Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 22, Ayat: 42-46)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } الآية . لما بيَّن إخراج الكفار المؤمنين من ديارهم بغير حق ، وأذن في مقاتلتهم ، وضمن للرسول النصرة ، وبين أن لله عاقبة الأمور ، أردفه بما يجري مجرى التسلية للرسول بالصبر على أذيته بالتكذيب وغيره ، فقال : وإن يكذبوك قومك فقد كذبت قبلهم سائر الأمم أنبياءهم ، وذكر الله تعالى سبعة منهم . فإن قيل : فلم قال : وكذب موسى . ولم يقل : وقوم موسى ؟ فالجواب من وجهين : الأول : أن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل ، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط . الثاني : كأنه قيل بعدما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم ، وكُذِّب موسى أيضاً مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره . " فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِيْنَ " أي : أمهلتهم إلى الوقت المعلوم عندي " ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ " عاقبتهم { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب ، وهذا استفهام تقرير ، أي ؛ أليس كان واقعاً قطعاً ، أبدلتهم بالنعمة نقمة ، وبالكثرة قلة ، وبالحياة موتاً ، وبالعمارة خراباً ؟ وأعطيت الأنبياء جميع ما وعدتهم من النصر على أعدائهم والتمكين لهم في الأرض ، فينبغي أن تكون عادتك يا محمد الصبر عليهم ، فإنه تعالى إنما يمهل لمصلحة ، فلا بد من الرضا والتسليم ، وإن شق ذلك على القلب . والنكير : مصدر بمعنى الإنكار كالنذير بمعنى الإنذار . وأثبت يا نكيري حيث وقعت ورش في الوصل وحذفها في الوقف ، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً . قوله : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } يجوز أن تكون " كأين " منصوبة المحل على الاشتغال بفعل مقدر يفسره ( أَهْلَكْتُهَا ) وأن تكون في محل رفع بالابتداء ، والخبر ( أَهْلَكْتُهَا ) . وتقدم تحقيق القول فيها . قال بعضهم : المراد من قوله : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } وكم ، على وجه التكثير . وقيل : معناه : ورب قرية . والأول أولى ، لأنه أوكد في الزجر . وقوله : " أَهْلَكْتُهَا " قرأ أبو عمرو ويعقوب " أَهْلَكْتُها " بالتاء ، وهو اختيار أبي عبيد لقوله : { فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة والمدينة " أَهْلَكْنَاهَا " . قوله : { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } جملة حالية من هاء " أَهْلَكْنَاهَا " . وقوله : { فَهِيَ خَاوِيَةٌ } عطف على " أَهْلَكْتُها " ، فيجوز أن تكون في محل رفع لعطفها على الخبر على القول الثاني ، وأن لا تكون لها محل لعطفها على الجملة المفسرة على القول الأول . وهذا عنى الزمخشري بقوله : والثانية - يعني قوله : " فَهِيَ خَاوِيَةٌ " - لا محل لها ، لأنها معطوفة على " أَهْلَكْنَاهَا " وهذا الفعل ليس له محل . تفريعاً على القول بالاشتغال ، وإلا إذا قلنا إنه خبر لكان له محل ضرورة . فصل المعنى : وكم من قرية أهلكتها ( أي أهلها ) لقوله : " وَهِيَ ظَالِمَةٌ " ، أي : وأهلها ظالمون ، " فَهِيَ خَاوِيَةٌ " ساقطة " عَلَى عُرُوشِهَا " على سقوفها . قال الزمخشري : كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة فهو عرش ، والخاوي : الساقط من خوى النجم : إذا سقط ، أو من خوى المنزل : إذا خلا من أهله . فإذا فسرنا الخاوي بالساقط كان المعنى أنها ساقطة على سقوفها ، أي : خرت سقوفها على الأرض ، ثم تهدمت حيطانها ، فسقطت فوق السقوف . وإن فسرناه بالخالي كان المعنى أنها خلت من الناس مع بقاء عروشها وسلامتها ويمكن أن يكون خبراً بعد خبر ، أي : هي خالية وهي على عروشها ، يعني أن السقوف سقطت على الأرض فصارت في قرار الحيطان ، وبقيت الحيطان قائمة ، فهي مشرفة على السقوف الساقطة . قوله : " وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ " عطف على " قَرْيَةٍ " ، وكذلك " قَصْرٍ " أي : وكأيٍّ من بئر وقصر أهلكناهما . وقيل : يحتمل أن تكون معطوفة وما بعدها على " عُرُوشِها " أي : خاوية على بئر وقصر أيضاً ، وليس بشيء . والبئر : من بأرت الأرض ، أي : حفرتها ومنه التأبير ، وهو شق كيزان الطلع ، والبئر : فعل بمعنى مفعول كالذِّبح بمعنى المَذْبُوح ، وهي مؤنثة وقد تذكر على معنى القليب . وقوله : @ 3772 - وَبِئْرِي ذُو حَفَرْتُ وَذُو طَوَيْتُ @@ يحتمل التذكير والتأنيث . والمُعَطَّلَةُ : المهملة ، والتعطيل : الإهمال . وقرأ الحسن : " مُعْطَلَةٍ " بالتخفيف ، يقال : أَعْطَلَتِ البئرُ وعَطَلْتُهَا فعَطَلَتْ بفتح الطاء ، وأما عَطِلَتِ المرأة من الحُلِيّ فبكسر الطاء . والمعنى : وكم من بئر معطلة متروكة مخلاة عن أهلها . والمَشيدُ : المرتفع ، قال قتادة والضحاك ومقاتل : رفيع طويل . وقال سعيد بن جُبير وعطاء ومجاهد : المُجصص من الشِّيد وهو الجص . وإنما بني هنا من شاده ، وفي النساء من شَيَّدَهُ ، لأنه هناك بعد جمع فناسب التكثير ، وهنا بعد مفرد فناسب التخفيف ، ولأنه رأس آية وفاصلة . فصل المعنى أنه تعالى بيَّن أن القرية مع تكليف بنيانهم لها واغتباطهم بها جعلت لأجل كفرهم بهذا الوصف وكذلك البئر التي تكلفوها وصارت شربهم صارت معطلةً بلا شارب ، ولا وارد ، والقصر الذي أحكموه بالجصِّ وطولوه صار خالياً بلا ساكن ، وجعل ذلك عبرة لمن اعتبر ، وهذا يدل على أن تفسير " على " بـ " مع " أولى ، لأن التقدير : وهي خاوية مع عروشها . قيل : إنَّ البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن ، أما القصر على قُلَّة جبل والبئر في سفحه ، ولكل واحد منهما قوم في نعمة فكفروا فأهلكهم الله ، وبقي البئر والقصر خاليين . وروى أبو روق عن الضحاك : أن هذه البئر بحضرموت في بلدة يقال لها حاضوراء وذلك أن صالحاً مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به أتوا حضرموت ، فلما نزلوها مات صالح فسميت بذلك لأن صالحاً حين حضرها مات ، فبنوا قوم صالح حاضوراء ، وقعدوا على هذه البئر ، وأمروا عليهم جلهس بن جلاس ، وجعلوا وزيره سنحاريب ، فأقاموا بها زماناً ثم كفروا وعبدوا صنماً ، فأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان ، وكان حمّالاً فيهم ، فقتلوه في السوق ، فأهلكهم الله وعطّل بئرهم وخرب قصورهم . قال الإمام أبو القاسم الأنصاري : وهذا عجيب ، لأني زرت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها : عكا ، فكيف يقال : إنه بحضرموت . قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } الآية . يعني كفار مكة أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية ، فذكر ما يتكامل به الاعتبار ، لأن الرؤية لها حظّ عظيم في الاعتبار ، وكذلك سماع الأخبار ولكن لا يكمل هذان الأمران إلا بتدبير القلب ، لأن من عاين وسمع ولم يتدبر ولم يعتبر لم ينتفع ، فلهذا قال : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } . قوله : " فَتَكُونَ " منصوب على جواب الاستفهام ، وعبارة الحوفي على جواب التقرير . وقيل : على جواب النفي وقرأ مبشر بن عبيد : " فَيَكُونَ " بالياء من تحت لأن التأنيث مجازي . ومتعلق العقل محذوف أي : ما حل بالأمم السالفة . ثم قال : { قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ } أي : يعلمون بها ، وهذا يدل على أن العقل العلم ، وعلى أن محل العلم هو القلب ، لأنه جعل القلب آلة لهذا العقل ، فيكون القلب محلاً للعقل ، ولهذا سمي الجهل بالعمى ، لأن الجاهل لكونه متحيراً يشبه الأعمى . ثم قال : { أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } أي : ما يذكر لهم من أخبار القرون الماضية يعتبرون بها . قوله : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى } الضمير للقصة ، و { لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ } مفسرة له ، وحسن التأنيث في الضمير كونه وليه فعل بعلامة تأنيث ، ولو ذكر في الكلام فقيل : " فإنه " لجاز ، وهي قراءة مروية عن عبد الله بن مسعود ، والتذكير باعتبار الأمر والشأن . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً يفسره " الأبصار " وفي " تعمى " ضمير راجع إليه . قال أبو حيان : وما ذكره لا يجوز ، لأن الذي يفسره ما بعده محصور وليس هذا واحداً منه وهو في باب ( رُبَّ ) ، وفي باب نعم وبئس ، وفي باب الإعمال ، ( وفي باب البدل ) ، وفي باب المبتدأ والخبر على خلاف في بعضها ، وفي باب ضمير الشأن ، والخمسة الأُول تفسر بمفرد إلا ضمير الشأن فإنه يفسر بجملة ، وهذا ليس واحداً من الستة . قال شهاب الدين : بل هذا من المواضع المذكورة ، وهو باب المبتدأ غاية ما في ذلك أنه دخل عليه ناسخ وهو " إنَّ " فهو نظير قولهم : هي العرب تقول ما شاءت ، و : @ 3773 - هِيَ النَّفْس تَحْمِلُ مَا حُمِّلَت @@ وقوله تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا } [ الأنعام : 29 ] وقد جعل الزمخشري جميع ذلك مما يفسر بما بعده ، ولا فرق بين الآية الكريمة وبين هذه الأمثلة إلا دخول الناسخ ، ولا أثر له ، وعجيب من غفلة الشيخ عن ذلك . قوله : { ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } صفة أو بدل أو بيان ، وهل هو توكيد كقوله : " يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ " لأن القلوب لا تكون في غير الصدور ، أو لها معنى زائد كما قال الزمخشري : الذي قد تعورف واعتقد أنَّ العمى في الحقيقة مكانه البصر ، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها ، واستعماله في القلب استعارة وَمَثلٌ ، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار ، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف لتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك . ( فقولك : الذي بين فكيك ) تقرير لما ادعيته للسان وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا غير ، وكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة مني ولا سهواً ، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمداً . وقد رد أبو حيان على الزمخشري قوله : تعمدت به إياه ، وجعل هذه العبارة عجمة من حيث إنه فصل الضمير ، وليس من مواضع فصله ، وكان صوابه أن يقول تعمدته به . كما تقول : السيف ضربتك به ، لا ضربت به إياك . وقد تقدم نظير هذا الرد والجواب عنه بما أجيب عن قوله تعالى : { يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } [ النساء : 131 ] وهو أنه مع قصد تقديم غير الضمير عليه لغرض يمنع اتصاله . قال شهاب الدين : وأي خطأ في مثل هذا حتى يدعي العجمة على فصيح شهد له بذلك أعداؤه وإن كان مخطئاً في بعض الاعتقادات مما لا تعلق له بما نحن بصدده . وقال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر ، وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر والتدبر كقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } [ ق : 37 ] ، وعند قوم أن محل الفكر هو الدماغ ، فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر . وفي محل العقل خلاف مشهور ، وإلى الأول مال ابن عطية قال : هو مبالغة كما تقول : نظرت إليه بعيني ، وكقوله : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } [ آل عمران : 167 ] . وقد تقدم أن في قوله : " بِأَفْوَاهِهِمْ " فائدة زيادة على التأكيد .