Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 37-40)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ } . قيل : المرادُ النَّصارى ، سُمُّوا أحزاباً ؛ لأنهم تحزَّبُوا ثلاث فرق في أمر عيسى : النُّسْطُوريَّة ، والملكانيَّة [ واليعقُوبيَّة ] وقيل : المراد بالأحزاب الكفَّارُ بحيثُ يدخلُ فيهم اليهودُ ، والنصارى ، والكفَّار الذين كانوا في زمان محمَّد - صلوات الله وسلامه عليه - وهذا هو الظاهرُ ؛ لأنَّه تخصيصٌ فيه ، ويؤيِّدهُ قوله تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } . قوله : { مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } : " مَشْهَد " مفعل : إمَّا من الشَّهادة ، وإمَّا من الشُّهود ، وهو الحضورُ ، و " مَشْهَد " هنا : يجوز أن يراد به الزمانُ ، أو المكان ، أو المصدر : فإذا كان من الشهادة ، والمرادُ به الزمانُ ، فتقديرهُ : من وقتِ شهادة ، وإن أريد به المكانُ ، فتقديره : من مكانِ شهادةِ يومٍ ، وإن أريد به المصدرُ ، فتقديره : من شهادة ذلك اليومِ ، وأن تشهد عليهم ألسنتهم ، وأيديهم ، وأرجلهم ، والملائكة ُ ، والأنبياءُ ، وإذا كان من الشُّهود فيه ، وهو الموقفُ ، أو من وقت الشُّهود ، وإذا كان مصدراً بحالتيه المتقدمتين ، فتكونُ إضافتهُ إلى الظرف من باب الاتِّساع ؛ كقوله { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [ الفاتحة : 4 ] . ويجوز أن يكون المصدر مضافاً لفاعله على أن يجعل اليوم شاهداً عليهم : إمَّا حقيقة ، وإمَّا مجازاً . ووصف ذلك المشهد بأنَّه عظيمٌ ؛ لأنَّه لا شيء أعظم ممَّا يشاهدُ ذلك اليوم من أهواله . قوله : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } : هذا لفظ أمرٍ ، ومعناه : التعجُّب ، وأصحُّ الأعاريب فيه ، كما تقرَّر في علم النَّحو : أنَّ فاعله هو المجرور بالباءِ ، والباءُ زائدة ، وزيادتها لازمةٌ ؛ إصلاحاً للفظ ؛ لأنَّ " أفْعِلْ " أمراً لا يكون إلاَّ ضميراً مستتراً ، ولا يجوز حذفُ الباءِ إلاَّ مع أنْ وأنَّ ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 3606 - تَرَدَّدَ فيها ضَوْؤُهَا وشُعَاعُهَا فأحْصِنْ وأزْيِنْ لامرىءٍ أنْ تَسَرْبَلا @@ أي : بأنْ تسربل ، فالمجرورُ مرفوعُ المحلِّ ، ولا ضمير في " أفْعِلْ " ولنا قولٌ ثانٍ : أن الفاعل مضمرٌ ، والمراد به المتكلِّمُ ؛ كأنَّ المتكلم يأمر نفسه بذلك ، والمجرورُ بعده في محلِّ نصبٍ ، ويعزى هذا للزَّجَّاجِ . ولنا قولٌ ثالثٌ : أن الفاعل ضمير المصدرِ ، والمجرور منصوبُ المحلِّ أيضاً ، والتقدير : أحسن ، يا حُسْنُ ، بزيدٍ ، ولشبه هذا الفاعل عند الجمهور بالفضلة لفظاً ، جاز حذفه للدَّلالةِ عليه كهذه الآية ، فإنَّ تقديره : وأبْصِرْ بهم ، وفيه أبحاثٌ موضوعها كتبُ النَّحْو . فصل في التعجب قالوا : التعجُّب استعظام الشيء ، مع الجهل ؛ بسبب عظمه ، ثم يجوز استعمالُ لفظ التعجُّب عند مجرَّد الاستعظام من غير خفاءِ السَّبب ، أو من غير أن تكون العظمةُ سبب حصوله . قال الفرَّاء : قال سفيانُ : قرأتُ عن شريحٍ : { بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ } [ الصافات : 12 ] فقال : إنَّ الله لا يعجبُ من شيء ، إنما يعجبُ من لا يعلم ، قال : فذكرتُ ذلك لإبراهيم النخعيِّ - رضي الله عنه - فقال : إنَّ شريحاً شاعر يعجبه علمه ، وعبد الله أعلمُ بذلك منه قرأها { بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ } . ومعناه : أنَّه صدر من الله تعالى فعلٌ ، لو صدر مثله عن الخلق ، لدلَّ على حصول التعجُّب في قلوبهم ، وبهذا التأويل يضافُ المكرُ والاستهزاءُ إلى الله تعالى ، وإذا عرفت هذا ، فللتعجُّب صيغتان : إحداهما : ما أفعلهُ ، والثانيةُ أفعل به . كقوله تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } والنحويُّون ذكروا له تأويلان : الأول : قالوا : أكْرِمْ بزيدٍ ، أصل " أكرم زيدٌ " أي : صار ذا كرمٍ ، كـ " أغَدَّ البَعِيرُ " أي : صار ذا غُدَّة ، إلاَّ أنه خرج على لفظ الأمْر ، ومعناه الخبرُ ، كما أخرج على لفظ الأمر ما معناه الخبر ، كما أخرج لفظ الخبر ما معناه الأمر ؛ كقوله سبحانه وتعالى : { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ } [ البقرة : 228 ] ، { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [ البقرة : 233 ] ، { قُلْ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً } [ مريم : 75 ] أي : يمُدُّ له الرحمنُ ، والباء زائدةٌ . الثاني : أن يقال : إنَّه أمرٌ لكُلِّ أحدٍ بأن يجعل زيداً كريماً ، أي : بأن يصفه بالكرمِ ، والباء زائدةٌ ؛ كما في قوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } [ البقرة : 195 ] . قال ابن الخطيبِ : وسمعتُ لبعضِ الأدباء فيه تأويلاً ثالثاً ؛ وهو أن قولك : أكرم بزيدٍ ، يفيدُ أنَّ زيداً بلغ في الكرمِ إلى حيثُ كأنَّه في ذاته صار كرماً ؛ حتَّى لو أردتَّ جعل غيره كريماً ، فهو الذي يلصقك بمقصُودك ويحصِّلُ لك غرضك . فصل في معنى الآية المشهورُ أنَّ معنى قوله : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } " ما أسمعهُمْ ، وما أبْصَرهُم " والتعجُّب على الله تعالى محالٌ ، وإنَّما المرادُ أنَّ أسماعهم وأبصارهُم يومئذٍ جديرةٌ بأن يتعجَّب منها بعدما كانُوا صُمًّا عُمياً في الدُّنيا . وقيل : معناه التَّهديدُ مما يسمعُون وسيبصرُون ما يَسُوءهُمْ ، ويصدعُ قلوبهم . وقال القاضي : ويحتملُ أن يكون المرادُ : أسمع هؤلاء وأبصرهم ، أي : عرِّفهم حال القوم الذين يأتوننا ؛ ليعتبروا وينزجروا . وقال الجُبَّائيُّ : ويجوز : أسمع النَّاسَ بهؤلاء ، وأبصرهُم بهؤلاءِ ، ليعرفُوا أمرهُم ، وسُوء عاقبتهم ، فينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم . قوله تعالى : { يَوْمَ يَأْتُونَنَا } معمولٌ لـ " أبْصِرْ " . [ ولا يجوز أن يكون معمولاً لـ " أسْمِعْ " لأنه لا يفصلُ بين فعلِ التعجُّب ، ومعموله ؛ ولذلك كان الصحيح أنه ] لا يجوز أن تكون المسألةُ من التنازع ، وقد جوَّزه بعضهم ملتزماً إعمال الثاني ، وهو خلافُ قاعدةِ الإعمال ، وقيل : بل هو أمرٌ حقيقة ، والمأمورُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمعنى : أسمعِ النَّاس ، وأبصرهم بهم وبحديثهم ماذا يصنعُ بهم من العذاب ؟ وهو منقولٌ عن أبي العالية . قوله تعالى : { لَـٰكِنِ ٱلظَّالِمُونَ ٱلْيَوْمَ } . نصب " اليَوْمَ " بما تضمَّنه الجار من قوله " في ضلالٍ مُبينٍ " أي : لكن الظالمُون استقرُّوا في ضلالٍ مبينٍ اليوم ، ولا يجوز أن يكون هذا الظرفُ هو الخبرَ ، والجارُّ لغوٌ ؛ لئلا يخبر عن الجثة [ بالزمَّان ؛ بخلاف ] قولك : القتالُ اليوم في دارِ زيدٍ ؛ فإنَّهُ يجوز الاعتباران . فصل في معنى الآية المعنى : { لَـٰكِنِ ٱلظَّالِمُونَ ٱلْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي : خطأ بيِّنٍ ، وفي الآخرةِ يعرفُون الحقَّ . وقيل : لكن الظَّالمُون اليوم في الآخرة في ضلال عن الجنَّة ؛ بخلاف المؤمنين . وقوله { لَـٰكِنِ ٱلظَّالِمُونَ } من إيقاع الظَّاهر موقع المضمر . قوله : { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ } هذا أمرٌ لمحمَّد - صلوات الله عليه وسلامه - بأن ينذر من في زمانه ، والإنذار : التخويفُ من العذاب ، لكي يحذروا ترك عبادةِ الله تعالى ، ويوم الحسرة : هو يوم القيامة ؛ لأنَّه يكثر التحسُّر من أهل النَّار . وقيل : يتحسَّر أيضاً في الجنَّة ، إذا لم يكن من السابقين إلى الدَّرجات العالية ؛ لقول رسول الله - صلوات الله عليه وسلامه - : " مَا مِنْ أحدٍ يمُوتُ إلاَّ ندمَ ، قالوا : فَما ندمهُ يا رسُول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال صلى الله عليه وسلم : إنَّ كان مُحْسناً ، ندم ألاَّ يكون ازداد ، وإن كان مسيئاً ندم ألاَّ يكون نزَعَ " والأول أصحُّ ؛ لأن الحسرة [ هَمٌّ ] ، ولا تليقُ بأهْل الجنَّة . قوله : { إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ } : يجوز أن يكون منصوباً بالحسرةِ ، والمصدرُ المعرَّفُ بـ " ألْ " يعملُ في المفعولِ الصَّريح عند بعضهم ، فكيف بالظَّرف ؟ ويجوز أن يكون بدلاً من " يَوْم " فيكون معمولاً لـ " أنْذِرْ " كذا قال أبو البقاء ، والزمخشريُّ وتبعهما أبو حيان ، ولم يذكر غير البدل ، وهذا لا يجوز إن كان الظَّرف باقياً على حقيقته ؛ إذ يستحيلُ أن يعمل المستقبلُ في الماضي ، فإن جعلت " اليوم " مفعولاً به ، أي : خوِّفهُم نفس اليوم ، أي : إنَّهُمْ يخافُون اليوم نفسهُ ، صحَّ ذلك لخُرُوجِ الظَّرف إلى حيِّز المفاعيل الصريحة . فصل في قوله تعالى { إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ } في قوله تعالى : { إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ } وجوه : أحدها : قُضِيَ الأمرُ ببيان الدَّلائل ، وشرح أمر الثَّواب والعقاب . وثانيها : [ إذ قضي الأمرُ يوم الحسرة بفناء الدُّنيا ، وزوالِ التَّكليف ، والأول أقرب ؛ لقوله : { وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } . وثالثها : ] { إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ } فُرِغَ من الحساب ، وأدخل أهل الجنَّة الجنَّة ، وأهلُ النَّار النَّار ، وذُبح الموتُ ؛ كما روي أنَّه " سُئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن قوله : { إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ } فقال : " حِينَ يَجاءُ بالموتِ على صُورة كبشٍ أمْلحَ ، فيذبحُ ، والفريقان ينظران ؛ فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحٍ ، وأهلُ النَّار غمًّا إلى غمٍّ " " . قوله تعالى : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } جملتان حاليتان ، وفيهما قولان : أحدهما : أنهما حالان من الضمير المستتر في قوله { في ضلالٍ مبينٍ } أي : استقرُّوا في ضلالٍ مبينٍ على هاتين الحالتين السيئتين . والثاني : أنهما حالان من مفعول " أنذِرْهُم " [ أي : أنذرهُم على هذه الحالِ ، وما بعدها ، وعلى الأول يكون قوله " وأنْذِرْهُم " ] اعتراضاً . والمعنى : وهم في غفلةٍ عمَّا يفعلُ بهم في الآخرة { وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ولا يصدقون بذلك اليومِ . قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا } أي : نُميتُ سُكَّان الأرض ، ونُهلِكُهم جميعاً ، ويبقى الرَّبُّ وحده ، فيرثُهُم { وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } ، فنجزيهم بأعمالهم . [ وقرأ العامَّةُ " يُرْجَعُون " بالياء من تحت مبنيًّا للمفعول ، والسُّلمي ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى مبنيًّا للفاعل ، والأعرج بالتاء من فوقُ مبنيًّا للمفعول على الخطاب ، ويجوز أن يكون التفاتاً ، وألا يكون ] .