَّاْ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي } : قرأ ابن عامر ، ويعقوب ، ونافع في رواية بإثبات الألف وصلاً ووقفاً ، والباقون بحذفها وصلاً ، وبإثباتها وقفاً وهي رواية عن نافعٍ ، فالوقفُ وفاقٌ . والأصل في هذه الكلمة : " لكن أنّا " فنقل حركة همزة " أنَا " إلى نون " لكِنْ " وحذف الهمزة ، فالتقى مثلان ، فأدغم ، وهذا أحسنُ الوجهين في تخريج هذا ، وقيل : حذف همزة " أنا " [ اعتباطاً ] ، فالتقى مثلان ، فأدغم ، وليس بشيءٍ ؛ لجري الأول على القواعد ، فالجماعة جروا على مقتضى قواعدهم في حذف ألف " أنّا " وصلاً ، وإثباتها وقفاً ، وقد تقدم لك : أنَّ نافعاً يثبت ألفه وصلاً قبل همزة مضمومة ، أو مكسورة ، أو مفتوحة ؛ بتفصيلٍ مذكورٍ في البقرة ، وهنا لم يصادف همزة ، فهو على أصله أيضاً ، ولو أثبت الألف هنا ، لكان أقرب من إثبات غيره ؛ لأنه أثبتها في الوصلِ جملة . وأمَّا ابن عامرٍ ، فإنه خرج عن أصله في الجملة ؛ إذ ليس من مذهبه إثبات هذه الألف وصلاً في موضع [ ما ] ، وإنما اتَّبع الرسم . وقد تقدَّم أنها لغة تميمٍ أيضاً . وإعراب ذلك : أن يكون " أنَا " مبتدأ ، و " هو " مبتدأ ثانٍ ، و " هو " ضمير الشأن ، و " اللهُ " مبتدأ ثالث و " ربِّي " خبر الثالث ، والثالث وخبره خبر الثاني ، و الثاني وخبره خبر الأول ، والرابط [ بين الأول ] وبين خبره الياء في " ربِّي " ويجوز أن تكون الجلالة بدلاً من " هُوَ " أو نعتاً ، أو بياناً ، إذا جعل " هو " عائداً على ما تقدَّم من قوله " بالذي خلقك من تراب " لا على أنَّه ضمير الشأن ، وإن كان أبو البقاء أطلق ذلك ، وليس بالبيِّن . وخرَّجه الفارسي على وجهٍ غريب : وهو أن تكون " لكِنَّا " " لكنَّ " واسمها وهو " نا " والأصل : " لكنَّنا " فحذف إحدى النونات ؛ نحو : { إنَّا نَحْنُ } [ الحجر : 9 ] وكان حق التركيب أن يكون " ربُّنا " " ولا نُشرِكُ بربِّنا " قال : " ولكنه اعتبر المعنى ، فأفرد " وهو غريبٌ جدًّا . قال الكسائيُّ : فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، تقديره : " لكنَّ الله هُوَ ربِّي " . وقرأ أبو عمرو " لكنَّهْ " بهاء السَّكت وقفاً ؛ لأنَّ القصد بيان حركة نون " أنَا " فتارة تبيَّن بالألف ، وتارة بهاء السكت ، وعن حاتم الطائي : [ الرمل المجزوء ] @ 3529 - هَكذَا فَرْدِي أَنَهْ @@ وقال ابن عطية عن أبي عمرو : روى عنه هارون " لكنَّه هو الله " بضمير لحق " لكن " قال شهاب الدين : فظاهر هذا أنه ليس بهاء السَّكت ، بل تكون الهاءُ ضميراً اسماً لـ " لكِنْ " وما بعدها الخبر ويجوز أن يكون " هو " مبتدأ ، وما بعده خبره ، وهو وخبره خبر " لكنَّ " ويجوز أن يكون تأكيداً للاسم ، وأن يكون فصلاً ، ولا يجوز أن يكون ضمير شأنٍ ؛ لأنه حينئذ لا عائد على اسم " لكنَّ " من هذه الجملة الواقعة خبراً . وأمَّا في قراءة العامة : فلا يجوز أن تكون " لكنَّ " مشددة عاملة ؛ لوقوع الضمير بعدها بصيغة المرفوع . وقرأ عبد الله " لكنْ أنَا هُوَ " على الأصل من غير نقل ، ولا إدغامٍ ، وروى عنه ابنُ خالويه " لكنْ هُو الله " بغير " أنا " . وقرىء أيضاً " لكننا " . وقال الزمخشريُّ : " وحسَّن ذلك - يعني إثبات الألف في الوصل - وقوع الألف عوضاً عن حذف الهمزة " ونحوه - يعني إدغام نون " لكن " في نون " نَا " بعد حذف الهمزة - قول القائل : @ 3530 - وتَرْمِينَنِي بالطَّرْفِ أيْ أنْتَ مُذنِبٌ وتَقْلِيننِي لكنَّ إيَّاكِ لا أقْلِي @@ الأصل : لكن أنا ، فنقل ، وحذف ، وأدغم ، قال أبو حيان : " ولا يتعيَّن ما قاله في البيت ؛ لجواز أن يكون حذف اسم " لكنَّ " [ وحذفه ] لدليلٍ كثيرٌ ، وعليه قوله : @ 3531 - فَلوْ كُنْتَ ضَبيًّا عَرفْتَ قَرابتِي ولكنَّ زَنْجِيٌّ عَظِيمُ المَشافرِ @@ أي : ولكنَّك ، وكذا ها هنا : ولكنَّني إيَّاك " قال شهاب الدين : لم يدَّع الزمخشري تعين ذلك في البيت ؛ حتَّى يردَّ عليه بما ذكره . ويقرب من هذا ما خرَّجه البصريُّون في بيت استدلَّ به الكوفيون عليهم في جواز دخولِ لام الابتداء في خبر " لكنَّ " وهو : [ الطويل ] @ 3533 - … ولكنَّني من حُبِّهَا لعَمِيدُ @@ فأدخل اللام في خبر " لكنَّ " وخرَّجه البصريون على أن الأصل : " ولكن من حُبِّها " في قوله : " ولكنَّني من حُبِّها لعمِيدُ " ، فأدغم اللام في خبر " لكنَّ " ، وجوَّزه البصريُّون ، وخرَّجه طائفة من البصريِّين على أنَّ الأصل ولكن إنِّي من حُبِّها ، ثم نقل حركة همزة " إنِّي " إلى نون " لكن " بعد حذف الهمزة ، وأدغم على ما تقدَّم ، فلم تدخل اللام إلا في خبر " إنَّ " ، هذا على تقدير تسليم صحة الرواية ، وإلا فقالوا : إنَّ البيت مصنوعٌ ، ولا يعرف له قائلٌ . والاستدراك من قوله " أكَفرْتَ " كأنَّه قال لأخيه : أنت كافرٌ ؛ لأنَّه استفهام تقرير ، لكنَّني أنَّا مؤمنٌ ؛ نحو قولك : " زَيْدٌ غَائبٌ ، لكنَّ عمراً حاضرٌ " لأنه قد يتوهَّم غيبةُ عمرو أيضاً . فصل في المقصود بالشرك في الآية معنى { وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } . ذكر القفال فيه وجهين : الأول : أنِّي لا أرى الفقر والغنى إلاَّ منه ؛ فأحمده إذا أعطى ، وأصبر ، إذا ابتلى ، ولا أتكبَّر عندما ينعم عليَّ ، ولا أرى كثرة [ المال ] ، والأعوان من نفسي ، وذلك لأنَّ الكافر ، لمَّا [ اعتزَّ ] بكثرة المال والجاه ، فكأنه قد أثبت لله شريكاً في إعطاء العزِّ والغنى . الثاني : أنَّ هذا الكافر ، لمَّا أعجز الله عن البعث والحشر ، فقد جعله مساوياً للخلق في هذا العجز ، وإذا أثبت المساواة ، فقد أثبت الشَّريك . قوله : { وَلَوْلاۤ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } : " لولا " تحضيضيَّةٌ داخلة على " قلت " و " إذْ دَخلْتَ " منصوب بـ " قُلْتَ " فصل به بين " لوْلاَ " وما دخلت عليه ، ولم يبال بذلك ؛ لأنه ليس بأجنبيٍّ ، وقد عرفت أنَّ حرف التحضيضِ ، إذا دخل على الماضي ، كان للتَّوبيخ . ومعنى الكلام : هلاَّ إذا دخلت جنَّتك ، قلت : ما شَاءَ الله ، أي : الأمر ما شاء الله ، وقيل : جوابه مضمرٌ ، أي : ما شاء الله كان . { مَا شَآءَ ٱللَّهُ } يجوز في " مَا " وجهان : الأول : أن تكون شرطية ؛ فتكون في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدماً وجوباً بـ " شاء " أي : أيَّ شيء شاء الله ، والجواب محذوف ، أي : ما شاء الله ، كان ووقع كما تقدم . والثاني : أنها موصولة بمعنى " الذي " وفيها حينئذ وجهان : أحدهما : أن تكون مبتدأة ، وخبرها محذوف ، أي : الذي شاء الله كائنٌ وواقعٌ . والثاني : أنها خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : الأمر الذي شاءه الله ، وعلى كل تقدير : [ فهذه الجملة ] في محل نصبٍ بالقول . قوله : " إلاَّ الله " خبر " لا " التبرئةِ ، والجملة أيضاً منصوبة بالقولِ ، أي : هلاَّ قلت هاتين الجملتين . فإن قيل : معنى { لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } أي : لا أقدرُ على حفظ مالي ، ولا دفع شيءٍ عنه إلاَّ بالله . روى هشامُ بن عروة عن أبيه : " أنَّهُ كان إذَا رأى مِنْ مَالهِ شَيْئاً يُعْجبهُ ، أو دَخَلَ حَائِطاً من حِيطانِه قال : مَا شَاءَ الله لا قُوَّة إلاَّ بالله " . فالجواب : احتجَّ أهل السنَّة بقوله : { مَا شَآءَ ٱللَّهُ } على أنَّ كلَّ ما أراده الله واقعٌ ، وكلَّ ما لم يقع ، لم يرده الله تعالى ؛ وهذا يدلُّ على أن الله ما أراد الإيمان من الكافر ، وهو صريحٌ في إبطال قول المعتزلة . فصل في الرد على استدلال المعتزلة بالآية [ ذكر الجبائيُّ ] والكعبيُّ بأنَّ تأويل قولهم : " مَا شَاءَ الله " ممَّا تولَّى فعله ، لا ما هو فعل العباد ، كما قالوا : لا مردَّ لأمر الله ، لم يرد ما أمر به العباد ، ثم قال : لا يمتنع أن يحصل في سلطانه ما لا يريد ، كما يحصل فيه ما ينهى عنه . واعلم أنَّ الذي ذكره الكعبيُّ ليس جواباً عن الاستدلال ، بل هو التزامٌ لمخالفة ظاهر النصِّ ، وقياس الإرادة على الأمر باطلٌ ؛ لأنَّ هذا النصَّ دالٌّ على أنَّه لا يوجد إلاَّ ما أراده الله ، وليس في النصوص ما يدلُّ على أنَّه لا يدخل في الوجود إلاَّ ما أمر به ، فظهر الفرق . وأجاب القفَّال عنه بأن قال : هلاَّ إذا دخلت [ جنَّتك ] ، قلت : ما شاء الله ، أي : هذه الأشياء الموجودةُ في هذا البستان : ما شاء الله ؛ كقول الإنسان ، إذا نظر إلى شيءٍ عمله زيدٌ : عمل زيدٍ ، أي : هذا عمل زيدٍ . ومثله : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] ، أي : قالوا : ثلاثةٌ ، وقوله : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } [ الأعراف : 161 ] أي : وقولوا : هذه حطَّة ، وإذا كان كذلك ، كان [ المراد أن ] هذا الشيء الموجود في البستان شيءٌ شاء الله تكوينه ، وعلى هذا التقدير : لم يلزم أن يقال : وقع كلُّ ما شاء الله ؛ لأنَّ هذا الحكم غير عامٍّ في الكلِّ ، بل يختصُّ بالأشياء المشاهدة في البستان ، وهذا التأويلُ الذي ذكره القفَّال أحسن مما ذكره الجبائيُّ والكعبيُّ . فصل قال ابن الخطيب : وأقول : إنَّه على جوابه لا يندفع الإشكال عن المعتزلة ؛ لأنَّ عمارة ذلك البستان ، ربَّما حصلت بالغصوب ، وبالظُّلم الشديد ؛ فلا يصحُّ أيضاً على قول المعتزلة أن يقال : هذا واقعٌ بمشيئةِ الله ، اللهم ، إلاَّ أن يقال : المراد أنَّ هذه الثمار حصلت بمشيئة الله إلاَّ أنَّ هذا تخصيص لظاهر النصِّ من غير دليل . وأمَّا أمر المؤمن الكافر بأن يقول : لا قُوَّة إلاَّ بالله ، أي : لا قُوَّة لأحدٍ على أمر من الأمور إلاَّ بإعانة الله وإقداره . ثُمَّ إن المؤمن ، لما علَّم الكافر الإيمان ، أجابه عن الافتخار بالمال والنَّفر ، فقال : { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً } . واعلم أن ذكر الولد ها هنا يدلُّ على أنَّ المراد بالنَّفر المذكور في قوله : { وَأَعَزُّ نَفَراً } الأعوان والأولاد . وقوله : { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ } يجوز في " أنا " وجهان : أحدهما : أن يكون مؤكِّداً لياء المتكلم . والثاني : أنه ضمير الفصل بين المفعولين ، و " أقلَّ " مفعول ثانٍ ، أو حال بحسب الوجهين في الرؤية ، هل هي بصرية أو علمية ؟ إلا أنَّك إذا جعلتها بصرية ، تعيَّن في " أنَا " أن تكون توكيداً ، لا فصلاً ؛ لأنَّ شرطه أن يقع بين مبتدأ وخبر ، أو ما أصله المبتدأ والخبر . وقرأ عيسى بن عمر " أقلُّ " بالرفع ، ويتعيَّن أن يكون " أنا " مبتدأ ، و " أقلُّ " خبره ، والجملة : إمَّا في موضع المفعول الثاني ، أو في موضع الحال على ما تقدَّم في الرؤية . و " مَالاً وولداً " تمييزٌ ، وجواب الشرط قوله " فعَسَى ربِّي " . قوله : { حُسْبَانًا } : الحسبان مصدر حسب الشيء يحسبه ، أي : أحصاهُ ، قال الزجاج : " أي عذاب حسبان ، أي : حساب ما كسبت يداك " وهو حسن . فصل في معنى الحسبان قال الراغب : " قيل : معناه ناراً ، وعذاباً ، وإنما هو في الحقيقة ما يحاسبُ عليه ، فيجازى بحسبه " وهذا موافق لما قاله أبو إسحاق ، والزمخشريُّ نحا إليه أيضاً ، فقال : " والحُسْبان مصدر ؛ كالغفران والبطلان بمعنى الحساب ، أي : مقداراً حسبه الله وقدَّره ، وهو الحكم بتخريبها " . وهو قول ابن عباس وقيل : جمع حسبانةٍ ، وهي السَّهمُ . وقال ابن قتيبة : مرامي من السَّماء ، وهي مثل الصَّاعقة ، أي : قطع من النَّار . قوله : { أَوْ يُصْبِحَ } : عطف على " يُرْسلَ " قال أبو حيَّان : و " أوْ يُصْبِحَ " عطفٌ على قوله : " ويُرْسِلَ " لأن غُؤورَ الماءِ لا يتَسبَّبُ عن الآفةِ السماوية ، إلا إن عنى بالحسبان القضاء [ الإلهيَّ ] ؛ فحينئذ يتسبَّب عنه إصباحُ الجنة صعيداً زلقاً ، أو إصباح مائها غوراً . والزَّلقُ والغَوْرُ في الأصل : مصدران وصف بهما للمبالغة . والعامة على فتح الغين ، غَارَ المَاءُ يَغورُ غَوراً : غَاضَ وذهب في الأرض ، وقرأ البرجميُّ بضم الغين لغة في المصدر ، وقرأت طائفة " غُؤوراً " بضمِّ الغين ، والهمزة ، وواوٍ ساكنة ، وهو مصدر أيضاً ، يقال : غار الماء غؤوراً مثل : جلس جلوساً . فصل في معنى قوله : { فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً } معنى قوله : { فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً } أرضاً جرداء ملساء لا نبات فيها ، وقيل : تزلق فيها الأقدام . وقال مجاهد : رملاً هائلاً ، والصعيد وجه الأرض . { أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً } أي : غائراً منقطعاً ذاهباً لا تناله الأيدي ، ولا الدِّلاءُ ، والغور : مصدر وقع موقع الاسم ، مثل زور وعدل . قوله : { فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً } أي : فيصير بحيثُ لا تقدر على ردِّه إلى موضعه . ثمَّ أخبر الله تعالى أنَّه حقَّق ما قدره هذا المؤمن ، فقال : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } اي : أحاط العذاب بثمر جنته ، وهو عبارة عن إهلاكه بالكليَّة ، وأصله من إحاطة العدوِّ ؛ لأنَّه إذا أحاط به ، فقد استولى عليه ، ثمَّ استعمل في كلِّ إهلاكٍ ، ومنه قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } [ يوسف : 66 ] . قوله : { يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } : قُرىء " تَقلَّبُ كفَّاهُ " ، أي : تتقلَّب كفَّاه ، و " أصْبحَ " : يجوز أن تكون على بابها ، وأن تكون بمعنى " صار " وهذا كناية عن الندم ؛ لأنَّ النادم يفعل ذلك . قوله : { عَلَى مَآ أَنفَقَ } يجوز أن يتعلق بـ " يُقلِّبُ " وإنما عدِّي بـ " عَلَى " لأنه ضمِّن معنى " يَندَمُ " . وقوله : " فيها " ، أي : في عمارتها ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حال من فاعل " يُقلِّبُ " أي : متحسِّراً ، كذا قدَّره أبو البقاء ، وهو تفسير معنى ، والتقدير الصناعي ؛ إنما هو كونٌ مطلقٌ . قوله : " ويَقُولُ " يجوز أن يكون معطوفاً على " يُقلِّبُ " ويجوز أن يكون حالاً . فصل في كيفية الإحاطة قال المفسرون : إنَّ الله تعالى أرسل عليها ناراً ، فأهلكتها وغار ماؤها ، { فَأَصْبَحَ } صاحبها الكافر { يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } ، أي : يصفِّق بيديه ، إحداهما على الأخرى ، ويلقِّب كفَّيه ظهراً لبطن ؛ تأسُّفاً وتلهُّفاً { عَلَى مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ } ساقطة { عَلَىٰ عُرُوشِهَا } سقوفها ، فتسقَّطت سقوفها ، ثمَّ سقطت الجدران عليها . ويمكن أنَّ يكون المراد بالعروشِ عروش الكرم ، فتسقط العروش ، ثم تسقط الجدران عليها . قوله : { وَيَقُولُ يَٰلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } . والمعنى : أن المؤمن ، لمَّا قال : { لَّٰكِنَّاْ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } قال الكافر : يا ليتني قلت كذلك . فإن قيل : هذا الكلام يوهم أنه إنما هلكت جنَّته ؛ لشؤم شركه ، وليس الأمر كذلك ؛ لأنَّ أنواع البلاء أكثرها إنَّما تقع للمؤمنين ، قال تعالى : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [ الزخرف : 33 ] . وقال صلى الله عليه وسلم : " خُصَّ البَلاءُ بالأنْبِياءِ ، ثمَّ الأوْلياءِ ، ثُمَّ الأمثلِ فالأمثَلِ " . وأيضاً : فلما قال : { يَٰلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } فقدم ندم على الشِّرك ، ورغب في التوحيد ؛ فوجب أن يصير مؤمناً ، فلم قال بعده : { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ } ؟ . فالجواب عن الأوَّل : أنه لمَّا عظمت حسراته لأجل أنه أنفق عمره في تحصيل الدنيا ، وكان معرضاً في عمره كلِّه عن طلب الدِّين ، فلما ضاعت الدنيا بالكليَّة ، بقي محروماً عن الدنيا والدِّين . والجواب عن الثاني : أنَّه إنَّما نَدِمَ على الشِّرك ؛ لاعتقاده أنَّه لو كان موحِّداً غير مشركٍ ، لبقيت عليه جنَّته ، فهو إنَّما رغب في التوحيد والردَّة عن الشِّرك ؛ لأجل [ طلب ] الدنيا ؛ فلهذا لم يقبل الله توحيده . قوله : { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ } : قرأ الأخوان [ " يَكُنْ " ] بالياء من تحت ، والباقون من فوق ، وهما واضحتان ؛ إذ التأنيث مجازيٌّ ، وحسن التذكير للفصل . قوله : " يَنْصُرونَهُ " يجوز أن تكون هذه الجملة خبراً ، وهو الظاهر ، وأن تكون حالية ، والخبر الجار المتقدم ، وسوَّغ مجيء الحال من النَّكرة تقدم النفي ، ويجوز أن تكون صفة لـ " فئةٍ " إذا جعلنا الخبر الجارَّ . وقال : " يَنْصُرونَهُ " حملاً على معنى " فِئةٍ " لأنَّهم في قوَّة القوم والنَّاس ، ولو حمل على لفظها ، لأفرد ؛ كقوله تعالى : { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ } [ آل عمران : 13 ] . وقرأ ابن أبي عبلة : " تَنْصرُهُ " على اللفظ ، قال أبو البقاء : " ولو كان " تَنْصرهُ " لكان على اللفظ " . قال شهاب الدين : قد قرىء بذلك ، كما عرفت . [ قال بعضهم ] : ومعنى " يَنْصُرونَهُ " يقدرون على نصرته ، ويمنعونه من عذاب الله { وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا } ممتنعاً متنعماً ، أي : لا يقدر على الانتصار لنفسه ، وقيل : لا يقدر على ردِّ ما ذهب عنه . قوله : { هُنَالِكَ ٱلْوَلاَيَةُ لِلَّهِ } : يجوز أن يكون الكلام تمَّ على قوله " مُنْتَصِراً " وهذه جملة منقطعة عمَّا قبلها ، وعلى هذا : فيجوز في الكلام أوجه : الأول : أن يكون " هنالك الولايةُ " مقدَّراً بجملة فعلية ، فالولاية فاعل بالظرف قبلها ، أي : استقرَّت الولاية الله ، و " لله " متعلق بالاستقرار ، أو بنفس الظرف ؛ لقيامه مقام العامل ، أو بنفسِ الولاية ، أو بمحذوفٍ على أنه حال من " الوَلاية " وهذا إنما يتأتَّى على رأي الأخفش من حيث إنَّ الظرف يرفع الفاعل من غير اعتمادٍ . والثاني : أن يكون " هُنالِكَ " منصوباً على الظرف متعلقاً بخبر " الولاية " وهو " لله " أو بما تعلق به " لله " أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ منها ، والعامل الاستقرارُ في " لله " عند من يجيز تقدم الحال على عاملها المعنوي ، أو يتعلق بنفس " الوَلايَةِ " . والثالث : أن يجعل " هُنالِكَ " هو الخبر ، و " لله " فضلةٌ ، والعامل فيه ما تقدَّم في الوجه الأول . ويجوز أن يكون " هُنالِكَ " من تتمَّة ما قبلها ، فلم يتمَّ الكلام دونه ، وهو معمولٌ لـ " مُنْتَصِراً " ، أي : وما كان منتصراً في الدار الآخرة ، و " هُنالِكَ " إشارة إليها ، وإليه نحا أبو إسحاق . وعلى هذا فيكون الوقف على " هُنالِكَ " تامًّا ، والابتداء بقوله " الوَلايَةُ لله " فتكون جملة من مبتدأ وخبر . والظاهر في " هُنالِكَ " : أنه على موضوعه من ظرفية المكان ، كما تقدَّم ، وتقدَّم أنَّ الأخوين يقرآن بالكسر ، والفرق بينهما وبين قراءة الباقين بالفتح في سورة الأنفال ، فلا معنى لإعادته . وحكي عن أبي عمرو والأصمعي أن كسر الواو هنا لحنٌ ، قالا : لأنَّ " فعالة " إنما تجيء فيما كان صنعة أو معنى متقلَّداً ، وليس هنالك تولِّي أمورٍ . فصل في لغات الولاية ومعانيها قال الزمخشري : الولاية بالفتح : النصر ، والتولِّي ، وبالكسر : السلطان والملك . وقيل : بالفتح : الربوبيَّة ، وبالكسر : الإمارة . قوله : " الحَقِّ " قرأ أبو عمرو ، والكسائي برفع " الحقُّ " والباقون بجرِّه ، فالرفع من ثلاثة أوجه : الأول : أنه صفة للولاية وتصديقه قراءة أبيٍّ " هُنالك الوَلايةُ الحق للهِ " . والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو ما أوحيناه إليك . الثالث : أنه مبتدأ ، وخبره مضمر ، أي : الحق ذلك ، وهو ما قلناه . والجر على أنه صفة للجلالة الكريمة ؛ كقوله " ثُمَّ ردُّوا إلى الله مَولاهُم الحقِّ " . وقرأ زيد بن عليٍّ ، وأبو حيوة ، وعمرو بن عبيد ، ويعقوب " الحقَّ " نصباً على المصدر المؤكِّد لمضمون الجملة ؛ كقولك " هذَا قَوْلُ الله الحق " وهذا عبد الله الحقَّ ، لا الباطل . قوله : " عُقباً " قرأ عاصم وحمزة بسكون القاف ، والباقون بضمِّها ، فقيل : لغتان ؛ كالقُدُسِ والقُدْس ، وقيل : الأصل الضَّم ، والسكون تخفيف ، وقيل بالعكس ؛ كالعُسْر واليُسْر ، وهو عكس معهود اللغة ، ونصبها ونصب " ثَواباً " و { أَمَلاً } [ الكهف : 46 ] على التمييز لأفعل التفضيل قبلها ، ونقل الزمخشريُّ أنه قرىء " عُقْبَى " بالألف ، وهي مصدر أيضاً ؛ كبُشْرَى ، وتروى عن عاصم . فصل في نظم الآية اعلم أنَّه تعالى لمَّا ذكر من قصّة الرجلين ما ذكر علمنا أن النُّصرة والعاقبة المحمودة كانت للمؤمن على الكافر ، وعرفنا أن الأمر هكذا يكون في حقِّ كل مؤمنٍ وكافرٍ ، فقال : { هُنالِكَ الوَلايةُ للهِ الحَقِّ } أي : في مثل ذلك الوقت وفي مثل ذلك المقام ، تكون الولاية لله يوالي أولياءه ؛ فيعليهم على أعدائه ، ويفوِّض أمر الكفار إليهم . فقوله : " هُنالِكَ " إشارةٌ إلى الموضع ، والوقت الذي يريد إظهار كرامة أوليائه ، وإذلال أعدائه . وقيل : المعنى في مثل تلك الحالة الشديدة يتولَّى الله ، ويلتجىء إليه كلُّ محتاجٍ مضطرٍّ ، يعني أن قوله : { يَٰلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } فكأنه ألجأ إليها ذلك الكافر ، فقالها جزعاً ممَّا ساقهُ إليه شؤمُ كفره ، ولولا ذلك ، لم يقلها . وقيل : المعنى : هنالك الولاية لله ينصرُ فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة ، وينتقم لهم ويشفي صدورهم من [ أعدائهم ] ، يعني أنَّه تعالى نصر المؤمنين على الكفرة ، وينتقم لهم ويشفي صدورهم من [ أعدائهم ] ، يعني أنَّه تعالى نصر المؤمن بما فعل [ بأخيه الكافر و ] بصدق قوله : { فعسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } . ويعضده قوله : { هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً } أي : لأوليائه ، وقيل : " هُنالِكَ " إشارةٌ إلى الدَّار الآخرةِ ، أي : في تلك الدَّار الآخرة الولاية لله كقوله : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] . وقوله : { هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً } أي : خيرٌ في الآخرة لمن آمن به ، و التجأ إليه ، { وَخَيْرٌ عُقْباً } أي : هو خيرٌ عاقبة لمن رجاهُ ، وعمل لوجهه .