Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 50-54)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَإِذَ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ } الآية . اعلم أنَّ المقصود في الآياتِ المتقدِّمة الردُّ على الذين افتخروا بأموالهم ، وأعوانهم على فقراء المسلمين ، وهذه الآية المقصود من ذكرها عين هذا المعنى ؛ وذلك : أنَّ إبليس ، إنما تكبَّر على آدم ؛ لأنَّه افتخر بأصله ونسبه ، فقال : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 13 ] فأنا أشرف منه أصلاً ونسباً ، فكيف أسجد له ، وكيف أتواضع له ؟ وهؤلاء المشركون عاملوا فقراء المؤمنين بهذه المعاملة ، فقالوا : كيف نجالسُ هؤلاء الفقراء ، مع أنَّا من أنساب شريفة ، وهم من أنساب نازلة ، ونحن أغنياء ، وهم فقراء ؟ فذكر الله هذه القصة ؛ تنبيهاً على أنَّ هذه الطريقة بعينها طريقة إبليس ، ثم إنه تعالى حذَّر عنها ، وعن الاقتضاء بها في قوله : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ } ، وهذا وجه النظم . قوله : { وَإِذَ قُلْنَا } : أي : اذكر . قوله : { كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ } فيه وجهان : أحدهما : أنه استئناف يفيد التعليل ؛ جواباً لسؤال مقدَّر . والثاني : أن الجملة حالية ، و " قَدْ " معها مرادة ، قاله أبو البقاء . قوله : " فَفسَقَ " السببية في الفاء ظاهرة ، تسبَّب عن كونه من الجنِّ الفسقُ ، قال أبو البقاء : إنما أدخل الفاء هنا ؛ لأنَّ المعنى : " إلاَّ إبليس امتنع ففسق " . قال شهاب الدين . إن عنى أنَّ قوله " كان من الجنِّ " وضع موضع قوله " امْتنعَ " فيحتمل مع بُعده ، وإن عنى أنه حذف فعلٌ عطف عليه هذا ، فليس بصحيحٍ ؛ للاستغناء عنه . قوله : " عَنْ أمْر " " عَنْ " على بابها من المجاوزة ، وهذ متعلقة بـ " فَسقَ " ، أي : خرج مجاوزاً أمر ربِّه ، وقيل : هي بمعنى الباء ، أي : بسبب أمره ؛ فإنه فعَّالٌ لما يريدُ . قوله : " وذُرِّيتهُ " يجوز في الواو أن تكون عاطفة ، وهو الظاهر ، وأن تكون بمعنى " مع " و " مِنْ دُونِي " يجوز تعلقه بالاتِّخاذ ، وبمحذوفٍ على أنَّه صفة لأولياء . قوله : { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } جملة حالية من مفعول الاتخاذ أو فاعله ، لأن فيها مصححاً لكلٍّ من الوجهين ، وهو الرابط . قوله : " بِئْسَ " فاعلها مضمرٌ مفسَّر بتمييزه ، والمخصوص بالذمِّ محذوف ، تقديره : بِئْسَ البدل إبليس وذرِّيتهُ . وقوله " للظَّالمينَ " متعلق بمحذوفٍ حالاً من " بَدلاً " وقيل : متعلق بفعل الذمِّ . فصل في الخلاف في أصل إبليس اعلم أنه تعالى بيَّن في هذه الآية أنَّ إبليس كان من الجنِّ ، وللنَّاس في الآية أقوالٌ : الأول : قال ابن عبَّاس : كان من حيٍّ من الملائكةِ ، يقال لهم الحنُّ ، خلقوا من نار السَّموم ، وكونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجنِّ ، لقوله : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً } [ الصافات : 158 ] وقوله : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ } [ الأنعام : 100 ] وسمِّي الجن جنًّا ؛ لاستتارهم ، والملائكة داخلون في ذلك . وأيضاً : فإنه كان خازن الجنة ، فنسب إلى الجنَّة ؛ كقولهم : كوفيٌّ ، وبصريٌّ . وعن سعيد بن جبير ، قال : كان من الجنَّانين الذين يعملون في الجنان ، وهم حيٌّ من الملائكة ، يصوغون حلية أهل الجنة منذ خلقوا . رواه القاضي في تفسيره عن هشام عن سعيد بن جبيرٍ . وقال الحسن : كان من الجنِّ ، ولم يكن من الملائكةِ ، فهو أصل الجنِّ ، كما أنَّ آدم أصل الإنس . وقيل : كان من الملائكة ، فمسخ وغيِّر ، وكما يدلُّ على أنه ليس من الملائكة قوله تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي } والملائكة ليس لهم نسلٌ ، ولا ذرِّيَّة . بقي أن يقال : لو لم يكن من الملائكة ، لما تناوله الأمر بالسجود ، فكيف يصحُّ استثناؤه منهم ؟ . تقدَّم الكلام على ذلك في البقرة . ثم قال تعالى : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } . قال الفراء : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } ، أي : خرج من طاعته ، تقول العرب : فسقتِ الرطبة عن قشرها ، أي خرجت ، وسميت الفأرة فويسقة ؛ لخروجها من جحرها . قال رؤبة : [ الرجز ] @ 3537 - يَهْويْنَ في نَجْدٍ وغَوْراً غَائِرَا فَواسِقاً عَنْ قَصْدِهَا جَوائِرَا @@ وحكى الزجاج عن الخليل وسيبويه ، أنه قال : لما أمر فعصَى ، كان سبب فسقه هو ذلك الأمر ، والمعنى : أنه لولا ذلك الأمر السابق ، لما حصل ذلك الفسق ، فلهذا حسن أن يقال : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } كقوله : { وسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا } [ يوسف : 82 ] . ثم قال : " أفَتَتَّخِذُونَهُ " يعني : يا بني آدم { وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } ، أي : أعداء . روى مجاهد عن الشعبيِّ قال : إنِّي قاعدٌ يوماً ؛ إذ أقبل رجل فقال : أخبرني ، هل لإبليس زوجة ؟ قال : إنَّه لعرسٌ ما شَهدتُّه ، ثُم ذكرتُ قول الله عزَّ وجلَّ : { أفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي } فعلمت أنَّه لا يكون ذريَّة إلا من زوجة ، فقلت ، نعم . وقال قتادة : يتوالدون ، كما يتوالد بنو آدم . وقيل : إنَّه يدخل ذنبه في دبره ، فيبيض ، فتنفلق البيضة عن جماعة من الشَّياطين . ثم قال : { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } . قال قتادة : بئس ما استبدلوا طاعة إبليس ، وذريته بعبادة ربِّهم . قوله : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَاتِ } : أي : إبليس وذريته ، أو ما أشهدت الملائكة ، فكيف يعبدونهم ؟ أو ما أشهدت الكفار ، فكيف ينسبون إليَّ ما لا يليق بجلالي ؟ أو ما أشهدت جميع الخلقِ . وقرأ أبو جعفر ، [ وشيبة ] والسختياني في آخرين : " ما أشهدناهم " على التعظيم . والمعنى : ما أحضرناهم { خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ } أي : ولا أشهدت بعضهم خلق بعض ، يعني : ما أشهدتهم ؛ لأعتضد بهم . قوله : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } أي : ما كنت متَّخذهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر ؛ بياناً لإضلالهم ؛ وذمًّا لهم وقوله : " عَضُدًا " أي : أعواناً . قال ابن الخطيب : والأقرب عندي أنه الضمير الرَّاجع على الكفَّار الذين قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء ، لم نؤمن بك ، فكأنه - تعالى - قال : إنَّ هؤلاء الذين أتوا بالاقتراح الفاسد ، والتعنُّت الباطل ، ما كانوا شركاء في تدبير العالم ؛ لأنِّي ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ، ولا خلق أنفسهم ، ولا أعتضد بهم في تدبير الدنيا والآخرة ، بل هم كسائر الخلق ، فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد ؟ . ويؤكِّد هذا أن الضمير يجب عوده على أقرب مذكور ، وهو هنا { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } . قوله : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } وضع الظاهر موضع المضمر ؛ إذ المراد بـ " المُضلِّينَ " من نفى عنهم إشهاد خلق السموات ، وإنما نبَّه بذلك على وصفهم القبيح . وقرأ العامة " كُنْتُ " بضمِّ التاء ؛ إخباراً عنه تعالى وقرأ الحسن ، والجحدري ، وأبو جعفر بفتحها ؛ خطاباً لنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم وقرأ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - { مُتّخِذاً المُضِلِّينَ } نوَّن اسم الفاعل ، ونصب به ، إذ المراد به الحال ، أو الاستقبال . وقرأ عيسى " عَضْداً " بفتح العين ، وسكون الضاد ، وهو تخفيف سائغ ، كقول تميمٍ : سبْع ورجْل في : سبُعٍ ورجُلٍ وقرأ الحسن " عُضداً " بالضم والسكون ؛ وذلك أنه نقل حركة الضاد إلى العين بعد سلب العين حركتها ، وعنه أيضاً " عضداً " بفتحتين ، و " عضداً " بضمتين ، والضحاك " عضداً " بكسر العين ، وفتح الضاد ، و هذه لغات في هذا الحرف . والعضدُ من الإنسان وغيره معروف ، ويعبِّر به عن العون والنصير ؛ يقال : فلان عضدي ، ومنه { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } [ القصص : 35 ] أي : سنقوِّي نصرتك ومعونتك . قوله : { وَيَوْمَ يَقُولُ } : معمول لـ " اذْكُرْ " أي : ويوم نقول ، يجري كيت وكيت وقرأ حمزة " نقُول " بنون العظمة ؛ مراعاة للتكلُّم في قوله : " مَا أشْهدتهُمْ " إلى آخره ، والباقون بياء الغيبة ؛ لتقدم اسمه الشريف العظيم الظاهر . أي : يقول الله يوم القيامة : { نَادُواْ شُرَكَآئِيَ } يعني الأوثان . وقيل : للجنِّ ، ولم يذكر تعالى أنَّهم كيف دعوهم في هذه الآية الكريمة ، بيَّن ذلك في آية أخرى ، وهو أنَّهم قالوا : { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } [ إبراهيم : 21 ] . { ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ } أنهم شركاء { فَدَعَوْهُمْ } فاستغاثوا بهم ، { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } ، أي : لم يجيبوهم ، ولم ينصروهم ، ولم يدفعوا عنهم ضرراً ، ثم قال : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً } أي : مهلكاً . قاله عطاء والضحاك . فصل في بيان الموبق قال الزمخشري وغيره : والمَوْبِقُ : المهلك ، يقال : وَبِقَ يَوبِقُ وَبَقاً ، أي : هَلَكَ ووَبَقَ يَبِقُ وُبُوقاً أيضاً : هلك وأوبقه ذنبه ، وعن الفراء : " جعَل اللهُ تواصُلهمْ هَلاكاً " فجعل البين بمعنى الوصل ، وليس بظرفٍ ؛ كقوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُم } [ الأنعام : 94 ] على قراءة من قرأ بالرفع ، فعلى الأول يكون " موبقاً " مفعولاً أول للجعل ، والثاني الظرف المتقدِّم ، ويجوز أن تكون متعدية لواحدٍ ، فيتعلق الظرف بالجعلِ أو بمحذوفٍ على الحال من " مَوْبِقاً " . وعلى قول الفراء ليكون " بينهم " مفعولاً أول و " مَوبقاً " مفعولاً ثانياً ، والمَوْبِقُ هنا : يجوز أن يكون مصدراً ، وهو الظاهر ، ويجوز أن يكون مكاناً . قال ابن عباس : وهو وادٍ في النَّار . وقال ابن الأعربيِّ : كل حاجزٍ بين الشيئين يكون المَوبِقَ . وقال الحسن : " مَوْبقاً " أي : عداوة ، هي في شدَّتها هلاك ؛ كقولهم : لا يكن حُبك كلفاً . وقيل : الموبقُ : البَرْزَخُ البعيد . وجعلنا بين هؤلاء الكفَّار وبين الملائكة وعيسى برزخاً بعيداً ، يهلك فيه النصارى ؛ لفرط بعده ؛ لأنَّهم في قاع جهنَّم ، وهو في أعلى الجنان . قوله : { وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ } الآية . { وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا } ، في هذا الظنِّ قولان : الأول : أنه بمعنى العلم واليقين . والثاني : قال ابن الخطيب : الأقرب إلى المعنى : أن هؤلاء الكفار يرون النَّاس من مكانٍ بعيدٍ ، فيظنُّون أنهم مواقعوها في تلك السَّاعة ، من غير تأخير من شدَّة ما يسمعون من تغيُّظها وزفيرها ، كقوله : { إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] . وقوله : { مُّوَاقِعُوهَا } أي : مخالطوها ؛ فإنَّ مخالطة الشيء لغيره ، إذا كان تامَّة قويَّة ، يقال لها : مواقعة . قوله : " مَصْرِفاً " المصرف المعدل ، أي : لم يجدوا عنها معدلاً . قال الهذليُّ : [ الكامل ] @ 3538 - أزُهَيْرُ هَلْ عَن شَيْبةٍ مِنْ مصْرفِ أمْ لا خُلودَ لبَاذلٍ مُتكلِّفِ @@ والمصرف يجوز أن يكون اسم مكانٍ ، أو زمانٍ ، وقال أبو البقاء : " مَصْرِفاً : أي انصرافاً ، ويجوز أن يكون مكاناً " . قال شهاب الدين : وهذا سهوٌ ، فإنه جعل المفعل بكسر العين مصدراً لما مضارعه يفعل بالكسر من الصحيح ، وقد نصُّوا على أنَّ اسم مصدر هذا النوع مفتوح العين ، واسم زمانه ومكانه مكسوراً ، نحو : المَضْرَبُ والمَضْرِبُ . وقرأ زيد بن عليٍّ " مَصْرَفاً " بفتح الراء جعله مصدراً ؛ لأنه مكسور العين في المضارع ، فهو كالمضرب بمعنى الضَّرب ، وليت أبا البقاء ذكر هذه القراءة ووجَّهه بما ذكره قبل . قوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } بينَّا { فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } . اعلم أن الكفَّار ، لما افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم ، وأبطل الله أقوالهم الفاسدة ، وذكر المثلين المتقدِّمين ، ذكر بعده : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } وهو إشارة إلى ما سبق ، والتصريف يقتضي التكرير ، والأمر كذلك ؛ لأنه تعالى أجاب عن شبهتهم التي ذكروها من وجوهٍ كثيرةٍ ، والكفار مع تلك الجوابات الصَّافية ، والأمثلة المطابقة لا يتركون المجادلة الباطلة ؛ فقال : { وَكَانَ ٱلإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } . قوله : { مِن كُلِّ مَثَلٍ } : يجوز أن تكون " مِنْ كلِّ " صفة لموصوف محذوف ، وهو مفعول " صرَّفنا " ، أي : صرَّفنا مثلاً من كلِّ مثلٍ ، ويجوز أن تكون " مِنْ " مزيدة على رأي الأخفش والكوفيين . قوله : " جَدَلاً " منصوب على التمييز ، وقوله : { أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } أي : أكثر الأشياء التي يتأتَّى منها الجدالُ ، إن فصَّلتها واحداً واحداً ، يعني أنَّ الإنسان أكثر جدلاً من كلِّ شيء يجادلُ ، فوضع " شيءٍ " موضع الأشياء ، وهل يجوز أن يكون جدلاً منقولاً عن اسم كان ؛ إذ الأصل : وكان جدلُ الإنسان أكثر شيء ؟ فيه نظر ، وكلام أبي البقاء يشعر بجوازه ؛ فإنه قال : " فيه وجهان : أحدهما : أنًَّ شيئاً ههنا في معنى فجادل ، لأنَّ أفعل يضاف إلى ما هو بعضٌ له ، وتمييزه بـ " جدلاً " يقتضي أن يكون الأكثر مجادلاً ، وهذا من وضع العام موضع الخاص . والثاني : أن في الكلام محذوفاً ، تقديره : وكان جدل الإنسان أكثر شيءٍ ، ثم ميَّزه " . فقوله : " تقديره : وكان جدل الإنسان " يفيد أنَّ إسناد " كان " إلى الجدلِ جائز في الجملة ، إلا أنه لا بدَّ من تتميم لذلك : وهو أن تتجوَّز ، فتجعل للجدلِ جدلاً ؛ كقولهم : " شِعرٌ شَاعرٌ " يعني أنَّ لجدل الإنسان جدلاً هو أكثر من جدلِ سائر الأشياءِ . وهذه الآية دالَّة على أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - جادلوهم في الدِّين حتَّى صاروا مجادلين ؛ لأنَّ المجادلة لا تحصل إلاَّ من الطرفين .