Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 51-55)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { قَالَ فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ } البال : الفكر ، يقال : خطر بباله كذا ، ولا يثنى ولا يجمع ، وشذ جمعه على بالات ، ويقال للحال المكترث بها ، وكذلك يقال : ما بَالَيتُ بالة ، والأصل بالية كعافية فحذفت لامه تخفيفاً . فصل قال المفسرون : البَالُ ، الحالُ ، أي ما حال القرون الماضية والأمم الخالية كقوم نوح وعاد وثمود . وفي ارتباط هذا الكلام بما قبله وجوه : الأول : أنَّ موسى - عليه السلام - لمَّا قرر أمر المبدأ قال فرعون : إن كان إثبات المبدأ ظاهراً إلى هذا الحد { قَالَ فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ } ما أثبتوه بل تركوه ، فكأن موسى - عليه السلام - لما استدل على إثبات الصانع بالدلالة القاطعة قَدَح فرعونُ في تلك الدلالة بقوله : إنْ كانَ الأمرُ على ما ذكرت من قوة الدلالة وجب على أهل القرون الماضية أن لا يغفلوا عنها . فعارض الحجة بالتقليد . الثاني : أنَّ موسى - عليه السلام - لما هدده بالعذاب في قوله : { أَنَّ ٱلْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } قال فرعون : { قَالَ فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ } فإنها كذبت ولم يعذبوا ؟ الثالث : وهو الأظهر ، أنَّ فرعون لما قال : { فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ } فذكر موسى - عليه السلام - دليلاً ظاهراً على صحة دعواه فقال : { رَبُّنَا ٱلَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } خاف فرعون أن يزيد في تلك الحجة ، فيظهر للناس صدقه ، وفساد طريق فرعون ، فأراد أن يصرفه عن ذلك الكلام ، ويشغله بالحكايات فقال : { فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ } فلم يلتفت موسى - عليه السلام - إلى ذلك الحديث وقال : { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ } ولا يتعلق غرضي بأحوالهم ، ولا أشتغل بها ، ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول ، وإبراز الدلائل الظاهرة على الوحدانية فقال { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } ، وهذا الوجه هو المعتمد في صحة النظم . فإن قيل : العلمُ الذي عند الرب ، كيف يكون في الكتاب ؟ وذلك أن علم الله صفة قائمة به ، فكون صفة الشيء حاصلة في كتاب غير معقول ، فذكروا في الجواب وجهين : الأول : معناه : أنه تعالى أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده ليكون ما كتبه فيه ظاهراً للملائكة ، فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على أنه تعالى عالم بكل المعلومات ينزه عن السهو والغفلة ، ولقائل أن يقول : قوله : " فِي كِتَابٍ " يوهم احتياجه سبحانه في العلم إلى ذلك الكتاب ، وهذا وإن كان غير واجب لا محالة ولكنه لا أقل من أن يوهمه في أول الأمر لا سيما للكافر ، فكيف يحسن ذكره مع معاندٍ مثل فرعون في وقت الدعوة ؟ الوجه الثاني : أن يفسَّر ذلك بأن بقاء تلك المعلومات في علمه سبحانه كبقاء المكتوب في الكتاب ، فيكون الغرض من هذا الكلام تأكيد القول بأن أسرارها مغلومة لله تعالى بحيث لا يزول منها شيء عن علمه ، ويؤكد هذا التفسير قوله بعد ذلك : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } . وقيل : إنما ردَّ موسى علم ذلك إلى الله ، لأنه لم يعلم ذلك فإن التوراة أنزلت بعد هلاك فرعون والمراد بالكتاب : اللوحُ المحفوظ . قوله : { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } في خبر هذا المبتدأ وجوه : أحدها : أنَّه " عِندَ رَبِّي " وعلى هذا فقوله : " فِي كِتَابٍ " متعلق بما تعلق به الظرف من الاستقرار ، أو متعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير المستتر في الظرف ، أو خبر ثان . الثاني : أن الخبر قوله : " فِي كِتَابٍ " ، فَعَلَى هذا قوله : " عِندَ رَبِّي " معمول للاستقرار الذي تعلق به " في كتاب " كما تقدم في عكسه ، أو يكون حالاً من الضمير المستتر في الجار الواقع خبراً ، وفيه خلاف أعني تقديم الحال على عاملها المعنوي ، والأخفش يجيزه ويستدل بقراءة : { وَٱلسَّمَٰوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] وقوله : @ 3662 - رَهْطُ ابْنِ كُوزٍ مُحْقبِي أَدْرَاعِهِمْ فِيِهِمْ وَرَهْطُ رَبِيعَةَ بن حُذَارِ @@ وقال بعض النحويين : إنه إذا كان العامل معنوياً والحال ظرف أو عديله حَسُنَ التقديم عند الأخفش وغيره ، وهذا منه ، أو يكون ظرفاً للعلم نفسه ، أو يكون حالاً من المضاف إليه ، وهو الضمير في " عِلْمُهَا " ولا يجوز أن يكون " فِي كِتَابٍ " متعلقاً بـ " عِلْمُهَا " على قولنا : إنَّ " عِندَ رَبِّي " الخبر ، كما جاز تعلق " عِندَ " بِهِ ، لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وقد تقدم أنه لا يخبر عن الموصول إلا بعد تمام صلته . الثالث : أن يكون الظرف وحرف الجر معاً خبراً واحداً في المعنى فيكون بمنزلة : هذا حلوٌ حامضٌ ، قاله أبو البقاء . وفيه نظر إذ كل منهما يستقل بفائدة الخبرية بخلاف هذا حُلْوٌ حامِضٌ . والضمير في " عِلْمُهَا " فيه وجهان : أظهرهما : عوده على " القُرُونِ " والثاني : عوده على القيام لدلالة ذكر " القُرُونِ " على ذلك لأنه سأله عن بعث الأمم ، والبعث يدل على يوم القيامة . قوله : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي } في هذه الجملة وجهان : أحدهما : أنَّها في محل جر صفة لـ " كِتَاب " ، والعائد محذوف تقديره : فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّه رَبِّي ، أو لا يضل حفظَه رَبِّي ، فـ " رَبِّي " ، فاعل " يَضِلُّ " على هذا التقدير . وقيل : تقديره : لا يَضِلُّ الكتابُ رَبِّي ، فيكون في " يَضِلُّ " ضمير يعود على الكتاب ، و " رَبِّي " منصوب على التعظيم ، وكان الأصل عن ربي ، فحذف الحرف اتساعاً . يقال : ضَلِلْتُ كذا وضَلِلْتُه بفتح اللام وكسرها لغتان مشهورتان وأشهرهما الفتح . والثاني : أنها مستأنفة لا محل لها من الإعراب - ساقها الله - تعالى - لمجرد الإخبار بذلك حكاية عن موسى . وقرأ الحسن وقتادة والجحدري وعيسى الثقفي وابن محيصن وحماد بن سلمة " لا يُضِلُّ " بضم الياء ، أي لا يُضِلُّ رَبِّي الكِتَابَ ، أي : لا يضيعُه ، يقال : أضْلَلْتُ الشيء أي أضعته و " رَبِّي " فاعل على هذا التقدير . وقيل : تقديره : لا يُضِلُّ أحدٌ رَبِّي عن علمه ، أي من علم الكتاب ، فيكون الربُّ منصوباً على التعظيم . وفرَّق بعضهم بين ضَلَلْت وأَضْلَلْتُ ، فقال : ضَلَلْتُ منزلي بغير ألف ، وأضْلَلْتُ بعيري ونحوه من الحيوان بالألف ، نثل ذلك الرماني عن العرب . وقال الفراء : يقال : ضَلَلْتُ الشيْءَ إذا أخطأت في مكانه ، وَضَلِلْتُ لغتان ، فلم تهتد له كقوله : ضَلَلْتُ الطريقَ والمنزلَ ، ولا يقال : أَضْلَلْتُه إلا إذا ضاع منك كالدابة انفلتت وشبهها . قوله : " وَلاَ يَنْسَى " في فاعل " يَنْسَى " قولان : أحدهما : أنه عائد على " رَبِّي " أي : ولا يَنْسَى رَبِّي ما أثبته في الكتاب . والثاني : أن الفاعل ضمير عائد على " الكِتَابِ " على سبيل المجاز كما أسند إليه الإحصاء مجازاً في قوله : " إلا أحْصَاهَا " لما كان محلاً للإحصاء . فصل قال مجاهد في قوله : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } : إن معنى اللفظين واحد أي : لا يذهب عليه شيء ولا يخفى عنه . وفرق الأكثرون بينهما ، فقال القفال : لا يَضِلُّ عن الأشياء ومعرفتها ، وما عُلِم من ذلك لم ينسه ، فاللفظ الأول إشارة إلى كونه عالماً بكل المعلومات ، وقوله : " وَلاَ يَنْسَى " دليلٌ على بقاء ذلك العلم أبد الآباد ، وهو إشارة إلى نفي التغير . وقال مقاتل : لا يخطىء ذلك الكتاب رَبِّي ، ولا يَنْسَى ما فيه . ( وقال الحسن : لا يخطىء وقت البعث ولا ينساه . وقال أبو عمرو : وأصل الضلال الغيبوبة ، والمعنى : لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء . وقال ابن جرير : لا يُخطىء في التدبير ، فيعتقد فيما ليس بصواب كونه صواباً ، وإذا عرفه لا ينساه ) . وكلها متقاربة ، والتحقيق هو الأول . واعلم أن فرعون لمَّا سأل موسى عن الإله فقال : " فَمَنْ رَبُّكُمَا " وكان ذلك ممّا سبيله الاستدلال ، أجاب بالصواب بأوجز عبارة ، وأحسن معنى ، ولما سأله عن القُرون الأولى ، وكان ذلك مما سبيله الإخبار لم يأته خبر من ذلك ، وكلها إلى عالم الغُيوب . قوله : { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ } في هذا الموصول وجهان : أحدهما : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أو منصوب بإضمار أمدح ، وهو على هذين التقديرين من كلام الله تعالى لا من كلام موسى ، وإنما احتجنا إلى ذلك ، لأن قوله : " فَأَخْرَجْنَا بِهِ " وقوله : { كُلُواْ وَارْعواْ أَنْعَامَكُمْ } وقوله : " مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ " إلى قوله : { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ } لا يتأتى أن يكون من كلام موسى ، فلذلك جعلناه من كلام الباري تعالى ، ويكون فيه التفات من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه . فإن قلت : أجَعَلَهُ من كلام موسى يعني : أنه وصف ربَّه تعالى بذلك ، ثم التفت إلى الإخبار عن الله - تعالى - بلفظ التكلم ؟ قيل : إنما جعلناه التفاتاً في الوجه الأول ، لأت المتكلم واحد بخلاف هذا فإنه لا يتأتى فيه الالفتات المذكور وأخواته من كلام الله . والثاني : أن " الَّذِي " صفة لـ " رَبِّي " ، فيكون في محل رفع أو نصب على حسب ما تقدم من إعراب " رَبِّي " . وفيه ما تقدم من الإشكال في نظم الكلام من قوله : " فَأخْرَجْنَا " وأخواته من عدم جواز الالتفات ، وإن كان قد قال بذلك الزمخشريي والحوفي . وقال ابن عطية : إن كلام موسى تم عند قوله : { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَاءِ مَاءً } وأن قوله : " فَأَخْرَجْنَا " إلى آخره من كلام الله تعالى . وفيه بعد وقرأ الكوفيون " مَهْداً " بفتح الميم وسكون الهاء من غير ألف . والباقون : " مِهَاداً " بكسر الميم وفتح الهاء وألف بعدها . وفيه وجهان : أحدهما : قال المفضل : إنَّهما مصدران بمعنى واحد يقال : مَهَّدْتُهُ مَهْدًا ومِهَاداً . والثاني : أنهما مختلفان ، فالمِهَادُ هو الاسم ، والمَهْد هو الفعل كالفرش والفراش ، فالفَرْش المصدر ، والفراش اسم لما يُفْرَش . أو أن مِهَاداً جمع مَهْد نحو فَرْخ وفرَاخ وكَعْب وكِعَاب . ووصف الأرضَ بالمَهْد إما مبالغة ، وإما على حذف مضاف أي ذات مَهْدِ . قال أبو عبيد : الذي أختاره مِهَاداً وهو اسم والمَهْد الفعل . وقال غيره : المَهْد الاسم والمِهَادُ الجمع كالفَرْش والفِرَاش . أجاب أبو عبيد : بأن الفَرْشَ والفِرَاشَ فعل . قوله : " شَتَّى " فَعْلَى ، وألفه للتأنيث ، وهو جمع الشَّتيت نحو مَرْضَى في جمع مَرِيض ، وجَرْحَى في جمع جَرِيح ، وقتلى في جمع قتيل . يقال : شَتَّ الأمرُ يَشِتُّ شَتًّا وَشَتَاتاً فهو شَتٌّ أي تفرق ، وشَتَّان اسم فعل ماض بمعنى : افْتَرَقَ ، ولذلك لا يكتفي بواحد . وفي " شَتَّى " أوجه : أحدها : أنَّها منصوبةٌ نعتاً لأزواج ، أي أزواجاً متفرقة ، بمعنى مختلفة الألوان ( والطعوم ) . والثاني : أنَّها منصوبةٌ على الحال من أزواج ، وجاز مجيء الحال من النكرة لتخصصها بالصفة ، وهي " مِنْ نَبَاتٍ " . الثالث : أن تنتصب على الحال أيضاً من فاعل الجار ، لأنه لما وقع وصفاً وقع ضميراً فاعلاً . الرابع : أنه في محل جر نعتاً لنبات ، قال الزمخشري : يجوز أن يكون صفة لنبات ، ونبات مصدر سمي به النبات كما سمي بالنبت ، واستوى فيه الواحد والجمع ، يعني : أنها شَتَّى مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل ، بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم . ووافقه أبو البقاء أيضاً ، والظاهر الأول . قوله : " كُلُوا " منصوب بقول محذوف ، وذلك القول منصوب على الحال من فاعل " أخْرَجْنَا " تقديره : فأخرَجْنَا كَذَا قائلينَ كُلُوا . وترك مفعول الأكل على حد تركه في قوله تعالى : " وكُلُوا وَاشْرَبُوا " " وارْعُوا " ( رَعَى ) يكون لازماً ومتعدياً ، يقال : رَعَى دابَّته رعياً فهو راعٍ ، ورعت الدابة تَرْعَى رعياً فهي راعية ، وَجَاء في الآية متعدياً ، و " النُّهَى " فيه قولان : أحدهما أنه جمع نُهْيَة كغُرَف جمع غرفة . والثاني : أنَّها اسمٌ مفرد ، وهو مصدر كالهُدَى والسُّرى ، قاله أبو عليّ وقد تقدم أول الكتاب أنهم قالوا لم يأت مصدر على " فُعَلٍ " من المعتل اللام إلا سُرَى وهُدَى وبُكَى ، وأن بعضهم زاد لُقَى ، وأنشد عليه بيتاً . وهذا لفظ آخر فيكون خامساً . والنُّهَى : العقل سُمِّي العقل به ، لأنه صاحبه عن ارتكاب القبائح . فصل لما ذكر موسى - عليه السلام - الدلالة الأولى ، وهي ( دِلاَلَةٌ عامَّة ) تتناول جميع المخلوقات من الحيوان والنبات والجماد ذكر بعده دلائل خاصة فقال : { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ ٱلأرضَ مِهَاداً } أي جعلها بحيث يتصرف العباد ، وغيرهم عليها من النوم ، والقُعُود ، والقِيَام ، والزراعة ، وجميع المنافع المذكورة في تفسير قوله تعالى : { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } [ البقرة : 22 ] . { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } السَّلْكُ : إدخال الشيء في الشيء ، أي : أدْخَلَ فِي الأَرْضِ لأجلكم طُرُقاً تسلكونها . قال ابن عباس : سَهَّل لكم فيها طرقاً . { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } [ البقرة : 22 ] تقدم الكلام فيه في البقرة { فَأَخْرَجْنَا بِهِ أزْوَاجَاً } تقدَّم أنّ هذا من كلام موسى تقديره : يقول ربِّي الذي جعل كذا وكذا " فَأَخْرَجْنَا " نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراسة { أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ } . وتقدم أنَّ الصحيح أنه من كلام الله تعالى ، لأنَّ ما بعده لا يليق بموسى - عليه السلام - ، ولأن أكثر ما في قدرته صرف المياه إلا سَقْي الأراضي والحراسة ، فأما إخراج النبات على أصناف طبائعه وألوانه وأشكاله فليس من موسى عليه السلام ، فثبت أنه كلام الله تعالى . وقوله : " أزْوَاجاً " أي أصنافاً سميت بذلك ، لأنها مزدوجة مقترنة بعضها ببعض . " شَتَّى " مختلفة الألوان والطعوم والمنافع بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم . " كُلُوا " أمر إباحة . " وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ " تقول العرب : رَعَيْتُ الغنم فَرَعَت أي أسِيموا أنْعَامَكُمْ تَرْعَى . { إنَّ في ذَلِكَ } أي فيما أنزلت لكم من هذه النعم " لآيَاتٍ " لعبرة ودلالات . " لأُولِي النُّهَى " لذوي العقول . ( قال الضحَّاك ) " لأُولي النُّهَى " الذي ينتهون عما حرم الله عليهم . وقال قتادة : لذَوِي الورع . قوله تعالى : " مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ " الآية ، لما ذكر منافع الأرض السماء بيَّن أنَّها غير مخلوقة لذواتها ، بل بكونها وسائل إلى منافع الآخرة ، فقال : " مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ " أي من الأرض . فإن قيل : إنَّما خَلَقَنَا من النُّطْفَةِ على ما بَيَّنَ في سائر الآيات . فالجواب من وجوه : الأول : أنَّه لمَّا خَلَق أصلنا وهو آدم - عليه السلام - من تُرابٍ كما قال تعالى : { كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] حسن إطلاق ذلك علينا . الثاني : أنَّ تَوَلُّدَ الإنسان إنَّما هو من النطفة ودم الطمث ، وهما يتولَّدان من الأغذية ، والغذاء إما حيواني أو نباتي ، والحيواني ينتهي إلى النباتي ، والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء والتراب ، فصح أنه سبحانه خَلَقَنا مِنْهَا ، وذلك لا ينافي كوننا مخلوقين من النطفة . الثالث : روى ابن مسعود أن مَلَكَ الأرحام يأتي إلى الرَّحيم حين يكتب أجل المولود ورزقَه ، والأرض التي يُدْفَن فيها ، وأنه يأخذ من تراب تلك البقعة وينثره على النطفة ، ثم يدخلها في الرحم . ثم قال : " وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ " أي عند الموت ، { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ } عند البعث .