Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 45-49)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } الآية . أي : واضرب ، يا محمد ، لهؤلاء الذين افتخروا بأموالهم ، وأنصارهم على فقراء المسلمين { مَّثَلَ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } ثم ذكر المثل فقال : { كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ } . قوله : { كَمَآءٍ } : فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن تكون خبر مبتدأ محذوف ، فقدَّره ابن عطيَّة هي ، أي : الحياة الدنيا . والثاني : أنه متعلق بمعنى المصدر ، أي : ضرباً كماء ، قاله الحوفيُّ . وهذا بناء منهما على أن " ضرب " هذه متعدية لواحدٍ فقط . والثالث : أنه في موضع المفعول الثاني لـ " اضْرِبْ " لأنها بمعنى " صَيِّرْ " وقد تقدم . قال أبو حيان بعدما نقل قولي ابن عطيَّة والحوفيِّ : " وأقول : إنَّ " كماءٍ " في موضع المفعول الثاني لقوله " واضْرِبْ " ، أي : وصيِّر لهم مثل الحياة ، أي : صفتها شبه ماء " . قال شهاب الدين : وهذا قد سبقه إليه أبو البقاء . و " أنْزَلنَاهُ " صفة لـ " مَاءٍ " . قوله : " فاخْتلَطَ به " يجوز في هذه الباء وجهان : أحدهما : أن تكون سببية . الثاني : أن تكون متعدِّية ، قال الزمخشري : " فالتفَّ بسببه ، وتكاثف حتى خالط بعضه بعضاً ، وقيل : تجمع الماء في النبات ؛ حتى روي ورَفَّ رفيفاً ، وكان حق اللفظ على هذا التفسير : فاختلط بنباتِ الأرض ، ووجه صحته : أنَّ كلَّ مختلطين موصوف كل واحدٍ منهما بصفةِ الآخر " . قوله : { فَأَصْبَحَ هَشِيماً } " أصْبَحَ " يجوز أن تكون على بابها ؛ فإنَّ أكثر ما يطرقُ من الآفاتِ صباحاً ؛ كقوله : { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } [ الكهف : 42 ] ويجوز أن تكون بمعنى " صار " من غير تقييدٍ بصباحٍ ؛ كقوله : [ المنسرح ] @ 3533 - أصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولاَ أمْلِكُ رَأسَ البعيرِ إنْ نَفرَا @@ والهشيمُ : واحده هشيمة ، وهو اليابس ، وقال الزجاج وابن قتيبة : كل ما كان رطباً ، فيَبِسَ ، ومنه { كَهَشِيمِ ٱلْمُحْتَظِرِ } [ القمر : 31 ] ومنه : هشمتُ الفتَّ والهشيم : المتفتِّت المتكسِّر ، ومنه هشمت أنفه ، وهشَمَ الثَّريدَ : إذا فتَّه . قال : [ الكامل ] @ 3534 - عَمْرُو الَّذي هَشمَ الثَّريدَ لقَومهِ ورِجَالُ مَكَّةَ مُسنتُونَ عِجَاف @@ قوله : " تَذرُوهُ " صفة لـ " هَشِيماً " والذَّرْوُ : التفريق ، وقيل : الرفع . والعامة " تَذْروهُ " بالواو ، وقرأ عبد الله " تَذْريه " من الذَّري ، ففي لامه لغتان : الواو والياء ، وقرأ ابن عبَّاس " تُذْريهِ " بضمِّ التاء من الإذراءِ ، وهذه تحتمل أن تكون من الذَّرْوِ ، وأن تكون من الذَّري ، والعامة على " الرَّياحِ " جمعاً ، وزيد بن عليٍّ ، و الحسنُ ، والنخعيُّ في آخرين " الرِّيحُ " بالإفراد . فصل في معنى ألفاظ الآية و " مَثَل " معنى المثل ، قال ابن عباسٍ : يعني بالماءِ المطر ، نزل من السماء { فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ } خرج من كل لون وزهرة ، " فأصْبحَ " عن قريب " هَشِيماً " يابساً . وقال الضحاك : كسيراً . " تَذْروهُ الرِّياحُ " : قال ابن عباس : تذريه . وقال أبو عبيدة : تفرّقه . وقال القتبي : تنسفه . قوله : { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } قادراً بتكوينه أولاً ، وتنميته وسطاً ، وإبطاله آخراً ، فأحوال الدنيا كذلك تظهرُ أولاً في غاية الحسن والنَّضارة ، ثم تتزايد قليلاً قليلاً ، ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الفناء والذَّهاب ، ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به . فصل في حسن ترتيب الآيات قوله تعالى : { ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } الآية . لما بيّن تعالى أنَّ الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مشرفة على الزَّوال والبوار والفناء ، بيَّن تعالى أنَّ المال والبنين زينة الحياة الدنيا ، و المقصود منه إدخال هذا الجزئيِّ تحت ذلك الكليِّ ، فينعقد به قياسٌ بيِّن الإنتاج ، وهو أنَّ المال والبنين زينة الحياة الدنيا ، وكل ما كان زينة الحياة الدنيا ، فهو سريعُ الانقضاءِ والانقراضِ ، ومن اليقين البديهيِّ ، أن ما كان كذلك ، فإنه يقبح بالعاقل أن يفتخر به ، أو يقيم له في نظره وزناً ، فهذا برهان باهرٌ على فساد قول المشركين الذين افتخروا بكثرة الأموال والأولاد على فقراء [ المؤمنين ] . قوله : { زِينَةُ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } إنما أفرد " زِينَةُ " وإن كانت خبراً عن " بَنِين " لأنَّها مصدر ، فالتقدير : ذوا زينةٍ ، إذ جعلا نفس المصدر ؛ مبالغة ؛ إذ بهما تحصل الزينة ، أو بمعنى مُزيِّنتَيْنِ وقرىء شاذًّا { زِينَتَا الحَيَٰوةِ الدُّنْيَا } على التثنية ، وسقطت ألفها لفظاً لالتقاء الساكنين ، فيتوهم أنه قرىء بنصب " زينة الحياة " . فصل في بيان رجحان فقراء المؤمنين على أغنياء الكفار لما أقام البرهان على فساد قول المشركين ، ذكر ما يدلُّ على رجحان أولئك الفقراء على أغنياء الكفَّار ، فقال : { وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ } . وبيان هذا الدليل : أنَّ خيرات الدنيا [ منقرضة ] ، وخيرات الآخرة باقيةٌ دائمةٌ ، والدائم الباقي خيرٌ من المنقرضِ الزائل ، وهذا معلومٌ بالضَّرورة . قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : المال والبنون حرث الحياة الدنيا ، والأعمال الصالحة حرث الآخرة ، وقد يجمعها الله لأقوامٍ . وقال ابن عبَّاس وعكرمة ومجاهد : الباقيات الصالحات هي قول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر . وقال - عليه الصلاة والسلام - : " أفْضَلُ الكلامِ أربعٌ : سُبْحانَ الله ، والحَمدُ لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبرُ " . وقال صلى الله عليه وسلم : " أكثروا من البَاقيَاتِ الصَّالحاتِ قيل : وما هُنَّ يَا رسُول الله ؟ قال : الملة . قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : التَّكبيرُ ، والتَّهليلُ ، والتَّسبيحُ ، والتَّحميدُ ، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم " . وقال سعيد بن جبير ومسروق وإبراهيم ويروى أيضاً عن ابن عباس : البَاقيَاتُ الصَّالحاتُ : الصلوات الخَمْسُ . وقال قتادة : ويروى أيضاً عن ابن عبَّاس أنَّها الأعمال الصالحة { خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً } جزاء { وَخَيْرٌ أَمَلاً } أي : ما يؤمِّله الإنسان . قوله : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ } الآية . لما بيَّن خساسة الدُّنيا ، وشرف القيامة ، أراد أن يعيِّن أحوال القيامةِ . قوله : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ } : " يَوْمَ " منصوب بقولٍ مضمرٍ بعده ، تقديره : نقول لهم يوم نسيِّر الجبال : لقد جئتمونا ، وقيل : بإضمار " اذْكُرْ " وقيل : هو معطوف على " عِنْدَ ربِّكَ " فيكون معمولاً لقوله " خَيْرٌ " . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر بضمِّ التاء ، وفتح الياء مبنياً للمفعول ، " الجِبَالُ " بالرفع ؛ لقيامه مقام الفاعل ، وحذف الفاعل ؛ للعلم به ، وهو الله ، أو من يأمره من الملائكة ، وهذه القراءة موافقةٌ لما اتُّفقَ عليه في قوله { وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ } [ النبأ : 20 ] ، ويؤيِّدها قراءة عبد الله هنا { وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ } فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول . والباقون " نُسيِّرُ " بنون العظمة ، والياء مكسورة من " سَيَّرَ " بالتشديد ؛ " الجبالَ " بالنصب على المفعول به ، وهذه القراءة مناسبة لما بعدها من قوله { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } . وقرأ الحسن كقراءة ابن كثير ، ومن ذكر معه إلاَّ أنه بالياء من تحت ؛ لأنَّ التأنيث مجازيٌّ وقرأ ابن محيصن ، ورواها محبوب عن أبي عمرو : [ " تسير " ] بفتح التاء من فوق ساكن الياء ، من سارت تسير ، و " الجِبَالُ " بالرفع على الفاعلية . قوله : { وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً } " بَارِزَةً " حالٌ ؛ إذ الرؤية بصرية ، وقرأ عيسى { وتُرَى الأرضُ } مبنيًّا للمفعول ، و " الأرضُ " قائمة مقام الفاعل . قوله : { وَحَشَرْنَاهُمْ } فيه ثلاثة أوجه : الأول : أنه ماضٍ ، يراد به المستقبل ، أي : ونحشرهم ، وكذلك { وَعُرِضُواْ } [ الكهف : 48 ] و { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ } [ الكهف : 49 ] . والثاني : أن تكون الواو للحالِ ، والجملة في محلِّ النصب ، أي : نفعل التسيير في حال حشرهم ؛ ليشاهدوا تلك الأهوال . والثالث : قال الزمخشري : " فإن قلت : لِمَ جيء بـ " حَشرْنَاهُمْ " ماضياً بعد " نُسيِّرُ " و " ترى " ؟ قلت : للدلالة على أنَّ حشرهم قبل التسيير ، وقيل البروز ؛ ليعاينوا تلك الأهوال العظام ؛ كأنَّه قيل : وحَشرنَاهُم قبل ذلكَ " . فصل قال أبو البقاء ، وأبو حيان : " والأولى أن تكون الواو للحال " فذكر نحواً ممَّا قدَّمته . قوله : " فَلمْ نُغادِرْ " عطف على " حَشَرنَاهُمْ " فإنه ماضٍ معنى ، والمغادرة هنا : بمعنى " الغَدْر " وهو الترك ، أي : فلم نترك ، والمفاعلة هنا ليس فيها مشاركة ، وسمي الغدر غدراً ؛ لأنَّ به ترك الوفاءُ ، وغدير الماء من ذلك ؛ لأنَّ السيل غادره ، أي : تركه ، فلم يجئه أو ترك فيه الماء ، ويجمع على " غدر " و " غُدرَان " كرغيف ورغفان ، واستغدر الغَديرُ : صار فيه الماء ، و الغديرة : الشَّعرُ الذي ترك حتى طال ، والجمع غدائرُ . قال امرؤ القيس : [ الطويل ] @ 3535 - غَدائِرُهُ مُسْتشْزِرَاتٌ إلى العُلا … @@ وقرأ قتادة " فَلمْ تُغادِرْ " بالتاء من فوقُ ، والفاعل ضمير الأرض ، أو الغدرة المفهومة من السياق ، وأبان : " يُغادَرْ " مبنياً للمفعول ، " أحدٌ " بالرفع ، والضحاك : " نُغْدِرْ " بضم النون ، وسكون العين ، وكسر الدال ، من " أغْدرَ " بمعنى " غَدرَ " . فصل في المراد بالتسيير ليس في الآية ما يدلُّ على أنَّ الأرض إلى أين تسير ، فيحتمل أن الله يسيِّرها إلى موضع يريده ، ولم يبيِّن ذلك الموضع لخلقه . والحقُّ أنَّ المراد أنَّه يسيِّرها إلى العدم ؛ لقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } [ طه : 105 - 107 ] { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } [ الواقعة : 5 ، 6 ] { وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً } [ الكهف : 47 ] ، أي : لم يبق عليها شيء من الجبال ، والعمران ، والشَّجر " بَارِزةً " ظاهرة ليس عليها ما يسترها ؛ كما قال : { فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } [ طه : 106 ، 107 ] . وقال عطاء : " بَارِزةً " أبرزت ما في بطنها ، وقذفت الموتى المقبورين فيها ، أي بارزة البطن والجوف ، فحذف ذكر الجوف ، ودليله قوله تعالى : { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ } [ الإنشقاق : 4 ] { وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ أَثْقَالَهَا } [ الزلزلة : 2 ] وقال : { وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعاً } [ إبراهيم : 21 ] . { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } أي : وحشرناهم أي : وجمعناهم للحساب ، فلم نترك من الأوَّلين والآخرين أحداً ، إلاَّ وجمعناهم لذلك اليوم . قوله : { وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا } . { صَفًّا } : حال من مرفوع " عرضوا " وأصله المصدرية ، يقال منه : صفَّ يصفُّ صفًّا ، ثم يطلق على الجماعة المصطفِّين ، واختلف هنا في " صفًّا " : هل هو مفرد وقع موقع الجمع ؛ إذ المراد صفوفاً ؛ ويدل عليه الحديث الصحيح : " يجمعُ الله الأوَّلينَ والآخرينَ في صعيدٍ واحدٍ صفوفاً " وفي حديث آخر : " أهلُ الجنَّة مائةٌ وعشرون صفًّا ، أنتم منها ثمانون " . ويؤيده قوله تعالى : { يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [ غافر : 67 ] أي أطفالاً . وقيل : ثَمَّ حذف ، أي : صفًّا صفًّا ، ونظيره قوله في موضع : { وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] . وقال في آخر : { يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلآئِكَةُ صَفّاً } [ النبأ : 38 ] يريد : صفًّا صفًّا ؛ بدليل الآية الأخرى ، فكذلك هنا ، وقيل : بل كل الخلائق تكون صفًّا [ واحداً ] ، وهو أبلغ في القدرة ، وأمَّا الحديثان فيحملان على اختلاف أحوالٍ ؛ لأنه يوم طويل ، كما شهد له بقوله { كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] فتارة يكونون فيه صفًّا واحداً ، وتارة صفوفاً . وقيل : صفًّا أي : قياماً ؛ لقوله تعالى : { فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ } [ الحج : 36 ] أي قياماً . قوله : { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا } على إضمار قول ، أي : وقلنا لهم كيت وكيت . وتقدَّم أن هذا القول هو العامل في قوله { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ } [ الكهف : 47 ] . ويجوز أن يضمر هذا القول حالاً من مرفوع " عُرِضُوا " ، أي : عرضوا مقولاً لهم كذا وكذا . قوله : { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ } : أي : مجيئاً مشبهاً لخلقكم الأول حفاة ، عراة غرلاً ، لا مال ، ولا ولد معكم ، وقال الزمخشري : " لقَدْ بَعثْنَاكُم كَمَا أنْشَأناكُمْ أوَّل مرَّة " فعلى هذين التقديرين ، يكون نعتاً للمصدر المحذوف ، وعلى رأي سيبويه : يكون حالاً من ضميره . قوله : { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } . ليس المراد حصول المساواة من كل الوجوه ؛ لأنهم خلقوا صغاراً ، ولا عقل لهم ، ولا تكليف عليهم ، بل المراد أنَّه قال للمشركين المنكرين للبعث المفتخرين على فقراءة المؤمنين بالأموال والأنصار : { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي حفاة ، عراة ، بغير أموال ، ولا أعوانٍ ، ونظيره قوله تعالى : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } [ الأنعام : 94 ] . ثم قال تعالى : { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِداً } أي كنتم مع التعزُّز على المؤمنين بالأموال والأنصار ، تنكرون البعث ، فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا ، وشاهدتم أنَّ البعث والقيامة حقٌّ . قوله : { أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِداً } " أنْ " هي المخففة ، وفصل بينها وبين خبرها ؛ لكونه جملة فعلية متصرفة غير دعاءٍ بحرف النفي ، و " لكم " يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً للجعل بمعنى التصيير ، و " مَوْعداً " هو الأول ، ويجوز أن يكون معلَّقاً بالجعل ، أو يكون حالاً من " مَوعِداً " إذا لم يجعل الجعل تصييراً ، بل لمجرد الإيجادِ . و " بَلْ " في قوله : " بَل زَعَمتُمْ " لمجرَّد الانتقالِ ، من غير إبطالٍ . قوله : { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ } : العامة على بنائه للمفعول ، وزيد بن عليٍّ على بنائه للفاعل ، وهو الله ، أو الملك ، و " الكِتاب " منصوب مفعولاً به ، و " الكتابُ " جنس للكتب ؛ إذ من المعلوم أنَّ لكلِّ إنسانٍ كتاباً بخصُّه ، وقد تقدَّم الوقف على " مَا لهذا الكتابِ " وكيف فصلت لام الجرِّ من مجرورها خطًّا في سورة النساء عند { فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } [ النساء : 78 ] . و " لا يُغَادِرُ " جملة حالية من " الكتاب " . والعامل الجار والمجرور ؛ لقيامه مقام الفعل ، أو الاستقرار الذي تعلق به الحال . قوله : " إلاَّ أحْصَاهَا " في محل نصب نعتاً لصغيرة وكبيرة ، ويجوز أن تكون الجملة في موضع المفعول الثاني ؛ لأنَّ " يُغَادِرُ " بمعنى " يترك " و " يتركُ " قد يتعدَّى لاثنين ؛ كقوله : [ البسيط ] @ 3536 - … فَقدْ تَركْتُكَ ذَا مَالٍ وذَا نَشبِ @@ في أحد الوجهين . روى أبو هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " يُحشَرُ النَّاس على ثلاثِ طرائقَ رَاغبينَ رَاهبينَ ، فاثْنانِ على بَعيرٍ ، وثَلاثةٌ على بَعيرٍ ، وأرْبعةٌ على بَعيرٍ ، وعَشرةٌ على بَعيرٍ ، وتَحشُرُ بقيَّتهُم النَّارُ ، تَقيلُ مَعهُمْ ، حَيْثُ قَالُوا ، وتَبِيتُ معهم ؛ حيث باتوا ، وتُصْبِحُ معهم ، حيث أصبحُوا ، وتمسي معهم ، حيث أمسوا " . وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : " قلت : يا رسول الله كيف يَحُشْر النَّاسُ يوم القِيامة ؟ قال : حُفاةً عُراةً ، قالت : قلتُ : والنِّساء ؟ قال : والنِّساء ، قالت : قلت : يا رسول الله ، أستحي ، قال : يا عائشة ، الأمر اشدُّ من ذلك ؛ أن يهمهم أن ينظر بعضهم لبعض " . ووضع الكتابُ ، يعي كتب أعمال العباد ، توضع في أيدي الناس في أيمانهم . وقيل : توضعُ بين يدي الله عزَّ وجلَّ ، { فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ } خائفين { مِمَّا فِيهِ } في الكتاب من الأعمال الخبيثة ، كيف تظهر لأهل الموقف ، فيفتضحون { وَيَقُولُونَ } إذا رأوها : { يَٰوَيْلَتَنَا } يا هلاكنا ، والويلُ والويلة : الهلكة ، وكأنَّ كلَّ من وقع في مهلكة ، دعا بالويل ، ومعنى النِّداء تنبيه المخاطبين . { مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } من ذنوبنا . قال ابن عباس : الصَّغيرة : التبسُّم ، والكبيرة : القهقهة . قال سعيد بن جبير : الصغيرة : اللَّمم ، [ والمسُّ ، و القبلة ] ، والكبيرة : الزِّنا . { إِلاَّ أَحْصَاهَا } وهو عبارة عن الإحاطة ، أي : ضبطها وحصرها ، وإدخال تاء التأنيث في الصغيرة والكبيرة ، على تقدير أنَّ المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة . قال - عليه الصلاة والسلام - : " إيَّاكُم ومحقِّرات الذنوب ؛ فإنَّما مثلُ محقِّراتِ الذُّنوب مثل قوم نزلوا ببطنِ وادٍ ، فجاء هذا بعودٍ ، وجاء هذا بعودٍ ، وجاء هذا بعودٍ ، حتَّى أنضجوا خبزتهم ، وإنَّ محقِّراتِ الذنوب لموبقاتٌ " . { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } مكتوباً في الصَّحيفة . { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } لا ينقص ثواب أحدٍ عمل خيراً . وقال الضحاك : لم يؤاخذ أحداً بجرم لم يعمله . فصل في الرد على المجبرة قال الجبائي : هذه الآية تدلُّ على فساد قول المجبرة في مسائل : أحدها : أنه لو عذَّب عباده من غير ذنب صدر منهم ، لكان ظالماً . وثانيها : أنه لا يعذِّب الأطفال بغير ذنب . وثالثها : بطلان قولهم : لله أن يفعل ما شاء ، ويعذِّب من غير جرم ؛ لأنَّ الخلق خلقه ، إذ لو كان كذلك ، لما كان لنفي الظلم عنه معنى ؛ لأنَّ بتقدير أنه إذا فعل أي شيءٍ ، لم يكن ظلماً منه ؛ لم يكن لقوله : " إنَّه لا يظلمُ " فائدة . فإن قيل : أيُّ فائدة في ذلك ؟ . فالجواب عن الأوَّل بمعارضة العلم والدَّاعي . وعن الثاني : أنَّه تعالى ، قال : { مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] ولم يدلَّ هذا على أنَّ اتخاذ الولد يصحُّ عليه ، فكذلك ها هنا .