Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 41-42)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } الآية . لما وصف أنوار قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد . والمعنى : ألم تعلم ، لأن التسبيح لا يرى بالبصر بل يعلم بالقلب ، وهذا استفهام والمراد به : التقرير والبيان . قال ابن الخطيب : " إما أن يكون المراد من هذا التسبيح دلالته بخلق هذه الأشياء على كونه تعالى منزهاً عن النقائص ، موصوفاً بنعوت الجلال ، أو يكون المراد منه في حق البعض الدلالة على التنزيه وفي حق الباقين النطق باللسان . والأول أقرب ، لأن القسم الثاني متعذر ، لأن في الأرض من لا يكون مكلفاً لا يسبح بهذا المعنى والمكلفون منهم فمن لا يسبح أيضاً بهذا المعنى كالكفار . وأما القسم الثاني وهو أن يقال : إن من في السموات وهم الملائكة يسبحون باللسان وأما الذين في الأرض فمنهم من يسبح على سبيل الدلالة ، فهذا يقتضي استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معاً ، وهو غير جائز ، فلم يبق إلا القسم الأول ، وهو أن هذه الأشياء مشتركة في أن أجسامها وصفاتها دالة على تنزيه الله تعالى وقدرته وإلاهيته وتوحيده وعدله ، فسمى ذلك تنزيهاً توسعاً . فإن قيل فالتسبيح بهذا المعنى حاصل بجميع المخلوقات فما وجه تخصيصه هاهنا بالعقلاء ؟ قلنا : لأن خلقة العقلاء أشد دلالة على وجود الصانع سبحانه ، لأن العجائب والغرائب في خلقهم أكثر ، وهي العقل والنطق والفهم " . قوله : " والطَّيرُ " . قرأ العامة : " والطّيْر " رفعاً ، " صَافَّاتٍ " نصباً . فالرفع عطف على " مَنْ " والنصب على الحال . وقرأ الأعرج : " والطَّيْرَ " نصباً على المفعول معه و " صَافَّاتٍ " حال أيضاً . وقرأ الحسن وخارجة عن نافع : والطيرُ صَافَّاتٌ " برفعهما على الابتداء والخبر ، ومفعول " صَافَّات " محذوف ، أي : أجنحتها . قوله : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ } في هذه الضمائر أقوال : أحدها : أنَّها كلَّها عائدةٌ على " كُلٌّ " ، أي : كلٌّ قد عَلِمَ هُوَ صَلاَةَ نَفْسِهِ وتَسْبِيحَهَا ، وهذا أولى لتوافق الضمائر . الثاني : أن الضمير في " عَلِمَ " عائد إلى الله تعالى ، وفي " صَلاَتَهُ وتَسْبِيحَهُ " عائد على " كُلٌّ " ، ويدل عليه قوله تعالى : { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } . الثالث : بالعكس ، أي : عَلِمَ كلٌّ صلاةَ اللَّه وتَسْبِيحَه ، أي : اللذين أمَرَ بهما وبأن يُفْعَلاَ ، كإضافة الخلق إلى الخالق ، وعلى هذا فقوله : " واللَّه علِيمٌ " استئناف . ورَجَّحَ أبو البقاء ألاَّ يكون الفاعل ضمير " كُلٌّ " قال : " لأنَّ القراءة برفع " كُلٌّ " على الابتداء فيرجع ضمير الفاعل إليه ، ولو كان فيه ضمير الله لكان الأولى نصب ( كُلّ ) لأن الفعل الذي بعدها قد نصب ما هو من سببها فيصير كقولك : ( زَيْداً ضَرَبَ عَمْرٌو وغُلاَمه ) فتنصب ( زيداً ) بفعل دلَّ عليه ما بعده ، وهو أقوى من الرفع ، والآخر جائز " . قال شهاب الدين : وليس كما ذكر من ترجيح النصب على الرفع في هذه الصُّورة ولا في هذه السورة ، بل نصَّ النحويون على أنَّ مثل هذه الصورة يرجَّح رفعها بالابتداء على نصبها على الاشتغال ، لأنه لم يكن ثمَّ قرينة من القرائن التي جعلوها مرجحةً للنصب ، والنصب يحوجُ إلى إضمار ، والرفع لا يحوج إليه ، فكان أرجح . وقرأت فرقة : { عُلِمَ صَلاَتُهُ وتَسْبِيحُهُ } بالرفع وبناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله . ذكرها أبو حاتم . فصل وجه اتصال هذا بما قبله أنه تعالى لما ذكر أن أهل السموات والأرض يسبحون ، ذكر المستقرين في الهواء الذي هو بين السماء والأرض ، وهم الطير يسبحون ، وذلك أن إعطاء الجرم الثقيل القوة التي بها يقوى على الوقوف في جو السماء صافة باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط من أعظم الدلائل على قدرة الصانع المدبر سبحانه ، وجعل طيرانها سجوداً منها له سبحانه ، وذلك يؤيد أن المراد من التسبيح دلالة هذه الأمور على التنزيه ( لا النطق ) اللساني . وقال أبو ثابت : " كنت جالساً عند أبي جعفر الباقر فقال لي : أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها ؟ ( قال : لا ) قال : فإنهن يقدسن ربهن ويسألنه قوت يومهن " . واستبعد المتكلمون ذلك فقالوا : الطير لو كانت عارفة بالله لكانت كالعقلاء الذين يفهمون كلامنا وإشارتنا ، لكنها ليست كذلك ، فإنا نعلم بالضرورة بأنها أشد نقصاناً من الصبي الذي لا يعرف هذه الأمور ، فبأن يمتنع ذلك فيها أولى ، وإذا ثبت أنها لا تعرف الله استحال كونها مسبحة له بالنطق ، فثبت أنها لا تسبح الله إلا بلسان الحال كما تقدم . قال بعض العلماء : إنا نشاهد من الطيور وسائر الحيوانات أعمالاً لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء ، وإذا كان كذلك ( فلِمَ لا ) يجوز أن يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه ؟ وبيان أنه سبحانه ألهمها الأعمال اللطيفة من وجوه : أحدها : أن الدب يرمي بالحجارة ويأخذ العصا ويرمي الإنسان حتى يتوهم أنه مات فيتركه ، وربما عاود يشمه ويتحسس نفسه ويصعد الشجر أخف صعود ويهشم الجوز بين كفيه تعريضاً بالواحد وصدمة بالأخرى ، ثم ينفخ فيه فيدرأ قشره ويتغذى به ، ويحكى عن الفأر في سرقته أمور عجيبة . وثانيها : أمر النحل وما لها من الرياسة والبيوت المسدسة التي لا يتمكن من بنائها أفاضل المهندسين . وثالثها : انتقال الكَرَاكِيّ من طرف من أطراف العالم إلى الطرف الآخر طلباً لما يوافقها من الأهوية ، ويقال : من خواص الخيل أن كل واحد يعرف صوت الفرس الذي قابله وقتاً ما ، والفهد إذا سقي أو شرب من الدواء المعروف بخانق الفهد عمد إلى زبل الإنسان ليأكله ، والتماسيح تفتح أفواهها لطائر يقع عليها يقال له : القطقاط وينظف ما بين أسنانها ، وعلى رأس ذلك الطائر كالشوكة ، فإذا هم التمساح بالتقام ذلك الطير تأذى من تلك الشوكة ، فيفتح فاه ، فيخرج ذلك الطائر ، والسلحفاة تتناول بعد أكل الحية صعتراً جبلياً ثم تعود من ذلك . وحكى بعض الثقاة المجربين للصيد أنه شاهد الحبارى تقاتل الأفعى وتنهزم عنه إلى بقلة تتناول منها ثم تعود ، ولا تزال كذلك ، وكان ذلك الشخص قاعداً في كن ، وكانت البقلة قريبة من مسكنه ، فلما اشتغل الحبارى قلع البقلة ، فعاد الحبارى إلى منبتها فلم يجدها ، وأخذ يدور حول منبتها دوراناً متتابعاً حتى خَرَّ ميتاً ، فعلم الشخص أنه يعالج بأكلها من اللسعة ، وتلك البقلة هي الجرجير البري . وابنُ عِرْس يستظهر في الحية أكل السّذَاب ، فإن النكهة السذابية تنفر عنها الأفعى . والكلاب إذا دودت بطونها أكلت سنبل القمح . وإذا جرحت اللقالق بعضها بعضاً داوت الجراحة بالصعتر الجبلي . والقنافذ تحس بالشمال والجنوب قبل الهبوب فتغير المدخل إلى جحرها ، وكان رجل بالقسطنطينية قد أثرى بسبب أنه ينذر بالرياح قبل هبوبها ، وينتفع الناس بإنذاره ، وكان السبب فيه قنفذ في داره يفعل الصنيع المذكور ، فيستدل به . والخُطَّافُ صانع في اتخاذ العش من الطين وقطع الخشب فإن أعوزه الطين ابتل وتمرغ في التراب لتحمل جناحاه قدراً من الطين ، وإذا فرَّخ بالغ في تعهد الفراخ ، وتأخذ ذرقها بمنقارها وترميها عن العش ، وإذا دنا الصائد من مكان فراخ القبجة ظهرت له القبحة وقربت مطمعة له ليتبعها ثم تذهب إلى جانب آخر سوى جانب الفراخ . وناقر الخشب قلما يقع على الأرض ، بل على الشجر ينقر الموضع يعلم أن فيه دوداً . والغرانيق تصعد في الجو عند الطيران ، فإن حجب بعضها عن بعض سحاب أو ضباب أحدثت عن أجنحتها حفيفاً مسموعاً يتبع به بعضهم بعضاً ، فإذا باتت على جبل فإنها تضع رؤوسها تحت أجنحتها إلاّ القائد فإنه ينام مكشوف الرأس فيسرع انتباهه ، وإذا سمع جرساً صاح . وحال النمل في الذهاب إلى مواضعها على خط مستقيم يحفظ بعضها بعضاً أمر عجيب ، وإذا كشف عن بيوتهم الساتر الذي كان يستره وكان تحته بيض لهم ، فإن كلّ نملة تأخذ بيضة في فمها وتذهب في أسرع وقت . والاستقصاء في هذا الباب مذكور في كتاب " طبائع الحيوان " . والمقصود من ذلك أن الفضلاء من العقلاء يعجزون عن أمثال هذه الحيل ، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يقال : إنها تسبح الله وتثني عليه وإن كانت غير عارفة بسائر الأمور التي يعرفها الناس ، ويؤيد هذا قوله تعالى : { وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] . ثم قال : { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } . قرأ الجمهور بالياء من تحت على المبالغة في وصف قدرة الله تعالى وعلمه بخلقه . وقرأ عيسى والحسن بالتاء من فوق ، ففيه المعنى المذكور وزيادة الوعيد والتخويف من الله تعالى وفي مصحف أبيّ وابن مسعود : " والله بصير بما تفعلون " . قوله تعالى : { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } تنبيه على أن الكل منه ، لأن كل ما سواه ممكن ومحدث ، والممكن والمحدث لا يوجد إلا عند الانتهاء إلى القديم الواجب ، ويدخل في هذا جميع الأجرام والأعراض ، وأفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم . وقوله : { وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ } وهذا دليل على المعاد ، وأنه لا بُدَّ من مصير الكل إليه .