Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 41-50)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَٰبِ إِبْرَاهِيمَ } اعلم أنَّ منكرِي التوحيد الذين اثْبَتُوا معبُوداً سوى الله تعالى فريقان : منهم : من أثبت معبُوداً غير الله تعالى حيًّا ، عاقلاً ، فاهماً ، وهم النصارى . ومنهم : من أثبت معبُوداً غير الله ، جماداً ليس بحيّ ولا عاقلٍ ، وهم عبدةُ الأوثان . والفريقان ، وإن اشتركا في الضَّلال ، إلاَّ أنَّ ضلال عبدة الأوثان أعظم ، فلمَّا بيَّن الله تعالى ضلال الفريق الأوَّل ، تكلَّم في ضلال الفريق الثاني ، وهم عبدةُ الأوثان ؛ فقال : { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَٰبِ } والواو في قوله : { وَٱذْكُرْ } عطف على قوله { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } [ مريم : 2 ] كأنَّه لمَّا انتهت قصَّةُ زكريَّا ويحيى ، وعيسى - صلوات الله عليهم - قال : قد ذكرتُ حال زكريَّا ، فتذكر حال إبراهيم - صلواتُ الله عليه - وإنَّما أمره بالذِّكر لأنَّه - صلوات الله عليه - ما كان هُو ، ولا قومُه ، ولا أهل بلده مشتغلين بالتَّعليم ، ومطالعةِ الكتب ، فإذا أخبر عن هذه القصَّة ، كما كانت من غير زيادةٍ ، ولا نقصانٍ ، كان ذلك إخباراً عن الغَيْب ، ومُعْجِزاً [ قاهراً ] دالاًّ على نُبُوَّته ، وإنَّما ذكر الاعتبار بقصَّة إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - لوجوه : الأول : أنَّ إبراهيم - صلوات الله عليه وسلامه - كان أبا العرب ، وكانُوا مقرّين بعُلُوِّ شأنه ، وطهارةِ دينه على ما قال تعالى { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [ الحج : 78 ] ، وقال تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] فكأنه تعالى قال للعرب : إنَّ كنتم مقلِّدين لآبائكم على قولكم { إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ } [ الزخرف : 23 ] فأشرفُ آبائكم وأعلاهُم قدراً هو إبراهيم - صلوات الله عليه - فقلِّدوه في ترك عبادةِ الأوثان ، وإن كُنتم [ مستدلين ] ، فانظروا في هذه الدَّلائل التي ذكرها إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - لتعرفُوا فساد عبادةِ الأوثان ، وبالجملةُ : فاتَّبِعُوا إبراهيم ، إمَّا تقليداً ، أو استدلالاً . الثاني : أنَّ كثيراً من الكُفَّار في زمان رسُول الله - صلوات الله عليه وسلامه - كانوا يقولون : نتركُ دين آبائنا ، وأجدادنا ؟ فذكر الله تعالى قصَّة إبراهيم - صلوات الله عليه وسلامه - و [ بيَّن ] أنه ترك دين أبيه ، وأبطل قوله بالدليل ، ورجَّح متابعة الدَّليل على متابعة أبيه . الثالث : أنَّ كثيراً من الكُفَّار كانُوا يتمسَّكُون بالتقليد ، [ وينكِرُون ] الاستدلال ؛ كما حكى الله تعالى عنهم { قَالُواْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } [ الأنبياء : 53 ] فحكى الله عن إبراهيم التَّمَسُّكَ بطريقة الاستدلال ؛ تنبيهاً للكُفَّار على سُقُوط طريقتهم ، ثُمَّ قال تعالى في صفة إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } ، والصديق مبالغةٌ في الكثير الصِّدق ، القائم عليه ، يقال : رجلٌ خميرٌ ، وسكِّيرٌ للمولعِ بهذه الأفعال . وقيل : هو الذي يكون كثير التصديق بالحقِّ ؛ حتَّى يصير مشهُوراً به ، والأول أولى ؛ لأنَِّ المصدِّق بالشيء لا يوصفُ بكونه صديقاً إلاَّ إذا كان صادقاً في ذلك التَّصديق ، فيعودُ الأمْرُ إلى الأوَّل . فإن قيل : أليس قد قال الله تعالى { وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ } [ الحديد : 19 ] فالجوابُ : المؤمنون بالله [ ورسله ] صادقُون في ذلك التَّصديق . واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون صادقاً في كُلِّ ما أخبر ؛ لأنَّ الله تعالى صدَّقه ، ومُصدَّق الله صادقٌ ؛ فلزم من هذا كونُ الرَّسُول صادقاً فيما يقوله ، ولأنَّ الرُّسُل شهداءُ الله على النَّاسِ ؛ لقوله تعالى : { وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً } [ النساء : 41 ] والشَّهيد : إنَّما يقبلُ قوله ، إذا لم يكن كاذباً ؛ فإن قيل : فما قولكم في قول إبراهيم { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } [ الأنبياء : 63 ] و { إِنِّي سَقِيمٌ } [ الصافات : 89 ] . فالجوابُ مشروحٌ في هذه الآياتِ ، وبينَّا أن شيئاً من ذلك ليس بكذبٍ ، ولمَّا ثبت أنَّ كُلَّ نبيٍّ يجب أن يكون صديقاً ، ولا يجبُ في كلِّ صدِّيقٍ أن يكون نبيًّا ؛ ظهر بهذا قربُ مرتبة الصِّدِّيق من مرتبة النبيِّ ، فلهذا انتقل من ذكر كونه صديقاً إلى ذكر كونه نبيًّا . وأما النبيُّ : فمعناه : كونهُ رفيع القدر عند الله ، وعند النَّاس ، وأيُّ رفعةٍ أعلى من رفعةِ من جعله الله واسطةً بينه ، وبين عباده ، وقوله : { كَانَ صِدِّيقاً } معناه : صار ، وقيل : وجد صدِّيقاً نبيًّا ، أي : كان من أوَّل وجوده إلى انتهائه موصوفاً بالصدق والصِّيانة . قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لاَِّبِيهِ } : يجوز أن يكون بدلاً من " إبْراهيمَ " بدل اشتمال ؛ كما تقدَّم في { إِذِ ٱنتَبَذَتْ } [ الآية : 16 ] وعلى هذا ، فقد فصل بين البدل ، والمبدل منه ؛ بقوله : { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } نحو : " رأيتُ زيْداً - ونِعْمَ الرَّجُل أخَاكَ " وقال الزمخشريُّ : ويجوز أن تتعلق " إذْ " بـ " كَانَ " أو بـ " صدِّيقاً نبيًّا " ، أي : كان جامعاً لخصائص الصديقين ، والأنبياء ، حين خاطب أباه بتلك المخاطبات ولذلك جوَّز أبُو البقاء أن يعمل فيه " صدِّيقاً نبيًّا " أو معناه . قال أبو حيان : " الإعرابُ الأوَّلُ - يعني البدلية - يقتضي تصرُّف " إذْ " وهي لا تتصرَّفُ ، والثاني فيه إعمالُ " كان " في الظرف ، وفيه خلافٌ ، والثالث لا يكون العامل مركَّباً من مجموعِ لفظين ، بل يكون العملُ منسوباً للفظٍ واحدٍ ، ولا جائز أن يكون معمولاً لـ " صدِّيقاً " لأنَّه قد وصف ، إلا عند الكوفيِّين ، ويبعدُ أن يكون معمولاً لـ " نبيًّا " لأنه يقتضي أنَّ التَّنْبِئَة كانت في وقتِ هذه المقالة " . قال شهاب الدين : العاملُ فيه ما لخَّصَهُ أبو القاسم ، ونضَّدهُ بحسن صناعته من مجموع اللفظين في قوله : " أي : كان جامعاً لخصائص الصِّدِّيقين والأنبياء حين خاطب أباه " . وقد تقدَّمت قراءةُ ابن عامرٍ " يَا أبَتَ " وفي مصحف عبد الله " وا أبتِ " بـ " وا " التي للندبة . والتاءُ عوضٌ من ياءِ الإضافةِ ، ولا يقال : يا أبتي ، لئلاَّ يجمع بين العوض ، والمعوَّض منه ، وقد يقال : يا أبتا لكون الألف بدلاً من الياء . قوله تعالى : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } وصف الأوثان بصفاتٍ ثلاثٍ ، كُلّ واحدةٍ منها فادحةٌ في الإلهيَّة وبيانُ ذلك من وجوه : أحدها : أن العبادة غايةُ التَّعظيم ، فلا يستحقُّها إلاَّ من له غايةُ الإنعامِ ، وهو الإله الذي منه أصُولُ النِّعَم ، وفروعها على [ ما تقدَّم ] في تفسير قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ } [ آل عمران : 51 ] ، وقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] ، وكما أنَّه لا يجوز الاشتغالُ بشكرها ، لمَّا لم يكُن مُنْعِمَة ، وجب ألاَّ يجوز الاشتغالُ بعبادتها . وثانيها : أنَّها إذا لم تسمع ، ولم تُبْصر ، ولم تُمَيِّز من يطيعها عمَّن يعصيها ، فأيُّ فائدةٍ في عبادتها ، وهذا تنبيهٌ على أن الإله يجبُ أن يكون عالماً بكُلِّ المعلومات . وثالثها : أنَّ الدُّعاء مُخُّ العبادةِ ، فإذا لم يسمع الوثنُ دعاءَ الدَّاعي ، فأيُّ منفعةٍ في عبادته ؟ وإذا لم يبصرْ تقرُّبَ من يتقرَّب إليه ، فأيُّ منفعةٍ في ذلك التَّقَرُّب ؟ . ورابعها : أنَّ السَّامع المُبصر الضَّار النَّافع أفضلُ ممن كان عَارِياً عن كُلِّ ذلك ، والإنسان موصوفٌ بهذه الصِّفات ؛ فيكون أفضل ، وأكمل من الوثنِ ، فكيف يليقُ بالأفضل عبوديَّةُ الأخسِّ ؟ . وخامسها : إذا كانت لا تنفعُ ، ولا تضرُّ ، فلا يرجى منها منفعةٌ ، ولا يخافُ من ضررها ، فأيُّ فائدةٍ في عبادتها ؟ ! . وسادسها : إذا كانت لا تحفظ نفسها عن الكسر والإفساد ، حين جعلها إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - جُذاذاً ، فأيُّ رجاءٍ فيها للغير ؟ ! ، فكأنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - قال : ليست الإلهيَّة إلاَّ لربٍّ يسمعُ ويبصر ، ويجيبُ دعوة الدَّاعي ، إذا دعاه . فإن قيل : إمَّا أن يقال : إنَّ أبا إبراهيم - صلوات الله عليه - كان يعتقدُ في تلك الأوثان أنَّها آلهةٌ قادرةٌ ، مختارةٌ ، خالقة . أو يقال : إنَّه ما كان يعتقدُ ذلك ؛ بل كان يعتقدُ أنَّها تماثيلُ للكواكب ، والكواكبُ هي الآلهة المدبِّرة للعالم ؛ فتعظيم تماثيل الكواكب يوجب تعظيم الكواكب . أو كان يعتقدُ أنَّ هذه الأوثان تماثيلُ أشخاصٍ معظَّمة عند الله من البشر ، فتعظيمُها يقتضي كون أولئك الأشخاص شُفعاء لهم عند الله . أو كان يعتقدُ أن تلك الأوثان طلَّسْمَاتٌ ركِّبَتْ بحسب اتِّصالاتٍ مخصُوصةٍ للكواكب ، قلَّما يتَّفِقُ مثلها ، أو لغير ذلك . فإن كان أبو إبراهيم من القسم الأوَّل ، كان في نهاية الجُنُونِ ؛ لأنَّ العلم بأنَّ هذا الخشب المنحُوت في هذه السَّاعة ليس خالقاً للسَّموات والأرض من أجلى العلوم الضروريَّة ، فالشَّاكُّ فيه يكونهُ مجنوناً ، والمجنونُ لا يناظرُ ، ولا يُوردُ عليه الحُجَّة ، وإن كان من القسم الثاني ، فهذه الدلائلُ لا تقدحُ في شيءٍ من ذلك ؛ لأنَّ ذلك المذهب إنما يبطلُ بإقامةِ الدَّلائل على أنَّ الكواكبَ ليست أحياء ، ولا قادرة ، والدليلُ المذكور هنا لا يفيدُ ذلك . فالجوابُ : لا نزاع في أنَّه لا يخفى على العاقلِ : أنَّ الخشب المنحوت لا يصلح لخلق العالمِ ، وإنَّما مذهبهم هذا على الوجه الثاني ، وإنَّما أورد إبراهيمُ - صلوات الله وسلامه عليه - هذه [ الدلائل ] عليهم ؛ لأنَّهم كانوا يعتقدُون أنَّ عبادتها تفيدُ نفعاً ؛ إما على سبيل الخاصِّيَّة الحاصلةِ من الطِّلَّمسات ، أو على سبيل أن الكواكب تنفع ، وتضُرُّ ، فبيَّن إبراهيمُ - صلواتُ الله عليه وسلامه - أنه لا منفعة في طاعتها ، ولا مضرَّة في الإعراض عنها ؛ فوجب أن تجتنب عبادتها . قوله : { يَٰأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ ٱلْعِلْمِ } بالله ، والمعرفة { مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِيۤ } على ديني { أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } مستقيماً . { يَٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَٰنَ } أي : لا تطعهُ فيما يزيِّن لك من الكُفر والشِّرك ؛ لأنَّهم ما كانُوا يعبدُون الشيطان ؛ فوجب حملُه على الطَّاعة { إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً } أي : عاصياً ، و " كَانَ " بمعنى الحالِ ، أي : هو كذلك . فإن قيل : هذا القول يتوقَّف على إثبات أمور : أحدها : إثباتُ الصَّانع . وثانيها : إثباتُ الشيطان . وثالثها : أن الشيطان عاصٍ [ لله ] . ورابعها : أنَّه لما كان عاصياً ، لم تَجُزْ طاعتهُ في شيءٍ من الأشياء . وخامسها : أن الاعتقاد الذي كان عليه آزَرُ مُستفادٌ من طاعة الشيطان ، ومن شأنِ الدَّلالة التي تُورَدُ على الخصم : أن تكون مركبة من مقدِّماتٍ معلومةٍ ، يسلِّمها الخصمُ ، ولعلَّ أبا إبراهيم كان منازعاً في كُلِّ هذه المقدِّمات ، وكيف ، والمحكيُّ عنه : أنه ما كان يُثْبِتُ إلهاً سوى نُمْرُوذَ ؛ فكيف يسلِّم وجود الرَّحمن ؟ . وإذا لم يسلِّم وجوده ، فكيف يسلَّم أنَّ الشيطان عاصٍ في الرحمن ؟ وبتقدير تسليم ذلك ؛ فكيف يسلِّم الخصمُ بمجرَّد هذا الكلامِ أنَّ مذهبهُ مقتبسٌ من الشيطان ، بل لعلَّه يقلب ذلك على خصمه . فالجوابُ : أنَّ الحجَّة المعوَّل عليها في إبطالِ مذهب " آزَرَ " هو قوله : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } وهذا الكلامُ يجري مَجْرَى التَّخويف والتَّحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدِّلالة ، فسقط السُّؤال . قوله تعالى : { يَٰأَبَتِ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ } . قال الفرَّاء - رحمه الله - : أخافُ : أعلمُ ، والأكثرون على أنَّه محمول على ظاهره ، والقول الأوَّل إنَّما يصحُّ ، لو كان إبراهيمُ - صلواتُ الله وسلامه عليه - عالماً بأنَّ أباه سيموتُ على الكفر ، وذلك لم يثبتْ ؛ فوجب إجراؤُه على ظاهره ؛ فإنَّه كان يجوزُ أن يؤمنَ ؛ فيصير من أهْلِ الثَّواب ، ويجوز أن يدُوم على الكفر ؛ فيكون من أهل العقاب ، ومن كان كذلك ، كان خائفاً لا قاطعاً ، والأوَّلُون فسَّروا الآية ، فقالوا : أخافُ ، بمعنى أعلمُ بـ { أن يمسَّك عذابٌ } يصيبك عذابٌ من الرحمن ، إن أقمت على الكفر ، { فتكُون للشيطٰنِ وليًّا } قريناً ؛ لأنَّ الولاية سببُ المعيَّة ، فأطلق اسم السَّبب على المُسبب مجازاً . وقيل : المرادُ بالعذابِ هنا : الخِذْلانُ ، والتقدير : إنَّي أخاف أن يمسَّك خذلانٌ من الله ، فتصير موالياً للشيطان ، ويتبرأ الله منك . فصل في نظم الآية أعلمْ أنَّ إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - رتَّب هذا الكلام في غاية الحسن ؛ لأنَّه ذكر أولاً ما يدلُّ على المنع من عبادة الأوثان ، ثُمَّ أمره باتِّباعه في النَّظر ، والاستدلال ، وترك التقليد ، ثُمَّ ذكر أن طاعة الشَّيطان غير جائزة في العُقُول ، ثم ختم الكلام بالوعيد الزَّاجر عن الإقدام على ما لا ينبغي ، ثم إنَّه - صلوات الله عليه - أورد هذا الكلام الحسن مقروناً باللُّطف والرِّفق ؛ فإن قوله في مقدِّمة كل كلامه : " يا أبت " دليلٌ على شدَّة الحبِّ ، والرغبة في صونه عن العقاب ، وإرشاده إلى الصَّواب ، وختم الكلام بقوله : { إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ } وذلك يدلُّ على شدَّة تعلُّق قلبه بمصالحِه ، وإنَّما فعل ذلك لوجوهٍ : الأول : لقضاءِ حقِّا الأبُوَّة على ما قال سبحانه وتعالى : { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] والإرشادُ إلى الدِّين من أعظم أنواع الإحسان ، فإذا انضم إليه رعايةُ الأدب والرِّفق ، كان نُوراً على نُور . والثاني : أنَّ الهادي إلى الحقِّ لا بُدَّ وأن يكون رفيقاً لطيفاً لا يُورِدُ الكلام على سبيل العُنْفِ ؛ لأنَّ إيرادهُ على سبيل العُنْف يصيرُ كالسَّبب في إعراض المُستمع ؛ فيكون ذلك في الحقيقةِ سَعْياً في الإغواء . وثالثها : - ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال : قال - صلوات الله عليه وسلامه - : " أوْحَى اللهُ - تبارك وتعالى - إلى إبراهيمَ أنَّك خليلي فحسِّنْ خُلقكَ ولو مع الكُفَّار تدخُلْ مداخلَ الأبْرارِ ؛ فإن كلمتي سبقت لمن حسَّن خلقهُ ، أنْ أظلَّهُ تحت عرشي ، وأسْكِنهُ حظيرةَ القُدْسِ ، وأدنيه من جوارِي " . قوله : { أَرَاغِبٌ أَنتَ } : يجوز فيه وجهان : أحدهما : أن يكون " راغبٌ " مبتدأ ؛ لاعتماده على همزةِ الاستفهام ، و " أنْتَ " فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر . والثاني : أنه خبر مقدمٌ ، و " أنْتَ " مبتدأ مؤخَّر ، ورُجِّح الأول بوجهين : أحدهما : أنه ليس فيه تقديمٌ ، ولا تأخير ؛ إذ رتبهُ الفاعل التأخيرُ عن رافعه . والثاني : أنه لا يلزمُ منه الفصلُ بين العامل ومعموله بما ليس معمولاً للعامل ؛ وذلك أنَّ " عَنْ آلهتي " متعلقٌ بـ " رَاغِبٌ " فإذا جعل " أنْتَ " فاعلاً قد فُصِل بما هو كالجزءِ من العامل ؛ بخلاف جعله خبراً ؛ فإنه أجنبيٌّ ؛ إذ ليس معمولاً لـ " راغبٌ " . فصل فيما قابل به آزر دعوة إبراهيم اعلم أنَّ إبراهيم - صلوات الله عليه - لمَّا دعا أباهُ إلى التوحيد ، وذكر الدَّلالة على فساد عبادة الأوثان ، وأردف ذلك بالوعظ البليغِ ، مقروناً باللُّطف والرِّفْق قابله أبُوه بجواب [ مضادٍّ ] لذلك ، فقابل حُجَّته بالتَّقليد بقوله : { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ ءَالِهَتِي } فأصرَّ على ادعاء إلهيتها جهلاً وتقليداً ، وقابل وعظهُ بالسَّفاهة ؛ حيثُ هدَّده بالضَّرْب والشَّتْم ، وقابل رفقه في قوله " يا أبتِ " بالعنف ، فلم يَقُلْ له : يا بنيَّ ، بل قال له : يا إبراهيمُ ، وإنَّما حكى الله تبارك وتعالى ذلك لمحمَّدٍ - صلواتُ الله وسلامه عليه - تخفيفاً على قلبه ما كان يصلُ إليه من أذى المشركين ، ويعلمُ أنَّ الجُهَّال منذُ كانوا على هذه السِّيرة المذمومة ، ثم قال : { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ } . قال الكلبيُّ : ومقاتلٌ ، والضحاكُ ، لأشتمنَّك ، ولأبعدنَّك عنِّي بالقول القبيح ، ومنه قوله سبحانه وتعالى : { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ } [ النور : 4 ] ؛ أي : بالشَّتْم ، ومنه : الرَّجيمُ ، أي : المرميُّ باللَّعْن . قال مجاهدٌ : كلُّ رجمٍ في القرآن بمعنى الشَّتم ، وهذا ينتقضُ بقوله تعالى : { رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ } [ الملك : 5 ] . وقال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنه - : لأضربنَّك . وقال الحسنُ : لأرجمنَّك بالحجارة وهو قولُ أبي مسلم ؛ لأنَّ أصله الرمي بالرِّجام ، فحمله عليه أولى . وقال المؤرِّج : " لأقْتُلَنَّكَ " بلغة قريش ، وممَّا يدلُّ على أنه أراد الطَّرْد ، والإبْعَاد قوله : { وَٱهْجُرْنِي مَلِيّاً } . قوله تعالى : " مَلِيّاً " في نصبه ثلاثة أوجهٍ : أحدها : أنه منصوبٌ على الظرفِ الزمانيِّ ، أي : زمناً طويلاً ، ومنه " الملوانِ " للَّيلِ والنهار ، وملاوةُ الدَّهر ، بتثليث الميم قال : [ الطويل ] @ 3607 - فَعُسْنَا بِهَا مِنَ الشَّبابِ ملاوةً فَلَلْحَجُّ آيَاتُ الرَّسُولِ المُحَبَّبِ @@ وأنشد السدي على ذلك لمهَلْهِلٍ قال : [ الكامل ] @ 3608 - فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الجبالِ لمَوْتِهِ وبَكَتْ عليْه المُرْمِلاتُ مَلِيَّا @@ أي : أبداً . والثاني : أنه منصوبٌ على الحال ، معناه : سالماً سويًّا ، قال ابن عباس : [ اعتزلني سالماً ؛ لا يصيبك مني معرة ] فهو حالٌ من فاعل " اهْجُرْنِي " وكذلك فسَّره ابن عطيَّة ؛ قال : " معناه : مستبدًّا ، أي : غنيًّا عني من قولهم : هو مليٌّ بكذا وكذا " قال الزمخشريُّ : " أي : مُطِيقاً " . والمعنى : مليًّا بالذَّهابِ عنِّي ، والهجران ، قيل : أن أثخنك بالضَّرب ؛ حتى لا تقدر أن تبرح . والثالث : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : هجراً مليًّا ، يعني : واسعاً متطاولاً ؛ كتطاول الزمان الممتدِّ . قال الكلبيُّ - رحمه الله - اجتنبني طويلاً . والمراد بقوله : واهجرني ، أي : بالمفارقة من الدَّار والبلدِ ، وهي كهجرة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أي : تباعد عنِّي ؛ لكي لا أراك . وقيل : اهجرني [ بالقول ، وعطف " واهجرني " على معطوف عليه محذوف يدل عليه : " لأرجمنك " أي : فاحذرني ، واهجرني ] ؛ لئلا أرجمنك ، فلما سمع إبراهيمُ - صلوات الله وسلامه عليه - كلام أبيه ، أجاب بأمرين : أحدهما : أنه وعدُه بالتَّباعُد منه ؛ موافقة وانقياداً لأمْرِ أبيه . والثاني : قوله : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ } توديعٌ ، ومتاركةٌ ، أي : سلمتَ منِّي لا أصيبُك بمكروهٍ ، وذلك لأنَّه لم يؤمر بقتاله على كفره ؛ كقوله تعالى : { لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي ٱلْجَاهِلِينَ } [ القصص : 55 ] ، { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] . وهذا يدلُّ على جواز متاركة المنصُوح ، إذا ظهر منه اللَّجاج ، وعلى أنَّه تحسُن مقابلةُ الإساءةِ بالإحسان ، ويجوزُ أن يكون دعا لهُ بالسَّلامة ؛ استمالة له . ألا ترى أنَّه وعدُه بالاستغفار ؛ فيكون سلام برٍّ ولطفٍ ، وهو جوابُ الحليمِ للسَّفيه ؟ ! . كقوله سبحانه : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] . وقرأ أبو البرهسم " سلاماً " بالنصب ، [ وتوجيهها ] واضحٌ ممَّا تقدَّم . قوله : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ } ، أي : لمَّا أعياه أمرُه ، وعدهُ أن يراجع الله فيه ، فيسألهُ أن يرزقه التَّوحيد ، ويغفر له ، والمعنى : سأسأل الله لك توبةً تنالُ بها المغفرةَ : { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } برًّا لطيفاً . واحتجَّ بهذه الآية من طعن في عصمةِ الأنبياءِ - صلوات الله عليهم - وذلك أنَّ إبراهيم - صلوات الله عليه وسلامه - استغفر لأبيه ، وأبوهُ كان كافراً ، والاستغفارُ للكُفَّار غيرُ جائرٍ ؛ فثبت أنَّ إبراهيم - صلوات الله عليه - فعل ما لا يجوزُ . أما استغفارهُ لأبيه ؛ فلقوله : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ } وقوله : { وَٱغْفِرْ لأَبِيۤ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ } [ الشعراء : 86 ] . وأما كون أبيه كان كافراً ؛ فبالإجماع ، ونصِّ القرآن . وأمَّا أن الاستغفار [ للكافر ] لا يجوزُ ؛ فلقوله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ } [ التوبة : 113 ] ولقوله - عزَّ وجلَّ - في سورة الممتحنة { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ } [ الممتحنة : 4 ] إلى قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة : 4 ] . والجوابُ : أن الآية تدلُّ على أنَّه لا يجوزُ لنا التَّأسِّي به في ذلك ؛ لكنَّ المنع من التأسِّي به في ذلك لا يدلُّ على أنَّ ذلك كان معصيةً ؛ فإن كثيراً من الأشياء هي من خواصِّ رسُول الله - صلوات الله عليه وسلامه - ولا يجُوزُ لنا التَّأسِّي به فيها ، مع أنَّها كانت مباحةً له . وأيضاً : لعلَّ هذا الاستغفار كان من باب ترك الأولى ، وحسناتُ الأبْرارِ سيِّئاتُ المقرَّبينَ . قوله : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِِ } . قال مقاتلٌ - رحمه الله - : كان اعتزالُه إيَّاهُمْ أنَّه فارقهُم من " كوثى " ، فهاجر منها إلى الأرض المقدسة ، والاعتزالُ عن الشيء هو التَّباعدُ عنه ، " وأدعُو ربِّي " أعبد ربي الذي يَضُرُّ وينفعُ ، والذي خلقني ، وأنعم عليَّ { عَسَىۤ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً } ، أي : عسى ألاَّ أشْقَى بدُعائه وعبادته ؛ كما تشقون أنتمُ بعبادةِ الأصنام ، ذكر ذلك على سبيل التواضُع ؛ كقوله تعالى : { وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ ٱلدِّينِ } [ الشعراء : 82 ] . وقوله : " شَقِيًّا " فيه تعريضٌ لشقاوتهم في دعاء آلهَتهِمْ . وقيل : عسى أن يجيبني ، إن دعوتُه . قوله تعالى : { فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } . ذهب مهاجراً إلى ربِّه ، فعوَّضه أولاداً أنبياء بعد هجرته ، ولا حالة في الدِّين والدُّنيا للبشر أرفعُ من أن يجعله الله رسولاً إلى خلقه ، ويُلزم الخلق طاعتهُ ، والانقياد لهُ مع ما يحصلُ له من عظيم المنزلةِ في الآخرة . قوله تعالى : { وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } : " كُلاًّ " مفعولٌ مقدَّم هو الأول ، و " نبيًّا " هو الثاني . ثم إنَّه مع ذلك وهب لهم من رحمته ، قال الكلبيُّ : المال والولد ، وهو قول الأكثرين ، قالوا : هو ما بسط لهم في الدُّنيا من سعة الرِّزْق . وقيل : الكتاب والنبوَّةَ . { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } : يعني : ثناءً حسناً رفيعاً في كُلِّ أهل الأديان ، وعبَّر باللسان عما يُوجد باللِّسان ، كما عُبِّر باليد عمَّا يوجدُ باليدِ ، وهو العطيَّة ، فاستجاب الله دعوته في قوله : { وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ } [ الشعراء : 84 ] ، فصيَّره قُدوةً ، حتى ادَّعاه أهلُ الأديان كلهم . فقال سبحانه وتعالى : { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [ الحج : 78 ] .