Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 49-50)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ } وحده بعد مخاطبته لهما معاً إمَّا لأنَّ موسى هو الأصل في الرسالة وهارون تبع وردء ووزير وإما لأن فرعون كان لخبثه يعلم الرُّتَّة التي في لسان موسى ، ويعلم فصاحة هارون بدليل قوله : { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } [ القصص : 34 ] وقوله : { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } [ الزخرف : 52 ] فأراد استنطاقه دون أخيه . وإما لأنه حذف المعطوف للعلم به أي : يا موسى وهارون قاله أبو البقاء وبدأ به . وقد يقال : حَسَّنَ الحذف كون موسى فاصلة ، لا يقال : كان يغني في ذلك أن يقدم هارون ويؤخر موسى فيقال : يا هارون وموسى فتحصل مجانسة الفواصل من غير حذف ، لأن نداء موسى أهم فهو المبدوء به . واعلم أن في الكلام حذف ، لأنه لما قال { فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّكَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَآئِيلَ } إلى قوله : { أَنَّ ٱلعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } أمر من الله تعالى لموسى بأن يقول لفرعون ذلك الكلام والتقدير : فذَهَبا إلى فرعون فقالا له ذلك فقال مجيباً لهما من رَبُّكما ؟ قوله : { أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَه } في هذه الآية وجهان : أحدهما : أن يكون " كُلَّ شَيْءٍ " مفعولاً أول و " خَلْقَهُ " مفعولاً ثانياً على معنى أعطى كل شيء شكله وصورتَه التي تطابق المنفعة المنوطة به كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار ، والأذن الهيئة التي تطابق الاستماع وتوافقه ، وكذلك اليد والرجل واللسان . قاله مجاهد . أو أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة حيث جعل الحصان والحَجْر زوجين ، والناقة والبعير ، والرجل والمرأة ، ولم يزاوج شيئاً منها غير جنسه ، ولا ما هو مخالف لخلقه . ( وقيل : المعنى أَعْطَى كلَّ شيءٍ مخلوقٍ خلقهُ ، أي هو الذي ابتدعه ) . وقيل : المعنى أعطى كُلَّ شيءٍ مما خلق خلقته وصورته على ما يناسبه من الإتقان ، لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم ، ولا بالعكس ، بل خلق كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديراً . الثاني : أن يكون " كُلَّ شَيْءٍ " مفعولاً ثانياً و " خَلْقَه " هو الأول فقدَّم الثاني عليه ، والمعنى : أعطى خليقَتَه كلَّ شيء يحتاجُون إليه ويرتفقون به . وقرأ عبد الله والحسن والأعمش وأبو نُهَيْك وابن أبي إسحاق ونصرٌ عن الكسائيِّ وجماعةٌ من أصحاب رسول الله " خَلَقَهُ " بفتح اللام فعلاً ماضياً ، وهذه الجملة في هذه القراءة تحتمل أن تكون منصوبة المحلِّ لكلِّ أو في محل جرّ صفة لشيء . وهذا معنى قول الزمخشري : صفة المضاف يعني " كُلّ " ( أو للمضاف إليه يعني " شَيْء " ) ، والمفعول الثاني على هذه القراءة محذوف ، فيحتمل أن يكون حذفه حذف اختصار للدلالة عليه . أي : أعطى كل شيء خلقه ما يحتاج إليه ويصلحه أو كماله ، ويحتمل أن يكون حذفه حذف اقتصار ) ، والمعنى أنَّ كلَّ شيءٍ خلقه الله تعالى لم يُخْلِهِ من إنعامه وعطائه . فصل اعلم أن فرعون كان شديد القوة عظيم الغلبة كثير العسكر ، ثم إن موسى لما دعاه إلى ربه لم يبطش به ، ولم يؤذه ، بل خرج معه في المناظرة ، لأنه لو أذاه لنُسِبَ إلى الجَهْل والسفاهة ، فاستنكف من ذلك وشرع في المناظرة ، وذلك يدل على السفاهة من غير حجة شيء لم يرضه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم ؟ ثم إن فرعون لما سأل موسى - عليه السلام - عن ذلك قبل موسى ذلك السؤال ، واشتغل بإقامة الدلالة على وجود الصانع ، وذلك يدل على فساد التقليد ، ويدل أيضاً على قول التعليمية الذين يقولون : نستفيد معرفة الإله من قول الرسول ، لأن موسى - عليه السلام - اعترف هاهنا بأن معرفة الله تجب أن تكون مقدمة على معرفة الرسول . ودلت الآية أيضاً على أنه يجوز حكاية كلام المبطِل ، لأنه تعالى حكى كلام فرعون في إنكاره الإله ، وحكى شبهات منكري النبوة ، وشبهات منكري الحشر إلا أنه يجب أن يذكر الجواب مقروناً بالسؤال ( كما فعل الله تعالى في هذه المواضع لئلا يبقى الشك ) . ودلت الآية على أن المحق يجب عليه استماع كلام المبطِل ويجيب عنه من غير إيذاء ولا إيحاش ، كما فعل موسى عليه السلام بفرعون هاهنا ، ولقوله تعالى : { ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } [ النحل : 125 ] ، وقال : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } [ التوبة : 6 ] . فصل قال بعضهم : إنَّ فرعون كان عارفاً بالله تعالى إلا أنه كانَ يُظْهِرُ الإنكار تكبراً وتجبراً ، لقوله تعالى : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ الإسراء : 102 ] فيمن نصب التاء في " عَلِمْتَ " كان ذلك خطاباً لموسى - عليه السلام - مع فرعون ، وذلك يدل على أن فرعون كان عالماً بذلك ، وقوله : { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] . ولأنه لو لم يكن عاقلاً لم يجز تكليفه ، والعاقل يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم ، ويعلم أن من كان كذلك افتقر إلى مدبَِّر ، وهذان العلمان الضروريان يستلزمان العلم بوجود المدبِّر ، ولأن قول موسى - عليه السلام - { رَبُّنَا ٱلَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } يقتضي ذلك ، لأن كلمة " الَّذِي " تقتضي وصف المعرفة بجملةٍ معلومةٍ عند المخاطب . وأيضاً فإن مُلْك فرعون لم يتجاوز القبطَ ، ولم يبلغ الشام ، ولما هرب موسى إلى مَدْيَنَ قال له شعيبٌ : { لاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ ٱلآمِنِينَ } [ القصص : 31 ] ، فمع هذا كيف يعتقد أنَّه إله العالم ؟ وقال آخرون : إنَّه كانَ جاهلاً بربِّه . واتفقوا على أنَّ العاقل لا يَجُوزُ أن يعتقد في نفسه أنه خالق هذه السموات والأرض والشمس والقمر ، وأنه خالقُ نفسه ، لأنه يعلم بالضرورة عجزه عنها ، ويعلم بالضرورة أنها كانت موجودة قبله ، فَحَصَلَ له العلم الضروري بأنه ليس موجداً لها ولا خالقاً لها . واختلفوا في كيفية جَهْلِه بالله تعالى ، فيحتمل أنه كان دهرياً نافياً للمدبِّر ، ويحتمل أنه كان فلسفياً قائلاً بالعلة الموجبة ، ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب ، ويحتمل أنه كان من الحلوليَّة ، وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد له . فصل قال هاهنا : { فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ } ، وقال في سورة الشعراء : { وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 23 ] ، وهو سؤال عن الماهية ، فهما سؤالان مختلفان ، والواقعة واحدة ، والأقرب أن يقال : سؤال " مَنْ " كان مقدماً على سؤال " مَا " ، لأنه كان يقول : أنا اللهُ والرَّبُّ ، فقال : " فَمَنْ رَبُّكُمَا " ، فلما أقام موسى الدلالة على الوجود ، وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه في هذا المقام ، لظهوره وجلائه ، عدل إلى طلب الماهية ، وهذا ينبه على أنه كان عالماً بالله ، لأنه ترك المنازعة في هذا المقام لعلمه بغاية ظهوره ؛ وشرع في المقام الصعب ، لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر . قوله : { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا } ولم يقل : " فَمَن إلَهُكُمَا " لأنه أثبت نفسه رباً في قوله : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } [ الشعراء : 18 ] ، فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال : أنَا رَبُّكَ فَلِمَ تدعي رَبًّا آخر ، وهذا يشبه كلام نمروذ حين قال له إبراهيم { رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] قال نمروذ : { أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] ولم يكن الإحياء والإماتة التي ذكرها إبراهيم هي التي عارضه نمروذ بها إلا في اللفظ ، فكذا هاهنا لما ادعى موسى - عليه السلام - ربوبية الله تعالى ذكر فرعون هذا الكلام ، أي : أنا الرَّبُّ الذي ربيتك ، ومعلوم أن الربوبية التي ادعاها موسى لله تعالى غير هذه الربوبية في المعنى وأنه لا مشاركة بينهما إلا في اللفظ . فصل استدل موسى عليه السلام - على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات ، وهو قوله : { رَبُّنَا ٰلَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } ، وهذه الدلالة هي التي ذكرها الله تعالى لمحمد - عليه السلام - في قوله : { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ ٰلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [ الأعلى : 1 ، 2 ، 3 ] وقال إبراهيم - عليه السلام - : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 77 ، 78 ] . واعلم أن الخلق عبارة عن تركيب القوالب والأبدان ، والهدايةُ عبارة عن إيداع القُوَى المدركة والحركة في تلك الأجسام ، فالخلق مقدم على الهداية كما قال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] إلى أن قال : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } [ المؤمنون : 14 ] . واعلم أن عجائب حكمة الله تعالى في الخلق والهداية بحر لا ساحل له ولنذكر منه أمثلة : أحدها : أنَّ الطبيعي يقول : الثقيل هابط ، والخفيف صاعد ، وأثقل الأشياء الأرض ثم الماء ، وأخفها النار ثم الهواء ، فلذلك وجب أن تكون النار أعلى العنصريات والأرض أسفلها ، ثم إنه تعالى قلب هذا في خلقة الإنسان ؛ فجعل أعلى الأشياء منه العظم والشعر ، وهما أيْبَسُ ما في البدن ، وهما بمنزلة الأرض ، ثم جعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء ، وجعل تحته النفس الذي هو بمنزلة الهواء ، وجعل تحته الحرارة الغريزية التي في القلب ، وهي بمنزلة النار ، فجعل مكان الأرض من البدن الأعلى ، وجعل مكان النار من البدن الأسفل ليعلم أن ذلك بتدبير القادر الحكيم لا باقتضاء العلة والطبيعة . وثانيها : أنَّك إذا نظرت إلى عجائب النحل في تركيب البيوت المسدسة وقسمتها ، وعجائب أحوال البق والبعوض والنمل في اهتدائها إلى مصالح أنفسها لعرفت أن ذلك لا يمكن إلا بإلهام مدبر عالم بجميع المعلومات . وثالثها : أنه تعالى هو الذي أنعم على الخلائق بما به قوامهم من المطعوم ، والمشروب ، والملبوس ، والمنكوح ، ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها فيستخرجون المعادن من الجبال ، واللآلىء من البحار ، ويركبون الأدوية والدرياقات النافعة ، ويجمعون بين الأشياء المختلفة ، ويستخرجون لذائذ الأطعمة ، فدل ذلك على أنه تعالى هو الذي خلق الأشياء ثم أعطاهم العقول التي بها يتوصلون إلى كيفية الانتفاع بها ، وليس هذا مختص بالإنسان بل عام في جميع الحيوان ، فأعطى الإنسان إنسانةً ، والحمار حمارةً ، والبعير ناقةً هداه لها ليدوم التناسل ، وهدى الأولاد لثدي الأمهات ، بل هذا غير مختص بالحيوانات ، بل هو حاصل في أعضائها ، فخلق اليد على تركيب خاص ، وأودع فيها قوة الأخذ ، وخلق الرِّجل على تركيب خاص ، فخلق اليد على تركيب خاص ، وأودع فيها قوة الأخذ ، وخلق الرِّجل على تركيب خاص ، وأودع فيها قُوَّة المشي ، وكذا العين ، والأذن ، وجميع الأعضاء ، ثم ربط البعض بالبعض على وجه يحصل من ارتباطها مجموع واحد هو الإنسان . وإنما دلت هذه الأشياء على وجود الصانع ، لأن اتصاف كلِّ جسمٍ من هذه الأجسام بتلك الصفة أعني التركيب والقوة الهادية إما أن يكون واجباً أو جائزاً ، والأول باطل لأنا نشاهد تلك الأجسام بعد الموت منفكة عن ذلك التركيب والقوى ، فدل على أن ذلك جائز ، والجائز لا بد له من مرجِّح ، وليس ذلك المرجِّح هو الإنسان ، ولا قواه ، لأنَّ فعل ذلك يستدعي قدرةً عليه ، وعلماً بما فيه من المصالح والمفاسد ، والأمران نائيان عن الإنسان ، لأنه بعد كمال عقله يعجز عن تغيير شعرة واحدة ، وبعد البحث الشديد عن كتب التشريح لا يعرف من منافع الأعضاء ومصالحها إلا القدر القليل ؛ فلا بد وأن يكون المتولي لتدبيرها وترتيبها موجوداً آخر ، وذلك الموجود لا يجوز أن يكون جسماً ، لأن الأجسام متساوية في الجسمية ، واختصاص ذلك الجسم بتلك المؤثرية لا بد وأن يكون جائزاً فيفتقر إلى سبب آخر ، والدور والتسلسل محالان ، فلا بد من الانتهاء في سلسلة الحاجة إلى مدبر ليس بجسم ولا جسماني ، ثم تأثير ذلك المؤثر إما أن يكون بالذات أو بالاختيار ، والأول محال لأن الموجب لا يميز مثلاً عن مثل ، وهذه الأجسام متساوية في الجسمية فَلِمَ اختص بعضها بالصورة الفلكية وبعضها بالصورة العنصرية وبعضها بالنباتية ، وبعضها بالحيوانية ؟ فثبت أن المؤثر والمدبر قادر ، والقادر لا يمكنه مثل هذه الأفعال العجيبة إلا إذا كان عالماً ، ثم إن هذا المدبر الذي ليس بجسم ولا جسماني ولا بد وأن يكون واجب الوجود في ذاته وصفاته ، وإلا لافتقر إلى مدبر آخر ، ولزم التسلسل ، وهو محال ، وإذا كان واجب الوجود في قادريته وعالميته ، والواجب لذاته لا يتخصص ببعض الممكنات دون البعض ، فوجب أن يكون عالماً بكل ما صح أن يكون معلوماً ، وقادراً على كل ما صح أن يكون مقدوراً ، فظهر بهذه الدلالة التي تمسك بها موسى وقررها احتياج العالم إلى مدبر ليس بجسم ولا جسماني ، وهو واجب الوجود في ذاته وصفاته عالم بكل المعلومات ، قادر على كل المقدورات ، وذلك هو الله سبحانه وتعالى .