Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 39-40)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } الآية . لما بيَّن حال المؤمن أنه في الدنيا يكون في النور ، وبسببه يكون متمسكاً بالعمل الصالح ثم بين أنه يكون في الآخرة فائزاً بالنعيم المقيم والثواب العظيم ، أتبع ذلك ببيان أن الكافر يكون في الآخرة في أشد الخسران ، وفي الدنيا في أعظم أنواع الظلمات ، وضرب لكل واحد منهما مثلاً ، أما المثل الدال على حسرته في الآخرة فقوله : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } . قال الأزهري : " السَّرَابُ : ما يتراءى للعين وقت الضحى في الفلوات شبيهاً بالماء الجاري وليس بماء ، ولكن الذي ينظر إليه من بعيد يظنه ماء جارياً ، يقال : سَرَبَ الماءُ يَسْرُبُ سُرُوباً : إذَا جرى ، فهو سَارِبٌ " . وقيل : السَّرَابُ : مَا يَتَرَاءَى للإنْسَانِ في القَفْرِ في شِدَّةِ الحَرِّ مِمَّا يُشْبهُ المَاءَ . وقيل : مَا يَتَكَاثَفُ مِنْ قُعُورِ القيعَانِ . قال الشاعر : @ 3836 - فَلَمَّا كَفَفْت الحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُهم كَلَمْع سَرَابٍ في الفَلاَ مُتَألِّقِ @@ يضرب به المَثَلُ لمن يَظُنُّ بشيءٍ خيراً فَيُخْلَفُ ظَنُّهُ . وقيل : هو الشُّعَاعُ الذي يُرَى نِصْفَ النَّهَارِ في شدة الحَرِّ في البراري ، يُخَيَّلُ للناظر أنه الماء السَّارِبُ ، أي : الجاري ، فإذا قرب منه لم ير شيئاً . والآل : ما ارتفع من الأرض ، وهو شعاع يرى بين السماء والأرض بالغدوات شبه المَلاَة يرفع الشخوص ، يرى فيها الصغير كبيراً ، والقصير طويلاً . والرَّقْرَاقُ : يكون بالعشايا . وهو ما ترقرق من السراب ، أي : جاء وذهب . قوله : " بِقِيعَةٍ " فيه وجهان : أحدهما : أنه متعلِّق بمحذوف على أنه صفة لـ " سَرَابٍ " . والثاني : أنه ظرف ، والعامل فيه الاستقرار العامل في كاف التشبيه . والقيعة : بمعنى القاع ، قاله الزمخشري ، وهو المُنْبَسِطُ من الأرض ، وتقدم في " طه " . وقيل : بل هي جمعه كـ " جَارٍ وَجيرَة " قاله الفراء . وقرأ مسلمة بن محارب بتاء ( ممطوطة ) ، وروي عنه بتاء شَكل الهاء ، ويقف عليها بالهاء ، وفيها أوجه : أحدها : أن يكون بمعنى " قيعة " كالعامة ، وإنَّما أشبع الفتحة فتولَّد منها ألف كقوله : مُخرنبقٌ لينباع . قاله صاحب اللوامح . والثاني : أنه جمع : " قيعة " وإنَّما وقف عليها بالهاء ذهاباً به مذهب لغة طيئ في قولهم : " الإخْوَه والأخَوَاه " و " دَفْنُ البَنَاه من المَكْرُماه " أي : والأخوات ، والبنات ، والمكرمات . وهذه القراءة تؤيد أن " قيعة " جمع قاع . قال الزمخشري : وقد جعل بعضهم " بِقِيعَاة " بتاء مدوَّرة كـ " رجل عِزْهَاةٍ " . فظاهر هذا أنه جعل هذا بناء مستقلاً ليس جمعاً ولا إشباعاً . قوله : " يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ " جملة في محل الجر صفة لـ " سَرَابٍ " أيضاً ، وحَسُنَ ذلك لتقدم الجار على الجملة ، هذا إن جعلنا الجارَّ صفةً والضمائر المرفوعة في " جَاءَهُ " ، وفي " لَمْ يَجِدْهُ " وفي " وَجَدَ " ، والضمائر في " عِنْدَهُ " وفي " وَفَّاهُ " وفي " حِسَابَهُ " كلها ترجع إلى " الظَّمْآن " لأن المراد به الكافر المذكور أولاً ، وهذا قول الزمخشري وهو حَسَنٌ . وقيل : بل الضميران في " جَاءَهُ " و " وَجَدَ " عائدان على " الظَّمْآن " ، والباقية عائدة على الكافر . وإنما أفرد الضمير على هذا وإن تقدمه جمع ، وهو قوله : " وَالَّذِينَ كَفَرُوا " حَمْلاً على المعنى ؛ إذ المعنى : كلُّ واحدٍ من الكفار . والأول أولى لاتِّساق الضمائر . وقرأ أبو جعفر ، ورُويَتْ عن نافع : " الظَّمَانُ " بإلقاء حركة الهمزة على الميم . فصل قال الزجاج : " ( الظَّمْآن ) قد تخفف همزته ، وهو الشديد العطش ، ثم وجه التشبيه أن الذي يأتي به الكافر إن كان من أفعال البر فهو لا يستحق عليه ثواباً مع أنه يعتقد أن له ثواباً عليه ، وإن كان من أفعال الإثم فهو يستحق عليه العقاب مع أنه يعتقد أنه ثواباً ، فكيف كان فهو يعتقد أن له ثواباً عند الله تعالى ، فإذا وافى عرصة القيامة ولم يجد الثواب ، بل وجد العقاب العظيم عظمت حسرته وتناهى غمه ، فيشبه حاله حال الظمآن الذي تشتد حاجته إلى الشراب ويتعلق قلبه به ، ويرجو به النجاة ، فإذا جاءه وأيس مما كان يرجوه عظم ذلك عليه " . قال مجاهد : " السراب : عمل الكافر وإتيانه إياه موته ومفارقة الدنيا " . فإن قيل : قوله : { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ } يدل على كونه شيئاً ، وقوله : { لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } مناقض له ؟ فالجواب من وجوه : الأول : معناه : لم يجد شيئاً نافعاً ، كما يقال : فلان ما عمل شيئاً ، وإن كان قد اجتهد . الثاني : " إذا جَاءَهُ " أي : جاء موضع السراب لم يجد السراب ، لأن السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة ، كأنه ضباب وهباء ، فإذا قرب منه رق وانتشر وصار كالهواء . قوله : { وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ } أي : وجد عقاب الله عنده الذي توعد به الكافر . وقيل : وجد الله عنده ، أي : عند عمله ، أي وجد الله بالمرصاد . وقيل : قدم على الله " فَوَفَّاهُ حِسَابه " أي : جزاء عمله . قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام . قوله : { وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فلا يشق عليه الحساب . وقال بعض المتكلمين : " معناه : لا تشغله محاسبة أحد عن آخر كنحن ، ولو كان يتكلم بآلة كما تقول المشبهة لما صح ذلك " . قوله تعالى : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ } هذا مثل آخر ضربة الله تعالى لأعمال الكفار ، وفي هذا العطف أوجه : أحدها : أنه نسقٌ على " كَسَرَابٍ " على حذف مضاف واحد ، تقديره : أو كَذِي ظُلُمَاتٍ ، ودل على هذا المضاف قوله : { إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف . وهو قول أبي علي . الثاني : أنه على حذف مضافين ، تقديره : أو كَأَعْمَالٍ ذِي ظُلُمَاتٍ فَيُقَدَّر " ذي " ليصح عود الضمير إليه في قوله : { إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ } ويقدر " أَعْمَال " ليصح تشبيه أعمال الكفار بأعمال صاحب الظلمة ، إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمة . الثالث : أنه لا حاجة إلى حذف البتَّة ، والمعنى : أنه شَبَّهَ أعمالَ الكُفَّارِ في حَيْلُولَتِهَا بين القلب وما يهتدي به بالظلمة . وأما الضميران في " أَخْرَجَ يَدَهُ " فيعودان على محذوف دلَّ عليه المعنى ، أي : إذا أخرج يده من فيها و " أَوْ " هنا للتنويع لا للشك . وقيل : بل هي للتخيير ، أي : " شَبهُوا أعمالهم بهذا أو بهذا . وقرأ سفيان بن حسين : " أوَ كَظُلُمَاتٍ " بفتح الواو ، جعلها عاطفة دخلت عليها همزة الاستفهام التي معناها التقرير ، وقد تقدم ذلك في قوله : { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ } [ الأعراف : 98 ] . قوله : { فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ } : " في بَحْر " صفة لـ " ظُلُمَاتٍ " فيتعلق بمحذوف . واللُّجِيُّ : منسوبٌ إلى " اللُّجِّ " وهو مُعْظَمُ البحر قاله الزمخشري . وقال غيره : منسوب إلى اللُّجَّةِ بالتاء ، وهي أيضاً معظمه . فاللُّجّيّ : هو العميق الكثير الماء ، وفيه لغتان : كسر اللام ، وضمها . قوله : " يَغْشَاه موجٌ " صفة أخرى لـ " بَحْرٍ " هذا إذا أعدنا الضمير في " يَغْشَاهُ " على " بَحْرٍ " وهو الظاهر . وإن قدَّرنا مضافاً محذوفاً ، أي : " أَو كَذِي ظُلُمَاتٍ " كما فعل بعضهم كان الضمير في " يَغْشَاهُ " عائداً عليه ، وكانت الجملة حالاً منه لتخصيصه بالإضافة ، أو صفة له . قوله : { مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ } يجوز أن تكون هذه جملة من مبتدأ وخبر صفة لـ " مَوْجٍ " الأول ويجوز أن يجعل الوصف الجار والمجرور فقط ، و " مَوْجٌ " فاعل به ، لاعتماده على الموصوف ، قوله : { مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ } فيه الوجهان المذكوران قبله من كون الجملة صفة لـ " مَوْجٍ " الثاني ، أو الجار فقط . قوله : " ظُلُمَاتٌ " . قرأ العامة بالرفع ، وفيه وجهان : أجودهما : أن يكون خبر مبتدأ مضمر تقديره : هذه أو تلك ظلمات . الثاني : أن يكون " ظُلُمَاتٌ " مبتدأ ، والجملة من قوله : { بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } خبره ، ذكره الحوفي وفيه نظر ، لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة ، اللهم إلا أن يقال : إنها موصوفة تقديراً ، أي : ظلمات كثيرة متكاثفة ، كقولهم : " السمن منوان بِدِرْهم " . وقرأ ابن كثير : " ظُلُمَاتٍ " بالجر ، إلا أنَّ البزِّي روى عنه حينئذ حذف التنوين من " سَحَابُ " فقرأ البَزِّيُّ عنه : " سَحَابُ ظُلُمَاتٍ " بإضافة " سَحَابُ " لـ " ظُلُمَاتٍ " . وقرأ قُنْبُل عه التنوين في " سَحَابٌ " كالجماعة مع جره لـ " ظُلُمَاتٍ " . فأما رواية البزِّي فقال أبو البقاء : جَعَلَ المَوْجَ المُتَرَاكم بمنزلة السحاب . وأما رواية قنبل فإنه جعل " ظُلُمَاتٍ " بدلاً من " ظُلُمَاتٍ " الأولى . قوله : { بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } جملة من مبتدأ وخبر في موضع رفع أو جر على حسب القراءتين في " ظُلُمَاتٍ " قبلها لأنها صفة لها . وجوَّز الحوفي على قراءة رفع " ظُلُمَاتٍ " في " بَعْضُها " أن تكون بدلاً من " ظُلُمَاتٌ " ورد عليه من حيث المعنى ، ( إذ المعنى ) على الإخبار بأنها ظلمات ، وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض وصفاً لها بالتَّراكم ، لا أنَّ المعنى أنَّ بعض تلك الظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة ظلماتٌ متراكمة . وفيه نظرٌ ، إذ لا فرق بين قولك : بعض الظلمات فوق بعضٍ ، وبين قولك : الظلماتُ بعضُهَا فوق بعض ، وإن تُخُيِّل ذلك في بادئ الرأي . قوله : { إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } . تقدم الكلام في " كاد " وأنَّ بعضهم زعم أنَّ نَفْيَهَا إثباتٌ وإثباتها نفيٌ ، وتقدمت أدلة ذلك في البقرة عند قوله : { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] . وقال الزمخشري هنا : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } مبالغة في ( لَمْ يَرَهَا ) أي : لم يَقْرُب أن يَرَاهَا فَضلاً ( عن ) أن يراها ، ومنه قوله ذي الرمة : @ 3837 - إذَا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ رَسِيسُ الهَوَى مِنَ حُبِّ مَيَّة يَبْرَحُ @@ أي : لم يَقْرُبْ مِنَ البِرَاحِ فَمَا بَالُهُ يَبْرحُ . وقال أبو البقاء : اختلف الناس في تأويل هذا الكلام ، ومنشأ الاختلاف فيه أنَّ موضوع " كَادَ " إذا نفيت وقوع الفعل ، وأكثر المفسرين على أن المعنى : أنه لا يرى يَدَهُ ، فعلى هذا في التقدير ثلاثة أوجه : أحدها : أن التقدير : لَمْ يَرَهَا وَلَمْ يَكَدْ ، ذكره جماعةٌ من النحويين ، وهذا خطأ لأن قوله : " لَمْ يَرَهَا " جَزْمٌ بنفي الرؤية ، وقوله : " لَمْ يَكَدْ " إذا أخرجها على مقتضى الباب كان التقدير : وَلَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ، كما هو مُصَرَّحٌ به في الآية ، فإن أراد هذا القائل أنه لم يكد يراها وأنه يراها بعد جَهْدٍ ، تناقض ، لأنه نفى الرؤية ثم أثبتها . وإن كان معنى { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } لم يَرَها البتَّة على خلاف الأكثر في هذا الباب فينبغي أن يحمل عليه من غير أن يقدِّر " لَمْ يَرَهَا " . الوجه الثاني : قال الفراء : إن ( كَادَ ) زائدة . وهو بعيد . الثالث : أن " كَادَ " خرِّجت هاهنا على معنى " قَارَبَ " والمعنى : لم يُقَارِب رؤيتها ، وإذا لم يُقَارِبها بَاعَدَها ، وعليه جاء قول ذي الرمة في البيت المتقدم ، أي : لم يقارب البراح ، ومن هنا حكي عن ذي الرُّمة أنه لما روجع في هذا البيت قال : ( لم أجِد ) بدل ( لَمْ يَكَدْ ) . والمعنى الثاني : أنه رآها بعد جَهد ، والتشبيه على هذا صحيح ، لأنه مع شدة الظلمة إذا أحدَّ نظره إلى يده وقرَّبها من عينه رآها انتهى . أما الوجه الأول وهو ما ذكره أن قول الأكثرين ( إنه يكون نَفْيُها إثباتاً ، فقد تقدم أنه غير صحيح ، وليس هو قول الأكثر ) وإنما غرّهم في ذلك آية البقرة ، وما أنشد بعضهم : @ 3838 - أَنَحْوِيَّ هَذَا العَصْرِ مَا هِيَ لَفْظَةٌ @@ البيتين . وأما ما ذكره من زيادة " كاد " فهو قول أبي بكر وغيره ، ولكنه مردود عندهم . وأما ما ذكره من المعنى الثاني ، وهو أنه رآها بعد جهد ، فهو مذهب الفراء والمبرد . والعجب كيف يعدل عن المعنى الذي أشار إليه الزمخشري ، وهو المبالغة في نفي الرؤية . وقال ابن عطية ما معناه : إذا كان الفعل بعد " كاد " منفيًّا دلَّ على ثبوته ، نحو : " كاد زيد لا يقوم " ، أو مثبتاً دلَّ على نفيه ، نحو : " كاد زيد يقوم " وتقول : " كَادَ النَّعام يَطِير " فهذا يقتضي نفي الطيران عنه ، فإذا قلت : " كاد النعام ألا يطير " وجب الطيران له ، وإذا تقدم النفي على " كاد " احتمل أن يكون موجباً وأن يكون منفياً ، تقول : " المفْلُوجُ لا يكاد يَسْكُنُ " فهذا يتضمَّن نفي السكون ، وتقول : " رجل مُنْصَرِفٌ لا يكاد يَسْكُنُ " فهذا تضمن إيجاب السكون بعد جَهْدٍ . فصل اعلم أن الله تعالى بين أنَّ أعمال الكفار إن كانت حسنةً فمثلها السراب ، وإن كانت قبيحةً فهي الظلمات ، وفيه وجه آخر ، وهو أن أعمالهم إما كسراب بقيعة وذلك في الآخرة ، وإما كظلمات في بحر وذلك في الدنيا . وقيل : إن الآية الأولى في ذكر أعمالهم ، وأنهم لا يَحْصلون منها على شيء ، والآية الثانية في ذكر عقائدهم ، فإنها تشبه الظلمات ، كما قال : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [ البقرة : 257 ] أي : من الكفر إلى الإيمان ، يدل عليه قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } . فصل وأما تقرير المثل فهو أن البحر اللجي يكون قعره مظلماً جداً بسبب غور الماء ، فإذا ترادفت عليه الأمواج ازدادت الظلمة ، فإذا كانت فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى ، فالواقع في قعر هذا البحر اللُّجِّيّ في نهاية شدة الظلمة . ولما كانت العادة في اليد أنها من أقرب ما يراها ، وأبعد ما يظن أنه لا يراها ، فقال تعالى : { إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } فبين سبحانه بهذا بلوغ تلك الظلمة التي هي أقصى النهايات ، ثم شبه الكافر في اعتقاده ، وهو ضد المؤمن في قوله تعالى : { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } [ النور : 35 ] وفي قوله : { يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } [ الحديد : 12 ] . ولهذا قال أبي بن كعب : الكافر يتقلب في خمس من الظلم : كلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ، ومصيره إلى الظلمات إلى النار . وفي كيفية هذا التشبيه وجوه : الأول : قال الحسن : " إن الله تعالى ذكر ثلاثة أنواع من الظلمات ظلمة البحر ، وظلمة الأمواج ، وظلمة السحاب ، كذا الكافر له ظلمات ثلاث : ظلمة الاعتقاد ، وظلمة القول ، وظلمة العمل " . الثاني : قال ابن عباس : " شبه قلبه وسمعه وبصره بهذه الظلمات الثلاث " . الثالث : أن الكافر لا يدري ، ولا يدري أنه لا يدري ، ويعتقد أنه يدري ، فهذه المراتب الثلاثة تشبه تلك الظلمات الثلاث . الرابع : قلب مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم . الخامس : أن هذه الظلمات متراكمة ، فكذا الكافر لشدة إصراره على كفره قد تراكمت عليه الضلالات حتى لو ذكر عنده أظهر الدلائل لم يفهمه . قوله : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } . قال ابن عباس : من لم يجعل الله له ديناً وإيماناً فلا دين له . وقيل : من لم يهده الله ( فلا إيمان له ) ولا يهديه أحد . قال أهل السنة : إنه تعالى لما وصف هداية المؤمن بأنها في نهاية الجلاء والظهور عقبها بأن قال : { يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } [ النور : 35 ] ، ولما وصف ضلالة الكافر بأنها في نهاية الظلمة عقبه بقوله : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } . والمراد من ذلك أن يعرف الإنسان أن ظهور الدلائل لا يفيد الإيمان ، وظلمة الطريق لا تمنع منه ، فإن الكل مربوط بخلق الله وهدايته وتكوينه . قال القاضي : قوله : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً } يعني في الدنيا بالإلطاف { فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } أي : لا يهتدي فيتحير ، وتقدم الكلام عليه .