Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 2-6)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { ذِكْرُ } : فيه ثلاثة أوجه : الأول : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : فيما يتلى عليكم ذكر . الثاني : أنه خبر محذوف المبتدأ ، تقديره : المتلوُّ ذكرُ ، أو هذا ذكر . الثالث : أنه خبر الحروف المقطَّعة ، وهو قول يحيى بن زياد ، قال أبو البقاء " وفيه بعدٌ ؛ لأنَّ الخبر هو المبتدأ في المعنى ، وليس في الحروف المقطَّعة ذكرُ الرحمة ، ولا في ذكر الرحمة معناها " . و " ذِكْرُ " مصدرٌ مضافٌ ؛ قيل : إلى مفعوله ، وهو الرحمة في نفسها مصدرٌ أيضاً مضافٌ إلى فاعله ، و " عَبدَهُ " مفعولٌ به ، والناصبُ له نفسُ الرحمةِ ، ويكون فاعلُ الذِّكرِ غير مذكورٍ لفظاً ، والتقدير : أنْ ذكر الله ورحمته عبدهُ ، وقيل : بل " ذِكْرُ " مضافٌ إلى فاعله على الاتِّساع ، ويكون " عبدهُ " منصوباً بنفس الذِّكر ، والتقدير : أن ذكرت الرحمة عبدهُ ، فجعل الرحمة ذاكرةً له مجازاً . و " زكَرِيَّا " بدلٌ ، أو عطفُ بيانٍ ، أو منصوبٌ بإضمار " أعْنِي " . وقرأ يحيى بن يعمر - ونقلها الزمخشريُّ عن الحسن - " ذَكَّرَ " فعلاً ماضياً مشدداً ، و " رحمة " بالنصب على أنها مفعولٌ ثانٍ ، قدمت على الأول ، وهو " عَبْدَهُ " والفاعلُ : إما ضمير القرآن ، أو ضمير الباري تعالى ، والتقدير : أن ذكَّر القرآنُ المتلُوُّ - أو ذكَّر الله - عبده رحمتهُ ، أي : جعل العبد يذكرُ رحمته ، ويجوز على المجازِ المتقدِّم أن " رحمةَ ربِّك " هو المفعول الأول ، والمعنى : أنَّ الله جعل الرحمة ذاكرةً للعبد ، وقيل : الأصلُ : ذكَّر برحمةِ ، فلمَّا انتزع الجارُّ نصب مجروره ، ولا حاجة إليه . وقرأ الكلبيُّ " ذكر " بالتخفيف ماضياً " رَحْمَةَ " بالنصب على المفعول به ، " عَبْدُهُ " بالرفع فاعلاً بالفعل قبله ، " زَكريَّا " بالرفع على البيان ، أو البدل ، أو على إضمار مبتدأ ، وهو نظيرُ إضمار الناصب في القراءة الأولى . وقرأ يحيى بن يعمر - فيما نقله عنه الدَّاني - " ذَكِّرْ " فعل أمرٍ ، " رَحْمَةَ " و " عَبْدهُ " بالنصب فيهما على أنهما مفعولان ، وهما على ما تقدَّم من كون كلِّ واحدٍ ، يجوز أن يكون المفعول الأول ، أو الثاني ، بالتأويلِ المتقدِّم في جعل الرحمة ذاكرةً مجازاً . فصل في تأويل هذه الحروف المقطعة قال ابنُ عباسٍ : هذه الحروف اسم من أسماء الله تعالى ، وقال قتادةُ : اسمٌ من أسماء القرآن . وقيل : اسمٌ للسُّورة . وقيل : هو قسمٌ أقسم الله به ويروى عن سعيد بن جبيرٍ ، عن ابن عباس في قوله { كۤهيعۤصۤ } قال : الكافُ من كريم وكبير ، والماء من هاد ، والياء من رحيم والعين من عليهم ، وعظيم ، والصاد من صادق . وعن ابن عبَّاس أيضاً أنَّه حمل الياء على الكريم مرَّة ، وعلى الحكيم أخرى . وعن ابن عباس في العين أنَّه من عزيز من عدل . قال ابنُ الخطيب : وهذه أقوالٌ ليست قويَّة ؛ لأنَّه لا يجوزُ من الله تعالى أن يودعَ كتابهُ ما لا تدلُّ عليه اللغةُ ، لا بالحقيقةِ ، ولا بالمجازِ ، لأنَّا إن جوَّزنا ذلك ، فتح علينا بابُ قول من يزعم أنَّ لكلِّ ظاهرٍ باطناً ، واللغة لا تدلُّ على ما ذكروه ؛ لأنها ليستْ دلالةُ " الكافِ " على الكافي أولى من دلالته على الكريم ، والكبير ، أو على اسمٍ آخر من أسماء الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - أو الملائكة ، أو الجنَّة ، أو النَّار ، فيكون حملها على بعضها دون البعض تَحَكُّماً . فصل في المراد بقوله تعالى : { رَحْمَتِ رَبِّكَ } يحتملُ أن يكون المراد من قوله { رَحْمَتِ رَبِّكَ } أنه عنى عبدهُ زكريَّا ، ثم في كونه رحمة وجهان : أحدهما : أن يكون " رحْمة " على أمَّته ؛ لأنَّه هداهُم إلى الإيمان والطَّاعة . والثاني : أن يكون رحمة على نبيِّنا محمد - عليه الصلاة والسلام - وعلى أمَّته ؛ لأنَّ الله تعالى ، لمَّا شرع لمحمَّد صلى الله عليه وسلم طريقتهُ في الإخلاص والابتهال في جميع الأمور إلى الله تعالى ، وصار ذلك لطفاً داعياً له ، ولأمَّته إلى تلك الطريقة زكريَّا رحمة . ويحتمل أن يكون المرادُ أنَّ هذه السُّورة فيها ذكرُ الرحمة التي يرحمُ بها عبدُه زكريَّا . قوله : { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيًّا } . في ناصب إذ ثلاثة أوجه : أحدها : أنَّهُ " ذِكْرُ " ، ولم يذكُر الحوفيُّ غيره . والثاني : أنَّه " رَحْمَة " وقد ذكر الوجهين أبو البقاء . والثالث : أنَّه بدلٌ من " زكريَّا " بدل ُ اشتمالٍ ؛ لأنَّ الوقت مشتملٌ عليه ، وسيأتي مثلُ هذا عند قوله { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ } [ مريم : 16 ] ونحوه . فصل في أدب زكريا في دعائه راعى سُنَّة الله في إخفاء دعوته ؛ لأنَّ الجهر والإخفاء عند الله سيَّان ، وكان الإخفاء أولى ؛ لأنَّه أبعد عن الرِّياء ، وأدخلُ في الإخلاص . وقيل : أخفاه ؛ لئلاَّ يلامُ على طلبِ الولدِ في زمان الشيخوخة وقيل : أسرَّهُ من مواليه الذين خافهم . وقيل : خِفتُ صوتهُ ؛ لضعفه ، وهرمه ، كما جاء في صفةِ الشَّيْخ : صوتهُ خفاتٌ ، وسمعهُ تارات . فإن قيل : من شرط النِّداء الجهر ، فكيف الجمع بين كونه نداء وخفيًّا ؟ . فالجوابُ من وجهين : الأول : أنَّه أتى بأقصى ما قدر عليه من رفع الصَّوت ؛ إلا أنَّ صوته كان ضعيفاً ؛ لنهايةِ ضعفه بسببِ الكبر ، فكان نداءً ؛ نظراً إلى القصد ، خفيًّا نظراً إلى الواقعِ . الثاني : أنَّه دعاه في الصَّلاة ؛ لأنَّ الله تعالى ، أجابه في الصَّلاة ؛ لقوله تعالى : { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } [ آل عمران : 39 ] فتكُون الإجابةُ في الصَّلاة تدلُّ على كون الدُّعاء في الصَّلاة ؛ فوجب أن يكون النداءُ فيها خفيًّا . وفي التفسير : " إذْ نَادَى " : دعا " ربَّهُ " في محرابِهِ . قوله : { نِدَآءً خَفِيّاً } دعا سرًّا من قومه في جوف الليل . قوله : { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي } الآية . قوله : { قَالَ رَبِّ } : لا محلَّ لهذه الجملةِ ؛ لأنها تفسير لقوله " نَادَى ربَّهُ " وبيانٌ ، ولذلك ترك العاطف بينهما ؛ لشدَّة الوصل . قوله : " وهَنَ " العامَّةُ على فتحِ الهاء ، وقرأ الأعمشُ بكسرها ، وقُرىء بضمِّها ، وهذه لغاتٌ في هذه اللفظة ، ووحَّد العظم لإرادة الجنس ؛ يعني : أنَّ هذا الجنسَ الذي هو عمودُ البدنِ ، وأشدُّ ما فيه ، وأصلبه ، قد أصابه الوهنُ ، ولو جمع ، لكان قصداً آخر : وهو أنه لم يهن منه بعضُ عظامه ، ولكن كلُّها ، قاله الزمخشريُّ ، وقيل : أطلقَ المفردُ ، والمرادُ به الجمعُ ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 3577 - بِهَا جِيفُ الحَسْرَى فأمَّا عِظامُهَا فبِيضٌ وأمَّا جِلدُها فصليبُ @@ أي : جلودُها ، ومثله : [ الوافر ] @ 3578 - كُلُوا في بعضِ بَطْنكمُ تَعِفُّوا فإنَّ زمانَكُم زمنٌ خَمِيصُ @@ أي : بُطُونكُمْ . و " مِنِّي " حالٌ من " العَظْم " وفيه ردٌّ على من يقول : إنَّ الألف واللام تكونُ عوضاً من الضمير المضافِ إليه ؛ لأنه قد جمع بينهما هنا ، وإن كان الأصل : وهن عظمي ، ومثله في الدَّلالةِ على ذلك ما أنشد شاهداً على ما ذكرتُ : [ الطويل ] @ 3579 - رَحِيبٌ قِطَابُ الجَيْبِ مِنْهَا رفيقةٌ بجَسِّ النَّدامَى بضَّةُ المُتَجَرَّدِ @@ ومعنى { وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي } : ضعف ، ورقَّ العظم من الكبر . فصل قال قتادةُ : اشتكى سُقُوط الأضراس . قوله : { وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً } أي : ابْيَضَّ شعر الرَّأس شيباً . وفي نصب " شَيْباً " ثلاثةُ أوجهٍ : أحدها - وهو المشهور - : أنه تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية ؛ إذ الأصل : اشتعل شيبُ الرَّأسِ ، قال الزمخشريُّ : " شبَّه الشَّيب بشُواظِ النَّار في بياضهِ ، وانتشاره في الشَّعْر ، وفُشُوِّه فيه ، وأخذه منه كُلَّ مأخذٍ باشتعالِ النَّار ، ثم أخرجهُ مخرج الاستعارةِ ، ثم أسند الاشتعال إلى مكانِ الشَّعرِ ، ومنبته ، وهو الرَّأسُ ، وأخرج الشَّيب مُمَيَّزاً ، ولم يُضفِ الرَّأس ؛ اكتفاءً بعلم المخاطبِ : أنه رأسُ زكريَّا ، فمن ثمَّ ، فصُحَتْ هذه الجملةُ ، وشُهد لها بالبلاغةِ " انتهى ، وهذا من استعارة محسُوسٍ لمحسُوسٍ ، ووجه الجمع : الانبسَاطُ والانتشَارُ . والثاني : أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْرِ ، فإنَّ " اشْتَعَلَ الرَّأسُ " معناه " شَابَ " . الثالث : أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحالِ ، شَائِباً ، أو ذا شيب . وأدغم السِّين في الشِّين أبو عمرٍو . وقوله : " بِدُعائِكَ " فيه وجهان : أحدهما : أنَّ المصدر مضافٌ لمفعوله ، أي : بُدعائي إيَّاك . والمعنى : عوَّدتني الإجابة فيما مضى ، ولم تُخَيِّبْنِي . والثاني : أنه مضافٌ لفاعله ، أي : لم أكن بدعائك لي إلى الإيمان شقيًّا ، أي : لما دعوتني إلى الإيمان ، آمنتُ ، ولم أشق . قوله : { وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ } : العامَّةُ على " خِفْتُ " بكسر الخاء ، وسكون الفاء ، وهو ماضٍ مسندٌ لتاءِ المتكلِّم ، و " الموالِي " مفعولٌ به ؛ بمعنى : أنَّ مواليهُ كانُوا شِرارَ بني إسرائيل ، فخافهم على الدِّين ، قاله الزمخشريُّ . قال أبو البقاء : " لا بُدَّ من حذفِ مضافٍ ، أي : عدم الموالي ، أو جَوْرَ الموالي " . وقال الزهريُّ كذلك ، إلا أنه سكَّن ياء " المَوالي " وقد تقدَّم أنَّه قد تُقدَّر الفتحةُ في الياء ، والواو ، وعليه قراءةُ زيد بن عليٍّ { تُطْعِمُونَ أَهاليْكم } [ المائدة : 89 ] . وتقدَّم إيضاحُ هذا . وقرأ عثمانُ بنُ عفَّان ، وزيدُ بن ثابت ، وابن عبَّاس ، وسعيد بن جبير ، وسعيد بن العاصِ ، ويحيى بنُ يعمر ، وعليُّ بنُ الحسين في آخرين : " خَفَّتِ " بفتحِ الخاءِ ، والفاءِ مشددةً ، وتاء تأنيثٍ ، كُسرتْ ؛ لالتقاءِ السَّاكنين ، و " المَوالِي " فاعلٌ به ؛ بمعنى : دَرَجُوا ، وانقرضُوا بالموتِ . قوله : " مِنْ وَرائِي " هذا متعلِّقٌ في قراءة الجمهور بما تضمَّنَهُ الموالي من معنى الفعلِ ، أي : الذين يلون الأمْرَ بعدي ، ولا يتعلَّق بـ " خِفْتُ " لفسَادِ المعنى ، وهذا على أن يُرَادَ بـ " وَرَائِي " معنى : خَلْفِي ، وبَعْدِي ، وأمَّا في قراءةِ " خَفَّتِ " بالتشديد ، فيتعلَّق الظَّرْفُ بنفس الفعل ، ويكونُ " وَرائِي " بمعنى قُدَّامي ، والمعنى : أنهم خفُّوا قدَّامهُ ، ودرجُوا ، ولم يبق منهم من به تقوٍّ واعتضادٌ ، ذكر هذين المعنيين الزمخشريُّ . والمَوالِي : بنُو العمِّ يدلُّ على ذلك تفسيرُ الشَّاعر لهم بذلك في قوله : [ البسيط ] @ 3580 - مَهْلاً ، بَنِي عمِّنا ؛ مَهْلاً موالينَا لا تَنْبُشُوا بَيْننا ما كان مَدْفُوناً @@ وقال آخر : [ الوافر ] @ 3581 - ومَوْلى قد دفعتُ الضَّيْمَ عَنْهُ وقَدْ أمْسَى بمنزلةِ المَضِيمِ @@ وهو قولُ الأصمِّ . وقال مجاهدٌ : العَصَبَة . وقال أبو صالحٍ : الكلالة . وقال ابنُ عبَّاس والحسن والكلبيُّ : الورثة . وعن أبي مسلمٍ : المولى يرادُ به النَّاصرُ ، وابن العمِّ ، والمالك ، والصَّاحب ، وهو هنا من يقُوم بميراثه مقام الولد ، والمختار ، أنَّ المراد من الموالي الذين يخلفُون بعده ، إما في السِّياسة ، أو في المال ، أو في القيام بأمر الدِّين ؛ وهو يدلُّ على معنى القُرْبِ والدُّنوِّ ، ويقالُ : وليته أليه ولْياً ، أي : دَنَوتُ منهُ ، وأوليْتُهُ إيَّاهُ ، وكُل ممَّا يليكَ ، وجلستُ ممَّا يليهِ ، ومنهُ الوَلْيُ ، وهو المطرُ الذي يلي الوسميَّ ، والوليَّة : البرذعةُ [ الَّتي ] تلي ظهْر الدَّابَّة ، ووليُّ اليتيم ، والبلدِ ، ووليُّ القتيل ؛ لأنَّ من تولَّى أمراً ، فقد قرُبَ منه . وقوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [ البقرة : 144 ] من قولهم : ولاه بركنه ، أي جعله ما يليه ، وأما ولَّى عنِّي ، إذا أدبر ، فهو من باب تثقيل الحشو للسلْب ، وقولهم : فلان أولى من فلان ، أي : أحق ؛ أفعل التفضيل من الوالي أو الولي ، كالأدنى ، والأقرب من الدَّاني ، والقريب ، وفيه معنى القرب أيضاً ؛ لأنَّ من كان أحقَّ بالشيء ، كان أقرب إليه ، والمولى : اسمٌ لموضعِ الولي ، كالمرمى والمبنى : اسمٌ لموضعِ الرَّمي والبناءِ . والجمهورُ على " وَرَائِي " بالمدِّ ، وقرأ ابنُ كثير - في رواية عنه - " وَرَايَ " بالقصر ، ولا يبعدُ ذلك عنه ، فإنه قد قصر { شُرَكَايَ } [ النحل : 27 ] في النَّحْل ؛ كما تقدَّم ، وسيأتي أنَّه قرأ { أَن رَآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } في العلق [ الآية : 7 ] ؛ كأنه كان يُؤْثِرُ القصْر على المدِّ ؛ لخفَّته ، ولكنَّه عند البصريين لا يجوزُ سعةً . قوله : { وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً } أي : لا تَلِدُ ، والعَقْرُ في البدن : الجُرْح ، وعقرتُ الفرس بالسَّيف ، ضربتُ قوائِمهُ . قوله " مِنْ لدُنْكَ " يجوز أن يتعلق بـ " هَبْ " ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حال من " وليًّا " لأنه في الأصل صفةٌ للنكرةِ ، فقُدِّم عليها . { يَرِثُنِي وَيَرِثُ } : قرأ أبو عمرو ، والكسائيُّ بجزم الفعلين على أنَّهما جوابٌ للأمر ؛ إذ تقديره : إن يهبْ ، يرثْ ، والباقون برفعهما ؛ على أنَّهما صفةٌ لـ " وليًّا " . وقرأ عليٌّ - رضي الله عنه - وابنُ عبَّاسٍ ، والحسن ، ويحيى بن يعمر ، والجحدريُّ ، وقتادةُ في آخرين : " يَرِثُنِي " بياء الغيبة ، والرَّفع ، وأرثُ مسنداً لضمير المتكلِّم . فصل فيما قرىء به من قوله : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ } قال صاحب " اللّوامح " : " في الكلام تقديم وتأخيرٌ ؛ والتقدير : يرثُ نُبُوَّتِي ، إنْ متُّ قبلهُ وأرِثُ مالهُ ، إن مات قبلي " . ونُقِلَ هذا عن الحسن . وقرأ عليٌّ أيضاً ، وابنُ عبَّاس ، والجحدريُّ " يَرِثُني وارثٌ " جعلوه اسم فاعلٍٍ ، أي : يَرثُني به وارثٌ ، ويُسَمَّى هذا " التجريد " في علم البيان . وقرأ مجاهدٌ " أوَيْرِثٌ " وهو تصغيرُ " وارِثٍ " والأصل : " وُوَيْرِثٌ " بواوين ، وجب قلبُ أولاهما همزة ؛ لاجتماعهما متحركتين أول كلمةٍ ، ونحو " أوَيْصِلٍ " تصغير " واصلٍ " والواوُ الثانيةُ بدلٌ عن ألفِ " فاعلٍ " و " أوَيْرِثٌ " مصروفٌ ؛ لا يقال : ينبغي أن يكون غير مصروفٍ ؛ لأنَّ فيه علتين : الوصفيَّة ، ووزن الفعل ، فإنه بزنة " أبَيْطِر " مضارع " بَيْطَرَ " وهذا ممَّا يكون الاسم فيه منصرفاً في التكبير ممتنعاً في التصغير ، لا يقالُ ذلك لأنه غلطٌ بيِّنٌ ؛ لأنَّ " أوَيْرِثاً " وزنه فُويْعِلٌ ، لا أفَيْعلٌ ؛ بخلاف " أحَيْمِر " تصغير " أحْمَرَ " . وقرأ الزهريُّ : " وارثٌ " بكسر الواو ، ويعنون بها الإمالة . قوله : " رَضِيًّا " مفعولٌ ثانٍ ، وهو فعيلٌ بمعنى فاعلٍ ، وأصله " رَضِيوٌ " لأنه من الرِّضوان . فصل معنى قوله : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا } أعطني من أبناء . واعلم أنَّ زكريَّا - عليه السلام - قدَّم السؤال ؛ لأمور ثلاثة : الأول : كونه ضعيفاً . والثاني : أن الله تعالى ما ردَّ دعاءه . والثالث : كونُ المطلُوب سبباً للمنفعة في الدِّين ، ثم بعد ذلك صرَّح بالسُّؤال . أمَّا كونه ضعيفاً ، فالضَّعيف : إمَّا أن يكون في الباطن ، أو في الظَّاهر ، والضَّعْف في الباطن أقوى من ضعف الظَّاهر ، فلهذا ابتدأ ببيان ضعف الباطن ، فقال : { وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي } وذلك لأنَّ العظم أصلبُ أعضاء البدن ، وجعل كذلك لمنفعتين : الأولى : ليكون أساساً وعمداً يعتمد عليها بقيَّة الأعضاء ؛ لأنَّها موضوعة على العظام ، والحاملُ يجبُ أن يكون أقوى من المحمول عليه . الثاني : أنَّها في بعض المواضع وقاية لغيرها . واحتج أصحابُ القول الأوَّل أنَّه إذا … أوّلاً ، ثم ردَّ بأنها تكونُ كغيرها من الأعضاء كعظام الصَّلف وقحف الرأس ، وما كان كذلك ، فيجبُ أن يكون صلباً ؛ ليصبر على ملاقاة الآفاتِ ، ومتى كان العظم صُلباً ، فمتى وصل الضعفُ إليه ، كان ضعف ما عداهُ مع رخاوته أولى ؛ ولأنَّ العظم حاملٌ لسائر الأعضاء ، فوصولُ الضعف إلى الحامل موجبٌ لوصوله إلى المحمول ، فلهذا خصَّ العظم بالوهْنِ من بين سائر الأعضاء . وأما ضعف الظاهر ، فلاستيلاء ضعف الباطن عليه ، وذلك ممَّا يزيدُ الدُّعاء تأكيداً ؛ لما فيه من الارتكان على حول الله وقوته . وأما كونهُ غير مردُود الدُّعاءِ ، فوجه توسله به من وجهين : الأول : أنَّه إذا قبله أوَّلاً ، فلو ردَّه ثانياً ، لكان الردُّ محبطاً للإنعام الأول ، والمنعم لا يسعى في إحباط إنعامه . والثاني : أنَّ مخالفة العادةِ تشقُّ على النَّفس ، فإذا تعوَّد الإنسانُ إجابة الدُّعاء ، فلو ردَّ بعد ذلك ، لكان ذلك في غاية المشقَّة ، والجفاء ممن يتوقع منه الإنعام يكون أشقَّ ، فكأنَّ زكريَّا - عليه السلام - قال : إنك إن رددَتَّنِي بعدما عودتَّني القُبول مع نهايةِ ضعفي ، كان ذلك بالغاً إلى النِّهاية القصوى في [ ألم ] القلب ، فقال : { وَلَمْ أَكُن بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا } . تقولُ العربُ : سعد فلانٌ بحاجته : إذا ظَفِر بها ، وشَقِي بها : إذا خَابَ ، ولم [ يَبْلُغْهَا ] . وأمَّا كون المطلُوب منتفعاً به في الدِّين ، فهو قوله : { وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي } . فصل في اختلافهم في المراد من قوله : { خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ } قال ابن عباس والحسن : الموالي : الورثة وقد تقدم . واختلفوا في خوفه من الموالي ، فقيل : خافهم على إفساد الدِّين . وقيل : خاف أن ينتهي أمرُه إليهم بعد موته في مالٍ ، وغيره ، مع أنَّه عرف من حالهم قصورهم في العلم والقدرة عن القيام ببعضه . وقيل : يحتمل أن يكون الله قد أعلمه أنَّه لم يبقَ من أنبياء إسرائيل نبيٌّ له أبٌ إلاَّ نبيٌّ واحدٌ ، فخاف أن يكون ذلك الواحدُ من بَني عمِّه ، إذا لم يكن له ولدٌ ، فسأل الله أن يهب له ولداً ، يكونُ هو ذلك النبيَّ ، والظاهرُ يقتضي أن يكون خائفاً في أمر يهتمُّ بمثله الأنبياء ، ولا يمتنع أن يكون زكريَّا كان إليه مع النبوة الربانيَّة من جهة الملك ؛ فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما . وقوله : " خِفْتُ " خرج على لفظ أصل الماضي ، لكنه يفيد أنه في المستقبل أيضاً ؛ كقول الرجل : قد خفتُ أن يكون كذا ، أي : " أنَا خَائِفٌ " لا يريدُ أنه قد زال الخوف عنه . قوله : { وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً } أي : أنَّها عاقرٌ في الحال ؛ لأنَّ العاقر لا يجوزُ [ أن تحبل في العادة ] ، ففي الإخبار عنه بلفظ الماضي إعلامٌ بتقادُمِ العهد في ذلكَ ، والغرضُ من هذا بيانُ استبعاد حصول الولدِ ، فكان إيرادهُ بلفظ الماضِي أقوى ، وأيضاً : فقد يوضعُ الماضي ، أي : مكان المستقبل ، وبالعكس ؛ قال الله تعالى : { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ } [ المائدة : 116 ] . وقوله : { مِن وَرَآئِي } قال أبو عبيدة : من قُدَّامي ، وبين يديَّ . وقال آخرون : بعد موتي . فإن قيل : كيف علم حالهم من بعده ، وكيف علم أنَّهُمْ يبقون بعده ، فضلاً عن أن يخاف شرَّهم ؟ . فالجوابُ : أنه قد يعرفُ ذلك بالأمارات والظنّ في حصول الخوف ، وربما عرف ببعض الأمارات استمرارهم على عادتهم في الفساد . وقوله : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا } الأكثر على أنه طلب الولد ، وقيل : بل طلب من يقُوم مقامه ، ولداً كان ، أو غيره . والأول أقربُ ؛ لقوله تعالى في سورة آل عمران ؛ حكاية عنه { رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } [ آل عمران : 38 ] . وأيضاً : فقوله ها هنا " يَرِثُنِي " يؤيِّده . وأيضاً : يؤيِّده قوله تعالى في سورة الأنبياء : { وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً } [ الأنبياء : 89 ] فدلَّ على أنَّه سأل الولد ؛ لأنَّه أخبر ها هنا أنَّ له مواليَ ، وأنَّه غيرُ منفردٍ عن الورثةِ ، وهذا إن أمكن حمله على وارثٍ يصلح أن يقوم مقامه ، لكنَّ حمله على الولد أظهرُ . واحتجَّ أصحابُ القول [ الثالث ] بأنَّه لما بشِّر بالولد ، استعظمه على سبيل التعجُّب ؛ وقال " أنَّى يكونُ لِي غلامٌ " ولو كان دعاؤُه لطلب الولد ، ما استعظم ذلك . وأجيبَ بأنَّه - عليه السلام - سأل عمَّا يوهب له ، أيوهبُ له وهو وامرأتهُ على هيئتهما ؟ أو يوهبُ له بأن يُحَوَّلا شابَّيْن ، يُولد لمثلهما ؟ ! وهذا يُحْكَى عن الحسن . وقيل : إنَّ قول زكريَّا - عليه السلام - في الدُّعاء " وكَانتِ امْرَاتِي عاقراً " إنما سأل ولداً من غيرها أو منها ؛ بأن يصلحها الله تعالى للولدِ ، فكأنَّه - عليه السلام - قال : أيسْتُ أن يكون لي منها ولدٌ ، فهبْ لي من لدنك وليًّا ، كيف شئت : إمَّا بأن تصلحها للولادةِ ، وإمَّا أن تهبهُ لي من غيرها ، فلمَّا بُشِّر بالغلام ، سأل أن يرزق منها ، أو من غيرها ، فأخبر بأنه يرزقه منها . فصل في المراد بالميراث في الآية واختلفُوا ما المرادُ بالميراثِ ، فقال ابنُ عبَّاس ، والحسنُ ، والضحاك : وراثةُ المالِ في الموضعين . وقال أبو صالح : وراثةُ النبوَّةِ . وقال السديُّ ، ومجاهدٌ ، والشعبيُّ : يَرِثُنِي المال ، ويرثُ من آل يعقوب النبوَّة . وهو مرويٌّ أيضاً عن ابن عباس ، والحسن ، والضحاك . وقال مجاهدٌ : يرثُنِي العلم ، ويرثُ من آل يعقُوب النبوَّة . واعلمْ أنَّ لفظ الإرث يستعملُ في جميعها : أمَّا في المال فلقوله تعالى : { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } [ الأحزاب : 27 ] وأمَّا في العلم ، فلقوله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ } [ غافر : 53 ] . وقال - عليه الصلاة والسلام - : " العُلماءُ ورثةُ الأنبياءِ ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثُوا ديناراً ولا دِرْهَماً ، وإنَّما ورَّثُوا العِلْمَ " . وقال تعالى : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } [ النمل : 16 ] وهذا يحتملُ وراثة الملك ، ووارثة النبوَّة ، وقد يقال : أورثَنِي هذا غمًّا وحزناً . فصل في أولي ما تحمل عليه الآية قال الزَّجاج : الأولى أن يحمل على ميراث غير المال ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " نَحْنُ معاشِرَ الأنبياءِ - لا نُورَثُ ، مَا تَرَكْنَا صدقةٌ " ولأنه يبعدُ أن يشفق زكريَّا - وهو نبيٌّ من الأنبياء - أن يرث بنُو عمِّه مالهُ . والمعنى : أنه خاف تضييع بني عمِّه دين الله ، وتغيير أحكامه على ما كان شاهدُه من بني إسرائيل من تبديل الدِّين ، وقتل من قُتل من الأنبياء ، فسأل ربَّه وليًّا صالحاً يأمنُه على أمَّته ، ويرثُ نُبوَّته وعلمه ؛ لئلاَّ يضيع الدِّين . قوله : { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } ؛ الآلُ : خاصَّةُ الرجل الذي يئول أمرهم إليه ، ثم قد يئوُل أمرهم إليه لقرابةِ المقربين تارةً ؛ وبالصحابة أخرى ؛ كآل فرعون ، وللموافقة في الدِّين ؛ كآل النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - . وأكثر المفسِّرين على أنَّ يعقوب هنا : هو يعقوبُ بنُ إسحاق بن إبراهيم - عليه السلام - لأنَّ زوجة زكريَّا - عليه السلام - هي أختُ مريم ، وكانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهوذا بن يعقوب ، وأمَّا زكريا - عليه السلام - فهو من ولد هارون أخي موسى ، وهارون وموسى من ولد لاوي بن يعقوب بن إسحاق ، وكانت النبوة في سِبْط يعقوب ؛ لأنَّه هو إسرائيلُ - عليه السلام - . وقال بعضُ المفسِّرين : ليس المرادُ من يعقوب هاهنا ولد إسحاق بن إبراهيم ، بل يعقُوب بن ماثان ، [ أخو عمران بن ماثان ] ، وكان آلُ يعقوب أخوال يحيى بن زكريَّا ، وهذا قولُ الكلبيِّ ومقاتل . وقال الكلبيُّ : كان بنُو ماثان رُءوس بني إسرائيل ومُلُوكهُم ، وكان زكريَّا رئيس الأحبار يومئذٍ ، فأراد أن يرثه حُبُورته ، ويرث بنو ماثان ملكهم . فصل في تفسير " رضيًّا " اختلفوا في تفسير " رَضِيًّا " فقيل : برًّا تقيًّا مرضيًّا . وقيل : مرضيًّا من الأنبياء ، ولذلك استجاب الله له ؛ فوهب له يحيى سيِّداً ، وحصُوراً ، ونبيًّا من الصَّالحين ، لم يعصِ ، ولم يهم بمعصية . وقيل : " رَضِيًّا " في أمَّته لا يتلقَّى بالتَّكذيب ، ولا يواجهُ بالرَّدِّ . فصل في الاحتجاج على خلق الأفعال احتجوا بهذه الآية على مسألة خلق الأفعال ؛ لأنَّ زكريَّا - عليه السلام - سأل الله تعالى أن يجعله رضيًّا ؛ فدلَّ على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى . فإن قيل : المرادُ : أن يلطف به بضُرُوب الألطاف فيختار ما يصير به رضيًّا عنده ، فنسب ذلك إلى الله تعالى . فالجوابُ من وجهين : الأول : لو حملناه على جعل الألطاف ، وعندها يصير إليه المرء باختياره رضيًّا ؛ لكان ذلك مجازاً ، وهو خلافُ الأصل . الثاني : أنَّ جعل تلك الألطاف واجبةً على الله تعالى ، لا يجوزُ الإخلال به ، وما كان واجباً لا يجوزُ طلبهُ بالدُّعاء والتضرُّع .