Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 104-107)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ } الآية . في " يَوْمَ نَطْوِي " أوجه : أحدهما : أنه منصوب بـ " لاَ يَحْزُنُهُمُ " . الثاني : أنه منصوب بـ " تَتَلَقاهُم " . الثالث : أنه منصوب بإضمار ( اذكر ) أو ( أعني ) . الرابع : أنه بدل من العائد المقدر تقديره : توعدونه يوم نطوي ، فـ " يَوْمَ " بدل من الهاء ، ذكره أبو البقاء وفيه نظر ، إذ يلزم من ذلك خلو الجملة الموصول بها من عائد على الموصول ، ولذلك منعوا جاء الذي مررت به أبي عبد الله ، على أن يكون ( أبي عبد الله ) بدلاً من الهاء لما ذكر ، وإن كان في المسألة خلاف . الخامس : منصوب بالفزع ، قاله الزمخشري ، وفيه نظر من حيث إنه أعمل المصدر الموصوف قبل أخذه معموله . وقد تقدم أن نافعاً يقرأ " يُحْزنُ " بضم الياء إلا هنا ، وأن شيخه ابن القعقاع يقرأ " يَحْزُنُ " بالفتح إلا هنا . وقرأ العامة " نَطْوِي " بنون العظمة . وشيبة بن نصاح في آخرين " يَطوي " بياء الغيبة ، والفاعل هو الله تعالى . وقرأ أبو جعفر في آخرين " تُطْوَى " بضم التاء المثناة من فوق وفتح الواو مبنياً للمفعول . وقرأ العامة " السِّجِلِّ " بكسر السين والجيم وتشديد اللام كالطِّمرّ . وقرأ أبو هريرة وصاحبه أبو زُرْعَة بن عمرو بن جرير بضمهما واللام مشددة أيضاً بزنة " عُتُلٍّ " . ونقل أبو البقاء تخفيفها في هذه القراءة أيضاً فتكون بزنة عُنْقٍ . وأبو السمال وطلحة والأعمش بفتح السين . والحسن وعيسى بن عمر بكسرها . والجيم في هاتين القراءتين ساكنة واللام مخففة . قال أبو عمرو : قراءة أهل مكة مثل قراءة الحسن . والسِّجل الصحيفة مطلقاً وقيل : مخصوص بصحيفة العهد ، وهي من المساجلة وهي المكاتبة . والسَّجْلُ : الدلو المَلأى . وقال بعضهم : هو فارسيّ معرب فلا اشتقاق له و " طَيّ " مصدر مضاف للمفعول ، والفاعل محذوف ، تقديره : كما يطوي الرجل الصحيفة ليكتب فيها ، أو لما يكتبه فيها من المعاني ، والفاعل يحذف مع المصدر باطراد والكلام في الكاف معروف أعني : كونها نعتاً لمصدر مقدر أو حالاً من ضميره . وأصل " طَيّ " طَوْي ، فأعلّ كنظائره . وروي عن علي وابن عباس : أنّ السجل اسم ملك يطوي كتب أعمال بني آدم . وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس : أنّ السجل اسم رجل كان يكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وعلى هذين القولين يكون المصدر مضافاً لفاعله ، والكتاب اسم الصحيفة المكتوبة . قال بعضهم : وهذا القول بعيد ، لأنّ كُتَّاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا معروفين وليس فيهم من سُمِّيَ بهذا . قال أبو إسحاق الزجاج : السجل الرجل بلغة الحبشة . وقال الزمخشري : كما يطوى الطُّومَار للكتابة ، أي : ليكتب فيه ، أو لما يكتب فيه ، لأنَّ الكتاب أصله المصدر كالبناء ، ثم يوقع على المكتوب . فقدره الزمخشري من الفعل المبني للمفعول ، وقد عرف ما فيه من الخلاف واللام في " الكتاب " إما مزيدة في المفعول إنْ قلنا : إنَّ المصدر مضاف لفاعله . وإما متعلقة بـ " طَيِّ " إذا قلنا : المراد بالسجل الطومار ، فالمصدر وهو الطيّ مضاف إلى المفعول ، والفاعل محذوف ، والتقدير : كطي الطاوي السجل وهذا قول الأكثرين . وقيل : اللام بمعنى ( على ) ، وهذا ينبغي أن لا يجوز لبعد معناه على كل قول . والقراءات المذكورة في السجل كلها لغات فيه . وقرأ الأخوان وحفص " لِلْكُتُبِ " جمعاً . والباقون " لِلْكِتَابِ " مفرداً . والرسم يحتملهما فالإفراد يراد به الجنس والجمع للدلالة على الاختلاف ، والمعنى المكتوبات ، أي : لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة . فيكون معنى طي السجل للكتابة ، كون السجل ساتراً لتلك الكتابة ومخفياً لها ، لأنّ الطي هو الدرج ضد النشر الذي يكشف . قوله : " كَمَا بَدَأْنَا " في متعلق هذه الكاف وجهان : أحدهما : أنها متعلقة بـ " نُعِيدُهُ " و " مَا " مصدرية ، و " بَدَأْنَا " صلتها ، فهي وما في حيزها في محل جر بالكاف . و " أَوَّلَ خَلْقٍ " مفعول " بَدَأْنَا " ، والمعنى : نعيد أوّل خلق إعادة مثل بدأتنا له ، أي : كما أبرزناه من العدم إلى الوجود نعيده من العدم إلى الوجود وإلى هذا نحا أبو البقاء فإنه قال : الكاف نعت لمصدر محذوف أي : نعيده عوداً كمثل بدئه . وفي قوله : عوداً نظر إذ الأحسن أن يقول : إعادة . والثاني : أنّها تتعلق بفعل مضمر . قال الزمخشري : ووجه آخر ، وهو أنْ ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره " نُعِيدُهُ " و " ما " موصولة ، أي : نعيد مثل الذي بدأنا نعيده و " أَوَّلَ خَلْقٍ " ظرف لـ " بَدَأْنَا " أي : أول ما خلق ، أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ الثابت في المعنى . قال أبو حيَّان : وفي تقديره تهيئة " بَدَأْنَا " لأنْ ينصب " أَوَّلَ خَلْقٍ " على المفعولية وقطعه عنه من غير ضرورة تدعو إلى ذلك ، وارتكاب إضمار ( نعيد ) مفسراً بـ " نُعِيدُهُ " وهذه عجمة في كتاب الله ، وأما قوله : ووجه آخر وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره " نُعِيدُهُ " فهو ضعيف جداً ، لأنه مبني على أن الكاف اسم لا حرف ، وليس مذهب الجمهور ، وإنما ذهب إلى ذلك الأخفش ، وكونها اسماً عند البصريين مخصوص بالشعر . قال شهاب الدين : كل ما قدره فهو جار على القواعد المنضبطة وقاده إلى ذلك المعنى الصحيح فلا مؤاخذة عليه ، ويظهر ذلك بالتأمل لغير الفطن وأما " مَا " ففيها ثلاثة أوجه : أحدها : أنها مصدرية . والثاني : أنها بمعنى الذي . وقد تقدم تقرير هذين . والثالث : أنها كافة للكاف عن العمل كما في قوله : @ 3741 - كَمَا النَّاسُ مَجْرومٌ عَلَيْهِ وجَارِم @@ فيمن رفع ( النَّاس ) قال الزمخشري : " أَوَّلَ خَلْق " مفعول نعيد الذي يفسره " نُعيدُهُ " والكاف مكفوفة بـ " ما " والمعنى : نعيد أول الخلق كا بدأناه تشبيهاً للإعادة بالابتداء في تناول القدرة لها على السواء ، فإنْ قُلْتَ : ما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه قُلْتُ : أوله إيجاده من العدم ، فكما أوجده أولاً من عدم يعيده ثانياً من عدم . وأما " أَوَّلَ خَلق " فيحصل فيه أربعة أوجه : أحدها : أنه مفعول " بَدَأْنَا " . والثاني : أنه ظرف لـ " بَدَأْنَا " . والثالث : أنه منصوب على الحال من ضمير الموصول كما تقدم تقريره . والرابع : أنه حال من مفعول " نُعِيدُهُ " قاله أبو البقاء ، والمعنى : مثل أول خلقه وأما تنكير " خَلقٍ " فلدلالته على التفصيل ، قال الزمخشري : فإن قُلْتَ : ما بال " خَلْق " منكراً . قُلْتُ : هو كقولك : أول رجل جاءني ، تريد أول الرجال ، ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلاً رجلاً ، فكذلك معنى أول خلق بمعنى أول الخلائق ، لأنّ الخلق مصدر لا يجمع . قوله : " وَعْداً " منصوب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة المتقدمة ، فناصبه مضمر ، أي : وعدنا ذلك وعداً . فصل اختلفوا في كيفية الإعادة فقيل : إن الله يفرق أجزاء الأجسام ولا يعدمها ثم إنه يعيد تركيبها فذلك هو الإعادة . وقيل : إنه تعالى يعدمها بالكلية ، ثم إنه يوجدها بعينها مرة أخرى ، وهذه الآية دالة على هذا الوجه ؛ لأنه تعالى شبه الإعادة بالابتداء ، والابتداء ليس عبارة عن تركيب الأجزاء المتفرقة بل عن الوجود بعد العدم ، فوجب أنْ تكون الإعادة كذلك . واحتج الأولون بقوله تعالى : { وَٱلسَّمَٰوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] فدلّ هذا على أنّ السموات حال كونها مطويات تكون موجودة . وبقوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } [ إبراهيم : 48 ] وهذا يدلّ على أنَّ الأرض باقية لكنها جعلت غير الأرض . فصل قال المفسرون : كما بدأناهم في بطون أمهاتهم عراة غرلاً كذلك نعيدهم يوم القيامة { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 94 ] . " روى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً " ثم قرأ { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } " يعني الإعادة والبعث . وقيل : المراد حقاً علينا بسبب الإخبار عن ذلك وتعلق العلم بوقوعه وأن وقوع ما علم الله وقوعه واجب . ثم حقق ذلك بقوله { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ } قرأ حمزة بضم الزاي ، والباقون بفتحها بمعنى المزبور كالمحلوب والمركوب ، يقال : زبرت الكتاب أي : كتبته . والزُّبور بضم الزاي جمع زِبْرة كقِشرة وقُشُور . ومعنى القراءتين واحد ، لأنّ الزبور هو الكتاب . قال سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي ومقاتل : " الزّبُور " جميع الكتب المنزلة ، و " الذِّكْر " أم الكتاب الذي عنده ، والمعنى من بعد ما كتب ذكره في اللوح المحفوظ . وقال ابن عباس والضحاك : الزبور : التوراة ، والذكر : الكتب المنزلة من بعد التوراة . وقال قتادة والشعبي : الزبور والذكر : التوراة . وقيل : الزبور : زبور داود ، والذكر : القرآن ، و " بَعْدِ " بمعنى قبل كقوله : { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ } [ الكهف : 79 ] أي : أمامهم . { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 30 ] أي : قبله . وقيل : الزبور : زبور داود ، والذكر هو ما روي أنه - عليه السلام - قال : " كان الله ولم يكن معه شيء ثم خلق الذكر " قوله : { مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ } يجوز أن يتعلق بـ " كَتَبْنَا " ، ويجوز أن يتعلق بنفس " الزَّبُور " لأنه بمعنى المزبور ، أي : المكتوب ، أي : المزبور من بعد . ومفعول " كَتَبْنَا " " أنَّ " وما في حيزها ، أي : كتبنا وراثة الصالحين للأرض ، أي : حكمنا به قوله : " أَنَّ الأَرْضَ " يعني أرض الجنة { يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ } قال مجاهد : يعني أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويدل عليه قوله تعالى : { وَقَـالُواْ ٱلْحَـمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ } [ الزمر : 74 ] وقال ابن عباس : أراد أراضي الكفار يفتحها المسلمون ، وهذا حكم من الله تعالى بإظهار الدين وإعزاز المسلمين . وقيل : أراد الأرض المقدسة يرثها الصالحون لقوله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } [ الأعراف : 137 ] . { إِنَّ فِي هَـٰذَا } أي : في هذا القرآن يعني ما فيه من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة " لَبَلاَغَاً " وصولاً إلى البغية ، فمن اتبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجو من الثواب . وقيل : " لَبَلاَغَاً " أي : كفاية : والقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر . { لِقَوْمٍ عَابِدِينَ } أي : مؤمنين . وقال ابن عباس : عالمين . وقال كعب الأحبار : هم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان . وقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً } يجوز أن ينتصب " رَحْمَةً " مفعولاً له ، أي : لأجل الرحمة ، ويجوز أن ينتصب على الحال مبالغة في أن جعله نفس الرحمة ، وإما على حذف مضاف أي : ذا رحمة ، أو بمعنى راحم . وفي الحديث : " يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة " . قوله : " لِلْعَالَمِينَ " يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لـ " رَحْمَةً " أي : كائنة للعالمين . ويجوز أن يتعلق بـ " أَرْسَلْنَاكَ " عند مَنْ يرى تعلق ما بعد إلا بما قبلها جائز ، أو بمحذوف عند مَنْ لا يرى ذلك . هذا إذا لم يفرغ الفعل لما بعدها أما إذا فرغ فيجوز نحو : ما مررت إلا بزيد ، كذا قاله أبو حيَّان هنا . وفيه نظر من حيث إن هذا أيضاً مفرغ ، لأنّ المفرغ عبارة عما افتقر ما بعد إلا لما قبلها على جهة المعمولية له . فصل قال ابن عباس : قوله : " رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ " عام في حق من آمن ومن لم يؤمن . اعلم أنه - عليه لسلام - كان رحمة في الدين والدنيا ، أما في الدين فلأنه - عليه السلام - بعث والناس في جاهلية وضلال ، وأهل الكتابين كانوا في حيرة في أمر دينهم لطول مدّتهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم ، فبعث الله محمداً حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب ، فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الصواب وشرع لهم الأحكام ، وميز الحلال والحرام ، فمن كانت همته طلب الحق فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار ، قال الله تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ } [ فصلت : 44 ] إلى قوله : { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [ فصلت : 44 ] وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من الذل والقتل . فإن قيل : كيف كان رحمة وقد جاء بالسيف واستباحة المال ؟ فالجواب من وجوه : الأول : إنما جاء بالسيف لمن أنكر وعاند ولم يتفكر ولم يتدبر ، ومن أوصاف الله الرحمن الرحيم ، وهو منتقم من العصاة . وقال : { وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً } [ ق : 9 ] ثم قد يكون سبباً للفساد . الثاني : أنّ كل نبي من الأنبياء قبله إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق ، وأنه تعالى أخر عذاب من كذب رسولنا إلى الموت أو إلى القيامة قال الله تعالى : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] ولا يقال : أليس أنه قال : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } [ التوبة : 14 ] . وقال : { لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ } [ الأحزاب : 73 ] لأنا نقول تخصيص العام لا يقدح فيه . الثالث : أنه - عليه السلام - كان في نهاية حسن الخلق قال تعالى : { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 4 ] " وقيل له - عليه السلام - : ادع على المشركين . فقال : " إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذاباً " ، وقال في رواية حذيفة : " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أغضب كما يغضب البشر ، فأيما رجل سببته أو لعنته فاجعلها اللهم عليه صلاة إلى يوم القيامة " . الرابع : قال عبد الرحمن بن يزيد : { إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } يعني المؤمنين خاصة . فصل قالت المعتزلة : لو كان تعالى أراد من الكافر الكفر ولم يرد منه القبول من الرسول ، بل ما أراد منهم إلا الرد عليه ، وخلق ذلك فيهم ، ولم يخلقهم إلا لذلك كما يقول أهل السنة لوجب أن يكون إرساله نقمة وعذاباً عليهم لا رحمة ، وهو خلاف هذا النص ، ولا يقال : إن رسالته رحمة للكفار من حيث لم يعجل عذابهم في الدنيا كما عجل عذاب سائر الأمم ، لأنا نقول : إنّ كونه رحمة للجميع على حد واحد ، وما ذكرتموه في الكفار فهو حاصل للمؤمنين ، وأيضاً فإن الذي ذكروه من نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار قبل بعثته - عليه السلام - لحصولها بعده ، بل كانت نعمهم في الدنيا قبل بعثته كحصولها بعده وأعظم ، لأن في بعثته نزل بهم الغم والخوف ، ثم أمر الجهاد الذي فيه أكبر همّ ، فلا يجوز أن يكون هذا هو المراد . والجواب أنْ نقول لما علم الله أن أبا لهب لم يؤمن ألبتة ، وأخبر عنه أنه لا يؤمن كان أمره بالإيمان أمراً يقلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً ، وذلك محال ، فكان قد أمره بالمحال ، وإن كانت البعثة مع هذا القول رحمة ، فلم لا يجوز أن يقال البعثة رحمة مع أنه خلق الكفر في الكافر ؟ ولأنّ قدرة الكافر إن لم تصلح إلا للكفر فقط فالسؤال عليهم لازم ، وإن كانت صالحة للضدين توقف الترجيح على مرجح من قبل الله تعالى قطعاً للتسلسل . وحينئذ يعود الإلزام ، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون رحمة للكفار تأخير عذاب الاستئصال عنهم ؟ وقولهم أولاً : لما كان رحمة للجميع على حد واحد وجب أن يكون رحمة للكفار من الوجه الذي كان رحمة للمؤمنين . فالجواب : ليس في الآية أنه - عليه السلام - رحمة للكل باعتبار واحد أو باعتبارين مختلفين ، فدعواكم بكون الوجه واحداً تحكم . وقولهم نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار من قبل . فالجواب : نعم ، ولكنه - عليه السلام - لكونه رحمة للمؤمنين لما بُعِثَ حصل الخوف للكفار من نزول العذاب ، فلما اندفع ذلك عنهم بسبب حضوره كان ذلك رحمة في حق الكفار . فصل تمسكوا بهذه الآية في أنه أفضل من الملائكة ، لأنّ الملائكة من العالمين ، فوجب أن يكون أفضل منهم . وأجيب بأنه معارض بقوله تعالى في حق الملائكة { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ } [ غافر : 7 ] وذلك رحمة منهم في حق المؤمنين ، والرسول - عليه السلام - داخل في المؤمنين ، وكذا قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ } [ الأحزاب : 56 ] .