Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 16-33)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ } القصة . اعلم أن الله تعالى إنَّما قدَّم قصَّة يحيى - عليه الصلاة والسلام - على قصَّة عيسى - عليه الصلاة والسلام - لأنَّ الولد أعني : لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقربُ إلى مناهج العاداتِ من خلق الولد من الأب ألبتَّة ، وأحسنُ طُرُق التعليم والتفهيم الترقِّي من الأقرب فالأقرب ، وإلى الأصعب فالأصعب . قوله : { إِذِ ٱنتَبَذَتْ } : في " إذ " أوجهٌ : أحدها : أنَّها منصوبةٌ بـ " اذْكُرْ " على أنَّها خرجت على الظرفيَّة ؛ إذ يستحيلُ أن تكون باقيةً على [ مُضِيِّها ] ، والعاملُ فيها ما هو نصٌّ في الاستقبال . الثاني : أنَّه منصوبٌ بمحذوفٍ مضافٍ لمريم ، تقديره : واذكر خبر مريم ، أو نبأها ؛ إذا انتبذت ، فـ " إذْ " منصوبٌ بذلك الخبر ، أو النبأ . والثالث : أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ ، تقديره : وبيَّن ، أي : الله تعالى ، فهو كلامٌ آخرُ ، وهذا كما قال سيبويه في قوله : { ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ } [ النساء : 171 ] وهو في الظرف أقوى ، وإن كان مفعولاً به . والرابع : أن يكون منصوباً على الحال من ذلك المضاف المقدَّر ، أي : خبر مريم ، أو نبأ مريم ، وفيه بعدٌ ، قاله أبو البقاء . والخامس : أنه بدلٌ من " مريمَ " بدلُ اشتمال ، قال الزمخشريُّ : " لأنَّ الأحيان مشتملةٌ على ما فيها ، وفيه : أن المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا ؛ لوقوع هذه القصَّةِ العجيبةِ فيه " . قال أبو البقاء - بعد أن حكى عن الزمخشريِّ هذا الوجه - : " وهو بعيدٌ ؛ لأنَّ الزمان إذا لم يكن حالاً من الجثَّة ، ولا خبراً عنها ، ولا صفة لها لم يكن بدلاً منها " انتهى . وفيه نظرٌ ؛ لأنه لا يلزمُ من عدم صحَّةِ ما ذكر عدمُ صحَّة البدلية ؛ ألا ترى نحو " " سُلِبَ زيدٌ ثوبُهُ " فـ " ثَوْبُهُ " لا يصحُّ جعله خبراً عن " زَيْد " ولا حالاً منه ، ولا وصفاً له ، ومع ذلك ، فهو بدلُ اشتمالٍ . السادس : أنَّ " إذ " بمعنى " أن " المصدرية ؛ كقولك : " لا أكْرِمُكَ إذ لم تُكرمْنِي " أي : لأنَّك لا تُكْرِمُني ، فعلى هذا يحسنُ بدلُ الاشتمال ، أي : واذكُرْ مريم انتباذهَا ، ذكره أبو البقاء . وهو في الضعف غايةٌ . و " مكاناً " : يجوزُ أن يكون ظرفاً ، وهو الظاهرُ وأن يكون مفعولاً به على معنى : إذ أتتْ مكاناً . قوله : { ٱنتَبَذَتْ } الانتباذُ : افتعالٌ من النَّبْذ ، وهو الطَّرْح ، والإلقاء ، ونُبْذَة : بضمِّ النون ، وفتحها أي : ناحيةٌ ، وهذا إذا جلس قريباً منك ؛ حتى لو نبذتَ إليه شيئاً ، وصل إليه ، ونبذتُ الشيء : رَمَيْتُهُ ، ومنه النَّبِيذُ ؛ لأنَّه يطرح في الإناءِ . ومنه المَنْبُوذ ، وهو أصله ، فصرف إلى " فعيل " ، ومنه قيل للَّقيطِ : منبوذٌ ؛ لأنه رُمِيَ به . ومنه النهيُ عن المُنابذةِ في البيع ، وهو أن يقول : إذا نبذتُ إليك الثَّوب ، أو الحَصَاة ، فقد وجب البَيْعُ فقوله : { ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } : تباعدتْ واعتزلتْ عن أهلها مكاناً في الدار ، ممَّا يلي المشرق ، ثم إنَّها مع ذلك اتَّخذت من دُون أهلها حِجاباً . قال ابنُ عباسٍ : سِتْراً ، وقيل : جلست وراء جدارِ ، وقال مقاتلٌ : وراء جبل . فصل اختلف المفسِّرون في سبب احتجابها ، فقيل " إنها لمَّا رأت الحيضَ ، تباعدت عن مكان عبادتها تنتظرُ الطُّهْرَ لتغتسلَ ، وتعودَ ، فلما طهرتْ ، جاءها جبريل - عليه السلام - . وقيل : طلبت الخلوة للعبادة . وقيل : تبادعتْ لتغتسِل من الحيضِ ، مُحْتجِبة بشيءٍ يستُرها . وقيل : كانت في منزلِ زَوْجِ أختها زكريَّا ، وفيه محراب تسكنه على حدةٍ ، وكان زكريَّا إذا خرج يغلقُ عليها ، فتمنَّت أن تجد خلوةً في الجبل ؛ لتُفلِّي رأسها ، فانفرج السَّقفُ لها ، فخرجت في المشرقة وراء الجبل ، فأتاها الملكُ . وقيل : عطِشَتْ ؛ فخرجت إلى المفازةِ لتستقي ، وكل هذه الوجوه محتملة . واعلم أن المكان الشرقيَّ هو الذي يلي شرقيَّ بيت المقدس ، أو شرقيَّ دارها . قال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : إنِّي لأعلمُ خلق الله ، لأيِّ شيءٍ اتَّخذت النصارى المشرق قبلةً ؛ لقوله : { مَكَاناً شَرْقِياً } فاتَّخذُوا ميلاد عيسى قبلةً ، وهو قول الحسنِ - رحمه الله تعالى - . قوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } . الجمهورُ على ضمِّ الراءِ من " رُوحِنَا " وهو ما يَحْيون به ، وقرأ أبو حيوة ، وسهلٌ بفتحها ، أي : ما فيه راحةٌ للعبادِ ، كقوله تعالى : { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } [ الواقعة : 89 ] وحكى النقاش : أنه قُرِىء " رُوحنَّا " بتشديد النُّون ، وقال : هو اسمُ ملكٍ من الملائكة . قوله : " بَشَراً سويًّا " حالٌ من فاعل " تمَثَّل " وسوَّغ وُقُوعَ الحالِ جامدة وصفها ، فلمَّا وصفت النكرةُ وقعت حالاً . فصل في المراد بالروح اختلفوا في هذا الرُّوح ، فالأكثرون على أنَّه جبريل - صلوات الله عليه - لقوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [ الشعراء : 193 ] وسُمِّي روحاً ؛ لأنَّ الدِّين يحيى به . وقيل : سُمِّي رُوحاً على المجازِ ؛ لمحبته ، وتقريبه ، كما تقول لحبيبك : رُوحِي . وقيل : المرادُ من الرُّوح : عيسى - صلوات الله عليه - جاء في صورة بشرٍ ، فحملت به ، والأول أصحُّ ، وهو أنَّ جبريل عرض لها في صُورةِ شابٍّ أمرد ، حسن الوجه ، جعد الشَّعْر ، سويِّ الخلق وقيل : في صُورة تربٍ لها ، اسمه يوسفُ ، من خدم بيت المقدس . قيل : إنما تمثَّل لها في صورة بشر ؛ لكي لا تنفر منه ، ولو ظهر في صورةِ الملائكة ، لنفرت عنه ، ولم تقدر على استماع كلامه ، وهاهنا إشكالات : الأول : أنَّه لو جاز أن يظهر الملكُ في صورة الإنسان المعيَّن ، فحينئذ ؛ لا يمكُننا القطع بأنَّ هذا الشخص الذي نراه في الحال هو زيدٌ الذي رأينا بالأمْسِ ؛ لاحتمالِ أن الملك ، أو الجنِّي تمثَّل بصورته ، وفتحُ هذا الباب يؤدِّي إلى السَّفْسَطةِ ، ولا يقال : هذا إنَّما يجوز في زمانِ [ جواز ] البعثة ، فأما في زماننا فلا يجوز . لنا أن نقول : هذا الفرقُ إنَّما يعلمُ بالدليل ، فالجاهلُ بذلك الدَّليل يجبُ ألا يقطع بأنَّ هذا الشخص الذي رآهُ الآن هو الذي رآه بالأمْسِ . الثاني : أنه جاء في الأخبار أنَّ جبريل - صلوات الله عليه - شخصٌ عظيمٌ جدًّا ، فذلك الشخصُ - كيف صار بدنهُ في مقدارِ جثَّة الإنسان ، وذلك يوجبُ تداخل الأجزاء ، وهو محالٌ . الثالث : أنَّا لو جوَّزنا أن يتمثَّل جبريل - صلوات الله عليه - في صورة الآدمي ، فلم لا يجوز تمثُّله في صورة أصغر من الآدميِّ ؛ كالذُّباب ، والبقِّ ، والبعُوضِ ، ومعلومٌ أن كلَّ مذهب جرَّ إلى هذا ، وهو باطلٌ . الرابع : أن تجويزهُ يفضي إلى القدحِ في خبر التَّواتُر ، فلعلَّ الشخص الذي حارب يوم بدرٍ ، لم يكُن محمَّداً - صلوات الله عليه وسلامه - بل كان شخصاً يشبهه ، وكذا القولُ في الكُلِّ . والجوابُ عن الأوَّل : أن ذلك التجويز لازمٌ على الكُلِّ ؛ لأنَّ من اعترف بافتقار العالم إلى الصَّانع المُختار ، فقد قطع بكونه قادراً على أن يخلُق شخصاً آخر ؛ مثل زيدٍ في خلقه وتخطيطه ، وإذا جوَّزنا ذلك ، فقد لزم الشكُّ في أنَّ زيداً المشاهد الآن هو الذي شاهدناه بالأمْسِ ، أم لا ، ومن أنكر الصَّانع المختار ، وأسند الحوادث إلى اتصالات الكواكب ، وتشكُّلات الفلك ، لزمه [ تجويزُ ] أن يحدث اتصالٌ غريبٌ في الأفلاك يقتضي حدوث شخصٍ ، مثل زيدٍ في كُلِّ الأمور ، وحينئذٍ يعود التجويزُ المذكُور . وعن الثاني : أنَّه لا يمتنعُ أن يكون جبريلُ - عليه السلام - له أجزاءٌ أصليَّةٌ ، وأجزاءٌ فاضلةٌ ، فالأجزاءُ الأصليَّة قليلةٌ جدًّا ؛ فحينئذ : يكون متمكِّناً من التشبُّه بصُورة الإنسان ، هذا إذا جعلناه جسمانيًّا ، فإذا جعلناهُ روحانيًّا ، فأيُّ استبعادٍ في أن يتنوَّع بالهَيْكَل العظيم ، وأخرى بالهيكل الصَّغير . وعن الثالث : أنَّ أصل التجويز قائمٌ في العقل ، وإنما عرف فسادهُ بدلائل السَّمع ، وهو الجوابُ عن السؤال الرابع . قوله : { قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا } . أي : إن كان يرجى منك أن تتقي الله ، فإنِّي عائذةٌ به منك ؛ لأنَّها علمتْ أن الاستعاذة لا تؤثِّرُ في التُّقى ، فهو كقول القائل : إن كنت مُسْلماً ، فلا تظلمني ، أي : ينبغي أن تكُون تقواك مانعاً لك من الفُجُور . كقوله تعالى : { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ البقرة : 278 ] . أي : أنَّ شرط الإيمان يُوجب هذا ؛ لا أنَّ الله تعالى يُخْشَى في حالٍ دون حالٍ . وقيل : كان في ذلك الزَّمانِ إنسانٌ فاجرٌ يتبعُ النِّساء ، اسمه تقيٌّ ، فظنَّت مريمُ أنَّ ذلك الشخص المشاهد هُو ذاك ، والأول أصحُّ . قوله : { إِن كُنتَ تَقِيًّا } جوابه محذوفٌ ، أو متقدِّم . قوله تعالى : { لأَِهَبَ } : قرأ نافعٌ ، وأبو عمرو " ليهَبَ " بالياء والباقون " لأهَبَ " بالهمزة ، فالأولى : الظاهرُ فيها أنَّ الضمير للرَّبِّ ، أي : ليهبَ الرَّبُّ ، وقيل : الأصلُ : لأهَبَ ، بالهمز ، وإنما قلبتِ الهمزةُ ياءً تخفيفاً ؛ لأنها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ ، فتتفِقُ القراءتان ، وفيه بعدٌ ، وأمَّا الثانية ، فالضميرُ للمتكلِّم ، والمراد به الملكُ ، وأسنده لنفسه ؛ لأنه سببٌ فيه ويؤيده : أن في بعض المصاحف : " أمرني أن أهب لك " ؛ ويجوز أن يكون الضمير لله تعالى ، ويكون على الحكاية بقولٍ محذوف . قوله تعالى : { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَِهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيًّا } . فصل لما علم جبريلُ - صلوات الله عليه - خوفها ، قال : { إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ } ليزول عنها ذلك الخوف ، ولكن الخوف لا يزولُ بمجرَّدِ هذا القول ، بل لا بدَّ من دلالةٍ تدلُّ على أنه كان جبريل - صلوات الله عليه - ، فيحتمل أن يكون قد ظهر معجزٌ ، عرفت به أنَِّه جبريلُ - صلوات الله عليه - ، ويحتمل أنَّها عرفت صفة الملائكة من جهة زكريَّا - صلوات الله عليه - فلمَّا قال لها : { إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ } أظهر لها من جسده ما عرفت به أنَّه ملكٌ ؛ فيكونُ ذلك هو العلمَ ، والذي يظهر أنَّها كانت تعرفُ صفة الملك بالأمارات ، حين كان يأتيها بالرِّزْق في المحراب ، وقال لها زكريَّا : { يَٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 37 ] . قوله : { غُلاَماً زَكِيًّا } ولداً صالحاً طاهراً من الذُّنُوب . { قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا } إنما تعجبت مما بشَّرها جبريلُ ؛ لأنَّها قد عرفت بالعادة أنَّ الولادة لا تكونُ إلاَّ من رجُلٍ ، والعاداتُ عند أهل المعرفةِ معتبرةٌ في الأمُور ، وإن جوَّزنا خلاف ذلك في القدرة ، فليس في قولها هذا دلالةٌ على أنَّها لم تعلمْ أنَّه تعالى قادرٌ على خلق الولد ابتداءً ، وكيف ، وقد عرفت أنَّه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحدِّ ؛ ولأنَّها كانت منفردةً بالعبادة ، ومن يكونُ كذلك ، لا بُدَّ أن يعرف قدرة الله تعالى على ذلك . فإن قيل : قولها { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } كافٍ في المعنى ، فلم قالت : { وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا } فالجوابُ من وجهين : أحدهما : أنها جعلت المسَّ عبارة عن النِّكاح الحلال ؛ لأنَّه كنايةٌ عنه قال تعالى : { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 237 ] والزِّنا ، إنما يقال فيه : فجر بها ، أو ما أشبهه . والثاني : أن إعادتها ؛ لتعظيم حالها ؛ كقوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وٱلصَّلَٰوةِ ٱلْوُسْطَىٰ } [ البقرة : 238 ] وقوله تعالى : { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] . فكذا هاهنا : إن من لم تعرف من النِّساء بزوجٍ ، فأغلظ أحوالها ، إذا أتت بولدٍ : أن تكُون زانيةً ، فأفردت ذلك البغْي بعد دخوله في الكلام ؛ لأنَّه أعظُم ما في بابه . قوله تعالى : " بَغِيًّا " : في وزنه قولان : أحدهما - وهو قولُ المبرِّد - أنَّ وزنه " فَعُولٌ " والأصل " بَغُويٌ " فاجتمعت الياء ، والواو ، [ ففعل فيه ما هو معروفٌ ] ، قال أبو البقاء : " ولذلك لم تلحقْ تاءُ التأنيث ؛ كما لم تلحقْ في صبُور وشكور " ونقل الزمخشريُّ عن أبي الفتح في كتابه " التمام " أنها فعيلٌ ، قال : " ولو كانت فعُولاً ، لقيل : بغُوٌّ ، كما يقال : فلان نهُوٌّ عن المنكر " ولم يعقبه بنكير ، ومن قال : إنها " فَعِيْلٌ " فهل هي بمعنى " فَاعِل " أو بمعنى " مَفْعُول " ؟ فإن كانت بمعنى " فاعل " فينبغي أن تكون بتاء التأنيث ؛ نحو : امرأةٌ قديرةٌ وبصيرةٌ ، وقد أجيب عن ذلك : بأنها معنى النَّسب ؛ كحائضٍ وطالقٍ ، أي ذات بغي ، وقال أبو البقاء ، حين جعلها بمعنى " فَاعِل " : " ولم تلحقِ التاءُ أيضاً ؛ لأنها للمبالغةِ " فجعل العلة في عدم اللحاقِ كونه للمبالغة ؛ وليس بشيءٍ ، وإن قيل بأنَّها بمعنى " مَفْعُول " فعدمُ الياءِ واضحٌ . وتقدم الكلامُ على قوله : { قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } وهو كقوله في آل عمران { كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 47 ] لا يمتنعُ عليه ما يريدُ خلقه ، ولا يحتاجُ في إنشائه إلى الآلاتِ والموادِّ . قوله : " ولنَجْعَلهُ " يجوز أن يكُون علَّةً ، ومُعَلَّلُهُ محذوفٌ ، تقديره : لنجعلهُ آيةً للنَّاسِ فعلنا ذلك ، ويجوز أن يكون نسقاً على علةٍ محذوفةٍ ، تقديره : لنُبَيِّنَ به قدرتنا ، ولنجعله آيةً ، والضميرُ عائدٌ على الغلام ، واسم " كان " مضمرٌ فيها ، أي : وكان الغلام ، أي : خلقه وإيجاده أمراً مقضياً : أي لا بُدَّ منه . والمرادُ بـ " الآية " العلامةُ ، أي : علامة للنَّاسِ ، ودلالةً على قُدرتنا على أنواع الخلق ؛ فإنه تعالى خلق آدم - صلوات الله عليه وسلامه - من غير ذكر ولا أنثى ، وخلق حوَّاء من ذكرٍ بلا أنثى ، وخلق عيسى - صلوات الله عليه - من أنثى بلا ذكرٍ ، وخلق بقيَّة النَّاسِ من ذكرٍ وأنْثَى . { وَرَحْمَةً مِّنَّا } أي : ونعمةً لمنْ تبعه على دينه ، { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيًّا } محكوماً مفروغاً منه ، لا يُرَدُّ ، ولا يُبَدَّلُ . قوله تعالى : { فَحَمَلَتْهُ فَٱنتَبَذَتْ بِهِ } . قيل : إنَّ جبريل - صلوات الله عليه وسلامه - رفع درعها ، فنفخ في جيبه ، فحملتْ حين لبستْ . وقيل : نفخ جبريلُ من بعيدٍ ، فوصل الرِّيح إليها ، فحملت بعيسى في الحالِ . وقيل : إنَّ النَّفْخة كانت في فيها ، فوصلت إلى بطنها . وقيل : كان النَّافخُ هو الله تعالى ؛ لقوله عزَّ وجلَّ : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] . وظاهرهُ ؛ يفيدُ أنَّ النافخَ هو الله تعالى ؛ ولأنه تعالى قال : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ } [ آل عمران : 59 ] . ومقتضى التشبيه حُصُول المُشابهة إلاَّ فيما أخرجه الدَّليل ، وفي حقِّ آدم النَّافخُ هو الله تعالى ؛ لقوله عزَّ وجلَّ : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] فكذا هاهنا ، وإذا عرفت هذا ، ظهر أن في الكلام حذفاً ، تقديره : " فَنَفخَ فيها ، فحملتهُ " . قيل : حملتْ ، وهي بنتُ [ ثلاثَ عشرة سنةً ] . وقيل : بنتُ عشرين ، وقد كانت حاضتْ حيضتين قبل أن تحمل ، وليس في القرآن ما يدلُّ على شيء من هذه الأحوال . قوله تعالى : { فَٱنتَبَذَتْ بِهِ } : الجارُّ والمجرورُ في محلِّ نصب على الحال ، أي : انتبذتْ ، وهو مصاحبٌ لها ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 3585 - … تَدُوسُ بِنَا الجَماجِمَ والتَّرِيبا @@ والمعنى : اعتزلت ، وهو في بطنها ؛ كقوله : { تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ } [ المؤمنون : 20 ] أي : تنبتُ ، والدُّهْنُ فيها . { مَكَاناً قَصِيًّا } : بعيداً من أهلها . قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : أقصى الوادي ، وهو وادي بيت لحم ؛ فراراً من قومها أن يُعَيِّروها بولادتها من غير زوج . واختلفوا في علَّة الانتباذِ ؛ فروى الثعلبيُّ في " العَرائسِ " عن وهب قال : إنَّ مريم لمَّا حملتْ بعيسى - صلوات الله عليه - كان معها ابن عمٍّ لها يُسمَّى " يُوسُفَ النَّجَّار " ، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند " جَبَلِ صُهْيُون " ، وكانت مريمُ ويوسفُ يخدمان ذلك المسجدَ ، ولا يعلمُ من أهل زمانهما أحدٌ أشدُّ اجتهاداً منهما ، وأوَّلُ من عرف حمل مريم يوسفُ ، فتحير في أمرها ، فكلَّما أراد أن يتَّهمها ، ذكر صلاحها ، وعبادتها ، وأنَّها لم تغبْ عنه ساعةً قطُّ ؛ فقال : إنَّه قد وقع في نفسي من أمرِك شيءٌ ، وقد حرصتُ على كتمانِهِ ، فغلبني ذلك ، فرأيتُ أنَّ الكلام فيه أشفى لصدْرِي فقالت : قُلْ قَوْلاً جَمِيلاً . قال : أخبريني يا مريمُ ، هَلْ يَنْبتُ زَرْعٌ بِغَيْرِ بذْرٍ ؟ وهلْ تَنْبُتُ شَجَرةٌ من غَيْرِ غَيْثٍ ؟ وهَلْ يَكُونُ ولد من غَيْرِ ذكرٍ ؟ قالتْ : نَعَمْ ، ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ الله تعالى أنْبَتَ الزَّرْعَ يوْمَ خلقهُ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ ، وهذا البَذْرُ إنَّما حصل مِنَ الزَّرْعِ الذي أنْبَتَهُ من غَيْرِ بَذْرٍ . ألم تعلم أنَّ الله أنْبتَ الشَّجرَةَ بغير غَيْثٍ ، وبالقُدْرةِ جعل الغَيْثَ حياةَ الشَّجرةِ ، بعدمَا خلقَ اللهُ كُلَّ واحدٍ مِنْها على حدةٍ ؟ أو تقُول : إنَّ الله لا يقدرُ على أنْ يُنْبِتَ الشَّجرة حتَّى استعان بالماءِ ، ولوْلاَ ذلكَ ، لَمْ يَقْدِرْ على إنباتها ؟ ! . قال يُوسفُ : لا أقُولُ هذا ، ولكنِّي أقُولُ : إنَّ الله تعالى قادرٌ على مَا يَشَاءُ ، فيقُول : كُنْ فَيكُونُ ، فقالت لهُ مريمُ : أو لَمْ تعلمْ أنَّ الله خلق آدَمَ وامْرأتهُ حوَّاء من غير ذكرٍ ، ولا أنثى ، فعندهُ زالتِ التُّهْمَةُ عن قلبهِ ، وكان ينُوبُ عنها في خدمةِ المسجدِ ؛ لاستيلاءِ الضَّعْف عليها ؛ بسبب الحَمْلِ ، وضيق القَلْبِ ، فلمَّا قرُبَ نفاسُها ، أوحى الله تعالى إليها أن اخْرُجي من أرض قومكِ ؛ لئلاَّ يقتُلُوا ولدكِ ، فاحتملها يوسفُ إلى أرْضِ مِصْر على حمار لهُ ، فلمَّا بلغتْ تلك البلادَ ، وأدْركهَا النِّفاسُ ، فألجأها إلى أصلِ نخلةٍ ، وذلك في زمانِ بردٍ ، فاحتضنتها ، [ فوضعت ] عندها . وقيل : إنَّها استحيت من زكريَّا ، فذهبت إلى مكانٍ بعيدٍ ، لئلاَّ يعلم بها زكريَّا - صلوات الله عليه - . وقيل : لأنَّها كانَتْ مشهورةً في بني إسرائيل بالزُّهدِ ؛ لنذْرِ أمِّهَا ، وتشاحَّ الأنبياءِ في تربيتها ، وتكفُّل زكريَّا بِهَا ، وكان الرِّزْقُ يأتيها من عند الله تعالى ، فلمَّا كانت في نهايةِ الشُّهرةِ اسْتَحْيتْ من هذه الواقعةِ ، فذهَبتْ إلى مكانٍ بعيدٍ . وقيل : خافت على ولدها من القَتْل ، لو ولدته بين أظهرهم . وكلُّ هذه الوجُوهِ محتملةٌ ، وليس في القرآن ما يدلُّ على شيءٍ منها . فصل في بيان حمل مريم اختلفُوا في مدَّة حملها ، فرُوي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنَّها تسعة أشهر ؛ كسائر النسِّاء في الغالب . وقيل : ثمانية أشهر ، وكان ذلك آية أخرى ؛ لأنَّه لم يعش ولدٌ يولدُ لثمانية أشهر إلاَّ عيسى - صلوات الله عليه - . وقال عطاءٌ ، وأبو العالية ، والضحاك : سبعةُ أشهر وقيل : ستَّةُ أشهر . وقال مقاتلُ بنُ سليمان : ثلاثُ ساعاتٍ ، حملت به في ساعةٍ ، وصُوِّر في ساعةٍ ، ووضعته حين زالتِ الشَّمْسِ من يومها . وقال ابنُ عبَّاس : كان الحَمْل والولادةُ في ساعةٍ واحدة ، ويدلُّ عليه وجهان : الأول : قوله : { فَحَمَلَتْهُ فَٱنتَبَذَتْ بِهِ } { فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ } { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } ، والفاء : للتعقيب ؛ فدلَّت هذه الفاءاتُ على أنَّ كلَّ واحدٍ من هذه الأحوال حصل عقيبَ الآخَرِ من غير فصْلٍ ؛ وذلك يوجبُ كون مدَّة الحَمْل ساعةً واحدة لا يقال : انتباذها مكاناً قصيًّا كيف يحصُل في ساعةٍ واحدةٍ ؛ لأنَّا نقول : السُّدي فسَّر بأنَّها ذهبت إلى أقصى موضع في جانب محرابها . الثاني : أنَّ الله تعالى قال في وصفه { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] ، فثبت أن عيسى - صلواتُ الله عليه - كما قال الله تعالى : " كُنْ " فكان ، وهذا مما لا يتصوَّر فيه مدَّةُ الحمل ، إنَّما يتصوَّر مُدَّة الحمل في المتولِّد عن النُّطفة . والقَصيُّ : البعيدُ . يقال : مكانٌ قاصٍ ، وقَصِيٌّ بمعنى واحدٍ ؛ مثل : عاصٍ وعَصِيٍّ . قوله تعالى : { فَأَجَآءَهَا } : الأصلُ في " جَاءَ " : أنْ يتعدَّى لواحدٍ بنفسه ، فإذا دلت عليه الهمزة ، كان القياسُ يقتضي تعدِّيه لاثنين ، قال الزمخشريُّ : " إلاَّ أنَّ استعماله قد تغيَّر بعد النَّقْل إلى معنى الإلجاء ، ألا تراك لا تقولُ : جئتُ المكانَ ، وأجاءنيه زيدٌ ؛ كما تقولُ : بلغتهُ وأبلغنيه ، ونظيرهُ " آتى " حيثُ لم يستعمل إلا في الإعطاء ، ولم تقل : أتيتُ المكان وآتانيه فلانٌ " . وقال أبو البقاء : الأصلُ " جَاءَهَا " ثم عُدِّي بالهمزة إلى مفعولٍ ثانٍ ، واستعمل بمعنى " ألْجَأها " . قال أبو حيَّان : قوله : إنَّ " أجَاءَهَا " [ استعمل ] بمعنى " ألْجَأهَا " يحتاجُ إلى نقل أئمةِ اللغة المستقرئين لذلك من لسانِ العرب ، والإجاءةُ تدلُّ على المُطلقِ ، فتصلحُ لما هو بمعنى " الإلْجَاءِ " ولما هو بمعنى " الاختيار " كما تقول : " أقَمْتُ زَيْداً " فإنه يصلحُ أن تكون إقامتك لهُ قَسْراً أو اختياراً ، وأمَّا قوله : " ألا تراكَ لا تقُولُ " إلى آخره ، فمن رأى أنَّ التعدية بالهمزة قاسٌ ، أجاز ذلك ، وإن لم يسمعْ ، ومن منع ، فقد سمع ذلك في " جَاءَ " فيجيزُ ذلك ، وأمَّا تنظيرهُ ذلك بـ " أتى " فليس تنظيراً صحيحاً ؛ لأنَّه بناهُ على أنَّ همزته للتعدية ، وأنَّ أصله " آتى " بل " آتى " ممَّا بُنِي على " أفْعَلَ " ولو كان منقولاً من " أتى " المتعدِّي لواحد ، لكان ذلك الواحدُ هو المفعول الثاني ، والفاعل هو الأوَّل ، إذا عدَّيته بالهمزة ، تقولُ : " أتى المالُ زيداً " و " آتى عمروٌ زيداً المالَ " فيختلفُ التركيبُ بالتعدية ؛ لأنَّ " زَيْداً " عند النحويِّين هو المفعول الأول ، و " المال " هو المفعولُ الثاني ، وعلى ما ذكره الزمخشريُّ ، كان يكون العكس ، فدلَّ على أنَّه ليس ما قاله ، وأيضاً ، فـ " أتى " مرادفٌ لـ " أعْطَى " ، فهو مخالفٌ من حيثُ الدلالة في المعنى ، وقوله : " ولمْ تَقُل : أتَيْتُ المكانَ ، وآتانيه " هذا غيرُ مسلمٍ ، بل تقول : : أتَيْتُ المَكَانَ " كما تقول : " جِئْتُ المكانَ " وقال الشاعر : [ الوافر ] @ 3586 - أتَوْا نَارِي فَقُلْتُ منُونَ أنتُمْ فقالُوا الجِنُّ قُلتُ عِمُوا ظَلامَا @@ ومن رأى التعدية بالهمزةِ قياساً ، قال : " آتانيه " قال شهاب الدين : وهذه الأبحاثُ التي ذكرها الشيخُ - رحمه الله - معه ظاهرةُ الأجوبة ، فلا نُطَوِّلُ بذكرها . وقرأ الجمهورُ " فأجَاءَهَا " أي : ألْجَأهَا وساقها ، ومنه قوله : [ الوافر ] @ 3587 - وجَارٍ سَارَ مُعْتَمِداً إليْكُمْ أجَاءَتْهُ المخَافَةُ والرَّجَاءُ @@ وقرأ حمَّادُ بن سلمة " فاجَأهَا " بألفٍ بعد الفاء ، وهمزة بعد الجيم ، من المفاجأة ، بزنة " قابلها " ويقرأ بألفين صريحتين ؛ كأنهم خَفَّفُوا الهمزة بعد الجيمِ ، وبذلك رُويتْ بيْنَ بيْنَ . والجمهورُ على فتح الميم من " المَخَاض " وهو وجعُ الولادةِ ، ورُوِيَ عن ابن كثير بكسر الميم ، فقيل : هما بمعنى ، وقيل : المفتوحُ : اسمُ مصدر ؛ كالعطاءِ والسلامِ ، والمكسورُ مصدرٌ ؛ كالقتال واللِّقاء ، والفعالُ : قد جاء من واحد ؛ كالعقابِ والطِّراقِ ، قاله أبو البقاء ، والميم أصليةٌ ؛ لأنه من " تَمخَّضتِ الحامِلُ تَتَمخَّضُ " . و " إلى جذْعِ " يتعلق في قراءة العامَّة بـ " أجَاءَهَا " أي : ساقها إليه . وفي قراءة حمَّاد بمحذوفٍ ، لأنه حالٌ من المفعول ، أي : فاجأها مستندةً إلى جذْع النَّخْلةِ . فصل في معنى الآية المعنى : ألْجَأهَا المخاض ، وهو وجعُ الولادةِ إلى جذْعِ النَّخْلة ؛ لتستند إليها ، وتتمسَّك بها عند وجع الولادة ، وكانت نخلة يابسةً في الصحراء في شدَّة الشِّتاء ، ولم يكُن لها سعفٌ ، ولا خُضْرة ، والتعريف فيها : إمَّا أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة ؛ كتعريف النَّجم [ والصَّعق ] أو كانت تلك الصَّحراء كان فيها جذْع نخلة مشهورٌ عند النَّاس . فإن قيل : جذعُ النَّخْلة فهم منه ذلك دون سائره ، وإمَّا يكون تعريف الجنْسِ ، أي : إلى جذْعِ هذه الشَّجرة خاصَّةً ؛ كأنَّ الله تعالى أرشدها إلى النَّخْلة ؛ ليُطعمَها منها الرُّطب الذي هو أشبه الأشياء موافقة للنُّفساء ، ولأنَّ النخلة أشدُّ الأشياء صَبْراً على البَرْد ، ولا تُثْمِرُ إلاَّ عند اللِّقاح ، وإذا قُطِعَ رأسُها ، لم تُثْمِرْ ، فكأنَّ الله تعالى قال : كما أنَّ الأنثى لا تلدُ إلاَّ مع الذَّكر ، فكذا النَّخلة لا تُثْمِر إلا باللِّقاح ، ثم إنَّه أظهر الرُّطب من غيْر اللِّقَاح ؛ ليدلَّ ذلك على جواز ظُهُور الولد من غير ذكر . { قَالَتْ يَٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا } تمنَّت الموت . فإن قيل : كيف تمنَّت الموت مع أنها كنت تعلم أنَّ الله تعالى بعث جبريل - صلوات الله عليه - ووعدها بأنْ يجعلها وولدها آيةً للعالمين . فالجوابُ من وجوه : الأول : تمنَّت الموت استحياءً من النَّاس ، فأنْسَاها الاستحياء بشارة الملائكة بعيسى - صلوات الله عليه - . الثاني : أنَّ عادة الصَّالحين - رضي الله تعالى عنهم - إذا وقعُوا في بلاءٍ : أن يقُولُوا ذلك ، كما رُوِيَ عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه [ نظر إلى طائرٍ ] على شجرة ، فقال : طُوبى لَكَ ، يا طَائِر ؛ تقعُ على الشَّجرِ ، وتأكُلُ من الثَّمَر ، وددت أنِّي ثمرةٌ يَنْقُرهَا الطَّائِرُ . وعن عُمر - رضي الله عنه - أنَّه أخذ تبنة من الأرض ، فقال : يا لَيْتَنِي هذه التِّبْنَةُ ، يا ليتَنِي لم أكُنْ شيئاً . وعن عليٍّ كُرِّم وجهه يوم الجمل : لَيْتَنِي مِتُّ قبل هذا اليومِ بعشرين سنة . وعن بلالٍ - رضي الله عنه - : ليت بلالاً لم تلدهُ أمهُ . فثبت أنَّ هذا الكلام يذكُرُه الصَّالحون عند اشتداد الأمْرِ عليهم . الثالث : - لعلَّها قالت ذلك ؛ لئلاَّ تقع المعصيةُ ممن يتكلَّم فيها ، وإلاَّ فهي راضيةٌ بما بُشِّرَتْ به . قوله تعالى : " نَسْياً " الجمهور على النون وسكون السين ، وبصريح الياء بعدها ، وقرأ حمزة وحفص وجماعة بفتح النون ، فالمكسور " فِعْل " بمعنى " مَفْعُولٍ " كالذِّبح والطِّحن ، ومعناه الشيء الحقيرُ الذي من شأنه أن ينسى ؛ كالوتد ، والحبلِ ، وخرقةِ الطَّمْثِ ، ونحوها . تمنت لو كانت شيئاً تافهاً لا يؤبه له من حقّه أن ينسى عادة . قال ابن الأنباري - رحمه الله - : " من كسر فهو اسمٌ لما يُنسى ، كالنِّقص ؛ اسمٌ لما ينقصُ ، والمفتوحُ : مصدرٌ يسدُّ مسدَّ الوصف " وقال في الفرَّاء : هما لغتان ؛ كالوَتْر والوِتْر ، والكسرُ أحَبُّ إليَّ " . وقرأ محمدُ بنُ كعب القرظيُّ " نِسْئاً " بكسر النون ، والهمزةُ بدل الياء ، وروي عنه أيضاً ، وعن بكر بن حبيب السهميِّ فتحُ النون مع الهمزة ، قالوا : وهو من نسأتُ اللَّبن ، إذا صببت فيه ماءً ، فاستهلك فيه ، فالمكسورُ أيضاً كذلك الشيء المستهلك ، والمفتوحُ مصدرٌ ؛ كما كان ذلك من النِّسيانِ . ونقل ابن عطيَّة عن بكر بن حبيبٍ " نَساً " بفتح النون ، والسين ، والقصر ؛ كـ " عَصاً " ، كأنه جعل فعلاً بمعنى مفعولٍ ؛ كالقبضِ بمعنى المقبوض . و " منْسِيًّا " نعتٌ على المبالغة ، وأصله " مَنْسُويٌ " فأدغم ، وقرأ أبو جعفرٍ ، والأعمشُ " مِنْسيًّا " بكسر الميم ؛ للإتباع لكسرة السين ، ولم يعتدُّوا بالساكن ؛ لأنه حاجزٌ غير حصينٍ ؛ كقولهم : " مِنْتِنٌ " و " مِنْخِرٌ " ، والمقبرة والمحبرة . قوله تعالى : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } : قرأ الأخوان ، ونافع ، وحفص بكسر ميم " مِنْ " وجرِّ " تحتها " على الجار والمجرور ، والباقون بفتحها ، ونصب " تحتها " فالقراءةُ الأولى تقتضي أن يكون الفاعلُ في " نَادَى " مَكراً ، وفيه تأويلان : أحدهما : هو جبريلُ ، ومعنى كونه " مِنْ تحتها ، أنه في مكانٍ أسفل منها ؛ ويدلُّ على ذلك قراءةُ ابن عبَّاس " فناداها ملكٌ من تحتها " فصرَّح به . ومعنى كونه أسفل منها : إما أن يكونا معاً في مكانٍ مستوٍ ، وهناك مبدأ معيَّنٌ ، وهو عند النَّخْلة ، وجبريلُ بعيدٌ عنها ، فكل من كان أقرب ، كان فوق ، وكُلُّ من كان أبعد ، كان تحت ، وبهذا فَسَّر الكلبيُّ قوله تعالى : { إِذْ جَآءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } [ الأحزاب : 10 ] . ولهذا قال بعضهم : ناداها من أقصى الوادي . وقيل : كانت مريم على أكمةٍ عاليةٍ ، وجبريل أسفل ؛ قاله عكرمة . ورُوِيَ عن عكرمة : أنَّ جبريل ناداها من تحتِ النخْلَة . و " مِنْ تَحْتهَا " على هذا فيه وجهان : أحدهما : أنه متعلقٌ بالنداء ، أي : جاء النداء من هذه الجهة . والثاني : أنه حالٌ من الفاعل ، أي : فناداها ، وهو تحتها . وثاني التأويلين : أنَّ الضمير لعيسى ، أي : فناداها المولودُ من تحتِ ذيلها ، والجارُّ فيه الوجهان : من كونه متعلِّقاً بالنداء ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ ، والثاني أوضحُ . والقراءة الثانية : تكونُ فيها " مَنْ " موصولةً ، والظرفُ صلتها ، والمرادُ بالموصول : إمَّا جبريلُ ، وإمَّا عيسى . وقرأ زِرٌّ ، وعلقمةُ : " فَخَاطبَهَا " مكان " فَنَادَاها " . فصل في اختلافهم في المنادي قال الحسنُ وسعيدُ بن جبيرٍ : إنَّ المنادي هو عيسى - صلوات الله عليه - وقال ابنُ عبَّاسٍ والسديُّ ، وقتادةُ ، والضحاكُ ، وجماعةٌ : إنَّه جبريل - صلوات الله عليه - وكانت مريمُ على أكمة [ وجبريل ] وراء الأكمةِ تحتها . وقال ابن عيينة ، وعاصمٌ : المنادي على القراءة بالفتح وهو عيسى ، وعلى القراءة بالكسر هو الملكُ ، والأوَّل أقربُ لوجوهٍ : الأول : أن قوله : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتَها } بفتح الميم إنَِّما يستعملُ إذا كان قد عُلِم قبل ذلك أنَّ تحتها أحداً ، والذي عُلِمَ كونه تحتها هو عيسى - صلوات الله عليه - فوجب حملُ اللفظ عليه ، وأما قراءة كسر الميم ، فلا تقتضي كون المنادي " جبريل " صلواتُ الله عليه . الثاني : أنَّ ذلك الموضع موضعُ اللَّوْث والنَّظر إلى العورة ، وذلك لا يليقُ بالملائكةِ . الثالث : أن قوله " فَنَادَاهَا " فعلٌ ، ولا بُدَّ أن يكون فاعله قد تقدَّم ذكره ، والذي تقدَّم ذكره هو جبرائيل ، وعيسى - صلوات الله عليهما - ، إلا أنَّ ذكر عيسى أقربُ ؛ لقوله عزَّ وجلَّ : { فَحَمَلَتْهُ فَٱنتَبَذَتْ } والضمير عائدٌ إلى المسيح ، فكان حمله عليه أولى . الرابع : أنَّ عيسى - صلوات الله عليه - لو لم يكُن كلَّمها ، لما علمتْ أنه ينطقُ ، ولما كانت تُشيرُ إلى عيسى بالكلام . فصل في معنى الآية على القولين من قال : المُنادِي : هو عيسى ، فالمعنى : أنَّ الله تعالى أنطقه لها حين وضعتهُ تطييباً لقلبها ، وإزالةً للوحشة عنها ؛ حتى تشاهد في أوَّل الأمْر ما بشَّرها به جبريلُ - صلوات الله عليه - من عُلُوِّ شأن ذلك الولد . ومن قال : المنادي هو جبريلُ - صلوات الله عليه - قال : إنه أرسل إليها ؛ ليناديها بهذه الكلمات ؛ كما أرسل إليها في أوَّل الأمْر ؛ تذكيراً للبشارات المتقدمة . قوله : " ألاَّ تَحْزَنِي " يجوز في " أنْ " أن تكون مفسرةً ؛ لتقدُّمها ما هو بمعنى القول ، و " لا " على هذا : ناهيةٌ ، وحذف النون للجزم ؛ وأن تكون الناصبة ، و " لا " حينئذٍ نافيةٌ ، وحذفُ النُّون للنَّصْب ، ومحلُّ " أنْ " إمَّا نصب ، أو جرٌّ ؛ لأنها على حذفِ حرفِ الجرِّ ، أي : فَنَادَاهَا بكذا ، والضميرُ في " تحتها " : إمَّا لمريم - صلوات الله عليها - وإمَّا للنَّخلة ، والأول أولى ؛ لتوافق الضميرين . قوله تعالى : [ " سَرِيًّا " ] يجوز أن يكون مفعولاً أوَّل ، و " تَحْتك " مفعولٌ ثان ؛ لأنها بمعنى صيَّر " ويجوز أن تكون بمعنى " خلق " فتكون " تَحْتَكِ " لغواً . والسَّرِيُّ : فيه قولان : أحدهما : إنه الرَّجُلُ المرتفع القدر ، من " سَرُوَ يَسْرُو " كـ " شَرُفَ ، يَشْرُفُ " فهو سريٌّ ، وأصله سَرِيوٌ ؛ فأعلَّ سيِّدٍ ، فلامهُ واوٌ ، والمراد به في الآية عيسى ابنُ مريم - صلوات الله عيله - ، ويجمعُ " سريٌّ " على " سراة " بفتح السين ، وسُرَواء ؛ كظرفاء ، وهما جمعان شاذَّان ، بل قياسُ جمعه " أسْرِيَاء " كغَنِيِّ ، وأغنياء ، وقيل : السَّرِيُّ : من " سَرَوْتُ الثَّوبَ " أي : نزعتهُ ، وسروتُ الجُلَّ عن الفرس ، أي : نزعتهُ ؛ كأنَّ السريَّ سرى ثوبه ؛ بخلاف المُدَّثِّر ، والمُتزمِّل ، قاله الراغب . والثاني : أنه النَّهْر الصغير ، ويناسبه " فكُلِي واشْرَبِي " واشتقاقه من " سَرَى ، يَسْرِي " لأن الماءَ يَسْري فيه ، فلامه على هذا ياء ؛ وأنشدوا للبيدٍ : [ الرجز ] @ 3588 - فَتَوسَّطَا عُرْضَ السَّريِّ فصَدَّعا مَسْجُورةً مُتجَاوِزاً قُلاَّمُهَا @@ فصل قال الحسن ، وابن زيدٍ : السَّريُّ هو عيسى ، والسَّريُّ : هو النَّبيلُ الجليلُ . يقال : فلانٌ من سرواتِ قومه ، أي : من أشرافهم ، وروي أن الحسن رجع عنه . وروي عن قتادة وغيره : أن الحسن تلا هذه الآية وإلى جنبه حُمَيد بن عبد الرَّحمن الحميريُّ - رضي الله عنه - : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } . فقال : إن كان لسربًّا ، وإن كان لكريماً ، فقال له حميدٌ : يا أبا سعيد ، إنما هو الجدول ، فقال له الحسنُ " مِنْ ثمَّ [ تُعْجِبُنِي مُجَالستُكَ " ] . واحتجَّ من قال : هو النَّهر " بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِل عن السَّريِّ ، فقال - صلوات الله عليه وسلامه - هو الجدولُ " وبقوله سبحانه وتعالى : { فَكُلِي وَٱشْرَبِي } فدلَّ على أنَّه النَّهر ؛ حتى ينضاف الماءُ إلى الرُّطب ، فتأكل وتشرب . واحتجَّ من قال : إنَّه عيسى بأنَّ النهر لا يكون تحتها ، بل إلى جنبها ، ولا يجوزُ أن يكون يُجابُ عنه بأن المراد أنَّه جعل النَّهر تحت أمرها يجري بأمرها ، ويقف بأمرها ؛ لقوله : { وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَٰرُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ } [ الزخرف : 51 ] لأنَّ هذا حمل اللفظ على مجازه ، ولو حملناه على عيسى ، لم يحتج إلى هذا المجاز . وأيضاً : فإنَّه موافقٌ لقوله : { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [ المؤمنون : 50 ] . وأجيب : بما تقدَّم أن المكان المستوي ، إذا كان فيه مبدأٌ معيَّن ، فكلُّ من كان أقرب منه ، كان فوق ، وكل من كان أبعد منه ، كان تحت . فصل في التفريع على القول بأن السريّ النهر إذا قيل : إنَّ السَّرِيَّ : هو النَّهْر ، ففيه وجهان : الأول : قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : إنَّ جبرائيل - صلواتُ الله عليه وسلامه - ضرب برجله الأرض . وقيل : عيسى ؛ فظهرت عينُ ماءٍ عذبٍ ، وجرى . وقيل : كان هناك ماءٌ جارٍ ؛ والأول أقربُ ؛ لأن قوله { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } يدلُّ على الحدوث في ذلك الوقت ؛ ولأنَّ الله تعالى ذكرهُ تعظيماً لشأنها ، وذلك لا يدلُّ إلا على الوجه الذي قلناه . وقيل : كان هناك نهرٌ يابسٌ أجرى الله فيه الماء ، وحيث النخلة اليابسة ، فأورقتْ ، وأثمرتْ ، وأرطبتْ . قال أبو عبيدة والفَّراء : السَّريُّ : هو النَّهْرُ مطلقاً . وقال الأخفشُ : هو النَّهْرُ الصَّغير . قوله تعالى : { وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } : يجوز أن تكون الباءُ في " بِجِذْعٍ " زائدة ، كهي في قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] [ وقوله ] : @ 3589 - … … لا يَقْرَأنَ بالسُّوَرِ @@ وأنشد الطبريُّ - رحمة الله تعالى - : [ الطويل ] @ 3590 - بِوَادٍ يمانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صدْرُهُ وأسْفَلُهُ بالمَرْخِ والشَّبَهَانِ @@ أي : ينبت المرخ أي : هُزِّي جذْعَ النَّخلةِ . أو حركي جذْعَ النَّخلة . قال الفرَّاء : العربُ تقول : هزَّهُ ، وهزَّ به ، وأخذ الخطام وأخذ بالخطام ، وزوَّجتُك فلانة ، وبفُلانةٍ ويجوز أن يكون المفعول محذوفاً ، والجارُّ حالٌ من ذلك المحذوف ، تقديره : وهُزِّي إليك رُطباً كائناً بجذع النخلة ، ويجوز أن يكون هذا محمولاً على المعنى ؛ إذ التقدير : هُزِّي الثمرةَ بسبب هزِّ الجِذْعِ ، أي : انفُضِي الجِذْع ، وإليه نحا الزمخشريُّ ؛ فإنه قال : " أو افْعَلِي الهَزَّ " ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 3591 - … يَجْرَحْ فِي عَراقِيبِهَا نَصْلِي @@ قال أبو حيَّان : وفي هذه الآيةِ ، وفي قوله تعالى : { وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [ القصص : 32 ] ما يردُّ على القاعدة المقرَّرةِ في علم النَّحو : من أنَّه لا يتعدَّى فعلُ المضمرِ المُتَّصل إلى ضميره المتَّصلِ ، إلاَّ في باب " ظنَّ " وفي لَفْظَتَيْ " فَقَدَ ، وعدِمَ " لا يقالُ : ضربْتَكَ ، ولا ضَرَبْتُني ، أي : ضَربْتَ أنْتَ نَفْسَكَ ، وضَربْتُ أنَا نفسي ، وإنما يؤتى في هذا بالنَّفْسِ ، وحكمُ المجرور بالحرف المنصوب ؛ فلا يقال : هَزَزْتَ إليك ، ولا زيدٌ هزَّ إليه ؛ ولذلك جعل النحويُّون " عَنْ " و " عَلَى " اسمين في قول امرىء القيس : [ الطويل ] @ 3592 - دَعْ عَنْكَ نَهْباً صيحَ في حُجُراتهِ ولكِنْ حديثاً ما حَدِيثُ الرَّواحِلِ @@ وقول الآخر : [ المتقارب ] @ 3593 - هَوِّنْ عليكَ فإنَّ الأمُورَ بكَفِّ الإلهِ مقاديرُهَا @@ وقد ثبت بذلك كونهما اسمين ؛ لدُخُولِ حرفِ الجرِّ عليهما في قوله : [ الطويل ] @ 3594 - غَدَتْ من عليْهِ بعدما تمَّ ظمؤهَا تَصِلُ وعن قَيْضٍ بِبَيْدَاءَ مَجْهَلِ @@ وقول الآخر : [ البسيط ] @ 3595 - فَقُلْتُ للرَّكْبِ لمَّا أن عَلا بِهِمُ مِنْ عَنْ يمينِ الحُبَيَّا نظرةٌ قَبْلُ @@ وأمَّا " إلى " فحرفٌ بلا خلافٍ ، فلا يمكنُ فيها أن تكون اسماً ؛ كـ " عَنْ " و " عَلَى " ثم أجاب : بأنَّ " إليكِ " في الآيتين لا تتعلقُ بالفعل قبله ، إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ على جهةِ البيان ، تقديره : " أعني إليك " قال : " كما تأولوا ذلك في قوله : { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّاصِحِينَ } [ الأعراف : 21 ] في أحد الأوجه " . قال شهاب الدين - رضي الله تعالى عنه - : وفي ذلك جوابان آخران : أحدهما : أن الفعل الممنوع إلى الضمير المتصل ، إنما هو من حيث يكون الفعلُ واقعاً بذلك الضمير ، والضمير محلٌّ له ؛ نحو : " دَعْ عنْكَ " و " هوِّنْ عليْكَ " وأمَّا الهزُّ والضمُّ ، فليسا واقعين بالكاف ، فلا محذور . والثاني : أنَّ الكلام على حذف مضافٍ ، تقديره : هُزِّي إلى جهتك ونحوك واضمم إلى جهتك ونحوك . فصل في المراد بجذع النخلة قال [ القفال ] : الجِذْعُ من النَّخلة : هو الأسفل ، وما دُون الرَّأس الذي عليه الثَّمرة . وقال قطربٌ : كُلُّ خشبة في أصل شجرة ، فهي جذعٌ . قوله : " تُسَاقِطْ " قرأ حمزةُ " تَسَاقَطْ " بفتح التاء ، وتخفيف السين ، وفتح القاف ، والباقون - غير حفص - كذلك إلا أنَّهم شدَّدُوا السِّين ، وحفصٌ ، بضم التاء ، وتخفيف السين ، وكسر القاف . فأصلُ قراءةِ غير حفص " تتساقطْ " بتاءين ، مضارع " تَساقَطَ " فحذف حمزة إحدى التاءين تخفيفاً ؛ نحو : { تَنَزَّلُ } [ القدر : 4 ] و { تَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] ، والباقون أدغمُوا في السِّين ، وقراءة حفص مضارعُ " سَاقَطَ " . وقرأ الأعمش ، والبراء [ بنُ عازبٍ ] " يَسَّاقَطْ " كالجماعة ، إلا أنه بالياء من تحتُ ، أدغم التاء في السِّين ؛ إذ الأصلُ : " يتساقَط " فهو مضارعُ " اسَّاقَطَ " وأصله " يَتَساقَطُ " فأدغمَ ، واجتلبتْ همزةُ الوصل ؛ كـ " ادَّارَأ " في " تَدَارَأ " . ونْقل عن أبي حيوة ثلاثُ قراءاتٍ : وافقهُ مسروقٌ في الأولى ، وهي " تُسْقِطْ " بضم التاء ، وسكون السين ، وكسر القاف من " أسْقَطَ " . والثانية : كذلك إلا أنه بالياء من تحتُ . الثالثةُ كذلك إلاَّ أنه رفع " رُطَباً جَنِيًّا " بالفاعلية . وقُرِىء " تَتَسَاقَط " بتاءين من فوقُ ، وهو أصل قراءة الجماعة ، وتَسْقُط ويَسْقُط ، بفتح التاء والياء ، وسكون السين ، وضمِّ القاف ، فرفعُ الرطب بالفاعلية ، وتعطي من الأفعال ما يوافقه في القراءات المتقدمة ، ومن قرأ بالتاء من فوق ، فالفعل مسندٌ : إمَّا للنَّخلة ، وإمَّا للثمرةِ المفهومة من السياق ، وإمَّا للجذْعِ ، وجاز تأنيثُ فعله ؛ لإضافته إلى مؤنَّث ؛ فهو كقوله : [ الطويل ] @ 3596 - … كَمَا شَرقَتْ صَدْرُ القناةِ مِن الدَّمِ @@ وكقراءة { تلتقطه بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ } [ يوسف : 10 ] ومن قرأ بالياء من تحت ، فالضميرُ للجذْعِ ، وقيل : للثَّمر المدلول عليه بالسيِّاق . وأمَّا نصب " رُطَباً " فلا يخرجُ عن كونه تمييزاً ، أو حالاً موطِّئة ، إن كان الفعل قبله لازماً ، أو مفعولاً به ، إن كان الفعل متعدِّياً ، [ والذَّكِيُّ ] يردُّ كلَّ شيءٍ إلى ما يليقُ به من القراءات ، وجوَّز المبرِّد في نصبه وجهاً غريباً : وهو أن يكون مفعولاً به بـ " هُزِّي " وعلى هذا ، فتكون المسألةُ من باب التنازع في بعض القراءات : وهي أن يكون الفعل فيها متعدِّياً ، وتكون المسألةُ من إعمال الثاني ، للحذف من الأوَّل . وقرأ طلحة بن سليمان " جنيًّا " بكسرِ الجيم إتباعاً لكسرةِ النون . والرُّطبُ : اسم جنسٍ لرطبة ؛ بخلاف " تُخَم " فإنَّه جمعٌ لتخمة ، والفرقُ : أنهم لزمُوا تذكيرهُ ، فقالوا : هو الرطبُ ، وتأنيث ذاك ، فقالوا : هي التُّخَمُ ، فذكَّرُوا " الرُّطَب " باعتبار الجنس ، وأنَّثُوا " التُّخَمَ " باعتبار الجمعيَّة ، وهو فرقٌ لطيفٌ ، ويجمعُ على " أرطابٍِ " شذوذاً كربعٍ وأرباعٍ ، والرُّطب : ما قطع قبل يبسه وجفافه ، وخصَّ الرُّطب بالرُّطبِ من التَّمر ، وأرطبَ النَّخلُ ؛ نحو : أتْمَرَ وأجْنَى . والجَنِيُّ : ما طاب ، وصلح للاجتناء ، وهو " فَعِيلٌ " بمعنى مفعول أي رُطَباً مَجنيًّا ، وقيل : بمعنى فاعلٍ ، أي : طريًّا ، والجنى والجنيُّ أيضاً : المُجْتَنَى من العسلِ ، وأجْنَى الشَّجَرُ : أدْرَكَ ثمرهُ ، وأجنتِ الأرضُ : كَثُرَ جناها ، واستعير من ذلك " جنى فلانٌ جنايةً " كما استعير " اجْتَرَمَ جَريمَةً " . فصل في معنى الآية المعنى جمعنا لك بين الشُّرب والأكل . قال عمروُ بنُ ميمُون : ليس شيءٌ خيرٌ من الثَّمر والرُّطب ، ثم تلا هذه الآية . وقال بعضُ العلماءِ : أكْلُ الرُّطبِ والثَّمرةِ للمرأةِ الَّتي ضربها الطَّلق يُسَهِّل عليها الولادة . قال الرَّبيعُ بنُ خيثمٍ " ما للنُّفساءِ عندي خيرٌ من الرُّطب ، ولا للمرضِ خيرٌ من العسل . قالت المعتزلةُ : هذه الأفعال الخارقةُ للعادةِ كانت معجزة لزكريَّا وغيره من الأنبياء ؛ وهذا باطلٌ ؛ لأنَّ زكريَّا - صلوات الله عليه وسلامه - ما كان له علمٌ بحالها ومكانها ، فكيف بتلك المعجزات ؟ بل الحقُّ أنها كانت كراماتٍ لمريم ، أو إرهاصاً لعيسى - صلوات الله عليهما - ، لأنَّ النَّخلة لم تكُن مثمرةً ، إذ ذاك ؛ لأن ميلادهُ كان في زمان الشتاء ، وليس ذاك وقت ثَمرٍ . قوله تعالى : { وَقَرِّي عَيْناً } : نصب " عَيْناً " على التمييز منقولٌ من الفاعل ؛ إذ الأصلُ : لتقرَّ عينُك ، والعامَّة على فتح القاف من " قَرِّي " أمراً من قرَّت عينهُ تَقَرُّ ، بكسر العين في الماضي ، وفتحها في المضارع . وقُرىء بكسر القاف ، وهي لغةُ نجدٍ ؛ يقولون : قرَّت عينهُ تقرُّ ، بفتح العين في الماضي ، وكسرها في المضارع ، والمشهورُ : أن مكسور العين في الماضي لـ " العيْنِ " ، والمفتوحها في " المَكَان " يقال : قررتُ بالمكانِ أقرُّ به ، وقد يقال : قررتُ بالمكانِ بالكسر ، وسيأتي ذلك في قوله تعالى { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [ الأحزاب : 33 ] . وفي وصف العين بذلك تأويلان : أحدهما : أنَّه مأخوذٌ من " القُرّ " وهو البردُ : وذلك أنَّ العين ، إذا فرح صاحبها ، كان دمُعها قارًّا ، بارداً ، وإذا حزن ، كان حارًّا ؛ ولذلك قالوا في الدعاء عليه : " أسْخَنَ اللهُ عيْنَهُ " وفي الدعاء له : " أقر اللهُ عيْنهُ " وما أحلى قول أبي تمَّام - رحمه الله تعالى - : [ الطويل ] @ 3597 - فأمَّا عُيُونُ العاشِقينَ فأسْخِنَتْ وأمَّا عُيونُ الشَّامتينَ فقرَّتِ @@ والثاني : أنه مأخوذٌ من الاستقرار ، والمعنى : أعطاه الله ما يسكِّنُ عينه فلا تطمحُ إلى غيره . المعنى : فكلي من الرطب واشربي من النهر " وقرّي عيناً " وطيبي نفساً ، وقدَّم الأكل على الشرب ؛ لأن حاجة النُّفساء ، إلى الرُّطب أشدُّ من احتياجها إلى شرب الماء ؛ لكثرة ما سال منها من الدَّم ، قيل : " قَرِّي عيْناً " بولدك عيسى ، وتقدَّم معناه . فإن قيل : إن مضرَّة الخوف أشدُّ من مضرَّة الجُوع والعطشِ ؛ لأنَّ الخَوْف ألمُ الرُّوح ، والجُوع ألمُ البدنِ ، وألم الرُّوح أقوى من ألم البدنِ ، يروى أنَّه أجيعتْ شاةٌ ، فقُدِّم إليها علفٌ ، وعندها ذئبٌ ، فبقيت الشَّاة مدَّة مديدة لا تتناول العلف ، مع جوعها ؛ خوفاً من الذئب ، ثم كسر رجلها ، وقدم العلفُ إليها ، فتناولت العلف ، مع ألم البدن ؛ فدلَّ ذلك على أنَّ ألم الخوف أشدُّ من ألم البدنِ ، وإذا كان كذلك ، فلم قدَّم دفع ضرر الجُوع والعطش على دفع ضرر الخوف ؟ . فالجوابُ : لأنَّ هذا الخوف كان قليلاً ؛ لأنَّ بشارة جبريل - صلوات الله عليه - كانت قد تقدَّمت ، فما كانت تحتاجُ إلى التَّذكرة مرَّة أخرى . قوله تعالى : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ } دخلت " إن " الشرطيةُ على " ما " الزائدةِ للتوكيد ، فأدغمتْ فيها ، وكتبتْ متَّصلة ، و " تَرَينَّ " تقدَّم تصريفه . أي : " أنْ تري " ، فدخلت عليه نونُ التَّوكيد ، فكسرتِ الياءُ ، لالتقاء الساكنين . معناه : فإمَّا ترينَّ من البشر أحداً ، فسألك عن ولدكِ والعامَّةُ على صريح الياء المكسورة ، وقرأ أبو عمروٍ في رواية " ترَئِنَّ " بهمزة مكسورة بدل الياء ، وكذلك رُوي عنه " لتَرؤنَّ " بإبدالِ الواو همزةً ، قال الزمخشري : " هذا من لُغةِ من يقولُ : لبَأتُ بالحَجِّ ، وحلأتُ السَّويقَ " - يعني بالهمز - وذلك لتآخٍ بين الهمز وحروف اللِّين " وتجَرَّأ ابنُ خالويه على أبي عمروٍ ؛ فقال : " هو لَحْنٌ عند أكْثَرِ النَّحويِّين " . وقرأ أبو جعفر قارىءُ المدينةِ ، وشيبةُ ، وطلحةُ " تَرَيْنَ " بياءٍ ساكنة ، ونون خفيفة ، قال أبن جني : " وهي شاذَّةٌ " . قال شهاب الدين : لأنَّه كان ينبغي أن يُؤثِّر الجازمُ ، فيحذف نون الرفع ؛ كقُول الأفوهِ : [ السريع ] @ 3598 - إمَّا تَرَيْ رَأسِيَ أزْرَى بِهِ ماسُ زمانٍ ذِي انتِكاثٍ مَئُوسْ @@ ولم يؤُثِّر هنا شذوذاً ، وهذا نظيرُ قول الآخر : [ البسيط ] @ 3599 - لولا فَوارِسُ مِنْ نُعْمٍ وأسْرتِهِمْ يَوْمَ الصُّليْفاءِ لمْ يُوفونَ بالجَارِ @@ فلم يعمل " لَمْ " وأبقى نون الرَّفع . و " من البشر " حالٌ من " أحَداً " لأنه لو تأخَّر ، لكان وصفاً ، وقال أبو البقاء : " أو مفعول " يعني متعلِّق بنفس الفعل قبله . قوله تعالى : " فَقُولِي " بين هذا الجواب ، وشرطه جملةٌ محذوفةٌ ، تقديره : فإمَّا ترينَّ من البشرِ أحداً ، فسألك الكلام ، فقُولي ، وبهذا المقدَّر نخلصُ من إشكالٍ : وهو أنَّ قولها { فَلنْ أكَلِّمَ اليومَ إنْسيًّا } كلامٌ ؛ فيكون ذلك تناقضاً ؛ لأنها قد كلَّمت إنسيًّا بهذا الكلامِ ، وجوابه ما تقدَّم . ولذلك قال بعضهم : إنَّها ما نذرتْ في الحال ، بل صبرتْ ؛ حتَّى أتاها القَوْم ، فذكرت لهم : { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيًّا } . وقيل : المرادُ بقوله " فقُولي " إلى آخره ، أنه بالإشارة ، وليس بشيء ؛ بل المعنى : فلن أكلِّم اليوم إنسيًّا بعد هذا الكلامِ . وقرأ زيدُ بن عليٍّ " صِيَاماً " بدل " صوماً " وهما مصدران . فصل في معنى صوماً معنى قوله تعالى : " صَوْماً " : أي صمتاً ، وكذلك كان يقرأ ابن مسعُود - رضي الله عنه - ، والصَّوم في اللُّغة ، الإمْسَاك عن الطَّعام والكلام . قال السديُّ : كان في بني إسرائيل من إذا أراد أن يجتهد ، صام عن الكلام ، كما يصوم عن الطَّعام ، فلا يتكلَّم حتَّى يُمْسِيَ . قيل : كانت تُكَلِّمُ الملائكة ، ولا تكلِّم الإنْسَ . قيل : أمرها الله تعالى بنذر الصَّمْت ؛ لئلاَّ تشرع مع من اتَّهَمَهَا في الكلام ؛ لمعنيين : أحدهما : أن كلام عيسى - صلوات الله عليه - أقوى في إزالةِ التُّهمَة من كلامهما ، وفيه دلالةٌ على أنَّ تفويض [ الأمر ] إلى الأفضلِ أولى . الثانية : كراهةُ مجادلة السُّفهاء ، وفيه أنَّ السُّكُوت عن السَّفيه واجبٌ ، ومن أذلِّ الناس سفيهٌ لم يجد مسافهاً . قوله تعالى : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } : " به " في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل " أتَتْ " ، [ أي : أتَتْ ] مصاحبة له ؛ نحو : جاء بثيابه ، أي : ملتبساً بها ، ويجوز أن تكون الباءُ متعلقة بالإتيان ، وأمَّا " تَحْملُه " فيجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل " أتَتْ " ويجوز أن يكون حالاً من الهاء في " به " وظاهر كلام أبي البقاء : أنَّها حالٌ من ضمير مريم وعيسى معاً ؛ وفيه نظرٌ . قوله تعالى : " شَيْئاً " مفعولٌ به ، أي : فعلتِ شيئاً ، أو مصدرٌ ، أي : نوعاً من المجيءِ غريباً ، والفَرِيُّ : العظيمُ من الأمر ؛ يقال في الخَيْر والشرِّ ، وقيل : الفَرِيُّ : العجيبُ ، وقيل : المُفْتَعَلُ ، ومن الأول ، الحديثُ في وصف عمر - رضي الله عنه - : " فَلَمْ أرَ عَبْقرِيًّا يَفْرِي فريَّهُ " والفَرْيُ : قطعُ الجلد للخَرْزِ والإصلاح ، والإفْرَاء : إفساده ، وفي المثل : جاء يَفْرِي الفَرِيَّ ، أي : يعمل العمل العظيم ؛ وقال : [ الكامل ] @ 3600 - فلأنْتَ تَفْرِي ما خَلقْتَ وبَعْـ ـضُ القَوْمِ يَخْلقُ ثُمَّ لا يَفْري @@ وقرأ أبو حيوة فيما نقل عنه ابنُ خالويه " فَرِيئاً " بالهمز ، وفيما نقل ابن عطية " فَرْياً " بسكون الراء . وقرأ عمر بن لجأ { ما كَانَ أباَك امْرُؤ سَوْءٍ } جعل النكرة الاسم ، والمعرفة الخبر ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 3601 - … يَكُونُ مِزاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ @@ وقوله : [ الوافر ] @ 3062 - … ولا يَكُ مَوْقفٌ مِنْكِ الوَداعَا @@ وهنا أحسنُ لوجودِ الإضافةِ في الاسم . فصل في كيفية ولادة مريم وكلام عيسى لها ولقومه قيل : إنَّها ولدته ثم حملته في الحال إلى قومها . وقال ابنُ عباس ، والكلبيُّ : احتمل يوسفُ النَّجَّار مريم ، [ وابنها ] عيسى إلى غارٍ ، ومكثَ أربعين يوماً ؛ حتَّى طهرتْ من نفاسها ، ثم حملتهُ مريمُ إلى قومها ، فكلَّمها عيسى في الطَّريق ؛ فقال : يا أمَّاهُ ، أبشري ؛ فإنِّي عبد الله ، ومسيحه ، فلما دخلت على أهلها ومعها الصَّبِيُّ ، بكَوْا ، وحَزِنُوا ، وكانُوا أهل بيت صالحين ؛ فقالوا { يَٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا } عظيماً مُنكراً . قال أبو عبيدة : كُلُّ أمرٍ فائق من عجب ، أو عملٍ ، فهو فَرِيٌّ ؛ وهذا منهم على وجه الذَّمِّ ، والتوبيخ ؛ لقولهم بعده : { يَٰأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا } . قوله تعالى : { يَٰأُخْتَ هَارُونَ } يريدون : يا شبيهة هارون ، قال قتادةُ ، وكعبٌ ، وابنُ زيدٍ ، والمغيرة بنُ شعبة - رضي الله عنهم - : كان هارُون رجلاً صالحاً عابداً مقدِّماً في بني إسرائيل ، رُوِيَ أنَّهُ تبعَ جنازتهُ يوم مات أربعُون ألفاً ، كلُّهم يسمَّى هارون من بني إسرائيل سوى سائر النّاس ، شبَّهُوها به على معنى أنَّنا ظننَّا أنَّك مثلهُ في الصَّلاح ، وليس المرادُ منه الأخُوَّة في النَّسب ؛ كقوله سبحانه وتعالى : { إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُوۤاْ إِخْوَانَ ٱلشَّيَٰطِينِ } [ الإسراء : 27 ] . روى المغيرةُ بنُ شعبة - رضي الله عنه - قال : لما قدمتُ [ خراسان ] سألُوني ، فقالوا : إنَّكم تقرءون : { يَٰأُخْتَ هَارُونَ } وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ، فلمَّا قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتهُ عن ذلك ، فقال : إنَّهُمْ كانُوا يُسمَّون بأنبيائهم والصَّالحين قبلهم . قال ابن كثيرٍ : وأخطأ محمَّد بن كعبٍ القرظيُّ في زعمه أنَّها أختُ موسى وهارون نسباً ؛ فإنَّ بينهما من الدُّهُور الطَّويلة ما لا يخفى على من عندهُ أدنى علمٍ ، وكأنَّه غرَّه أنَّ في التَّوراة أن مريم - أخت موسى ، وهارون - ضربتْ بالدُّفِّ يوم نجَّى الله موسى وقومه ، وغرقَ فرعونُ وجنودهُ ، فاعتقد أنَّ هذه هي تلك ، وهذا في غاية البُطلان ومخالفةٌ للحديث الصحيح المتقدِّم . وقال الكلبيُّ : كان هارونُ أخا مريم من أبيها ، وكان أمثل رجُل في بني إسرائيل . وقال السُّديُّ : إنَّما عنوا به هارُون أخا موسى ، لأنَّها كانت من نسله ، كما يقال للتميميِّ : يا أخا تميمٍ ، ويا أخا همدان ، أي : يا واحداً منهم . وقيل : كان هاروُن فاسقاً في بني إسرائيل مُعْلِناً بالفِسْق ، فشبَّهوها به . وقول الكلبيّ أقربُ ؛ لوجهين : الأول : أن الأصل في الكلام الحقيقةُ ؛ فيحملُ الكلامُ على أخيها المسمَّى بـ " هارُونَ " . الثاني : أنها أضيفت إليه ، ووُصف أبواها بالصَّلاح ؛ وحينئذ يصيرُ التوبيخُ أشدَّ ، لأنَّ من كان حال أبويه وأخيه هذا الحال ، يكونُ صدور الذَّنْب منه أفحش . ثم قالوا : { مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ } . قال ابن عبَّاس : أي : زانياً ، " وما كانَتْ أمُّك " حنَّة " بغيًّا " أي : زانية ، فمن أين لك هذا الولدُ . قوله تعالى : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } : الإشارةُ معروفةٌ تكون باليد والعين وغير ذلك ، وألفها عن ياءٍ ، وأنشدوا لكثيرٍ : [ الطويل ] @ 3603 - فقُلْتُ وفي الأحشاءِ داءٌ مُخامِرٌ ألا حبَّذا يا عزُّ ذَاكَ التَّشايرُ @@ قوله تعالى : { مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيًّا } في " كَانَ " هذه أقوالٌ : أحدها : أنها زائدةٌ ، وهو قولُ أبي عبيدٍ ، أي : كيف نُكَلِّمُ من في المهد ، و " صَبِيَّا " على هذا : نصبٌ على الحالِ من الضمير المستتر في الجارِّ والمجرورِ الواقع صلة ، وقد ردَّ أبو بكرٍ هذا القول - أعني كونها زائدة - بأنها لو كانت زائدة ، لما نصبت الخبر ، وهذه قد نصبتْ " صَبيًّا " وهذا الردُّ مرودٌ بما ذكرتُه من نصبه على الحال ، لا الخبر . الثاني : أنها تامَّةٌ بمعنى حدث ووجد ، والتقدير : كيف نكلِّمُ من وجد صبيًّا ، و " صبيًّا " حال من الضمير في " كان " . الثالث : أنها بمعنى صار ، أي : كيف نُكلِّم من صار في المهد صبيًّا ، و " صَبِيًّا " على هذا : خبرها ؛ فهو كقوله : [ الطويل ] @ 3604 - … قَطَا الحَزْنِ قد كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا @@ الرابع : أنها الناقضةُ على بابها من دلالتها على اقتران مضمونِ الجملة بالزمان الماضي ، من غير تعرُّضٍ للانقطاع ؛ كقوله تعالى : { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] ولذلك يعبَّر عنها بأنَّها ترادفُ " لَمْ تَزلْ " قال الزمخشريُّ : " كان " لإيقاع مضمون الجملة في زمانٍ ماض مبهمٍ صالح للقريبِ والبعيد ، وهو هنا لقريبه خاصَّة ، والدَّالُّ عليه معنى الكلام ، وأنه مسوقٌ للتعجُّب ، ووجه آخر : وهو أن يكون " نُكَلِّمُ " حكاية حالٍ ماضيةٍ ، أي : كيف عُهِدَ قبل عيسى أن يكلم النَّاس في المهد حتى نُكلمه نحنُ ؟ وأمَّا " مَنْ " فالظاهرُ أنَّها موصولةٌ بعنى الذي ، وضعفُ جعلها نكرة موصوفة ، أي : كيف نكلِّم شخصاً ، أو مولوداً ، وجوَّز الفرَّاء والزجاج فيها أن تكون شرطيَّة ، و " كان " بمعنى " يَكُنْ " وجوابُ الشرطِ : إمَّا متقدِّمٌ ، وهو " كَيْف نُكلِّمُ " أو محذوفٌ ، لدلالةِ هذا عليه ، أي : من يكن في المهدِ صبياً ، فكيف نُكلِّمُهُ ؟ فهي على هذا : مرفوعة المحلِّ بالابتداءِ ، وعلى ما قبله : منصوبته بـ " نُكَلِّمُ " وإذا قيل بأنَّ " كان " زائدةٌ ؛ هل تتحمَّلُ ضميراً ، أم لا ؟ فيه خلافٌ ، ومن جوَّز ، استدلَّ بقوله : [ الوافر ] @ 3605 - فكَيْفَ إذا مررْت بدارِ قومٍ وجيرانٍ لنَا كَانُوا كِرَامِ @@ فرفع بها الواو ، ومن منع ، تأوَّل البيت ، بأنَّها غيرُ زائدةٍ ، وأنَّ خبرها هو " لنا " قُدِّم عليها ، وفصل بالجملة بين الصفة ، والموصوف . وأبو عمرو يدغمُ الدال في الصاد ، والأكثرون على أنه إخفاء . فصل في مناظرة مريم لقومها لمَّا بالغوا في توبيخ مريم سكتت ، وأشارت إلى عيسى ، أن كلِّمُوه . قال ابنُ مسعود : لمَّا لم يكُن لها حجَّةٌ ، أشارتْ إليه ؛ ليكون كلامهُ حُجَّةً لها ، أي : هو الذي يُجيبُكُمْ ، إذا ناطَقْتُمُوه . قال السديُّ : لما أشارتْ إليه ؛ ليكون كلامُه حجَّة ، غضبُوا ، وقالوا : لسُخْريتُهَا بنا أشدُّ من زناها ، و { قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيًّا } ، والمهدُ : هو حجرها . وقيل : هو المهدُ بعينه . والمعنى : كيف نكلِّم صبيًّا سبيلهُ أن ينام في المهد ؟ ! قال السديُّ : فلما سمعَ عيسى - صلوات الله عليه - كلامهم ، وكان يرضعُ ، ترك الرَّضاع ، وأقبل عليهم بوجهه ، واتَّكأ على يساره ، وأشار بسبَّابة يمينه ، فقال : { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } . وقيل : كلَّمهم بذلك ، ثم لم يتكلَّم ؛ حتى بلغ مبلغاً يتكلَّم فيه الصبيانُ ، وقال وهبٌ : أتاها زكريَّا - عليه الصلاة والسلام - عند مناظرتها اليهُود ، فقال لعيسى : انْطِقْ بحُجَّتِكَ ، إن كنت أمرتَ بها ، فقال عيسى عند ذلك وهو ابنُ أربعين يوماً - وقال مقاتلٌ : بل هو يوم ولد - : إنِّي عبد الله ، أقرَّ على نفسه بالعُبوديَّة لله - عزَّ وجلَّ - أول ما تكلَّم لئلا يتَّخذ إلهاً ، وفيه فوائدُ : الأولى : أن ذلك الكلام في ذلك الوقت : كان سبباً لإزالةِ الوَهْم الذي ذهب إليه النَّصارى ؛ فلا جرم : أوَّل ما تكلَّم ، قال : { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } . الثانية : أن الحاجة في ذلك الوقت ، إنَّما هو نفي تُهْمة الزِّنا عن مريم ، ثم إنَّ عيسى - صلوات الله عليه - لم ينصَّ على ذلك ، وإنَّما نصَّ على إثبات عبوديَّة نفسه ، كأنَّه جعل إزالة التُّهْمَة عن الله تعالى أولى من إزالة التُّهمة عن الأمِّ ؛ فلهذا : أوَّلُ ما تكلَّم إنما تكلَّم بقوله : { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } . الثالثة : أنَّ التكلُّم بإزالة التُّهْمَة عن [ الله تعالى ] يفيد إزالةَ التُّهمة عن الأمِّ ؛ لأنَّ الله تعالى لا يخص الفاجرة بولدٍ في هذه الدرجة العالية ، والمرتبة العظيمة ، أمَّا التكلُّم بإزالةِ التُّهْمَة عن الأمِّ ، فلا يفيدُ إزالة التُّهْمَة عن [ الله تعالى ] ، فكان الاشتغالُ بذلك هاهنا أولى . فصل في إبطال قول النصارى في إبطال قول النصارى وجوه : الأول : أنَّهُم وافقونا على أنَّ ذاته - سبحانه وتعالى - لم تحلَّ في ناسُوت عيسى ، بل قالوا : الكلمةُ حلَّت فيه ، والمرادُ من الكلمة العلمُ ، فنقول : العلمُ ، لما حصل لعيسى ، ففي تلك الحالةِ : إمَّا أن يقال : إنَّه بقيَ في ذاتِ الله تعالى ، أو ما بقي . فإن كان الأوَّل ، لزِمَ حُصُول الصِّفَة الواحدة في مَحَلَّيْنِ ، وذلك غير معقول ، ولأنَّه لو جاز أن يقال : العلمُ الحاصلُ في ذات عيسى هو العلمُ الحاصلُ في ذاتِ الله بعينه ، فلم لا يجوزُ في حقِّ كلِّ واحدٍ ذلك حتى يكون العلمُ الحاصلُ لكُلِّ واحدٍ هو العلمُ الحاصلُ لذاتِ الله تعالى ؟ وإن كان الثاني ، لزم أن يقال : إنَّ الله تعالى لا يبقى عالماً بعد حلول علمه في عيسى ، وذلك ممَّا لا يقوله عاقلٌ . قال ابنُ الخطيب : وثانيها : مناظرة جرت بيني وبين بعض النَّصارى ، فقلتُ له : هل تُسلِّم أنَّ عدم الدَّليل لا يدُلُّ على عدم المدلول ، أمْ لا ؟ فإن أنكرت ، لزمكَ لا يكون الله قديماً ؛ لأنَّ دليل وجُودِهِ هو العالمُ ، فإذا لَزِمَ من عدمِ الدَّليل عدمُ المدلول ، لزِمَ من عدم العالم في الأزل عدم الصانع في الأزل ، وإن سلَّمت أنَّه لا يلزمُ من عدم الدَّليل عدمُ المدلول ، فنقولُ : إذا جوَّزْتَ اتحادَ كلمة الله بعيسى أو حُلولها فيه ، فكيف عرفت أنََّ كلمة الله تعالى ما حلَّتْ في زيْدٍ وعمرٍ ؟ بل كيف عرفتَ أنَّها ما حلّت في هذه الهرَّة ، وفي هذا الكلب ؟ فقال : إنَّ هذا السُّؤال لا يليقُ بك ؛ لأنَّا إنَّما أثبتنا ذلك الاتحاد ، أو الحلول ، بناءً على ما ظهر على يد عيسى من إحياء الموتى ، وإبراءِ الأكمه ، والأبرصِ ، فإذا لم نجدْ شيئاً من ذلك ظهر على يد غيره ، فكيف نثبت الاتحادَ ، أو الحُلُول ؟ فقلتُ له : إنِّي عرفتُ بهذا الكلامِ أنَّكَ ما عرفتَ أوَّل الكلامِ ؛ لأنَّك سلَّمْتَ لي أنَّ عدم الدليل لا يدلُّ على عدم المدلُول ، وإذا كان هذا الحُلولُ غير ممتنعٍ في الجملة ، فأكثر ما في هذا الباب أنَّه وُجِدَ ما يدلُّ على حصُوله في حقِّ عيسى ، ولم يوجد ذلك الدَّليلُ في حقِّ زيدٍ وعمرو ، ولكن عدم الدليل لا يدلُّ على عدم المدلُول ؛ فلا يلزمُ من عدم ظهورِ هذه الخوارق على يد زيدٍ وعمرٍو ، وعلى السِّنَّوْرِ والكلبِ عدمُ ذلك الحُلُول ، فثبت أنَّك مهما جوَّزْت القول بالاتِّحاد ، والحلول ، لزمك تجويزُ حُصُول ذلك الاتحادِ ، والحُلُول في حقِّ كلِّ أحد ، بل في حق كل حيوان ونباتٍ ، ولكنَّ المذهب الذي يسُوقُ [ قائلهُ ] إلى مثل هذا [ القول ] الركيك ، يكُون باطلاً قطعاً ، ثم قلتُ [ له ] وكيف دلَّ إحياءُ الموتى ، وإبراءُ الأكمهِ ، والأبرصِ على ما قلت ؟ أليس انقلابُ العصا ثعباناً أبعد من انقلاب الميِّت حيًّا ، فإذا ظهر على يد مُوسى ، ولم يدلَّ على إلهيته ، فبأن لا يدلَّ هذا على إلهيَّة عيسى أولى . وثالثها : أن دلالة أحوال عيسى على العبوديَّة أقوى من دلالتها على الربوبيَّة ؛ لأنَّه كان مجتهداً في العبادة ، والعبادةُ لا تليقُ إلا بالعبد ، وأنَّه كان في نهاية البُعْد عن الدُّنْيَا ، والاحترازِ عن أهلها حتى قالت النصارى : إنَّ اليهُود قتلُوه ، ومن كان في الضعف هكذا ، فكيف يليقُ به الرُّبُوبيَّة ؟ . ورابعها : أن المسيح : إمَّا أن يكون قديماً ، أو محدثاً ، والقولُ بقدمه باطلٌ ؛ لأنَّا نعلمُ بالضَّرورةِ أنَّه وُلدَ ، وكان طفلاً ، ثم صار شابًّا ، وكان يأكُل ويشْرَب ، ويعرضُ له ما يعْرِضُ لسائر البشر ، وإنْ كان مُحْدَثاً ، كان مخلوقاً ، ولا معنى للعبُوديَّة إلاَّ ذلك . فإن قيل : المعنيُّ بالإلهيَّة أنَّه حلَّت فيه صفةُ [ الإلهيَّة ، قلنا : ] هب أنَّه كان كذلك ، لكنَّ الحالَّ هو صفة الإلهِ ، والمسيح هو المحل ، والمحلُّ محدثٌ مخلوقٌ ، فالمسيحُ عبدٌ محدثٌ ، فكيف يمكنُ وصفه بالإلهيَّة ؟ . وخامسها : أنَّ الولد لا بُدَّ وأن يكون من جنس الوالد ، فإن كان لله تعالى ولدٌ ، فلا بُدَّ أن يكُون من جنسه ، فإذاً قد اشتركا في بعض الوجوه ، فإن لم يتميَّز أحدهما عن الآخر بأمر مَّا ، فكلُّ واحدٍ منهما هو الآخر ، وإن حصل الامتيازُ ، فما به الامتيازُ غيرُ ما به الاشتراكُ ؛ فيلزمُ وقوعُ التَّركيب في ذاتِ الله تعالى ، وكلُّ مركَّب مُمْكِنٌ ، [ فالواجب ] ممكنٌ ؛ هذا خلفٌ ، هذا على الاتِّحاد ، والحلول . فإن قيل : قالوا : معنى كونه إلهاً أنَّه سبحانهُ خصَّ نفسه أو بدنهُ بالقُدرة على خلق الأجسام ، والتصرُّف في هذا العالمِ ، فهذا أيضاً باطلٌ ؛ لأنَّ النصارى نقلُوا عنه الضَّعف والعَجْز ، وأنَّ اليهود قتلُوه ، فلو كان قادراً على خَلْق الأجسام ، لما قَدَرُوا على قَتْله ، بل كان هو يقْتُلُهم ويَخْلُق لنفسه عَسْكَراً يذُبُّون عنه . فإن قيل : قالُوا : معنى كونه إلهاً أنَّه اتَّخذه ابناً لنفسه ؛ على سبيل التشريف ، وهو قد قال به قومٌ من النصارى ، يقال لهم الآريوسية ، وليس فيه كثير خطأ إلاَّ في اللفظ . قوله تعالى : { ءَاتَٰنِيَ ٱلْكِتَٰبَ } قيل : معناه : سيُؤتيني الكتاب ، ويجعلني نبيًّا . روى عكرمةُ عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - " أنَّ هذا إخبارٌ عمَّا كتبَ له في اللَّوْح المحفُوظ ؛ كما قيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : متى كُنْتَ نبيًّا ؟ قال : " كُنْتُ نبيًّا ، وآدمُ بَيْنَ الرُّوحِ والجسَدِ " وعن الحسن - رضي الله عنه - أنَّه ألهمَ التوراة ، وهو في بطن أمِّه . وقال الأكثرون : إنه أوتيَ الإنجيل ، وهو صغيرٌ طفلٌ ، وكان يعقلُ عقل الرِّجال . فمن قال : الكتابُ : هو التَّوراة ، قال : لأنَّ الألف واللاَّم للعهد ، ولا معهود حينئذٍ إلاَّ التوراة ، ومن قال : الإنجيلُ ، قال " الألفُ واللاَّم للاستغراق ، وظاهرُ كلامِ عيسى - صلوات الله عليه - أنَّ الله تعالى آتاه الكتاب ، وجعله نبيًّا ، وأمره بالصَّلاة والزَّكاة ، وأن يدعو إلى الله تعالى ، وإلى دينه ، وشريعته من قبل أن يكلِّمهم ، وأنه تكلَّم مع أمِّه وأخبرها بحاله ، وأخبرها بأنَّه يكلِّمهم بما يدلُّ على براءتها ، فلهذا أشارتْ إليه بالكلامِ . قال بعضهم : أخبر أنَّه نبيٌّ ، ولكَّنه ما كان رسُولاً ؛ لأنَّه في ذلك الوقت ما جاء بالشَّريعة ، ومعنى كونه نبيًّا : رفيعُ القدر عالي الدرجة ؛ وهذا ضعيف لأنَّ النبيَّ في عرف الشَّرع هو الذي خصَّه الله بالنبوَّة وبالرِّسالة ، خصوصاً إذا قرن إليه ذكر الشَّرع ، وهو قوله : { وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلَٰوةِ وَٱلزَّكَٰوةِ } ثم قال : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ } . وقال مجاهدٌ - رضي الله عنه - معلِّماً للخَيْر . وقال عطاءٌ : أدعُو إلى الله ، وإلى توحيده وعبادته . وقيل : مُباركاً على من اتَّبعني . روى قتادةُ أنَّ امرأةً رأتهُ ، وهو يحيى الموتى ، ويُبْرِىءُ الأكمه والأبرص ، فقالت : طُوبَى لبطن حملك ، وثدي أرضعت به ، فقال عيسى مجيباً لها : طُوبَى لمن تلا كتابَ اللهِ واتبعَ ما فِيهِ ، وعملَ بِهِ ، ولمْ يَكُنْ جبَّاراً شَقِيًّا . قوله تعالى : { أَيْنَ مَا كُنتُ } يدلُّ على أن حاله لم يتغيَّر كما قيل : إنَّه عاد إلى حالِ الصِّغَر ، وزوالِ التَّكْلِيف . قوله : { أَيْنَ مَا كُنتُ } : هذه شرطيةٌ ، وجوابها : إما محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم ، أي : أينما كُنْتُ ، جعلني مباركاً ، وإمَّا متقدِّمٌ عند من يرى ذلك ، ولا جائزٌ أن تكون استفهاميةً ؛ لأنَّه يلزمُ أن يعمل فيها ما قبلها ، وأسماءُ الاستفهامِ لها صدرُ الكلامِ ، فيتعيَّنُ أن تكون شرطيةً ؛ لأنها منحصرةٌ في هذين المعنيين . ثم قال : { وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلَٰوةِ وَٱلزَّكَٰوةِ } أي : أمرني بهما . فإن قيل : لم يكُن لعيسى مالٌ ، فكيف يؤمرُ بالزَّكاة ؟ قيل : معناه : بالزَّكاة ، لو كان له مالٌ . فإن قيل : كيف يُؤمَرُ بالصَّلاة والزَّكاة ، مع أنَّه كان طفلاً صغيراً ، والقلمُ مرفوعٌ عن الصَّغير ؛ لقوله - صلوات الله عليه وسلامه - : " رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثلاثٍ " الحديث . فالجوابُ من وجهين : الأول : أنَّ قوله : { وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلَٰوةِ وَٱلزَّكَٰوةِ } لا يدلُّ على أنَّه تعالى أوصاهُ بأدائهما في الحالِ ، بل بعد البُلُوغ ، فيكونُ المعنى على أنَّه تعالى أوصانِي بأدائهما في وَقْت وجوبهما عليَّ ، وهو وقتُ البُلُوغ . الثاني : لعلَّ الله تعالى ، لمَّا انفصل عيسى عن أمِّه - صلوات الله عليه - صيَّرهُ بالغاً ، عاقلاً ، تامَّ الخلقة ؛ ويدلُّ عليه قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ } [ آل عمران : 59 ] فكما أنَّه تعالى خلق آدم - صلواتُ الله عليه وسلامه - تامًّا كاملاً دفعةً ، فكذا القولُ في عيسى صلوات الله عليه وهذا أقربُ إلى ظاهر اللَّفْظ ، لقوله : { مَا دُمْتُ حَيًّا } فإنَّه يفيدُ أنَّ هذا التَّكليف متوجِّه عليه في جميع زمانِ حياته ، ولكن لقائل أن يقول : لو كان الأمرُ كذلك ، لكان القومُ حين رأوهُ ، فقد رأوه شخصاً كامل الأعضاء ، تامَّ الخِلْقَة ، وصدورُ الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكونُ عجباً ؛ فكان ينبغي ألاَّ يَعْجَبُوا . والجوابُ أن يقال : إنَّه تعالى جعله مع صِغَرِ جثَّته قويَّ التركيب ، كامِلَ العَقْل ، بحيثُ كان يمكنه أداءُ الصَّلاة والزَّكاة ، والآيةُ دالَّة على أنَّ تكليفه لم يتغيَّر حين كان في الأرض ، وحين رُفع إلى السَّماء ، وحين ينزل مرَّة أخرى ؛ لقوله { مَا دُمْتُ حَيًّا } . قوله تعالى : { مَا دُمْتُ حَيًّا } " ما " مصدريةٌ ظرفيةٌ ، وتقدمُ " ما " على " دام " شرطٌ في إعمالها ، والتقدير : مُدَّة دوامِي حيًّا ، ونقل ابن عطيَّة عن عاصم ، وجماعةٍ : أنهم قرءُوا " دُمْتُ " بضم الدَّالِ ، وعن ابن كثيرٍ ، وأبي عمرو ، وأهْلِ المدينة : " دِمْتُ " بكسرها ، وهذا لم نره لغيره ، وليس هو موجوداً في كتب القراءات المتواترة والشاذَّة الموجودة الآن ، فيجوزُ أن يكون اطَّلَعَ عليه في مصنف غريبٍ ، ولا شكَّ أنَّ في " دَامَ " لغتين ، يقالُ : دمتَ تدُومُ ، وهي اللغةُ الغاليةُ ، ودمتَ تدامُ ؛ كخِفْتَ تخَافُ ، وتقدم نظيرُ هذا في مَاتَ يَمُوتُ ومَاتَ يَمَاتُ . قوله تعالى : { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي } : العامَّةُ على فتح الباء ، وفيه تأويلان : أحدهما : أنه منصوبٌ نسقاً على " مباركاً " أي : وجعلني برًّا . والثاني : أنَّه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ ، واختير هذا على الأوَّلِ ؛ لأنَّ فيه فصلاً كثيراً بجملةِ الوصيَّةِ ومتعلَّقها . قال الزمخشريُّ : جعل ذاتهُ برًّا ؛ لفَرْط برِّه ، ونصبه بفعل في معنى " أوْصَانِي " وهو " كَلَّفَنِي " لأنَّ أوْصَانِي بالصَّلاة ، وكلَّفَنِي بها واحدٌ . وقُرىء " برًّا " بكسر الباء : إمَّا على حذفِ مضافٍ ، وإمَّا على المبالغة في جعله نفس المصدر ، وقد تقدَّم في البقرة : أنه يجوز أن يكون وصفاً على فعلٍ ، وحكى الزَّهْراوِيُّ ، وأبو البقاء أنه قُرِىء بكسر الباء ، والراء ، وتوجيهه : أنه نسقٌ على " الصَّلاة " أي : وأوصاني بالصَّلاة وبالزَّكَاةِ ، وبالبرِّ ، و " بِوالِدَتِي " متعلقٌ بالبرّ ، أو البرّ . فصل فيما يشير إليه قوله " وبرًّا بوالدتي " قوله : { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي } إشارةٌ إلى تنزيه أمِّه عن الزِّنا ؛ إذ لو كانت زانيةً ، لما كان الرسُول المعصومُ مأمُوراً بتعظيمها وبرِّها ؛ لأنه تأكَّد حقُّها عليه ؛ لتمحض إذ حقها لا والد له سواها . قوله تعالى : { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى ؛ لأنَّه لما أخبر أنه تعالى ، جعله برًّا ، وما جعله جبَّاراً ، إنما يحسنُ لو أنَّ الله تعالى جعل غيره جبَّاراً ، وجعله [ غير ] برًّ بأمِّه ؛ فإن الله تعالى ، لو فعل ذلك بكلِّ أحدٍ ، لم يكُن لعيسى مزيَّةً تخصيصٍ بذلك ، ومعلومٌ أنه - صلواتُ الله عليه وسلامهُ - إنما ذكر ذلك في معرضِ التخصيصِ ، ومعنى قوله : { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً } أي ما جعلني جبَّاراً متكبرِّاً ، بل أنا خاضعٌ لأمِّي ، متواضعٌ لها ، ولو كنتُ جبَّاراً ، كنتُ عاصياً شقيًّا . قال بعضُ العلماء : لا تجد العاق إلا جباراً شقياً ، وتلا : { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } ولا تجد سيّىء الملكة إلا مختالاً فخُوراً ، وقرأ : { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } [ النساء : 36 ] . قوله تعالى : { وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ } : الألف واللام في " السَّلام " للعهدِ ؛ لأنه قد تقدم لفظه في قوله - عزَّ وجلَّ - : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ } [ الآية : 15 ] فهو كقوله : { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ } [ المزمل : 15 ، 16 ] أي : ذلك السلامُ الموجَّه إلى يحيى مُوجَّهٌ إليَّ ، وقال الزمخشريُّ - رحمه الله - : " والصحيحُ أن يكون هذا التعريفُ تعريضاً باللعنةِ على متَّهِمِي مريم - عليها السلام - وأعدائها من اليهُود ، وتحقيقه : أنَّ اللاَّم لاستغراق الجنس ، فإذا قال : وجنسُ السَّلام عليَّ خاصَّة ، فقد عرَّض بأنَّ ضدَّه عليكم ، ونظيره قول موسى - صلوات الله عليه وسلامه - : { وَٱلسَّلاَمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَىٰ } [ طه : 47 ] . يعني : أنَّ العذاب على من كذَّب ، وتولَّى ، وكان المقام مقام اللَّجاج والعِنَاد ، فيليق به هذا التعريضُ " . فصل في الفرق بين السلام على يحيى ، والسلام على عيسى رُوِيَ أن عيسى - صلواتُ الله عليه وسلامه - قال ليحيى : أنت خيرٌ منِّي ؛ سلَّم الله عليك ، وسلَّمتُ على نفسي . وأجاب الحسنُ ، فقال : إن تسليمهُ على نفسه تسليمُ الله ؛ لأنَّه إنَّما فعله بإذن الله . قال القاضي : السَّلام عبارةٌ عمَّا يحصُل به الأمانُ ، ومنه السَّلامةُ في النِّعم ، وزوال الآفاتِ ، فكأنَّه سأل ربَّه ما أخبر الله تعالى أنه فعل بيحيى ، وأعظمُ احتياجِ الإنسانِ إلى السَّلامة في هذه الأحْوالِ الثلاثة ، وهي يومُ الولادةِ ، أي : السَّلامة عند الولادة من طعْن الشَّيطان ، ويومُ الموت ، أي : عند الموت من الشَِّرك ، ويومُ البعث من الأهوال . قال المفسِّرون : لمَّا كلَّمهم عيسى بهذا ، علمُوا براءةَ مريم ، ثم سكت عيسى - صلوات الله عليه وسلامه - ، فلَم يتكلَّم بعد ذلك حتّى بلغ المدَّة التي يتكلَّم فيها الصِّبْيَان . قوله : " يومَ ولدتُ " منصوبٌ بما تضمنَّه " عَليَّ " من الاستقرار ، ولا يجوزُ نصبه بـ " السَّلام " للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولهِ ، وقرأ زيدُ بنُ عليٍّ " وَلَدَتْ " جعله فعلاً ماضياً مسنداً لضمير مريم ، والتاءُ للتأنيث ، و " حَيًّا " حالٌ مؤكِّدةٌ . فصل في الرد على اليهود والنصارى اعلم أنَّ اليهُود والنَّصارى يُنْكِرُونَ أنَّ عيسى - صلوات الله عليه - تكلَّم في زمانِ الطفوليَّة ؛ واحتجُّوا بأنَّ هذا من الوقائعِ العجيبة ، التي تتوافرُ الدَّواعِي على نقلها ، فلو وجدت ، لنُقلتْ بالتَّواتر ، ولو كان كذلك ، لعرفهُ النَّصارى ، لا سيَّما وهم أشدُّ النَّاسِ بحثاً عن أحواله ، وأشدُّ النَّاسِ غُلُوًّا فيه ؛ حتَّى ادعوا كونهُ إلهاً ، ولا شكَّ أنَّ الكلام في الطفوليَّة من المناقب العظيمة ، فلمَّا لم يعرفه النصارى مع شدَّة الحبِّ ، وكمالِ البَحْثِ عنه ، علمنا أنَّه لم يُوجَدْ ؛ ولأنَّ اليهود أظهرُوا عداوتهُ حين ادَّعى النُّبُوَّة والرسالة ، فلو أنَّه - صلوات الله عليه - تكلَّم في المَهْدِ ، لكانت عداوتهم معه أشدَّ ، ولكان قصدهم قتله أعظم ، فحيثُ لم يحصُل شيءٌ من ذلك ، علمنا أنَّه ما تكلَّم . وأمَّا المسلمُون ، فاحتجُّوا بالعَقْل على أنه تكلَّم ، فقالوا : لولا كلامه الذي دلَّهم على براءة أمِّه عن الزِّنا ، لما تركُوا إقامة الحدِّ عليها ، ففي تَرْكِهِمْ لذلك دلالةٌ على أنَّه - صلوات الله عليه - تكلَّم في المَهْدِ . وأجابُوا عن الشُّبْهة الأولى بأنَّه ربَّما كان الحاضرُونَ عند كلامه قليلين ؛ فلذلك لم يشتهر . وعن الثاني : لعلَّ اليهُود ما حَضَرُوا هناك ، وما سَمِعُوا كلامهُ ، وإنَّما سَمِعَ كلامهُ أقاربهُ ؛ لإظهارِ براءةِ أمِّه ؛ فلذلك لم يَشْتغلوا بقَتْله .