Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 34-36)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { ذَٰلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ ٱلْحَقِّ } : يجوز أن يكون " عِيسَى " خبراً لـ " ذلك " ويجوز أن يكون بدلاً ، أو عطف بيان ، و " قَوْلُ الحقِّ " خبره ، ويجوز أن يكون " قَوْلُ الحقِّ " خبر مبتدأ مضمرْ ، أي : هو قولُ ، و " ابْنُ مَرْيَمَ " يجوز أن يكُونَ نعتاً ، أو بدلاً ، أو بياناً ، أو خبراً ثابتاً . وقرأ عاصمٌ ، وحمزةُ ، وابنُ عامر " قَوْلَ الحقِّ " بالنَّصب ، والباقون بالرفع ، فالرفع على ما تقدَّم ، قال الزمخشري - رحمه الله - : " وارتفاعه على أنَّه خبرٌ ، بعد خبرٍ ، أو بدلٌ " . قال أبو حيَّان : " وهذا الذي ذكرهُ لا يكُونُ إلاَّ على المجازِ في قولِ : وهو أن يراد به كلمةُ اللهِ ، لأنَّ اللفظ لا يكُونُ الذَّاتَ " . والنَّصْبُ : يجوزُ فيه أن يكون مصدراً مؤكِّداً لمضمُون الجملة ؛ كقولك : " هُوَ عَبْدُ الله الحقَّ ، لا الباطِلَ " أي : أقولُ قول الحقِّ ، فالحقُّ الصِّدقُ ، وهو من إضافةِ الموصوف إلى صفته ، أي : القول الحقَّ ؛ كقوله : { وَعْدَ ٱلصِّدْقِ } [ الأحقاف : 16 ] أي : الوعد الصِّدق ، ويجوز أن يكون منصوباً على المَدْح ، إن أريد بالحقِّ الباري تعالى ، و " الَّذِي " نعتٌ للقول ، إن أريد به عيسى ، وسُمِّي قولاً كما سُمِّي كلمةً ، لأنه عنها نشأ . وذلك أنَّ الحق هو اسمُ الله تعالى ، فلا فرق بين أن نقول : عيسى هو كلمة الله ، وبين أن نقول : عيسى قولُ الحقِّ . وقيل : هو منصوبٌ بإضمار " أعْنِي " وقيل : هو منصوبٌ على الحالِ من " عيسَى " ويؤيِّدُ هذا ما نُقِلَ عن الكسائيَّ في توجيهِ الرفعِ : أنه صفةٌ لعيسى . وقرأ الأعمشُ " قالُ " برفع اللاَّم ، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً ، وقرأ الحسن " قُولُ " بضم القاف ، ورفع اللام وكذلك في الأنعام { قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ } [ الأنعام : 73 ] ، وهي مصادر لـِ " قَالَ " يقالُ قَالَ يَقُولُ قَوْلاً وقُولاً ؛ كالرَّهْبِ ، والرَّهَب ، والرُّهْب ، وقال أبو البقاء : " والقَالُ : اسمٌ للمصدر ؛ مثلُ : القِيلِ ، وحُكِيَ " قُولُ الحقِّ " بضمّ القاف ؛ مثل " الرُّوحِ " وهي لغةٌ فيه " . قال شهاب الدين : الظاهرُ أنَّ هذه مصادرُ كلُّها ، ليس بعضها اسماً للمصدر ، كما تقدَّم تقريره في الرَّهْبِ والرَّهَبِ والرُّهْبِ . وقرأ طلحةُ والأعمشُ " قالَ الحقُّ " جعل " قَالَ " فعلاً ماضياً ، و " الحَقُّ " فاعلٌ ، والمرادُ به الباري تعالى ، أي : قَالَ اللهُ الحقُّ : إنَّ عيسى هو كلمةُ الله ، ويكونُ قوله " الَّذِي فيهِ يَمْتَرُونَ " خبراً لمبتدأ محذوف . وقرأ عليُّ بنُ أبي طالب - كرم الله وجهه - والسلميُّ ، وداودُ بنُ أبي هندٍ ، ونافعٌ ، والكسائيُّ في رواية عنهما [ " تَمْتَرُونَ " بتاء ] الخطاب ، والباقون بياءِ الغيبة ، وتَمْتَرُون : تَفْتَعِلُون : إمَّا من المريةِ ، وهي الشَّكُّ ، وإمَّا من المراء ، وهو الجدالُ . وتقدَّم الكلامُ على نصب " فَيَكُونَ " . فصل فيما تشير إليه " ذلك " " ذَلِكَ " إشارةٌ إلى ما تقدَّم . قال الزَّجَّّاج - رحمه الله - ، أي : ذلك الذي قال : { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } [ مريم : 30 ] عيسى ابن مريم إشارةٌ إلى أنَّه ولدُ هذه المرأة ، لا أنَّه ابنُ الله [ كما زعمت النصارى ] . وقوله : { ٱلَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ } ، أي : يختلفوُن ، وأما امتراؤهُم في عيسى ، فقائلٌ يقُولُ : هو ابنُ الله ، وقائلٌ يقولُ : هو الله ، وقائل يقُولُ : هو ساحرٌ كاذبٌ ، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في آل عمران . ورُوِيَ أن عيسى - صلوات الله عليه - لمَّا رفع ، حضر أربعةٌ من [ أكابر ] علمائهم ، فقيل للأوَّل : ما تُقولُ في عيسى ؟ قال : هو الله هبط إلى الأرضِ ، خلق ، وأحيى ، ثم صعد إلى السَّماء ، فتبعهُ على ذلك خلقٌ ، وهم اليَعْقُوبيَّةُ ، وقيل للثاني : ما تقوُلُ ؟ قال : هو ابنُ الله ، فتابعهُ على ذلك ناسٌ ، وهم النسطورية ، [ وقيل للثالث : ما تقول ؟ قال : هو إله ، وأمه إله ، والله إله ، فتابعه على ذلك أناس ، وهم الإسرائيلية ] ، وقيل للرابع : ما تقولُ ؟ فقال : عبدُ الله ورسولهُ ، وهو المؤمنُ المُسْلم ، وقال : أما تعلمُونَ أنَّ عيسى كان يطعمُ ، ونيام ، وأنَّ الله تعالى لا يجُوزُ ذلك عليه ، فخصمهم . قوله تعالى : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } نفى عن نفسه الولد ، أي : ما كان من نعته اتخاذ الولد . والمعنى : أن ثبوت الولد له محالٌ ، فقوله : { مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } كقولنا : ما كان للهِ أن يكون له ثانٍ وشريكٌ ، أي : لا يصحُّ ذلك ، ولا ينبغي ، بل يستحيلُ ؛ فلا يكونُ نفياً على الحقيقةِ ، وإن كان بصُورة النَّفِي . وقيل : اللاَّم منقولةٌ ، أي : ما كان ليتَّخذ من ولدٍ ، والمرادُ : ما كان الله أن يقُول لأحدٍ ، إنَّه ولدي ؛ لأنَّ مثل [ هذا ] الخبر كذبٌ ، والكذبُ لا يليقُ بحكمةِ الله تعالى وكماله ، فقوله : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } كقولنا : ما كان لله أن يظلم ، أي : لا يليقُ بحكمته ، وكمالِ إلهيَّتِهِ . قوله تعالى : { إِذَا قَضَىٰ أَمْراً } إذا أراد أن يحدث أمْراً ، { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ، وهذا كالحُجَّة على تَنْزيهه عن الولدِ ، وبيانهُ : أن الَّذي يجعلُ للهِ ولداً ، إما أن يكون الولدُ قديماً أزليًّا ، فهو محالٌ ؛ لأنَّه [ لو كان واجباً لذاته ، لكان واجبُ الوجودِ أكثر من واحدٍ ، ] ولو كان [ مُمْكِناً ] لذاته ، لافتقر في وجوده إلى الواجب لذاته ؛ لأنَّ الواجب لذاته غنيٌّ لذاته ، فلو كان مفتقراً في وجودهِ إلى الواجبِ لذاتِه ، كان ممكناً لذاته ، والممكنُ لذاته محتاجٌ لذاته ، فيكُون عبداً له ؛ لأنَّهُ لا معنى للعبُوديَّة إلاَّ ذلك . وإن كان الولدُ مُحْدَثاً ، فيكون وجوده بعد عدمه بخلق ذلك القديم ، وإيجاده ، وهو المرادُ من قوله تعالى : { إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } . فيكونُ عَبْداً ، لا ولداً ؛ فثبت أنه يستحيلُ أن يكون لله ولدٌ . فصل في قدم كلام الله تعالى دلَّت هذه الآية على قدم كلام الله تعالى ؛ لأنَّه إذا أراد إحداث شيءٍ ، قال له : { كُن فَيَكُونُ } فلو كان بقوله : " كُنْ " مُحْدَثاً ، لافتقر حدوثُه إلى قولٍ آخر ، ولزمَ التَّسَلْسُل ؛ وهو محال ؛ فثبت أنَّ قول الله تعالى ، قديمٌ ، لا مُحْدَث . واحتج المعتزلةُ بالآية على حُدُوثِ كلامِ الله تعالى من وجوه : أحدها : أنه تعالى أدخل كلمة " إذَا " وهي دالَّة على الاستقبال ؛ فوجب ألاَّ يحصُلَ ذلك القولُ إلاَّ في الاستقبال . ثانيها : أنَّ " الفاء " للتعقيب ، و " الفاءُ " في قوله : " فإنَّمَا يَقُولُ " يدلُّ على تأخير ذلك القول عن ذلك القضاء والمتأخِّر عن غيره مُحدثٌ . وثالثها : " الفاءُ " في قوله " فَيَكُونُ " يدلُّ على حصول ذلك الشيء عقيب ذلك القول من غير فصلٍ ، فيكون قولُ اللهِ تعالى متقدِّماً على حُدُوث الحادث تقديماً بلا فَصْلٍ ، والمتقدم على المحدثِ تقديماً بلا فصل يكونُ مُحْدَثاً ، فقولُ الله محدثٌ . قال ابنُ الخطيبِ - رحمه الله - واستدلالُ الفريقين ضعيفٌ . أمَّا الأوَّل ؛ فلأنَّه يقتضي أن يكون قوله " كُنْ " قديماً ، وذلك باطلٌ بالاتِّفاق . وأمَّا الاستدلالُ المعتزلة ؛ فلأنَّه يقتضي أن يكون قولُ الله تعالى الذي هو مركَّبٌ من الحروف ، والأصوات مُحْدَثاً ؛ وذلك لا نزاع فيه ، [ لأن ] المدَّعى قدمُه شيءٌ آخرُ . فصل في أقوال الناس في قوله " كُنْ " من النَّاس من أجْرَى الآيةَ على ظاهرها ، وزعم أنَّه تعالى ، إذا أحدث شيئاً ، قال له : كُنْ ، وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّه إما أن يقُول له : كُنْ قبل حدوثه ، أو حلل حُدُوثه ، فإن كان الأوَّل ، كان خطاباً مع المعدُوم ، وهو عبثٌ ، وإن كان حال حدوثه ، فقد وُجِدَ بالقُدْرَة ، والإرادة ، لا بقوله " كُنْ " ومن النَّاسِ من زعم أنَّ المراد من قوله : " كُنْ " هو التخليقُ والتكوينُ ؛ لأنَّ القُدْرَة على الشَّيء غير ، وتكوين الشيء غيرٌ فإنَّ الله تعالى قادرٌ في الأزل ، وغير مُكَوِّن في الأزل ؛ ولأنَّه الآن قادرٌ على عالم سوى هذا العالمِ ، وغير مكوِّن له ، فالقادريَّة غير المكوِّنيَّة ، والتكوينُ ليس هو نفس المكوَّن ؛ لأنَّ المكوَّن إنما حدث ؛ لأنَّ الله تعالى كونه ، وأوجده ، فلو كان التَّكوين نفس المكوَّن ؛ لكان قولنا : " المُكَوَّن إنَّما وجد بتكوين الله " بمنزلةِ قولنا : " المُكَوَّنُ إنَّما وجد بنَفْسِه " وذلك محالٌ ؛ فثبت أنَّ التكوين غير المُكَوَّن ، فقوله " كُنْ " إشارةٌ إلى الصفة [ المسمَّاة ] بالتكوين . وقال آخرون : قوله سبحانه وتعالى : " كُنْ " عبارةٌ عن نفاذ قُدرة الله تعالى ومشيئته في المُمْكِنَات ؛ فإنَّ وقوعها بتلك القُدْرة والإرادة من غير امتناعٍ واندفاعٍ يجري مُجْرَى العَبْد المُطِيع المُنْقَاد لأوامر الله تعالى ، فعبر الله تعالى عن ذلك المعنى بهذه العبارةِ على سبيلِ الاستعارة . قوله : { وَإِنَّ ٱللَّهَ } : قرأ ابن عامرٍ ، والكوفيُّون " وإنَّ " بكسر " الهمزة " على الاستئناف ، ويؤيِّدها قراءةُ أبيِّ " إن الله " بالكسر ، دون واو ، وقرأ الباقون بفتحها ، وفيها أوجهٌ : أحدها : أنها على حذف حرف الجرِّ متعلِّقاً بما بعده ، والتقدير : ولأنَّ اللهُ ربِّي وربُّكم فاعبدُوهُ ؛ كقوله تعالى : { وَأَنَّ ٱلْمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } [ الجن : 18 ] والمعنى : لوحدانيَّته أطيعوهُ ، وإليه ذهب الزمخشريُّ تابعاً للخيل وسيبويه - رحمة الله عليهم - . الثاني : أنها عطفٌ على " الصَّلاةِ " والتقديرُ : وأوصاني بالصلاةِ ، وبأنَّ الله ، وإليه ذهب الفراء ، ولم يذكر مكِّي غيره ؛ ويؤيِّده ما في مصحف أبيٍّ " وبأنَّ الله ربِّي " بإظهار الباءِ الجارَّة ، وقد استُبْعِد هذا القولُ ؛ لكثرةِ الفواصلِ بين المتعاطفين ، وأمَّا ظهورُ الباءِ في مصحفِ أبيٍّ ؛ فلا يُرجِّحُ هذا ؛ لأنها باءُ السببيةِ ، والمعنى : بسببِ أنَّ الله ربِّي وربُّكم فاعبدُوهُ ، فهي كاللاَّم . الثالث : أن تكون " أنَّ " وما بعدها نسقاً على " أمْراً " المنصُوبِ بـ " قَضَى " والتقديرُ : وإذا قضى أمراً ، وقضى أنَّ الله ربِّي وربُّكم ، ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاءِ ، واستبعد الناسُ صحَّة هذا النقلِ عن أبي عمرو ؛ لأنَّه من الجلالةِ في العلم والمعرفة بمنزلٍ يمنعهُ من هذا القولِ ؛ وذلك لأنَّه إذا عطف على " أمْراً " لزم أن يكونَ داخلاً في حيِّز الشرطِ بـ " إذَا " وكونُه تبارك وتعالى ربنا لا يتقيَّد بشرطٍ ألبتَّة ، بل هو ربُّنا على الإطلاق ، ونسبوا هذا الوهم لأبي عبيدة ؛ لأنه كان ضعيفاً في النَّحو ، وعدُّوا له غلطاتٍ ، ولعلَّ ذلك منها . الرابع : أن يكون في محلِّ رفع خبر ابتداءٍ مضمرٍ ، تقديره : والأمرُ أنَّ الله ربِّي وربُّكم ، ذكر ذلك عن الكسائيِّ ، ولا حاجة إلى هذا الإضمارِ . الخامس : أن يكون في محلِّ نصبٍ نسقاً على " الكتاب " في قوله " قال إني عبدُ الله آتاني الكتابَ " على أن يكونَ المخاطبُ بذلك مُعاصِري عيسى - عليه صلوات الله - والقائلُ لهم ذلك عيسى ، وعن وهبٍ ، عهد إليهم عيسى : أنَّ الله ربي وربُّكم ، قال هذا القائل : ومن كسر الهمزة يكون قد عطف " إنَّ الله " على قوله " إنِّي عبد الله " فهو داخلٌ في حيِّز القولِ ، وتكون الجملُ من قوله " ذلك عيسى ابْنُ مريمَ " إلى آخرها جمل اعتراضٍ . وهذا من البعد بمكان كأنَّه قال : إنَّي عبد الله ، والله ربِّي وربُّكم ، فاعبدوه ، وهذا قول أبي مسلمٍ ، الأصفهانيِّ ، وهو بعيدٌ . فصل في دلالة الآية قوله : { وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ } يدلُّ على أنَّ مدبِّر العالمِ ، ومصلح أمورهم هو الله سبحانه وتعالى [ على ] خلافِ قول المُنَجِّمين : أنَّ المدبِّر للنَّاسِ ، ومُصلحَ أمورهم في السَّعادة والشَّقاوةِ هي الكواكبُ ، ويدلُّ أيضاً على أنَّ الإله واحدٌ ؛ لأنَّ لفظ " الله " اسمٌ علمٌ له سبحانه ، لا إله إلا هو ، فلمَّا قال : { وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ } ، أي : لا ربَّ للمخلوقاتِ سوى الله ؛ وذلك يدلُّ على التَّوحيد . وقوله " فاعْبدُوهُ " قد ثبت في أصُول الفقهِ أنَّ ترتيب الحكم على الوصف المناسب مُشْعِرٌ بالعليَّة ، فهاهنا وقع الأمر بالعبادة مُرتَّباً على ذكر وصف الربوبيَّة ، فدلَّ على أنَّه إنَّما يلزمنا عبادته سبحانه ؛ لكونه ربًّا لنا ؛ وذلك يدلُّ على أنه تعالى إنَّما تجبُ عبادتهُ لكونهُ منعماً على الخلائق بأنواع النِّعم ؛ ولذلك فإنَّ إبراهيم - صلوات الله عليه وسلامه - لمَّا منع أباه من عبادة الأوثان ، قال : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] أي : إنَّها لما لم تكن منعمة على العبادِ ، لم تجز عبادتها ، وبيّن هاهنا أنَّه لما ثبت أن الله تعالى لمَّا كلن ربًّا ومُربِّياً ، وجبتْ عبادتهُ ، فقد ثبت طرداً وعكساً تعلُّق العبادة بكون المعبُود مُنْعِماً ، ثم قال : { هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [ يعني القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة صراط مستقيم ، وسمي هذا القول صراطاً مستقيماً ] تشبيهاً بالطَّريق ؛ لأنَّه المؤدِّي إلى الجنة .