Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 22-25)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } وإلا هنا صفة للنكرة قبلها بمعنى " غير " ، والإعراب فيها متعذر فجعل على ما بعدها . وللوصف بها شروط منها : تنكير الموصوف ، أو قربه من النكرة بأن يكون معرفاً بـ ( أل ) الجنسية . ومنها أن يكون جمعاً صريحاً كالآية أو ما في قوة الجمع كقوله : @ 3707 - لَوْ كَانَ غَيْرِي سُلَيْمَى الدَّهْرَ غَيَّرهُ وَقْعُ الحَوَادِثِ إِلا الصَّارِمُ الذَّكَرُ @@ فـ ( إلا الصارم ) صفة لـ " غيري " ، لأنه في معنى الجمع . ومنها : أن لا يحذف موصوفها عكس ( غير ) ، وأنشد سيبويه على ذلك قوله : @ 3708 - وَكلُّ أَخٍ مَفارِقُهُ أَخُوهُ لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدَانِ @@ أي : وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه . وقد وقع الوصف بـ " إلا " كما وقع الاستثناء بـ " غير " ، والأصل في " إلا " الاستثناء وفي " غير " الصفة . ومن مُلَح الكلام الزمخشري : واعلم أن ( إلا ) و ( غير ) يتقارضان . ولا يجوز أن يرتفع الجلالة على البدل من " آلهة " لفساد المعنى . قال الزمخشري : فإن قلت : ما منعك من الرفع على البدل . قلت لأن " لو " بمنزلة " إن " في أن الكلام معها موجب ، والبدل لا يسوغ إلا في الكلام غير الموجب كقوله تعالى { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ } [ هود : 81 ] وذلك لأن أعم العام يصح نفيه ولا يصح إيجابه . فجعل المانع صناعياً مستنداً إلى ما ذكر من عدم صحّة إيجاب أعم العام . وأحسن من هذا ما ذكره أبو البقاء من جهة المعنى قال : ولا يجوز أن يكون بدلاً ، لأن المعنى يصير إلى قولك : لَوْ كَانَ فِيهِمَا الله لفسدتا ألا ترى أنك لو قلت : ما جاءني قومك إلا زيد على البدل لكان المعنى : جاءني زيد وحده . ثم ذكر الوجه الذي رد به الزمخشري فقال : وقيل يمتنع البدل ، لأن قبلها إيجاباً . ومنع أبو البقاء النصب على الاستثناء لوجهين : أحدهما : أنه فاسد في المعنى ، وذلك أنك إذا قلت : لو جاءني القوم إلا زيداً لقتلتهم ، كان معناه أن القتل امتنع لكون زيد مع القوم ، ولو نصبت في الآية لكان المعنى : أن فساد السموات والأرض امتنع لوجود الله تعالى مع الآلهة ، وفي ذلك إثبات إله مع الله . وإذا رفعت على الوصف لا يلزم مثل ذلك ، لأن المعنى لو كان فيهما غير الله لفسدتا . والوجه الثاني : أن " آلهة " هنا نكرة ، والجمع إذا كان نكرة لم يستثن منه عند جماعة من المحققين ، إذ لا عموم له بحيث يدخل فيه المستثنى لولا الاستثناء . وهذا الوجه الذي معناه ، أعني الزمخشري وأبا البقاء ، قد أجاز المبرد وغيره أما المبرد فإنه قال : جاز البدل ، لأن ما بعد " لو " غير موجب في المعنى والبدل في غير الموجب أحسن من الوصف . وفي هذا نظر من جهة ما ذكره أبو البقاء من فساد المعنى : وقال ابن الضائع تابعاً للمبرد : لا يصح المعنى عندي إلا أن تكون " إلا " في معنى ( غير ) التي يراد بها البدل ، أي : لو كان فيهما آلهة عوض واحد ، أي : بدل الواحد الذي هو الله لفسدتا ، وهذا المعنى أراد سيبويه في المسألة التي جاء بها توطئة . وقال الشلوبين في مسألة سيبويه : " لو كان معنا رَجُلٌ إلاَّ زَيْدٌ لَغُلِبْنَا " إن المعنى : لَوْ كَانَ مَعَنَا رَجُلٌ مكان زيد لغلبنا ، فـ ( إلا ) بمعنى ( غير ) التي بمعنى مكان . وهذا أيضاً جنوح من أبي علي إلى البدل . وما ذكره ابن الضائع من المعنى المتقدم مسوغ للبدل ، وهو جواب عما أفسد به أبو البقاء وجه البدل إذ معناه واضح ، ولكنه قريب من تفسير المعنى لا من تفسير الإعراب . فصل المعنى لو كان يتولاهما ، ويدبر أمرهما شيء غير الواحد الذي فطرهما لفسدتا ولا يجوز أن تكون " إلا " بمعنى الاستثناء ، لأنها لو كانت استثناء لكان المعنى : لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله لفسدتا ، وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله أن لا يحصل الفساد ، وذلك باطل ، لأنه لو كان فيهما آلهة فسواء كان الله معهم ، أو لم يكن الله معهم فالفساد لازم . ولما بطل حمله على الاستثناء ثبت ما ذكرنا . وهو أن المعنى : لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله لفسدتا ، أي لخربتا ، وهلك من فيهما بوجود التمانع من الآلهة ، لأن كل أمر صدر عن اثنين فأكثر لم يجر على النظام . ويدل العقل على ذلك من وجوه : الأول : أنا لو قدرنا إلهين لكان أحدهما إذا انفرد صح منه تحريك الجسم وإذا انفرد الثاني صح منه تسكينه ، فإذا اجتمعا وجب أن يبقيا على ما كان عليه حال الانفراد ، فعند الاجتماع يصح أن يحاول أحدهما التحريك والآخر التسكين فإما أن يحصل المرادان ، وهو محال ، وإما أن يمتنعا وهو أيضاً محال ، لأنه يكون كل واحد منهما عاجزاً ، وأيضاً المانع من تحصيل مراد كل واحد منهما مراد الآخر ، والمعلول لا يحصل إلا مع علته ، فلو امتنع المرادان لحصلا ، وذلك محال وإما أن يمتنع أحدهما دون الثاني ، وذلك أيضاً محال ، لأن الممنوع يكون عاجزاً ، والعاجز لا يكون إلهاً ، ولأنه لما كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد لم يكن عجز أحدهما أولى من عجز الآخر ، فثبت أن القول بوجود إلهين يوجب هذه الأقسام الفاسدة فكان القول به باطلاً . الوجه الثاني : أن الإله يجب أن يكون قادراً على جميع الممكنات ، فلو فرضنا الإلهين لكان كل واحد منهما قادراً على جميع الممكنات ، فإذا أراد كل واحد منهما تحريك جسم فتلك الحركة إما أن تقع بهما معاً ولا تقع بواحد منهما أو تقع بواحد منهما أو تقع بأحدهما دون الثاني ، والأول محال ، لأن الأثر مع المؤثر المستقل واجب الحصول ، ووجوب حصوله به يمنع من استناده إلى الثاني ، فلو اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان يلزم أن يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما ، فيكون محتاجاً إليهما ، وغنيًّا عنهما وهو محال ، وإما أن لا يقع بواحد منهما ألبتة ، فهذا يقتضي كونهما عاجزين ، وأيضاً فامتناع وقوعه بهذا إنما يكون لأجل وقوعه بذاك وبالضد ، فلو امتنع وقوعه بهما لوقع بهما معاً وهو محال ، وإما أن يقع بأحدهما دون الثاني فهو باطل ، لأن وقوعه بهذا يلزم فيه رجحان أحد الإلهين على الآخر من غير مرجح ، وهو محال . الوجه الثالث : لو قدرنا إلهين فإما أن يتفقا أو يختلفا ، فإن اتفقا على الشيء الواحد فذلك الواحد مقدور لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما وهو محال ، وإن اختلفا فإما أن يقع المرادان أو لا يقع واحد منهما ، أو يقع أحدهما دون الآخر والكل محال ، فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات . وذكروا وجوهاً أخر عقلية وفي هذا كفاية . ثم إنه تعالى نزه نفسه فقال : { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي : عما يصفه به المشركون من الشرك والولد . فإن قيل : أي فائدة لقوله تعالى : { رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } . فالجواب : أن هذه المناظرة وقعت مع عبدة الأصنام ، وهي أنه كيف يجوز للعاقل أن يجعل الجماد الذي لا يعقل ولا يحس شريكاً في الإلهية لخالق العرش العظيم وموجد السموات والأرضين . قوله : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } اعلم أن أهل السنة استدلوا على أنه تعالى لا يسأل عما يفعل بأمور : أحدها : أنه لو كان كل شيء معللاً بعلة كانت تلك العلة معللة بعلة أخرى ولزم التسلسل ، فلا بد في قطع التسلسل من الانتهاء إلى ما يكون غنياً عن العلة ، وأولى الأشياء بذلك ذات الله تعالى ، وصفاته مبرأة من الافتقار إلى المبدع المخصص ، فكذا فاعليته يجب أن يجب أن تكون مقدسة عن الاستناد إلى الموجب والمؤثر . وثانيها : أن فاعليته لو كانت معللة بعلة لكانت تلك العلة إما أن تكون واجبة ممكنة ، فإن كانت واجبة لزم من وجوبها وجوب كونها فاعلاً ، وحينئذ يكون موجباً بالذات لا فاعلاً باختيار . وإن كانت ممكنة كانت تلك العلة فعلاً لله تعالى فتفتقر فاعليته لتلك العلة إلى علة أخرى ولزم التسلسل وهو محال . وثالثها : أن علة فاعلية الله تعالى للعالم إن كانت قديمة لزم أن تكون فاعليته للعالم قديمة ، فيلزم قدم العالم وإن كانت محدثة افتقرت إلى علة أخرى ولزم التسلسل . ورابعها : أنه إن فعل فعلاً لغرض فإما أن يكون متمكناً من تحصيل ذلك الغرض بدون تلك الواسطة ، أو لا يكون متمكناً منه . فإن كان متمكناً منه كان توسط تلك الواسطة عبثاً . وإن لم يكن متمكناً منه كان عاجزاً ، والعجز على الله تعالى محال ، وأما العجز علينا فغير ممتنع ، فلذلك كانت أفعالنا معللة بالأغراض وذلك في حق الله تعالى محال . وخامسها : لو كان فعلاً معللاً بغرض لكان ذلك الغرض إما أن يكون عائداً إلى الله تعالى أو إلى العباد ، والأول محال ، لأنه منزه عن النفع والضر ، وإذا بطل ذلك تعين أن الغرض لا بد وأن يكون عائداً إلى العباد ، ولا غرض للعباد إلا حصول اللذة وعدم حصول الآلام ، والله تعالى قادر على تحصيلها ابتداء من غير واسطة ، وإذا كان كذلك استحال أن يفعل شيئاً لأجل شيء . وسادسها : أن الموجودات ملكه ، ومن تصرف في ملك نفسه لا يقال له : لم فعلت ذلك ؟ وسابعها : أن من قال لغيره : لم فعلت ذلك ؟ فهذا السؤال إنما يحسن حيث يكون للسائل على المسؤول حكم على فعله ، وذلك في حق الله تعالى محال ، فإنه لو فعل أي فعل شاء فالعبد كيف يمنعه عن ذلك بأن يهدده بالعقاب ؟ فذلك على الله محال ، وإن هدده باستحقاق الذم والخروج عن الحكمة والاتصاف بالسفاهة على ما يقوله المعتزلة فذلك أيضاً محال ، لأنه مستحق للمدح والاتصاف بصفات الحكمة والجلال . فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز أن يقال لله في أفعاله : لم فعلت ؟ وأنّ كل شيء صنعه لا علة لصنعه . وأما المعتزلة فإنهم سلموا أنه يجوز أن يقال : الله عالم بقبح القبيح ، وعالم بكونه غنياً عنها ، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح ، ومن كان كذلك فإنه يستحسل أن يفعل القبيح ، وإذا عرفنا ذلك عرفنا أن كل ما يفعله الله فهو حكمة وصواب ، وإذا كان كذلك لم يجز للعبد أن يقول لله : لم فعلت هذا ؟ ثم قال تعالى : " وهُمْ يُسْأَلُونَ " وهذا يدل على كون المكلفين مسؤولين عن أفعالهم . واعلم أن منكري التكليف احتجوا على قولهم بوجوه : أحدها : قالوا : التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك ، أو حال رجحان أحدهما على الآخر ، والأول محال ، لأن حال الاستواء يمنع الترجيح ، وحال امتناع الترجيح يكون تكليفاً بالمحال . والثاني محال ، لأن حال الرجحان يكون الراجح واجب الوقوع ، وإيقاع ما هو ممتنع الوقوع تكليف ما لا يطاق . وثانيها : قالوا : كل ما علم الله وقوعه فهو واجب ، فيكون التكليف به عبثاً ، وكل ما علم الله عدمه كان ممتنع الوقوع ، فيكون التكليف به تكليفاً لا يطاق . وثالثها : قالوا : سؤال العبد إما أن يكون لفائدة أو لا لفائدة ، فإن كان لفائدة فإن عادت إلى العبد فهو محال ، لأن سؤاله لما كان سبباً للعقاب لم يكن نفعاً عائداً إلى العبد بل ضرر عائد إليه . وإن لم يكن في سؤاله فائدة كان عبثاً ، وهو غير جائز على الحكيم ، بل كان إضراراً وهو غير جائز على الرحيم . والجواب من وجهين : الأول : أن غرضكم من إيراد هذه الشبه النافية للتكليف أن تلزمونا نفي التكليف فكأنكم كلفتمونا بنفي التكليف ، وهذا متناقض . والثاني : أن مدار كلامكم في هذه الشبهات على حرف واحد ، وهو أن التكاليف كلها تكليف ( بما لا يطاق ) فلا يجوز من الحكيم أن يوجهها على العباد ، فيرجح حاصل هذه الشبهات إلى أنه يقال لله تعالى : لِمَ كلفت عبادك ، إلا أنَّا قد بيَّنا أنه سبحانه { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } ، فظهر بهذا أن قوله : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } أصل لقوله : { وَهُمْ يُسْأَلُونَ } فتأمل هذه الدقائق العجيبة لتقف على طرف من أسرار علم القرآن . فإن قيل : { وَهُمْ يُسْأَلُونَ } متأكد بقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] وبقوله : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ } [ الصافات : 24 ] إلا أَنَّهُ يناقضه قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] . فالجواب : أن يوم القيامة طويل وفيه مقامات ، فيصرف كل واحد من السلب والإيجاب إلى مقام دفعاً للتناقض . فصل قالت المعتزلة : ( فيه وجوه : أحدها ) : أنه تعالى لو كان هو الخالق للحسن والقبيح لوجب أن يسأل عما يفعل ، بل كان يذم بما من حقه الذم ، كما يحمد بما من حقه الحمد . وثانيها : أنه يجب أن يسأل عن المأمور به إذ لا فاعل سواء . وثالثها : أنه لا يجوز أن يسألوا عن عملهم إذ لا عمل لهم . ورابعها : أن عملهم لا يمكنهم أن يعدلوا عنه من حيث إنه خلقه وأوجده فيهم . وخامسها : أنه تعالى صرح في كثير من المواضع أنه يقبل حجة العباد لقوله : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] . وهذا يقتضى أن لهم عليه حجة قبل بعثة الرسل ، وقال : { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } [ طه : 134 ] ونظائر هذه الآيات كثيرة ، وكلها تدل على أن حجة العبد متوجهة على الله تعالى . والجواب هو المعارضة بمسألة الداعي ومسألة العلم ثم بالوجوه المتقدمة التي بينا فيها أنه يستحيل طلب عِلِّيَّة أفعال الله تعالى . فصل في تعلق هذه الآية بما قبلها ، وهو أن كل من أثبت لله تعالى شريكاً ليس عمدته إلا طلب اللمية في أفعال الله تعالى ، وذلك لأن الثنوية والمجوس وهم الذين أثبتوا الشريك لله تعالى ، قالوا : رأينا في العالم خيراً وشراً ، ولذة وألماً ، وحياة وموتاً ، وصحة وسقماً ، وغنى وفقراً ، وفاعل خير وفاعل شر ، ويستحيل أن يكون الفاعل الواحد خيراً وشرّيراً معاً ، فلا بد من فاعلين ليكون أحدهما فاعلاً ( للخير والآخر للشر ) ، فرجع حاصل هذه القسمة إلى أن مدبر العالم لو كان واحداً فلم خصَّ هذا بالحياة والصحة والغنى ، وخصَّ هذا بالموت والألم والفقر . فيرجع حاصلة إلى طلب اللمية . لا جرم أنه تعالى بعد أن ذكر الدليل على التوحيد ذكر ما هو النكتة الأصلية في الجواب عن شبهة القائلين بالشريك ، لأن الترتيب الجيد في المناظرة أن يبتدأ بذكر الدليل المثبت للمطلوب ، ثم يذكر بعده الجواب عن شبهة الخصم . قوله تعالى : { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً } استعظام لكفرهم ، وهو استفهام إنكار وتوبيخ . { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } إما من جهة العقل وإما من جهة النقل ، واعلم أنه تعالى لما ذكر دليل التوحيد أولاً ، وقرر الأصل الذي عليه تخرج شبهات القائلين بالتثنية أخذ يطالبهم بدليل شبهتهم . قوله : { هَـٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ } العامة على إضافة " ذِكْرُ " إلى " مَن " أضاف المصدر إلى مفعوله كقوله تعالى " بِسُؤال نَعْجَتِك " [ ص : 42 ] . وقرىء " ذِكْرٌ " بالتنوين فيهما و " مَن " مفتوحة الميم . نوّن المصدر ونصب به المفعول ( كقوله تعالى ) { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ، 15 ] . وقرأ يحيى بن يعمر " ذِكْرٌ " بتنوينهما و " مِن " بكسر الميم ، وفيه تأويلان : أحدهما : أن ثم موصوفاً محذوفاً قامت صفته وهي الظرف مقامه ، والتقدير : هذا ذكر من كتاب معي ومن كتاب قبلي . والثاني : أن " مَعِيَ " بمعنى عندي . ودخول " من " على " مع " في الجملة نادر ، لأنها ظرف لا يتصرف . وقد ضعف أبو حاتم هذه القراءة ، ولم ير لدخول " من " على " مع " وجهاً . ووجهه بعضهم بأنه اسم هو ظرف نحو ( قبل وبعد ) فكما تدخل ( من ) على أخواته كذلك تدخل عليه . وقرأ طلحة : " ذِكْرٌ مَعِي وذِكْرٌ قَبْلِي " بتنوينهما دون ( من ) فيهما . وقرأ طائفة " ذِكْرُ مَنْ " بالإضافة لـ " من " كالعامة { وَذِكْرُ مِن قَبْلِي } بتنوينه وكسر ميم " من " ووجهها واضح مما تقدم . فصل قال ابن عباس " هذا ذكر من معي " أي : هو الكتاب المنزل على من معي ، " وهذا ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي " أي : الكتاب الذي نزل على من تقدمني من الأنبياء وهذه التوراة والإنجيل والزبور والصحف . وليس في شيء منها أني أذنت بأن تتخذوا إلهاً من دوني بل ليس فيها إلا أنني أنا الله لا إله إلا أنا كما قال بعد هذا : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ } . وهذا اختيار القفال والزجاجا . وقال سعيد بن جبير وقتادة ومقاتل والسدي : معناه : القرآن ذكر من معي فيه خبر من معي على ديني ، ومن يتبعني إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، وذكر خبر من قبلي من الأمم السالفة ما فعل بهم في الدنيا وما يفعل بهم في الآخرة . وقال القفال : المعنى : قل لهم : هذا الكتاب الذي جئتكم به قد اشتمل على أحوال من معي من المخالفين والموافقين ، وعلى بيان أحوال من قبلي من المخالفين والموافقين ، فاختاروا لأنفسكم ، فكأن الغرض منه التهديد . ثم قال : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْحَقَّ } لما طالبهم بالدلالة على ما ادعوه ، وبين أنه لا دليل لهم البتة لا من جهة العقل ولا من جهة السمع ، ذكر بعده أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه بل لأن عندهم أصل الشر والفساد وهو عدم العلم والإعراض عن استماع الحق . العامة على نصب " الحَقَّ " وفيه وجهان : أظهرهما : أنه مفعول به بالفعل قبله . والثاني : أنه مصدر مؤكد . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المنصوب أيضاً على التوكيد لمضمون الجملة السابقة كما تقول : هذا عبد الله الحق لا الباطل فأكد انتقاء العلم . وقرأ الحسن وابن محيصن وحميد برفع " الحَقُّ " وفيه وجهان : أحدهما : أنه مبتدأ والخبر مضمر . والثاني : أنه خبر لمبتدأ مضمر . قال الزمخشري : وقرىء " الحَقُّ " بالرفع على توسط التوكيد بين السبب والمسبب والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل . قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ } الآية . اعلم أن هذه الآية مقررة لما سبقها من آيات التوحيد . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم " نُوحِي " بالنون وكسر الحاء على التعظيم لقوله : " أَرْسَلْنَا " وقرأ الآخرون بالياء وفتح الحاء على الفعل المجهول .