Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 30-33)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } الآيات . اعلم أنه تعالى شرع الآن في الدلائل الدالة على وجود الصانع ، وعلى كونه منزهاً عن الشريك ، وعلى التوحيد ، فتكون كالتوكيد لما تقدم ، لأنها دالة على حصول الترتيب العجيب في العالم ، ووجود إلهين يقتضي وقوع الفساد . وفيه رَدٌّ على عبدة الأوثان من حيث إن الإله القادر على مثل هذه المخلوقات العظيمة ، كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر لا يضر ولا ينفع ؟ فهذا وجه النظم . قرأ ابن كثير " أَلَمْ يَرَ " من غير واو ، والباقون بالواو . ونظير حذف الواو وإثباتها هنا ما تقدم في البقرة وآل عمران في قوله : { قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } [ البقرة : 116 ] { سَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ } [ آل عمران : 133 ] ، وقد تقدم حكمه ، وإدخال الواو يدل على العطف على آخر تقدمه . والرؤية هنا يجوز أن تكون قلبية ، وأن تكون بصرية . فـ " أَنَّ " وخبرها سادة مسد مفعولين عند الجمهور على الأول ، ومسد واحد والثاني محذوف عند الأخفش . وسادة مسد واحد قط على الثاني . فإن قيل : إن كان المراد بالرؤية البصرية فمشكل ، لأن القوم ما رأوهم كذلك ألبتة ، ولقوله تعالى : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ الكهف : 51 ] . وإن كان المراد بالرؤية العلم فمشكل ، لأن الأجسام قابلة للفتق والرتق في أنفسها فالحكم عليها بالرتق أولاً وبالفتق ثانياً لا سبيل إليه إلا بالسمع والمناظرة مع الكفار المنكرين للرسالة ، فكيف يجوز مثل هذا الاستدلال . فالجواب : المراد من الرؤية العلم ، وما ذكروه من السؤال فدفعه من وجوه : أحدها : أنا نثبت نبوة محمد - عليه السلام - بسائر المعجزات ، ثم نستدل بقوله ، ثم نجعله دليلاً على حصول النظام في العالم ، وانتفاء الفساد عنه ، وذلك يؤكد الدلالة المذكورة في التوحيد . وثانيها : أن يحمل الرتق والفتق على إمكان الرتق والفتق ، والعقل يدل عليه لأن الأجسام يصح عليها الاجتماع والافتراق فاختصاصها بالاجتماع دون الافتراق أو بالعكس يستدعي مخصصاً . وثالثها : أن اليهود والنصارى كانوا عالمين بذلك ، فإنه جاء في التوراة أن الله تعالى خلق جوهرة ، ثم نظر إليها بعين إلهية ، فصارت ماء ، ثم خلق السموات والأرض منها ، وفتق بينهما ، وكان بين اليهود وعبدة الأوثان نوع صداقة بسبب الاشتراك في عداوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فاحتج الله عليهم بهذه الحجة على أنهم يقبلون قول اليهود في ذلك . قوله : " كَانَتَا " الضمير يعود على " السَّمواتِ والأَرضِ " بلفظ التثنية والمتقدم جمع وفي ذلك أوجه : أحدها : ما ذكره الزمخشري فقال : وإنما قال " كَانَتَا " دون كُنَّ ، لأن المراد جماعة السموات وجماعة الأرضين ، ومنه قولهم : لقاحان سوداوان ، أي : جماعتان ، فعل في المضمر ما فعل في المظهر . الثاني : قال أبو البقاء : الضمير يعود على الجنسين . الثالث : قال الحوفي : " كَانَتَا رَتْقَاً " ، و " السَّمواتِ " جمع ، لأنه أراد الصنفين . قال الأسود بن يعفر : @ 3709 - إِنَّ المَنِيَّةَ وَالحُتُوفَ كِلاَهُمَا يُوفِي المخَارِمَ يَرْقُبَان سَوَادِي @@ لأنه أراد النوعين . وتبعه ابن عطية في هذا فقال : وقال : " كَانَتَا " من حيث هما نوعان ونحوه قول عمرو بن شُيَيْم : @ 3710 - أَلَمْ يَحْزُنْكَ أن حِبَالَ قَيْسٍ وتَغْلِبَ قَدْ تَبَايَنَتَا انْقِطَاعَا @@ قال الأخفش : " السَّموات " نوع ، والأرض نوع ، ومثله : { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ } [ فاطر : 41 ] . ومن ذلك : أصلحنا بين القومين ، ومرت بنا غنمان أسودان ، لأن هذا القطيع غنم ، وذاك غنم . و " رَتْقَاً " خبر ، ولم يثن لأنه في الأصل مصدر ، ثم لك أن تجعله قائماً مقام المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق أو تجعله على حذف مضاف أي : ذواتي رتق . وهذه قراءة الجمهور . وقرأ الحسن وزيد بن علي وأبو حيوة وعيسى " رَتَقاً " بفتح التاء وفيه وجهان : أحدهما : أنه مصدر أيضاً ، ففيه الوجهان المتقدمان في الساكن التاء . والثاني : أنه فعل بمعنى مفعول كالقَبض والنَّفَض بمعنى المقبوض والمنفوض ، وعلى هذا فكان ينبغي أن يطابق مخبره في التثنية . وأجاب الزمخشري عن ذلك فقال : هو تقدير موصوف ، أي : كانتا شيئاً رتقاً . وقال المفضل : لم يقل : كانتا رتقين كقوله : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ } [ الأنبياء : 8 ] وحدّ " جسداً " كذلك ما نحن فيه كل واحد رتق . ورجح بعضهم المصدرية بعدم المطابقة في التثنية ، وقد عرف جوابه وله أن يقول : الأصل عدم حذف الموصوف ، فلا يصار إليه دون ضرورة والرتق : الانضمام ، ارتتق حلقه أي : انضم ، وامرأة رتقاء أي : منسدة الفرج فلم يمكن جماعها من ذلك . والفتق : فصل ذلك المرتتق . وهو من أحسن البديع هنا حيث قابل الرتق بالفتق . فصل قال ابن عبَّاس في رواية عكرمة والحسن وقتادة وسعيد بن جبير : كانتا شيئاً واحداً ملتزمين ففصل الله بينهما ، ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض . وهذا القول يوجب أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء ، لأنه تعالى لما فصل بينهما جعل الأرض حيث هي ، وأصعد الأجزاء السماوية . قال كعب : خلق الله السموات والأرض ملتصقتين ، ثم خلق ريحاً توسطتهما ففتقتهما . وقال مجاهد والسدي : كانت السموات مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات ، وكذلك الأرض مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع أرضين . وقال ابن عباس في رواية عطاء وأكثر المفسرين : إن السموات كانت رتقاً مستوية صلبة لا تمطر ، والأرض رتقاً لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات ، ونظيره قوله تعالى : { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ } [ الطارق : 11 ، 12 ] ورجحوا ذلك الوجه بقوله بعد ذلك : { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } ، وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم ، وهو ما ذكرنا فإن قيل : هذا الوجه مرجوح ، لأن المطر لا ينزل من السموات بل من سماء واحدة ، وهي سماء الدنيا . فالجواب : إنما أطلق عليه لفظ الجمع ، لأن كل قطعة منها سماء ، كما يقال : ثوب أخلاق ، وبُرْمَة أَعْشَار . وعلى هذا التأويل فتحمل الرؤية على الإبصار . وقال أبو مسلم : يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله : { فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ الأنعام : 14 ] [ الشورى : 11 ] ، وكقوله : { بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ ٱلَّذِي فطَرَهُنَّ } [ الأنبياء : 56 ] فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق ، وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق . وتحقيقه أن العدم نفي محض ، فليس فيه ذوات وأعيان متباينة بل كأنه أمر واحد متصل متشابه ، فإذا وجدت الحقائق فعند الوجود والتكوين يتميز بعضها من بعض ، وينفصل بعضها عن بعض . فبهذا الطريق يحسن جعل الرتق مجازاً عن العدم ، والفتق عن الوجود . وقيل : إن الليل سابق النهار لقوله : { وَءَايَةٌ لَّهُمُ ٱلْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ } [ يس : 37 ] فكانت السمٰوات والأرض مظلمة أولاً ففتقها الله بإظهار النهار المبصر . واعلم أن دلالة هذه الوجوه على إثبات الصانع ووحدانيته ظاهرة لأن أحداً لا يقدر على مثل ذلك . قوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلمَاءِ كُلَّ شيءٍ حَيٍّ } يجوز في " جَعَلَ " هذه أن يكون بمعنى " خَلَقَ " فيتعدى لواحد ، وهو { كُلَّ شيءٍ حَيٍّ } و " من الماء " متعلق بالفعل قبله ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه من " كُلَّ شَيءٍ " لأنه في الأصل يجوز أن يكون وصفاً له فلما قدم عليه نصب على الحال . ومعنى خلقه من الماء : أحد شيئين : إما شدة احتياج كل حيوان للماء فلا يعيش بدونه ، وإما لأنه مخلوق من النطفة التي تسمى ماء . ويجوز أن يكون ( جَعَلَ ) بمعنى ( صَيَّر ) فيتعدى لاثنين ثانيهما الجار بمعنى أنا صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه . والعامة على خفض " حَيٍّ " صفة لشيء . وقرأ حميد بنصبه على أنه مفعول ثان لـ " جعلنا " والظرف لغو ، ويبعد على هذه القراءة أن يكون " جَعَلَ " بمعنى ( خلق ) ، وأن ينتصب " حياً " على الحال . قال الزمخشري : و " مِنْ " في هذا نحو " مِنْ " في قوله عليه السلام " ما أنا مِنْ دَدٍ وَلاَ الدَّدُ مِنَّي " . فإن قيل : كيف قال : خلقنا من الماء كل حيوان ، وقد قال : { وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } [ الحجر : 27 ] ، وقال عليه السلام : " إن الله تعالى خلق الملائكة من النور " ، وقال في عيسى : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي } [ المائدة : 110 ] ، وقال في حق آدم : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] فالجواب : اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة المخصصة قائمة ، فإن الدليل لا بد وأن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود ، وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك . فصل قال بعض المفسرين : المراد بقوله : { كُلَّ شيءٍ حيٍّ } الحيوان فقط . وقال آخرون : بل يدخل فيه النبات ، لأنه من الماء صار نامياً ، وصار فيه الرطوبة والخضرة والنور والثمر . وهذا القول أليق بالمقصود ، لأن المعنى كأنه قال : ففتقنا السماء لإنزال المطر وجعلنا منه كل شيء في الأرض من النبات وغيره حياً . فإن قيل : النبات لا يسمى حياً . فالجواب : لا نسلم ، ويدل عليه قوله تعالى { كَيْفَ يُحْيِيِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ } [ الروم : 50 ] . ثم قال { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } والمعنى أفلا يؤمنون بأن يتدبروا هذه الأدلة فيعملوا بها ويتركوا طريقة الشرك . قوله : { وَجَعَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ } الرواسي الجبال ، والراسي : هو الداخل في الأرض . قوله : " أن تَمِيدَ " مفعول من أجله ، أي : أن لا تميد ، فحذفت " لا " لفهم المعنى كما زيدت في { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ } [ الحديد : 29 ] ، أو كراهة أن تميد وقدره أبو البقاء فقال : مخافة أن تميد وفيه نظر ، لأنا إن جعلنا المخافة مسندة إلى المخاطبين اختل شرط من شروط النصب في المفعول وهو اتحاد الفاعل . وإن جعلناها مسندة لفاعل الجعل استحال ذلك ، لأنه تعالى لا يسند إليه الخوف . وقد يقال يختار أن يسند المخافة إلى المخاطبين ، وقولكم يختل شرط من شروط النصب جوابه : أنه ليس بمنصوب بل مجرور بحرف الجر المقدر ، وحذف حرف الجر مطرد مع أنَّ وأَنْ بشرطه . فصل قال ابن عباس : إن الأرض بسطت على الماء فكانت تكفأ بأهلها كما تكفأ السفينة فأرساها الله بالجبال الثقال . قوله : { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً } وجهان : أحدهما : أنه ( مفعول به ) و " سُبُلاً " بدل منه . والثاني : أنه منصوب على الحال من " سُبُلاً " ، لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب كقوله : @ 3711 - لِمَيَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ يَلُوحُ كَأَنَّهُ خِلَلُ @@ ويدل على ذلك مجيئه صفة في قوله تعالى { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } [ نوح : 20 ] . وقال الزمخشري : فإن قلت : في الفجاج معنى الوصف فما لها قدمت على السبل ولم تؤخر كقوله تعالى : { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } [ نوح : 20 ] ، قلت : لم تقدم وهي صفة ، ولكن جعلت حالاً كقوله : @ 3712 - لعزَّةَ مُوحِشاً طَلَلٌ قَدِيمُ @@ فإن قلت : ما الفرق بينهما من جهة المعنى ؟ قُلْتُ : أحدهما : إعلام بأنه جعل فيها طرقاً واسعة ، والثاني : أنه حين خلقها على تلك الصفة فهو بيان لما أبهم ثمة . قال أبو حيان : يعني بالإبهام أن الوصف لا يلزم أن يكون الموصوف متصفاً به حالة الإخبار عنه ، وإن كان الأكثر قيامه به حالة الإخبار عنه ، ألا ترى أنه يقال : مررت بوحشيّ القاتل حمزة ، وحالة المرور لم يكن قائماً به قتل حمزة . والفَجُّ الطَّرِيقُ الوَاسِعُ ، والجمع الفِجَاج . والضمير في " فيها " يجوز أن يعود على الأرض وهو الظاهر كقوله { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } [ نوح : 19 ، 20 ] . وأن يعود على الرواسي ، يعني أنه جعل في الجبال طرقاً واسعة وهو قول مقاتل والضحاك ورواية عطاء عن ابن عباس وعن ابن عمر قال : كانت الجبال منضمة فلما أغرق الله قوم نوح فرّقها فجاجاً وجعل فيها طرقاً . وقوله { لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } أي لكي يهتدوا إذ الشك لا يجوز على الله . والمعنى : ليهتدوا إلى البلاد . وقيل : ليهتدوا إلى وحدانية الله بالاستدلال قالت المعتزلة : وهذا يدل على أنه تعالى أراد من جميع المكلفين الاهتداء وقد تقدم . وقيل : الاهتداء إلى البلاد والاهتداء إلى وحدانية الله تعالى يشتركان في أصل الاهتداء ، فيحمل اللفظ على ذلك المشترك مستعملاً في مفهوميه معاً . قوله : { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً } سميت سقفاً ، لأنها كالسقف للبيت ، ومعنى " محفوظاً " أي : محفوظاً من الوقوع كقوله : { وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ } [ الحج : 65 ] . وقيل : محفوظاً من الشياطين . قوله : { وَهُمْ عَنْ ءَايَاتِهَا } جملة استئنافية ، ويضعف جعلها حالاً مقدرة . وقرأ مجاهد وحميد " عَنْ آيَتِهَا " بلفظ الإفراد . دعا الخلق آية وهي مشتملة على آيات ، أو أطلق الواحد وأراد به الجنس والمعنى : أن الكفار معرضون عما خلق في السماء من الشمس والقمر والاستيضاء بنوريهما ، والنجوم والاهتداء بها ، وحياة الأرض بأمطارها ، وعن كونها آية بينة على وجود الصانع ووحدانيته لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها . قوله : { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } أي : كل منهما من الشمس والقمر أو منها أي من الليل والنهار والشمس والقمر . و " يَسْبَحُون " يجوز أن يكون خبر " كُلٌّ " على المعنى ، و " في فَلَكٍ " متعلق به . ويجوز أن يكون حالاً والخبر " في فَلَكٍ " . وكون المضاف إليه يجوز أن يقدر بالأربعة الأشياء المذكورة ذكره أبو البقاء ولم يذكر غيره ، إلا أن المضاف إليه ( الشَّمْس والقَمَر ) وهو الظاهر ، لأن السباحة من صفتهما دون ( اللَّيلِ والنَّهَارِ ) ، وعلى هذا فيتعذر عن الإتيان بضمير الجمع ، وعن كونه جمع من يعقل ، أما الأول فقيل : إنما جمع ، لأن ثم معطوفاً محذوفاً تقديره : والنجوم كما دلت عليه آيات أخر ، فصارت النجوم وإن لم تكن مذكورة يعود هذا الضمير إليها . وقال الزمخشري : الضمير للشمس والقمر ، والمراد بهما جنس الطوالع كل يوم وليلة جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها ، وهو السبب في جمعها بالشموس والأقمار . انتهى . والذي حسن ذلك كونه رأس آية . وقال أبو البقاء : و " يَسْبَحُونَ " خبر " كُلٌّ " على المعنى ، لأن كل واحد إذا سبح فكلها تَسْبَح . وقيل : " يسبحون " على هذا الوجه حال ، والخبر " في فَلَكٍ " . وقيل : التقدير : وكلها ، والخبر " يَسْبَحُونَ " وأتى بضمير الجمع على معنى " كل " . وفي هذا الكلام نظر من حيث أنه لما جوز أن يكون المضاف إليه شيئين جعل الخبر الجار و " يَسْبَحُونَ " حالاً فراراً من عدم مطابقة الخبر للمبتدأ ، فوقع في تخالف الحال وصاحبها . وأما الثاني فلأنه لمَّا أسند إليها السباحة التي هي من أفعال العقلاء جمعها جمع العقلاء كقوله : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] و { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] . قال الزمخشري : والتنوين في " كل " عوض عن المضاف إليه أي : كلهم . { فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وهذه الجملة يجوز أن تكون لا محل لها من الإعراب لاستئنافها ويجوز أن يكون محلها النصب على الحال من " الشَّمْسِ والقَمَرِ " . فإن قلنا : إن السباحة تنسب إلى الليل والنهار كما نقل عن أبي البقاء في أحد الوجهين فيكون حالاً من الجميع ، وإن كان لا يصح نسبتها إليهما كانت حالاً من " الشَّمْسِ والقمر " وتأويل الجمع قد تقدم . قال أبو حيان : أو محلها النصب على الحال من " الشمس والقمر " لأن الليل والنهار لا يتصفان بأنهما يجريان في فَلَكٍ فهو كقولك : رأيت هنداً وزيداً ( متبرجة ) . انتهى . وسبقه إلى هذا الزمخشري ، يعني أنه قد دل على أن الحال من بعض ما تقدم كما في المثال المذكور ، قال الزمخشري : فإن قُلْتَ : لكل واحد من القمرين فَلَكٌ على حدة فكيف قال : { فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } . قُلْت : هذا كقولهم : كساهم الأمير حلة وقلدهم سيفاً أي : كل واحد منهم . والسباحة العوم في الماء ، وقد يعبر به عن مطلق الذهاب وقد تقدم اشتقاقه في " سُبْحَانَكَ " . ومعنى " يَسْبَحُونَ " يسيرون بسرعة كالسابح في الماء . فصل اعلم أن للكواكب حركتين الأولى : مجمع عليها وهي حركتها من المشرق إلى المغرب . والحركة الثانية : قالت الفلاسفة وأصحاب الهيئة : إن للكواكب حركة أخرى من المغرب إلى المشرق ، قالوا : وهي ظاهرة في السبعة السيارة خفية في الثابتة ، واستدلوا بأنا وجدنا الكواكب السيارة كل ما كان منها أسرع حركة إذا قارن ما هو أبطأ حركة منه تقدمه نحو المشرق . وهذا في القمر ظاهر جداً ، فإنه يظهر بعد الاجتماع بيوم أو يومين من ناحية المغرب على بعد من الشمس ، ثم يزداد كل ليلة بعداً منها إلى أن يقابلها وكل كوكب كان شرقياً منه على طريقه على ممر البروج يزداد كل ليلة قرباً منه ، ثم إذا أدركه ستره بطرفه الشرقي ، وينكشف ذلك الكوكب بطرفه الغربي . فعلمنا أن لهذه الكواكب السيارة حركة من المغرب إلى المشرق . وأجيبوا : بأن ذلك محال ، لأن الشمس مثلاً إذا كانت متحركة بذاتها من المغرب إلى المشرق حركة بطيئة ، وهي متحركة بسبب الحركة اليومية من المشرق إلى المغرب لزم كون الجرم الواحد متحركاً حركتين إلى جهتين مختلفتين دفعة واحدة ، وذلك محال ، لأن التحرك إلى جهة يقتضي حصول المتحرك في الجهة المنتقل إليها ، فلو تحرك الجسم الواحد دفعة واحدة إلى جهتين لزم حصوله دفعة واحدة في مكانين ، وهو محال . قالوا : ما ذكرتموه ينتقض بما إذا دارت الرحى إلى جانب والنملة التي تكون عليها متحركة على خلاف ذلك الجانب . وللكلام في هذه المسألة مكان غير هذا . فصل والفَلَكُ مدار النجوم ، والفَلَكُ في كلام العرب كل مستدير وجمعه أَفْلاَك ، ومنه فلك المغزل . قال الضحاك : الفلك ليس بجسم ، وإنما هو مدار هذه النجوم . وقال الكلبي : الفلك استدارة السماء . وقال بعضهم : الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه . وقيل : ماء مجموع تجري فيه الكواكب . واحتجوا بأن السباحة لا تكون إلا في الماء . وأجيبوا بالمنع ، فإنه يقال في الفرس الذي يمدّ يديه في الجري : سابح . وقال الحسن : الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل . وقال جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة : الأفلاك أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق والالتئام والنمو والذبول . واختلف الناس في حركات الكواكب ، فقال بعضهم : الفلك ساكن والكواكب تتحرك فيه كحركة السمكة في الماء ، وقال آخرون : الفلك متحرك ، والكواكب تتحرك فيه أيضاً إما مخالفاً لجهة حركته ، أو موافقاً لجهته إما بحركة مساوية لحركة الفلك في السرعة والبطء أو مخالفة . وقيل : الفلك متحرك والكواكب مغروزة فيه . أما الأول فقالت الفلاسفة إنه باطل ، لأنه يوجب خرق الفلك وهو محال . وأما الثاني فحركة الكواكب إن كانت مخالفة لحركة الفلك فذلك أيضاً يوجب الخرق ، وإن كانت حركتها إلى جهة حركة الفلك فإن كانت مخالفة لها في السرعة والبطء لزم الانخراق ، وإن استويا في الجهة والسرعة والبطء فالخرق أيضاً لازم ، لأن الكوكب يتحرك بالعرض بسبب حركة الفلك فتبقى حركته الذاتية زائدة فيلزم الخرق . فلم يبق إلا القسم الثالث ، وهو أن يكون الكوكب مغروزاً في الفلك ، والفلك يتحرك ، فيتحرك الكوكب بسبب حركة الفلك . واعلم أن مدار هذا الكلام على أن امتناع الخرق على الأفلاك باطل ، بل الحق أن الأقسام الثلاثة ممكنة ، والله تعالى قادر على كل الممكنات والذي دل عليه لفظ القرآن أن الأفلاك ثابتة والكواكب جارية كما تسبح السمكة في الماء . فصل احتج ابن سينا على كون الكواكب أحياء ناطقة بقوله " يَسْبَحُونَ " قال : والجمع بالواو والنون لا يكون إلا للعقلاء ، وبقوله تعالى : { وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] . والجواب إنما أتى بضمير العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة .