Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 7-15)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ } . اختلفُوا في المنادي ، فالأكثرون على أنَّه هو الله تعالى ؛ لأنَّ زكريَّا إنَّما كان يخاطبُ الله تعالى ، ويسأله بقوله : { رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي } [ مريم : 4 ] ، وبقوله : { وَلَمْ أَكُن بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا } [ مريم : 4 ] وبقوله : " فهب لي " ، وبقوله بعده : { رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } ، فوجب أن يكون هذا النداءُ من الله تعالى ، وإلاّ لفسد [ المعنى و ] النَّظْم ، وقيل : هذا النداءُ من الملكِ ؛ لقوله : { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ } [ آل عمران : 39 ] . وأيضاً : فإنه لمَّا قال : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيًّا قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 8 ، 9 ] . وهذا لا يجوزُ أن يكونُ كلام الله ؛ فوجب أن يكون كلام الملكِ . ويمكنُ أن يجاب بأنه يحتملُ أنَّه يحصل النداءان : نداءُ الله تعالى ، ونداءُ الملائكة . ويمكنُ أن يكون قوله : { كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ } من كلام الله تعالى ، كما سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى - . فصل [ في ] الكلام اختصار ، تقديره : استجاب الله دعاءهُ ، فقال : { يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ } : بولدٍ ، ويقال : زكريَّاء " بالمد والقصر " ، ويقال : زكرَى أيضاً ، نقله ابن كثيرٍ . فإن قيل : كان دعاؤهُ بإذنٍ ، فما معنى البشارة ؟ وإن كان بغير إذنٍ ؛ فلماذا أقدم عليه ؟ . فالجوابُ : يجوز أن يسأل بغير إذن ، ويحتمل أنَّه أذن له فيه ، ولم يعلمْ وقته ، فبُشِّر به . قوله : " يَحْيَى " : فيه قولان : أحدهما : أنه اسمٌ أعجميٌّ ، لا اشتقاق له ، وهذا هو الظاهرُ ، ومنعهُ من الصَّرف ؛ للعلميَّة والعجمةِ ، وقيل : بل هو منقولٌ من الفعلِ المضارعِ ، كما سمَّوا بـ " يَعْمُرَ " و " يعيشَ " و " يَمُوتَ " وهو يموت بنُ المُزرَّع . والجملة من قوله : " اسْمُهُ يَحْيى " في محلِّ جرِّ صفة لـ " غُلامٍ " وكذلك " لم نجعلْ " و " سَمِيًّا " كقوله : " رَضيًّا " إعراباً وتصريفاً ، لأنَّه من السُّمُوِّ ، وفيه دلالةٌ لقول البصريين : أن الاسم من السموِّ ، ولو كان من الوسم ، لقيل : وسيماً . فصل قال ابن عباسٍ ، والحسنُ ، وسعيدُ بنُ جبيرٍ ، وعكرمةُ ، وقتادةُ : إنَّه لم يسمَّ أحدٌ قبله بهذا الاسم . وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ ، وعطاء : لم نجعل له شبهاً ومثلاً ؛ لقوله تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [ مريم : 65 ] أي : مثلاً . والمعنى : أنه لم يكن له مثلٌ ؛ لأنَّهُ لم يعصِ ، ولم يهُمَّ بمعصية قط ؛ كأنَّه جواب لقوله { وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا } [ مريم : 6 ] فقيل له : إنَّا نُبشِّرُكَ بغلامٍ ، لم نجعلْ له شبيهاً في الدِّين ، ومنْ كان كذلك ، كان في غايةِ الرضا . وفي هذا نظرٌ ؛ لأنَّه يقتضي تفضيلُه على الأنبياءِ قبله ؛ كآدَمَ ، ونوحٍ ، وإبراهيم ، وموسى ، [ وعيسى ] ؛ وذلك باطلٌ . وقيل : لم يكن له مثلٌ في أمر النِّساء ؛ لأنَّه كان سيِّداً وحصوراً . وقال عليٌّ بنُ أبي طلحة ، عن ابن عبَّاس : لم تَلدِ العواقرُ مثلهُ ولداً . وقيل : لأنَّ كُلَّ الناس ، إنما يُسمُّونهم آباؤهم وأمهاتهم بعد دخولهم في الوجود ، وأما يحيى فإنَّ الله سمَّاه قبل دخوله في الوجود ، فكان ذلك من خواصِّه . وقيل : لأنَّه ولدُ شيخٍ ، وعجوزٍ عاقرٍ . فصل في سبب تسميته بيحيى واختلفُوا في سبب تسميته بيحيى ، فعن ابن عبَّاس : لأنَّ الله أحيا به عقر أمه ، ويرد على هذا قصَّة إبراهيم ، وزوجته ، قالت : { يَٰوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] فينبغي أن يكون اسمُ ولدهم يحيى . وعن قتادة : لأنَّ الله تعالى أحيا قلبهُ بالإيمانِ والطَّاعة ، والله تعالى سمَّى المطيعَ حيًّا ، والعاصِيَ ميِّتاً ؛ بقوله : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } [ الأنعام : 122 ] . وقال : { إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] . وقيل : لأنَّ الله تعالى أحياه بالطَّاعة ؛ حتى لم يعص ، ولم يهُمَّ بمعصيةٍ . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما مِنْ أحدٍ إلاَّ وقد عَصَى ، أو هَمَّ إلاَّ يحيى بنُ زكريَّا ، فإنَّه لَمْ يهُمَّ ولَمْ يَعْملهَا " وفي هذا نظر ؛ لأنه كان ينبغي أن تسمى الأنبياء كلهم والأولياء بـ " يحيى " . وقال ابن القاسم بن حبيب : لأنه استشهد ، والشهداء أحياء عند ربهم ، قال تعالى : { بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ } [ آل عمران : 169 ] وفي ذلك نظر ؛ لأنه كان يلزم منه أن يُسَمَّى الشهداءُ كلُّهم بيَحْيَى . وقال عمرو بنُ المقدسيِّ : أوحى الله تعالى ، إلى إبراهيم - عليه السلام - أنه قُلْ لسارَّة بأنِّي مخرجٌ منها عبداً ، لا يَهُمُّ بمعصيةٍ اسمه حيى ، فقال : هَبِي لهُ من اسمكِ حرفاً ، فوهبته حرفاً من اسمها ، فصار يَحْيَى ، وكان اسمُها يسارة ، فصار اسمها سارة . وقيل : لأنَّ يحيى أوَّلُ من آمن بعيسى ، فصار قلبه حبًّا بذلك الإيمانِ . وقيل : إنَّ أمَّ يحيى كانت حاملاً به ، فاستقبلتها مريم ، وقد حملت بعيسى ، فقالت لها أمُّ يحيى : يا مريمُ ، أحاملٌ أنت ؟ فقالت : لم تقولين ؟ فقالت : أرى ما في بطني يسجُد لما في بطنك . قوله : { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } أي : مِنْ أين يكُون لي غلامٌ ، والغلامُ : هو الإنسانُ الذكر في ابتداءِ شهوته في الجماع ، ويكونُ في التلميذ ، يقال : غلامُ ثعلبٍ . { وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً } . أي : وامرأتي عاقرٌ ، ولم يقل : عاقرةٌ ؛ لأنَّ من كان على " فاعل " من صفة المؤنَّث ممَّا لم يكن للمذكَّر ، فإنَّه لا تدخل فيه الهاءُ ، كامرأةٍ عاقرٍ وحائضٍ . قال الخليلُ : هذه صفاتُ المذكَّر ، وصف بها المؤنَّث ، كما وصف المذكَّر بالمؤنَّث ؛ حيث قال : رجُلٌ نكَحةٌ ، ورُبَعَةٌ ، وغلامٌ نُفَعَةٌ . قوله : " عِتيًّا " : فيه أربعةُ أوجه : أظهرها : أنه مفعولٌ به ، أي : بلغتُ عتيًّا من الكبرِ ، فعلى هذا " مِنَ الكِبرِ " يجوز أن يتعلَّق بـ " بَلغْتُ " ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ ؛ على أنه حالٌ من " عِتِيًّا " لأنه في الأصلِ صفةٌ له ؛ كما قدرته لك . الثاني : أن يكون مصدراً مؤكِّداً من معنى الفعل ؛ لأنَّ بلوغَ الكبر في معناه . الثالث : أنَّه مصدر واقعٌ موقع الحالِ من فاعل " بَلَغْتُ " أي : عاتياً ، ذا عتيٍّ . الرابع : أنه تمييزٌ ، وعلى هذه الأوجه الثلاثة " مِنْ " مزيدةٌ ، ذكره أبو البقاء ، والأولُ هو الوجهُ . والعُتُوُّ : بزنة فعولٍ ، وهو مصدر " عَتَا ، يَعْتُو " أي : يَبِسَ ، وصلُبَ ، قال الزمخشريُّ : " وهو اليُبْسُ والجساوةُ في المفاصلِ ، والعظام ؛ كالعُودِ القاحل ؛ يقال : عَتَا العُودُ وجسَا ، أو بلغتُ من مدارِج الكِبرِ ، ومراتبه ما يسمَّى عِتيًّا " يريد بقوله : " أوْ بلغْتُ " أنه يجوزُ أن يكون مِنْ " عَتَا يَعْتُو " أي : فسد . والأصلُ : " عُتُووٌ " بواوين ، فاستثقل واوان بعد ضمتين ، فكسرتِ التاءُ ؛ تخفيفاً ، فانقلبت الواو الأولى ياءً ؛ لسكونها وانكسار ما قبلها ، فاجتمع ياءٌ وواوٌ ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواوُ ياءً ، وأدغمت فيها الأولى ، وهذا الإعلالُ جارٍ في المفرد هكذا ، والجمع : نحو : " عِصِيّ " إلا أنَّ الكثير في المفرد التصحيح ؛ كقوله : { وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيراً } [ الفرقان : 21 ] وقد يعلُّ كهذه الآية ، والكثيرُ في الجمع الإعلالُ ، وقد يصحَّحُ ؛ نحو : " إنَّكُمْ لتنْظرُونَ في نحوٍّ كثيرةٍ " وقالوا : فُتِيٌّ وفُتُوٌّ . وقرأ الأخوان " عتيًّا " و { صِلِيّاً } [ مريم : 70 ] و " بِكِيًّا " [ مريم : 58 ] و { جِثِيًّا } [ مريم : 72 ] بكسر الفاء للإتباع ، والباقون بالضمِّ على الأصل . وقرأ عبدُ الله بن مسعودٍ بفتح الأوَّل من " عتيًّا " و " صَليًّا " جعلهما مصدرين على زنة " فعيلٍ " كالعجيجِ والرَّحيلِ . وقرأ عبد الله وأبي بن كعبٍ " عُسِيًّا " بضم العين ، وكسر السينِ المهملة ، وتقدم اشتقاقُ هذه اللفظة في الأعراف ، وتصريفها . والعُتِيُّ والعُسِيُّ : واحدٌ . يقال : عَتَا يَعْتُو عُتُوًّا ، وعتيًّا ، فهو عاتٍ ، وعَسَا يَعْسُو عُسُوًّا وعسيًّا فهو عَاسٍ ، والعَاسي : هو الذي غيرُه طولُ الزمانِ إلى حال البُؤس . وليل عاتٍ : طويل ، وقيل : شديدُ الظلمة . فصل في هذه الآية سؤالان : أحدهما : لم تعجب زكريَّا - عليه الصلاة والسلام - بقوله : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } مع أنَّه هو الذي طلب الغلام ؟ . والسؤال الثاني : قوله : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } هذا التعجُّب يدل على الشك في قدرة الله تعالى على ذلك ، وذلك كفر ، وهو غير جائز على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ؟ . فالجوابُ عن الأول : أمَّا على قول من قال : ما طلب الولد ، فالإشكال زائلٌ ، وأمَّا على قول من قال : إنَّه طلب الولد ، فالجوابُ أن المقصود من قوله : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } هو البحث على أنه تعالى يجعلهما شابين ، ثم يرزقهما ، أو يتركهما شيخين ، ويرزقهما الولد ، مع الشيخوخة ؟ ويدلُّ عليه قوله تعالى : { وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْوَارِثِينَ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } [ الأنبياء : 89 ، 90 ] . وما هذا الإصلاحُ إلاَّ أنَّه تعالى أعاد قُوَّة الولادة . وذكر السديُّ في الجواب وجهاً آخر ، فقال : إنَّه لمَّا سمع النداء بالبشارة جاءهُ الشيطان ، فقال : إنَّ هذا الصَّوت ليس من الله تعالى ، بل من الشيطانِ يسخر منك ، فلمَّا شكَّ زكريَّا قال : { ربّ ، أنى يكُون لي غلامٌ } ، وغرض السدي من هذا أن زكريا - عليه السلام - لو علم أن المبشَّر بذلك هو الله تعالى ، لما جاز له أن يقول ذلك ، فارتكب هذا . وقال بعضُ المتكلِّمين : هذا باطلٌ باتِّفاق ؛ إذ لو جوَّز الأنبياءُ في بعض ما يردُ عن الله تعالى أنَّه من الشيطان ، لجوَّزوا في سائره ، ولزالتِ الثقة عنهم في الوحي ، وعنَّا فيما يوردُونه إلينا . ويمكنُ أن يجاب عنه : بأنَّ هذا الاحتمال قائمٌ في أوَّل الأمر ، وإنَّما يزولُ بالمعجزةِ ، فلعلَّ المعجزةَ لم تكُن حاصلةً في هذه الصور ، فحصل الشَّك هنا فيها دون ما عداها . والجوابُ عن السؤال الثاني من وجوه : الأول : أن قوله : { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ } . ليس نصًّا في كون ذلك الغلام ولداً له ، بل يحتمل أن يكون زكريَّا - عليه الصلاة والسلام - راعى الأدب ، ولم يقل : هذا الغلام ، هل يكون ولداً لي ، أم لا ، بل ذكر أسباب حُصُول الولدِ في العادة ؛ حتى أنَّ تلك البشارة ، إنْ كانت بالولد ، فإن الله تعالى يزيلُ الإبهام ، ويجعل الكلام صريحاً ، فلمَّا ذكر ذلك ، صرَّح الله تعالى بكون الولد منه ، فكان الغرضُ من كلام زكريَّا هذا ، لا أنه كان شاكًّا في قُدرة الله تعالى عليه . الثاني : أنه ما ذكر ذلك للشك ، لكنْ على وجه التعظيم لقدرته ، وهذا كالرجل الذي يَرَى صاحبه قد وهب الكثير الخطير ، فيقول : أنَّى سمحت نفسك بإخراج مثل هذا من ملكك ! تعظيماً وتعجُّباً . الثالث : أن من شأن من بُشِّرَ بما يتمناه ؛ أن يتولد له فرط السرور به عند أوَّل ما يرد عليه استثباتُ ذلك الكلام ؛ إما لأن شدة فرحه به توجبُ ذهوله عن مقتضيات العقل والفكر ، وهذا كما أن امرأة إبراهيم عليه السلام بعد أن بشرت بإسحاق قالت { قَالَتْ يَٰوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } [ هود : 72 ] فأزيل تعجبها بقوله : { أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } [ هود : 73 ] ، وإما طلباً للالتذاذ بسماع ذلك الكلام مرة أخرى ، وإما مبالغةً في تأكيد التفسير . قوله : " كَذِلكَ " : في محلِّ هذه الكاف وجهان : أحدهما : أنه رفع على خبر ابتداءٍ مضمرٍ ، أي : الأمرُ كذلك ، ويكون الوقفُ على : " كَذلِكَ " ، ثم يبتدأ بجملةٍ أخرى . والثاني : أنها منصوبةُ المحلِّ ، فقدَّرهُ أبو البقاء بـ " أفْعَلُ " مثل ما طلبتَ ، وهو كنايةٌ عن مطلوبه ، فجعل ناصبه مقدَّراً ، وظاهره أنه مفعولٌ به . وقال الزمخشريُّ : " أو نصب بـ " قَالَ " و " ذَلِكَ " إشارةٌ إلى مُبْهم يفسره " هُو عليِّ هيِّنٌ " ، ونحوه : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } [ الحجر : 66 ] . وقرأ الحسن " وهُوَ عليَّ هيِّنٌ " ، ولا يخرَّج هذا إلا على الوجه الأول ، أي : الأمرُ كما قلت ، وهو على ذلك يُهونُ عليَّ . ووجهٌ آخرُ : وهو أن يُشارَ بـ " ذَلِكَ " إلى ما تقدَّم من وعد الله ، لا إلى قولِ زكريَّا ، و " قَالَ " محذوفٌ في كلتا القراءتين . يعني قراءة العامَّة وقراءة الحسنِ - أي : قال : هُوَ عليَّ هيِّنٌ ، قال : وهُوَ عليَّ هيِّنٌ ، وإن شئت لمْ تنوهِ ؛ لأنَّ الله هو المخاطب ، والمعنى أنه قال ذلك ، ووعدهُ وقوله الحقُّ " . وفي هذا الكلام قلقٌ ؛ وحاصله يرجع إلى أنَّ " قال " الثانية هي الناصبةُ للكاف . وقوله : " وقَالَ محذوفٌ " يعني تفريعاً على أنَّ الكلام قد تمَّ عند " قال ربُّك " ويبتدأ بقوله : " هُوَ عليَّ هيِّنٌ " . وقوله : " وإنْ شِئْتَ لمْ تَنْوهِ " ، أي : لم تَنْوِ القول المقدَّر ؛ لأنَّ الله هو المتكلِّمُ بذلك . وظاهرُ كلام بعضهم : أنَّ " قال " الأولى مسندةٌ إلى ضمير الملكِ ، وقد صرَّح بذلك ابن جريرٍ ، وتبعه ابن عطيَّة . قال الطبريُّ : " ومعنى قوله " قال كذلكَ " أي : الأمران اللذان ذكرت من المرأةِ العاقر والكبرِ هو كذلك ، ولكن قال ربُّك ، والمعنى عندي : قال الملكُ : كذلك ، أي : على هذه الحال ، قال ربُّك ، هو عليَّ هيِّنٌ " انتهى . وقرأ الحسن البصري " عَليِّ " بكسر ياء المتكلم ؛ كقوله [ الطويل ] @ 3582 أ - عَليِّ لعمرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ لِوالِدِهِ ليْسَتْ بذاتِ عقَارِبِ @@ أنشدوه بالكسر . وتقدم الكلام على هذه المسألة في قراءة حمزة " بمُصْرِخيِّ " [ إبراهيم : 22 ] . قوله : " وقَدْ خلقْتُكَ " هذه الجملة مستأنفةٌ ، وقرأ الأخوان " خَلقْناكَ " أسنده إلى الواحد المعظِّمِ نفسهُ ، والباقون " خلقْتُك " بتاء المتكلِّم . وقوله : " ولَمْ يَكُ شَيْئاً " جملةٌ حاليةٌ ، ومعنى نفي كونه شيئاً ، أي : شيئاً يعتدُّ به ؛ كقوله : [ البسيط ] @ 3582 ب - … إذا رَأى غيْرَ شيءٍ ظنَّهُ رَجُلاَ @@ وقالوا : عجبتُ من لا شيءٍ ، ويجوز أن يكون قال ذلكَ ؛ لأنَّ المعدومَ ليس بشيءٍ . فصل قيل : إطلاق لفظ " الهَيِّن " في حق الله تعالى مجاز ؛ لأن ذلك إنما يجوزُ في حقِّ من يجوز أن يصعب عليه شيء ، ولكن المراد ؛ أنه إذا أراد شيئاً كان . ووجه الاستدلال بقوله تعالى { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } فنقول : إنه لما خلقه من العدم الصَِّرف والنفي المحضِ ، كان قادراً على خلق الذوات والصفات والآثار ، وأما الآن ، فخلق الولد من الشيخ والشيخة لا يحتاج فيه إلا إلى تبديل الصفات ، والقادرُ على خلق الذوات والصفات والآثار معاً أولى أن يكون قادراً على تبديل الصفات ، وإذا أوجده عن العدم ، فكذا يرزقه الولد بأن يعيد إليه وإلى صاحبته القوَّة التي عنها يتولَّد الماءان اللذان من اجتماعهما يُخلقُ الولد . فصل الجمهورُ على أنَّ قوله : " قال : كذلِكَ قال ربُّكَ " يقتضي أن القائلَ لذلك ملك مع الاعتراف بأن قوله { يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ } قول الله تعالى ، وقوله { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } قول الله تعالى ، وهذا بعيدٌ ؛ لأنه إذا كان ما قبل هذا الكلام وما بعده قول الله تعالى ، فكيف يصحُّ إدراجُ هذه الألفاظ فيما بين هذين القولين ، والأولى أن يقال : قائلُ هذا القول أيضاً هو الله تعالى ؛ كما أن الملك العظيم ، إذا وعد عبده شيئاً عظيماً ، فيقول العبد : من أين يحصلُ لي هذا ، فيقول : إن سلطانكَ ضمِنَ لك ذلك ؛ كأنه ينبه بذلك على أن كونه سلطاناً ممَّا يوجب عليه الوفاء بالوعد ، فكذا ههنا . قوله : { قَالَ رَبِّ ٱجْعَل لِيۤ ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } . أي : اجعل لي علامة ودلالة على حمل امرأتي . فصل قال بعضُ المفسِّرين : طلب الآية لتحقيق البشارة ، وهذا بعيد ؛ لأن بقول الله تعالى قد تحقَّقت البشارةُ ، فلا يكون إظهار الآية أقوى في ذلك من صريح القول ، وقال آخرون : البشارةُ بالولدِ وقعت مطلقة ، فلا يعرف وقتها بمجرَّد البشارة ، فطلب الآية ليعرف بها وقت الوقوعِ ، وهذا هو الحق . واتفقوا على أن تلك الآية هي تعذرُ الكلام عليه ، فإن مجرَّد السكوتِ مع القدرةِ على الكلام لا يكونُ معجزةً ، ثم اختلفوا على قولين : أحدهما : أنه اعتقل لسانه أصلاً . والثاني : أنه امتنع عليه الكلامُ مع القوم على وجه المخاطبة ، مع أنه كان متمكناً من ذكر الله ، ومن قراءة التوراة ، وهذا القولُ عندي أصحُّ ؛ لأن اعتقال اللسان مطلقاً قد يكون لمرضٍ ، وقد يكون من فعل الله ، فلا يعرف زكريا عليه السلام أن ذلك الاعتقال معجزٌ إلا إذا عرف أنه ليس لمرض ، بل لمحضِ فعل الله تعالى مع سلامة الآلات ، وهذا مما لا يعرف إلا بدليل آخر ، فتفتقر تلك الدلالة إلى دلالة أخرى ، أما لو اعتقل لسانه عن الكلام ، مع القوم ، مع اقتداره على التكلم بذكر الله تعالى وقراءةِ التوراةِ ، علم بالضرورة ؛ أن ذلك الاعتقال ليس لعلَّةٍ ومرضٍ ، بل هو لمحض فعل الله ، فيتحقق كونه آية ومعجزة ، ومما يقوي ذلك قوله تعالى : { ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } خص ذلك بالتكلم مع الناس ؛ وهذا يدلُّ بطريق المفهوم ؛ أنه كان قادراً على التكلُّم مع غير الناس . قوله : " سَوِيًّا " : حالٌ من فاعل " تُكَلِّمَ " ، وعن ابن عباس : أنَّ " سويًّا " من صفةِ الليالي بمعنى " كاملات " ، فيكونُ نصبه على النعت للظرف ، والجمهورُ على نصب ميم " تُكَلِّم " جعلوها الناصبة . وابن أبي عبلة بالرفعِ ، جعلها المخففة من الثقيلة ، واسمها ضميرُ شأنٍ محذوف ، و " لا " فاصلةٌ ، وتقدَّم تحقيقه . وقوله : " أنْ سَبِّحُوا " : يجوز في " أنْ " أن تكون مفسِّرة لـ " أوْحَى " ، وأن تكون مصدرية مفعولة بالإيحاء ، و " بُكْرَةً وعشِيًّا " ظرفا زمانٍ للتسبيح ، وانصرفت " بُكْرَةً " ؛ لأنه لم يقصدْ بها العلميَّةُ ، فلو قُصِدَ بها العلميةُ امتنعت من الصَّرف ، وسواءٌ قصد بها وقتٌ بعينه ؛ نحو : لأسيرنَّ الليلة إلى بكرة ، أم لم يقصدْ ؛ نحو : بكرةُ وقتُ نشاطٍ ؛ لأنَّ علميَّتها جنسيَّةٌ ؛ كأسامة ، ومثلها في ذلك كله " غُدْوة " . وقرأ طلحة " سَبِّحُوه " بهاءِ الكناية ، وعنه أيضاً : " سَبِّحُنَّ " بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة مؤكَّداً بالثقيلة ، وهو كقوله : { لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } [ هود : 8 ] ، وقد تقدَّم تصريفه . قوله تعالى : { فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ } ، وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه ؛ أن يفتح لهم الباب ، فيدخلون ويصلون ؛ إذ خرج عليهم زكريا متغيِّراً لونه ، فأنكروه ، فقالوا : ما لك يا زكريا { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ } . قال مجاهدٌ : كتب لهم الأرض ، { أَن سَبِّحُواْ } ، أي صلوا لله ، { بُكْرَةً } ، غدوة ، { وَعَشِيًّا } ، معنا أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشياً ، فيأمرهم بالصلاة ، فلما كان وقتُ حمل امرأته ، ومنع الكلام خرج إليهم ، فأمرهم بالصلاة إشارة . قوله عز وجل : { يَٰيَحْيَىٰ } ، قيل : فيه حذف معناه : وهبنا له يحيى ، وقلنا له : يا يحيى ، { خُذِ ٱلْكِتَٰبَ } ، يعني التوراة ، وقيل يحتمل أن يكون كتاباً خصَّ الله به يحيى ، كما خص الله تعالى الكثير من الأنبياء بذلك ، والأول أولى ؛ لأن حمل الكلام ههنا على المعهود السابق أولى ، ولا معهود إلا التوراة . وقوله { يَٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَٰبَ } يدلُّ على أن الله تعالى بلغ بيحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطبه بذلك ، فحذف ذكره ؛ لدلالة الكلام عليه . قوله : " بقُوَّة " حالٌ من الفاعل أو المفعول ، أي : ملتبساً أنت ، أو ملتبساً هو بقُوَّة ؛ وليس المراد بالقوة القدرة على الأخذ ؛ لأن ذلك معلوم لكلِّ أحد ، فيجب حمله على معنى يفيد المدح ، وهو الجد والصبر على القيام بأمر النبوة ، وحاصلها يرجع إلى حصول ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمُور به ، والإحجام عن المنهيِّ عنه . قوله : { وَءَاتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيًّا } . قال ابن عبَّاس : الحكم : النُّبوة " صَبِيًّا " ؛ وهو ابن ثلاث سنين وقيل : الحكمُ فهم الكتاب ، فقرأ التوراة وهو صغيرٌ . وقيل : هو العَقْل ، وهو قولُ مُعَمَّر . وروي أنه قال : ما للَّعبِ خُلِقْنا . والأوَّل أولى ؛ لأنَّ الله تعالى أحكم عقلهُ في صباه ، وأوحى إليه ، فإنَّ الله تعالى بعث عيسى ويحيى - عليهما الصلاة والسلام - وهما صبيَّانِ ، لا كما بعث موسى ومحمَّداً - عليهما الصلاة والسلام - وقد بلغا الأشُدَّ . فإن قيل : كيف يعقلُ حصولُ العقل والفطنة والنُّبُوَّة حال الصِّبَا . فالجوابُ : هذا السَّائِلُ إمَّا أن يمنع خرق العاداتِ ، أو لا يمنع منه ، فإن منع منه ، فقد سدَّ باب النبوات ؛ لأنَّ الأمر فيها على المعجزات ، ولا معنى لها إلا خرق العاداتِ ، وإن لم يمنع منه ، فقد زال هذا الاستبعادُ ؛ فإنَّه ليس استبعاد صيرورةِ الصَّبيِّ عاقلاً أشدَّ من استبعاد انشقاقِ القمر ، وانفلاق البحر ، و " صبيًّا " : حال من " هاء " آتيناه . قوله " وحَنَاناً " : يجوز أن يكون مفعولاً به ، نسقاً على " الحُكْمَ " أي : وآتَيْنَاهُ تَحَنُّناً . والحنانُ : الرحمةُ واللِّينُ ، وأنشد أبو عبيدة قول الحطيئةِ لعمر بن الخطَّاب : [ المتقارب ] @ 3583 أ - تَحَنَّنْ عَليَّ هدَاكَ المَلِيكُ فإنَّ لِكُلِّ مقامٍ مقَالا @@ قال : وأكثر استعماله مُثَنًّى ؛ كقولهم : حَنَانَيْكَ ، وقوله : @ 3583 ب - … حَنانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ من بعضِ @@ [ وجوَّز ] فيه أبو البقاء أن يكون مصدراً ، كأنَّه يريدُ به المصدر الواقع في الدعاء ؛ نحو : سَقْياً ورَعْياً ، فنصبه بإضمار فعلٍ [ كأخواته ] ، ويجوز أن يرتفع على خبر ابتداءٍ مضمر ؛ نحو : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } [ يوسف : 18 ] و { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الأعراف : 46 ] في أحد الوجهين ، وأنشد سيبويه : [ الطويل ] @ 3584 - وقَالَتْ حنانٌ مَا أتى بِكَ هَهُنَا أذُو نسبٍ أمْ أنتَ بالحَيِّ عارفُ @@ وقيل لله تعالى : حنَّّانٌ ، كما يقال له " رَحِيمٌ " قال الزمخشريُّ : " وذلك على سبيل الاستعارةِ " . فصل في المراد بـ " حَنَاناً " اعلم أن الحنان : أصله من الحنين ، وهو الارتياحُ ، والجزع للفراق كما يقال : حنينُ النَّاقة ، وهو صوتها ، إذا اشتاقت إلى ولدها ، ذكره الخليل . وفي الحديث : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - كان يُصلِّي إلى جذعٍ في المسجد ، فلمَّا اتَّخذ المنبر ، وتحوَّل إليه ، حنَّت تلك الخشبةُ ، حتَّى سُمِعَ حنينُها ، وهذا هو الأصل ، ثُمَّ يقال : تَحَنَّنَ فلانٌ على فلانٍ ، إذا [ تعطَّف ] عليه ورحمهُ . واختلف الناس في وصف الله تعالى بالحنان ، فأجازه بعضهم ، وجعلهُ بمعنى الرَّؤُوف الرَّحيم ، ومنهم من أباه ؛ لما يرجع إليه أصلُ الكلمة . قالوا : ولم يصحُّ الخبر بهذه اللفظة في أسماء الله تعالى . وإذا عرف هذا ، فنقولُ : في الحنانِ ها هنا وجهانِ : الأول : أن نجعله صفةً لله تعالى . والثاني : أن نجعله صفةً لـ " يحيى " ، فإن جعلناه صفة لله تعالى ، فيكونُ التقديرُ : وآتيناهُ الحكم حناناً ، أي : رحمةً منَّا . ثم هاهنا احتمالات : الأول : أن يكون الحنانُ من الله تعالى لـ " يحيى " ، والمعنى : وآتيناهُ الحكم صبيًّا حناناً [ منَّا ] عليه ، أي : رحمة عليه ، " وزكَاةً " أي : وتزكيةً ، وتشريفاً له . والثاني : أن يكون الحنانُ من الله تعالى لزكريَّا ، والمعنى : أنا استجبنا لزكريَّا دعوته بأن أعطيناه ولداً ثم آتيناه الحكم صبيًّا وحناناً من لدُنَّا على زكريا فعلنا ذلك " وزَكَاةً " أي : تزكيةً له عن أن يصير مردود الدُّعاء . الثالث : أن يكُون الحنانُ من الله تعالى لأمَّة يحيى - عليه السلام - والمعنى : آتيناه الحكم صبيًّا حناناً على أمَّته ؛ لعظيم انتفاعهم بهدايته وإرشاده . وإن جعلناه صفةً ليحيى - عليه السلام - ففيه وجوهٌ : الأول : آتيناهُ الحكم والحنان على عبادنا ، أي والتعطُّف عليهم وحسن النَّظر لهم ، كما وصف محمَّداً - صلى الله عليه وسلم - بقوله : { حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] وقوله : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } [ آل عمران : 159 ] وقوله : " وزَكَاةً " أي : شفقةً ، ليست داعيةً إلى الإخلال بالواجب ؛ لأنَّ الرأفة واللِّين ربَّما أورثا ترك الواجب ؛ ألا ترى إلى قوله : { وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ } [ النور : 2 ] وقال : { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ ٱلْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } [ التوبة : 123 ] وقال : { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ } [ المائدة : 54 ] . والمعنى : أنَّا جمعنا له التعطُّف على عباد الله ، مع الطَّهارة عن الإخلال بالواجبات ، ويحتمل أنَّا آتيناه التعطُّف على الخلق ، والطَّهارة [ عن المعاصي ] ، فلم يَعْص ، ولم يَهُمَّ بمعصية . الثاني : قال عطاءُ بنُ أبي رباحٍ : { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا } : تعظيماً من لدنا . والمعنى : آتيناهُ الحكم صبيًّا ؛ تعظيماً إذ جعلناه نبيًّا وهو صبيٌّ ، ولا تعظيم أكثر من هذا ؛ ويدلُّ عليه ما رُوِيَ أنَّ ورقة بن نوفلٍ مرَّ على بلالٍ ، وهو يعذب ، قد ألصقَ ظهرهُ برمضاء البطحاء ، وهو يقول : أحدٌ ، أحدٌ ، فقال : والذي نفسي بيده ، لئنْ قتلْتُمُوه ، لاتَّخذنَّهُ حناناً ، أي : مُعَظَّماً . قوله : " مِنْ لَدُنَّا " صفةٌ له . قوله : " وَزَكاةً " . قال ابن عباس : هي الطَّاعة ، والإخلاص . وقال قتادةُ والضحاك : هو العملُ الصَّالح . والمعنى : آتيناهُ رحمةً من عندنا ، وتحنُّناً على العبادِ ؛ ليدعوهم إلى طاعة ربِّهم ، وعملاً صالحاً في إخلاص . وقال الكلبيُّ : صدقة تصدَّق الله بها على أبويه ، وقيل : زكَّيناه بحُسْن الثَّناء ، أي كما يزكِّي الشهودُ الإنسان . وهذه الآيةُ تدلُّ على أن فعل العبد خلقٌ لله تعالى لأنه جعل طهارتهُ وزكاتهُ من الله تعالى ، وحملهُ على الألطاف بعيدٌ ؛ لأنَّه عدولٌ عن الظَّاهرِ . قوله : { وَكَانَ تَقِيًّا } مُخْلِصاً مُطِيعاً ، والتَّقيُّ : هو الذي يتقي ما نهى الله عنه [ فيجتنبه ] ، ويتقي مخالفة أمر الله ، فلا يهمله ، وأولى النَّاس بهذا الوصف من لم يعْصِ الله ، ولا همَّ بمعصيةٍ ، وكان يحيى - عليه الصلاة والسلام - كذلك . فإن قيل : ما معنى قوله { وَكَانَ تَقِيًّا } وهذا حين ابتداء تكليفه . فالجوابُ : إنَّما خاطب الله تعالى الرسُول بذلك وأخبر عن حاله حيث كان كما أخبر عن نعم الله تعالى عليه . قوله : " وبَرًّا " : يجوز أن يكون نسقاً على خبر " كان " أي : كان تقيًّا برًّا . ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدَّر ، أي : وجعلناه برًّا ، وقرأ الحسن " بِرًّا " بكسر الباء في الموضعين ، وتأويله واضحٌ ، كقوله : { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ } [ البقرة : 177 ] وتقدَّم تأويله ، و " بِوالِدَيْهِ " متعلقٌ بـ " بَرًّا " . و " عَصِيًّا " يجوز أن يكون وزنه " فَعُولاً " والأصل : " عَصُويٌ " ففعل فيه ما يفعلُ في نظائره ، و " فَعُولٌ " للمبالغة كـ " صَبُور " ويجوز أن يكون وزنه فعيلاً ، وهو للمبالغة أيضاً . فصل في معنى الآية قوله : { وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ } أي : بارًّا لطيفاً بهما محسناً إليهما ، { ولمْ يكُن جبَّاراً عصيًّا } . الجبَّار المتكبِّر . وقال سفيان : الجبَّار الذي يضرب ويقتل على الغضب ؛ لقوله تعالى : { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ } [ القصص : 19 ] ؛ ولقوله تعالى : { وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } [ الشعراء : 130 ] والجبَّارُ أيضاً : القهار ، قال تعالى { ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ } [ الحشر : 23 ] . والعَصِيُّ : العاصِي ، والمراد : وصفة بالتواضع ، ولين الجانب ، وذلك من صفات المؤمنين ؛ كقوله تعالى : { وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الحجر : 88 ] وقوله تعالى : { وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } [ آل عمران : 159 ] . وقيل : الجبَّار : هو الذي لا يرى لأحدٍ على نفسه حقًّا . وقيل غير [ ذلك ] وقوله : " عصيا " وهو أبلغُ من العاصي ، كما أن العليمَ أبلغُ من العالم . قوله : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } . قال محمد بن جرير الطبريُّ { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ } أي : أمانٌ من الله يوم ولد من أن تتناوله الشياطين ، كما تناولُ سائر بني آدم { وَيَوْمَ يَمُوتُ } أي : وأمانٌ عليه من عذاب القبر ، { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا } أي : ومن عذاب يوم القيامة . وقال سفيان بن عيينة : أوحشُ ما يكونُ الإنسان في هذه الأحوال [ الثلاثة يوم يُولَدُ ] ، فيرى نفسه خارجاً [ مما كان فيه ، ويوم يموتُ ، فيرى يوماً ، لم يكن عاينهُ ، ويوم يبعثُ ، فيرى نفسهُ ] في محشرٍ عظيمٍ ، لم ير مثله ، فأكرم الله يحيى - عليه السلام - فخصَّه بالسلامة في هذه المواطن الثلاثة . قال عبدُ الله بن نفطويه : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ } أي : أوَّل ما رأى الدُّنيا ، { وَيَوْمَ يَمُوتُ } أي : أول يوم يرى فيه أمْرَ الآخرة { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا } أي : أوَّل يومٍ يرى فيه الجنَّة والنَّار . فصل في مزية السلام على يحيى السلام يمكن أن يكون من الله ، وأن يكون من الملائكة ، وعلى التقديرين ، فيدلُّ على شرفه وفضله ؛ لأنَّ الملائكة لا يُسَلَِّمون إلا عن أمر الله . ويدلُّ على أن ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء ؛ كقوله تعالى : { سَلاَمٌ عَلَىٰ نُوحٍ } [ الصافات : 79 ] { سَلاَمٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } [ الصافات : 109 ] . وقال ليحيى : { يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا } . وليس لسائر الأنبياء . ورُوِي أن عيسى - عليه السلام - قال ليحيى - عليه السلام - : أنت أفضلُ منِّي ؛ لأنَّ الله تعالى قال : سلامٌ عليك وأنا سلَّمتُ على نفسي ؛ لأن عيسى معصومٌ ، لا يفعل إلا ما أمره الله به . واعلم : أنَّ السَّلام عليه يوم ولد يكون تفضُّلاً من الله تعالى ؛ لأنه لم يتقدَّمه عملٌ يكونُ ذلك السلام جزاءً له ، وأمَّا السَّلام عليه يوم يموتُ ، ويوم يبعثُ حيًّا ، عملٌ يكونُ ذلك السلام جزاءً له ، وأمَّا السَّلام عليه يوم يموتُ ، ويوم يبعثُ حيًّا ، فيجوزُ أن يكُون ثواباً ؛ كالمَدْح والتَّعْظِيم . فصل في فوائد هذه القصة في فوائد هذه القصَّة [ أمورٌ ] منها : تعليمُ آداب الدعاء ، وهو قوله : " نِدَاءً خفيًّا " يدلُّ على أفضل الدعاء خفيةً ويؤكِّدهُ قوله تعالى : { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [ الأعراف : 55 ] ؛ ولأنَّ رفع الصوت مشعرٌ بالقُوَّة والجلادةِ ، وإخفاءُ الصوت مشعرٌ بالضعف والانكسار ، وعمدة الدُّعاء الانكسار والتبرِّي عن حول النَّفس وقوَّتها ، والاعتمادُ على فضل الله تعالى وإحسانه . ويستحبُّ أن يذكر في مقدِّمة الدعاء عجز النَّفس وضعفها ؛ كقوله : { وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً } ثم يذكر نعم الله تعالى ؛ كقوله : { وَلَمْ أَكُن بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا } ويكون الدعاء لما يتعلق بالدين لا لمحض الدنيا ، كقوله : { وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ } وأن يكون الدُّعاء بلفظ : يا ربِّ . كما ذكر فيها بيان فضل زكريَّا ، ويحيى - عليهما السلام - أما زكريَّا ؛ فلتضرُّعه وانقطاعه إلى الله تعالى بالكليَّة ، وإجابة الله تعالى دعاءه ، وأن الله تعالى بشَّره ، وبشَّرته الملاشكةُ ، واعتقالُ لسانه عن الكلام دُون التَّسبيح . وأمَّا يحيى ؛ فلأنَّه لم يجعل له من قبلُ سميًّا ، وقوله { يَٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَٰبَ بِقُوَّةٍ وَءَاتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيًّا } ، وكونه رحيماً حناناً وطاهراً ، وتقيًّا ، وبرًّا بوالديه ، ولم يكن جبَّاراً ، ولم يعص قطُّ ، ولا همَّ بمعصية ، ثم سلَّم عليه يوم ولد ، ويوم يموتُ ، ويوم يبعثُ حيًّا . ومنها : كونُه تعالى قادراً على خلق الولد ، وإن كان الأبوان في نهاية الشيخوخة ردًّا على أهل الطَّبائع . ومنها : أن المعدوم ليس بشيءٍ ؛ لقوله : { وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } . فإن قيل : المرادُ " ولم تَكُ شيئاً مذكُوراً " كما في قوله : { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } [ الإنسان : 1 ] . فالجوابُ : أنَّ الإضمار خلافُ الأصل ، وللخصمِ أن يقول : الآيةُ تدلُّ على أن الإنسان لم يكُن شيئاً مذكوراً ، ونحنُ نقولُ به ؛ لأنَّ الإنسان عبارة عن جواهر متألِّفة قامت بها أعراضٌ مخصوصةٌ ، والجواهرُ المتألِّفة الموصوفة بالأغراض المخصوصة ليس ثابتة في العدمِ ، وإنَّما الثابتُ هو [ أعيانُ ] تلك الجواهر مفردة غير مركَّبة ، وهي ليست بالإنسان ، فظهر أن الآية لا دلالة فيها على المطلوب . ومنها أن الله تعالى ذكر هذه القصة في " آل عمران " ، وذكرها في هذه السورة ، فلنعتبر حالها في الموضعين ، فنقول : إن الله تعالى بيَّن في هذه السورة أنه دعا ربه ، ولم يبين الوقت ، وبينه في " آل عمران " بقوله تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } [ آل عمران : 37 ] إلى أن قال : " هنالك دعا زكريا ربه قال : ربِّ هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " ، والمعنى أن زكريا - عليه السلام - لما رأى خرق العادة في حق مريم ، طمع في حق نفسه ، فدعا ربه ، وصرح في " آل عمران " بأن المنادي هو الملائكة ، بقوله : { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ } [ آل عمران : 39 ] ، والأظهر أن المنادي ههنا بقوله : " يا زكريا إنا نبشرك " هو الله تعالى ، وقد تقدم أنه لا منافاة بينهما . وقال في آل عمران { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ } [ آل عمران : 40 ] فذكر أولاً كبر نفسه ، ثم عقر المرأة وهاهنا قال : { وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيًّا } وجوابه : أنَّ الواو لا تقتضي الترتيب . وقال في " آل عمران " : { وَقَدْ بَلَغَنِيَ ٱلْكِبَرُ } [ آل عمران : 40 ] وقال هاهنا : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيًّا } وجوابه : أن ما بلغك فقد بلغته . وقال في آل عمران : { ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَٱذْكُر } [ آل عمران : 41 ] . وقال هاهنا { ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } . وجوابه : أنَّه دلَّت الآيتان على أنَّ المراد ثلاثة أيَّام ولياليهنَّ . والله أعلم .