Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 105-112)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ } الآية ، ( لما وَصَفَ لهم يومَ القيامة ) حكى سؤال من لا يؤمن بالحشر . قال ابن عباس : سأل رجلٌ من ثقيف رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : كيفَ تكون الجبالُ يوم القيامة ؟ فأنزل الله هذه الآية . وقال الضحاك : نزلت في مشركي مكة ، قالوا يا محمد كيف تكون الجبالُ يوم القيامة ؟ على سبيل الاستهزاء . { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } وأجاب بفاء التعقيب ، لأن مقصودَهم من هذا السؤال الطعنُ في الحشر والنشر ، فلا جرم أمره بالجواب مقروناً بحرف التعقيب ، لأن تأخير البيان في مثل هذه المسألة الأصولية غير جائز ، وأما المسائل الفروعية فجائز فلذلك ذكر هناك بغير حرف التعقيب . والضمير في " يَنْسِفُهَا " عائد إلى الجبال ، والنسف التذريَة . وقيل : القَلْع الذي يقلعها من أصلها ويجعلها هباءً منثوراً . قال الخليل : " يَنْسِفُهَا " يُذْهِبُها ويطيِّرُهَا . قوله : " فَيَذَرُها " في هذا الضمير وجهان : أحدهما : أنه ضمير الأرض ، أضمرت للدلالة عليها كقوله : { مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [ فاطر : 45 ] . والثاني : ضمير الجبال ، وذلك على حذف مضاف أي فيذر مراكزها ومقارها و " يَذَرُ " يجوز أن يكون بمعنى يُخْلِها ، فيكون " قَاعاً " حالاً ، وأن يكون بمعنى يترك التصييرية فيتعدى لاثنين فـ " قَاعاً " ثانيهما . وفي القاع أقوال : فقيل : هو منتقع الماء ولا يليق معناه هنا . وقيل : إنه المنكشف من الأرض قاله مكي . وقيل : إنه المكان المستوي ، ومنه قوله ضرار بن الخطاب : @ 3690 - لَتَكُونَنَّ بَالبِطَاحِ قُرَيْشٌ بُقْعَة القَاعِ فِي أَكُفِّ الإِمَاءِ @@ وقيل : إنه الأرض التي لا نبات فيها ولا بناء . والصَّفْصَفُ : الأرض الملساء ، وقيل : المستوية ، فهما قريبان من المترادف وجمع القاع أقْوُعٌ وأقْوَاعٌ وقِيعَانٌ . قوله : { لاَ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً } يجوز في هذه الجملة أن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالاً من الجبال ، ويجوز أن تكون صفة للحال المتقدمة وهي " قَاعاً " على أحد التأويلين ، أو صفة للمفعول الثاني على التأويل الآخر . وتقدم الكلام على العِوَج . وقال الزمخشري هنا : فإن قلت : قد فرَّقوا بين العَوَج والعِوَج ، قالوا : العوج بالكسر في المعاني ، وبالفتح في الأعيان ، والأرض عَيْن ، فكيف صح فيها كسر العين . قلت : اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة ، ونفي الإعوجاج عنها على أبلغ ما يكون وذلك أنه لو عَمَدت إلى قطعةِ أرض فسويتها وبالغت في التسوية على عينيك وعيون البصراء ، واتفقتم على أنَّه لم يبق فيها اعوجاج قط ، ثم استطلعت رأي المهندس فيها وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية لعثر فيها على عوج في غير موضع لا يدرك ذلك بحاسة البصر ولكن بالقياس الهندسي ، فنفى الله تعالى ذلك العوج الذي دقَّ وَلطُفَ عن الإدراك اللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير الهندسي ، وذلك الاعوجاجُ لمَّا لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس أُلحق بالمعاني ، فقيل فيه عِوَجٌ بالكسر . والأَمْتُ النتوُّ اليسير يقال : مَدَّ حَبْلَهُ حتى ما فيه أمْتٌ . وقيل : الأمت التل ، وهو قريب من الأول . وقيل : الشُّقُوقُ في الأرض . وقيل : الإكام . وقال الحسن : العوَج ما انخفض من الأرض ، والأمْتُ ما نشز من الرَّوابي . والمقصود من وصف الأرض بهذه الأوصَاف أنها تكون في ذلك اليوم ملساءَ خالية عن الارتفاع والانخفاض وأنواع الانحراف والاعوجاج . قوله : " يَوْمَئِذٍ " منصوب بـ " يَتَّبِعُونَ " وقيل : بدل من " يَوْمَ القِيَامَةِ " قاله الزمخشري . وفيه نظر ، للفصل الكثير وأيضاً يبقى " يَتَّبِعُونَ " غير مرتبط بما قبله ، وبه يفوت المعنى والتقدير : يوم إذ نُسِفَت الجِبَالُ . فصل " الدَّاعِي " إسرافيل ، والدُّعَاءُ هو النفخ في الصور ، أي يتبعون صوتَ الداعي الذي يدعوهم إلى موقف القيامة . وقوله : " لاَ عِوَجَ لَهُ " أي لا يعدل عن أحد بدعائه بل يحشر الكُلُّ . وقيل : لا عوج لدعائه ، وهو من المقلوب ، أي لا عوج لهم عن دعاء الدَّاعِي لا يعوجونَ عنه يميناً ولا شَمالاً . وقيل : إنه مَلَكٌ قائِمٌ على صخرة بيت المقدس ينادي ويقول : أيَّتُهَا العِظَام النخرة ، والأوصال المتفرقة ، واللحوم المتمزقة قُومي إلى عَرْض الرَّحمن . قوله : { وَخَشَعَتِ ٱلأصْوَاتُ لِلرَّحْمٰنِ } أي : سَكَنَتْ وذلَّت وخضَعَتْ . وصف الأصوات بالخشوع والمرادُ أهلُهَا . قوله : { فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } الاستثناء مفعول به ، وهو استثناء مفرغ . والهَمْسُ : الصوت الخفي ، قيل : هو تَحْريكُ الشفتيْن دون النطق قال الزمخشري : وهو الذكر ، الخفي ، ومنه الحروف المهموسَة . وقال ابن عباس والحسن وعكرمة : الهَمْسُ : وَطْءُ الأقدام أي : لا تسمع إلا خَفْقَ الأرض بأقدامهم ، ومنه هَمَست الإبل ( إذا سمع ذلك من وقع ) أخفافها على الأرض ، قال : @ 3691 - وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا @@ قوله : " يَوْمَئِذٍ " بدلٌ مما تقدم ، أو منصوبٌ بما بعده " لاَ " عند من يجيز ذلك والتقدير : يومَ إذ يَتَّبِعُونَ لا تنفَعُ الشَّفَاعَةُ . قوله : { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ } فيه أوجه : أحدها : أنه منصوب على المفعول به ، والناصب له " تَنْفَعُ " و " مَنْ " حينئذ واقعة على المشْفُوعِ له . الثاني : أنَّه في محل رفع بدلاً من " الشَّفاعة " ، ولا بدَّ من حذف مضاف تقديره : إلا شَفَاعةُ مَنْ أذِنَ لَه . الثالث : أنه منصوب على الاستثناء من " الشفاعة " بتقدير المضاف المحذوف وهو استثناء متصل على هذا ، ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً إذا لم نقدر شيئاً وحينئذ يجوز أن يكون منصوباً وهي لغة الحجاز ، أو مرفوعاً وهي لغة تميم ، وكل هذه الأوجه واضحة . ( و " لَهُ " ) في الموضعين للتعليل كقوله : { قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ } [ مريم : 73 ] أي لأجله ولأجلهم . فصل المعنى : { لاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ } أحداً من الناس { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَٰنُ } أي : إلا من أذن له الله أن يشفع له { وَرَضِي لَهُ قَوْلاً } أي رضي قوله . قال ابن عباس : يعني قَالَ : لاَ إلَهَ إلاَّ الله . وهذا يدل على أنه لا يشفع لغير المؤمنين . وقالت المعتزلة : الفاسق غير مرضيٍّ عند الله ، فوجب أن لا يشفع الرسول في حقه . وهذه الآية من أقوى الدلائل على ثبوت الشفاعة في حق الفساق ، ( لأن قوله : { وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } يكفي صدقه أن يكون الله تعالى قد رضِيَ له قولاً واحداً من أقواله ) ، والفاسق قد ارتضى الله من قوله شهادة أنْ لاَ إلهَ إلاَّ الله . فوجب أن تكون الشفاعة نافعة له ، لأن الاستثناء من النفي إثبات فإن قيل : إنَّه تعالى استثنى من ذلك النفي بشرطين : أحدهما حصول الإذن . والثاني : أن يكون رَضِيَ له قولاً . فهب أنَّ الفاسق قد حصل فيه أحد الشرطين ، وهو أنه تعالى قد رضِيَ له قولاً ، فلم قلتم : إنه أذن فيه ؟ فالجواب أنَّ هذا القيد كافٍ في حصول الاستثناء لقوله تعالى : { لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [ الأنبياء : 28 ] فاكتفى هناك بهذا القيد . ودلَّت هذه الآية على أنه لا بد من الإذن ، فظهر من مجموعهما أنه إذا رضي له قولاً يحصل الإذن في الشفاعة ، وإذا حصل القيدان حصل الاستثناء وتم المقصود . قوله : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } الضمير في قوله : " بَيْنَ أَيْدِيهِمْ " عائد إلى الذين يتبعون الداعي . ومن قال : إن قوله : { مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَٰنُ } المراد به الشافع ( قال : الضمير عائد إليه ) ، والمعنى : لا تَنْفَع شفاعة الملائِكة والأنبياء إلا لِمَن أذِنَ له الرحمن في أن يشفع من الملائكة . ثم قال { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } يعني ما بين أيدي الملائكة كقوله في آية الكرسي ، قاله الكلبي ومقاتل . وفيه تقريع لمن يعبد الملائكة ليشفَعُوا له . قال مقاتل : يعلم ما كان قبل أن يخلق الملائكة ، وما كان بعد خلقهم . ومن قال : الضمير عائد إلى الذين يتبعون الداعي قال : " يَعْلَمُ الله مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ " أي ما قدموا " وَمَا خَلْفَهُمْ " من أمر الدنيا قاله الكلبي . وقال مجاهد : { مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ } من أمر الدنيا والأعمال " وَمَا خَلْفَهُمْ " من أمر الآخرة . وقال الضحاك : يعلم ما مضى وما بقي ومتى تكون القيامة . { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلماً } قيل : الكناية راجعة إلى " مَا " أي : هو يعلمُ ما بيْنَ أيديهم وما خلفهم ، ( ولا يعلمونه أي العباد لا يعلمون بما بين أيديهم وما خلفهم ) . وقيل : الكناية راجعة إلى الله ، أي عباده لا يحيطُون به علماً . قوله : " وَعَنَتِ الوُجُوهُ " يقال : عَنَا يَعْنُو إذا ذلَّ وخضع وأعناه غيره أي : أذلَّه ، ومنه العُنَاة جمع عانٍ وهو الأسير ، قال : @ 3692 - فَيَا رُبَّ مَكْرُوبٍ كَرَرْتُ وَرَاءَهُ وَعَانٍ فَكَكْتُ الغُلَّ عَنْهُ فَقَدْ أَبَى @@ وقال أمية بن أبي الصلت : @ 3693 - مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الوُجُوهُ وَتَسْجُدُ @@ وفي الحديث : " فَإِنَّهُنَّ عَوَان " والمعنى : أنَّ ذلك اليوم تُذَلُّ الوجوه أي : المكلَّفين أنفسهم ، ذكرَ " الوجوه " وأراد أصحاب الوجوه ، لأن قوله " وَعَنَتْ " من صفات المكلفين لا من صفات الوجوه كقوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } [ الغاشية : 8 ، 9 ] وخص الوجوه بالذكر ، لأن الخضوع بها يبين ، وفيها يظهر . وتقدم تفسير " الحَيُّ القَيُّومُ " وروى أبو أمامة الباهليّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اطْلُبُوا اسمَ الله الأعظم في هذه السُّور الثلاث البَقَرة وآل عمران ، وطه " قال الراوي : فوجدنا المشترك في السور الثلاث { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } [ البقرة : 255 ] و [ آل عمران : 2 ] . قوله : " وَقَدْ خَابَ " يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، وأن تكون حالاً ، ويجوز أن يكون اعتراضاً . قال الزمخشري : " وَقَدْ خَابَ " وما بعده اعتراض كقولك خَابُوا وخَسِرُوا ، وكل من ظلم فهو خَائِبٌ خَاسِر . ومراده بالاعتراض هنا أنَّه خصَّ الوجوه بوجوه العصاة حتى تكون الجملة قد دخلت بين العُصَاة وبين { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ } فَهذَا عنده قسيم " وَعَنَتِ الوُجُوهُ " فلهذا كان اعتراضاً . وأما ابن عطية فجعل " الوُجُوهُ " عامة ، فلذلك جعل { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } معادلاً بقوله { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ } إلى آخره . فصل قال ابن عباس : " خَابَ " خَسِر من أشْرَكَ بالله . والظُّلمُ : الشِّرك قال الله تعالى { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] والمراد بالخيبة : الحِرمان ، أي : حُرِم الثواب مَنْ حَمَل ظُلْماً ، أي ظلم ولم يتب . ثم قال : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ ( وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ) أي : ومَنْ يَعمل شيئاً مِنَ الصَّالِحَاتِ ، والمراد به الفرائض وكان عمله مقروناً بالإيمان ، نظيره قوله : { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ ٱلصَّالِحَاتِ } [ طه : 75 ] . قوله : " وَهُوَ مُؤْمِنٌ " جملة حالية . " فَلاَ يَخَافُ " قرأ ابن كثير ( بجزمه ) على النهي ، والمعنى : أَمِنَ ، والنهي عن الخوف أمر بالأمن . والباقون : برفعه على النفي والاستئناف ، أي : فهو لا يخاف . والهضم : النقصُ تقول العرب : هَضَمْتُ لزيدٍ مِنْ حَقِّي أي : نقصتُ منه ، ومنه : هَضِيمُ الكَشْحَيْن أي : ضامُرُهما ، ومن ذلك أيضاً ، " طَلْعُهَا هَضِيمٌ " أي : دقيق متراكب كأنَّ بعضه يظلم بعضاً فينقصه حقه . ورَجلٌ هضيمٌ ومهتضمٌ أي مظلوم . وهضمته واهتضمته وتَهَّضمتُه عليه بمعنى ، قال المتوكل الليثي : @ 3694 - إنَّ الأذلَّةَ واللِّئَامَ لمَعْشَرٍ مَوْلاَهُم المُتَهَضَّم المَظْلُومُ @@ قيل : والظلم والهضم متقاربان وفرَّق القاضي الماوردي بينهما فقال : الظلم من جميع الحق ، والهضم منع بعضه . والظلمُ هنا هو أن يعاقب لا على جريمةٍ أو يمنع من الثواب على الطاعة . والهضم هو أن ينقص من ثوابه . وقال أبو مسلم : الظلم أن ينقص من الثواب ، والهضم أن لا يوفي حقه .