Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 43-44)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وهذه الرؤية بصرية . والإزْجَاءُ : السوق قليلاً قليلاً ، ومنه البضاعة المزجاة التي يزجيها كل أحد ، وإزجاء السير في الإبل : الرفق بها حتى تسير شيئاً شيئاً . قوله : " بَيْنَهُ " إنما دخلت " بَيْنَ " على مفرد ، وهي إنَّما تدخل على مثنى فما فوقه ، لأنَّه إما أن يُرَاد بالسحاب : الجنس ، فعاد الضمير عليه على حكمه ، وإما أن يراد حذف مضافه أي : بَيْنَ قطعِهِ ، فإن كل قطعة سحابة . قال ابن عطية : بين مُفترق السحاب ، لأن مفهوم السحاب يقتضي أن بينه فروجاً . وورش عن نافع لا يهمز " يُؤَلِّفُ " . وقالون عن نافع والباقون يهمزون " يُؤَلِّفُ " . قوله : { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } أي : متراكماً يركب بعضها على البعض ويتكاثف ، والعرب تقول : إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاماً بالريح عصر بعضه بعضاً فخرج الودق منه ، ومن ذلك قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً } [ النبأ : 14 ] ، ومن ذلك قول حسان بن ثابت : @ 3839 - كِلْتَاهُمَا حَلَبُ العَصِيرِ فَعَاطِنِي بِزُجَاجَة أرْخَاهُمَا لِلمَفْصَلِ @@ وروي : " لِلْمِفْصَلِ " بكسر الميم وفتح الصاد . فالمَفْصَلُ : واحد المفاصل . والمِفْصَل : اللسان . وروي بالقاف . أراد حسان الخمر والماء الذي مزجت ، أي : من عصير العنب ، وهذه من عصير السحاب ، نقله ابن عطية . وقال أهل الطبائع : إن تكوين السحاب والمطر والثلج والبرد والطل والصقيع في أكثر الأمر يكون من تكاثف البخار ، وفي الأقل من تكاثف الهواء . أما الأول فالبخار الصاعد إن كان قليلاً وكان في الهواء من الحرارة ما يحلل ذلك البخار فحينئذ ينحل وينقلب هواء ، وإن كان البخار كثيراً ولم يكن في الهواء من الحرارة ما يحلله فتلك الأبخرة المتصاعدة إمّا أن تبلغ في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء أو لا تبلغ . فإن بلغت فإما أن يكون البرد قوياً أو لا يكون . فإن لم يكن البرد هنا قوياً تكاثف ذلك البخار بذلك القدر من البرد واجتمع وتقاطر ، فالبخار المجتمع هو السحاب ، والمتقاطر هو المطر ، والديمة والوابل إنما يكون من أمثال هذه الغيوم . وإن كان البرد شديداً فلا يخلو إما أن يصل البرد إلى الإجزاء البخارية قبل اجتماعها وانحلالها حبات كبار أو بعد صيرورتها كذلك . فإن كان على الوجه الأول نزل ثلجاً . وإن كان على الوجه الثاني نزل برداً فإن لم تبلغ الأبخرة إلى الطبقة الباردة فإما أن تكون كثيرة أو قليلة . فإن كانت كثيرة فقد تنعقد سحاباً ماطراً ، وقد لا تنعقد . أما الأول فلأسباب خمسة : أحدها : إذا منع هبوب الرياح عن تصاعد تلك الأبخرة . وثانيها : أن تكون الرياح ( ضاغطة ) إياها إلى الاجتماع بسبب وقوف جبال قدام الريح . وثالثها : أن تكون هناك رياح متقابلة متصادمة فتعود الأبخرة حينئذ . ورابعها : أن يعرض للبخار المتقدم وقوف لثقله وبطء حركته يلتص به سائر الأجزاء الكثيرة المدد . وخامسها : لشدة برد الهواء القريب من الأرض ، وقد نشاهد البخار يصعد في بعض الجبال صعوداً يسيراً حتى كأنه مكبة موضوعة على وَهْدَة ، ويكون الناظر إليها فوق تلك الغمامة ، والذين يكونون تحت الغمامة يمطرون ، والذين يكونون فوقها يكونون في الشمس . فإن كانت الأبخرة القليلة الارتفاع قليلة لطيفة ، فإذا مر بها برد الليل وكثفها ، فإنها تصير ماءً محبوساً ينزل أولاً متفرقاً لا يحس به إلا عند اجتماع شيء يعتد به ، فإن لم يجمد كان طلاًّ ، وإن جمد كان صقيعاً ، ونسبة الصقيع إلى الطل نسبة الثلج إلى المطر . والجواب ( أنَّا دللنا على ) حدوث الأجسام وتوسلنا بذلك إلى كونه قادراً مختاراً يمكنه إيجاد الأجسام ، فلا نقطع بما ذكرتموه ( لاحتمال أنه سبحانه خلق أجزاء السحاب دفعة لا بالطريق الذي ذكرتموه ) وأيضاً فهب أن الأمر كما ذكرتم ، ولكن الأجسام بالاتفاق ممكنة في ذواتها فلا بد لها من مؤثر ، ثم إنها متماثلة ، فاختصاص كل واحد منها بصفته المعينة من الصعود والهبوط واللطافة والكثافة والحرارة والبرودة لا بد له من مخصص ، فإذا كان هو سبحانه خالقاً لتلك الطبائع ، فتلك الطبائع في هذه الأحوال لا بد لها من سبب ، وخالق السبب خالق المسبب ، فكان سبحانه هو الذي يُزْجي سحاباً ، لأنه هو الذي خلق تلك الطبائع المحركة لتلك الأبخرة من باطن الأرض إلى جو الهواء ، ثم تلك الأبخرة ترادفت في صعودها والتصق بعضها بالبعض ، فهو سبحانه هو الذي جعلها ركاماً ، فعلى جميع التقديرات توجه الاستدلال بهذه الأشياء على القدرة والحكمة . قوله : { فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } . تقدم الخلاف في " خِلاَلِ " هل هو مفرد كحجاب أم جمع كجِبَال جمع " جبل " ؟ ويؤيد الأول قراءة ابن مسعود والضحاك - وتُرْوَى عن أبي عمرو أيضاً - " مِنْ خَلَلِهِ " بالإفراد وقرأ عاصم والأعرج : " يُنَزِّل " على المبالغة . والجمهور على التخفيف . والوَدْق : قيل : هو المطر ضعيفاً كان أو شديداً ، قال : @ 3840 - فَلاَ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالَهَا @@ وقيل : هو البرق ، وأنشد : @ 3841 - أَثَرْنَ عَجَاجَةً وَخَرَجْنَ مِنْهَا خُرُوجَ الوَدْقِ مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ @@ والوَدْقُ في الأصل مصدر ، يقال : " وَدَقَ السحاب يَدِقُ وَدْقاً " و " يخرُج " حال ، لأن الرؤية بصرية . قوله : { مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } . " مِنْ " الأولى لابتداء الغاية اتفاقاً ، لأن ابتداء الإنزال من السماء . وأما الثانية ففيها ثلاثة أوجه : أحدها : أنها لابتداء الغاية أيضاً فهي ومجرورها بدلٌ من الأولى بإعادة العامل ، والتقدير : ويُنَزِّلُ من جبال السماء ، أي : من جبال فيها ، فهو بدل اشتمال . الثاني : أنها للتبعيض ، قاله الزمخشري وابن عطية ، لأن جنس تلك الجبال من جنس البرد ، فعلى هذا هي ومجرورها في موضع مفعول الإنزال ، كأنه قال : وينزل بعض جبال . الثالث : أنها زائدة ، أي : ينزل من السماء جبالاً . وقال الحوفي : ( من جبال ) بدل من الأولى ، ثم قال : " وهي للتبعيض " . ورده أبو حيان بأنه لا تستقيم البدلية إلا بتوافقهما معنى ، لو قلت : خرجت من بغداد من الكَرْخ ، لم تكن الأولى والثانية إلا لابتداء الغاية . وأما الثالثة ففيها أربعة أوجه : الثلاثة المتقدمة ، والرابع : أنها لبيان الجنس ، قاله الحوفي والزمخشري . فيكون التقدير على قولهما ويُنَزِّل من السماء بعض جبال التي هي البَرَدُ ، فالمُنَزَّلُ بَرَدٌ ، لأنَّ بعض البَرَدِ بَرَدٌ ، ومفعول " يُنَزِّلُ " : هو مِنْ جِبَالٍ كما تقدم تقريره . وقال الزمخشري : " أَو الأولَيَان للابتداء ، والثالثة للتبعيض " يعني : أنَّ الثانية بدلٌ من الأولى كما تقدم تقريره ، وحينئذ يكون مفعول " يُنَزِّلُ " هو الثالثة مع مجرورها ، التقدير : ويُنَزِّلُ بعض بردٍ من السماء من جِبَالِها . وإذا قيل بأن الثانية والثالثة زائدتان ، فهل مجرورهما في محل نصب والثاني بدلٌ من الأول ، والتقدير : ويُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ جِبالاً برداً ، فيكون بدل كل من كل أو بعض من كل ، أو الثاني في محل نصب مفعولاً لـ " يُنَزِّل " ، والثالث في محل رفع على الابتداء وخبره الجار قبله ؟ خلافٌ ، الأول قول الأخفش ، والثاني قول الفراء ، وتكون الجملة على قول الفراء صفة لـ " جِبَال " ، فيحكم على موضعها بالجر اعتباراً باللفظ ، أو بالنصب اعتباراً بالمحل . ويجوز أن يكون " فِيهَا " وحده هو الوَصْفُ ، ويكون " مِنْ بَرَدٍ " فاعلاً به لاعتماده ، أي استقر فيها بردٌ . وقال الزجاج : " معناه : ويُنَزِّلُ من السماءِ من جبالٍ بَرَدٍ فيها ، كما تقول : هذا خاتم في يدي من حديد ، أي : خاتم حديد في يدي ، وإنما جِئْتَ في هذا وفي الآية بـ " مِنْ " لما فَرَّقْتَ ، ولأنك إذا قلت : هذا خاتمٌ من حديدٍ ، وخاتم حديدٍ ، كان المعنى واحداً " انتهى . فيكون " مِنْ بَرَدِ " في موضع جرٍّ صفة لـ " جِبَالٍ " كما كان " مِنْ حَدِيدٍ " صفة لـ " خَاتم " ، ويكون مفعول : " يُنَزِّلُ " : " مِنْ جِبَالٍ " ، ويلزم من كون الجبال بَرَداً أن يكون المُنَزَّلُ بَرَداً . وقال أبو البقاء : والوجه الثاني : أن التقدير : شيئاً من جبال ، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة . وهذا الوجه هو الصحيح ، لأن قوله : { فِيهَا مِن بَرَدٍ } يُحوجك إلى مفعول يعود الضمير إليه ، فيكون تقديره : ويُنَزِّلُ مِنْ جِبَال السماء جبالاً فيها بَرَدٌ ، وفي ذلك زيادة حَذْفٍ وتقدير مستغنًى عنه . وفي كلامه نَظَرٌ ، لأن الضمير له شيءٌ يعود عليه وهو " السَّمَاء " ، فلا حاجة إلى تقدير شيء آخر ، لأنه مستغنى عنه ، وليس ثَمَّ مانعٌ يمنع من عوده على " السَّمَاء " . وقوله آخراً : وتقدير يستغنى عنه ينافي قوله : وهذا الوجه هو الصحيح . والضمير في " به " يجوز أن يعود على البَرَدِ وهو الظاهر ، ويجوز أن يعود على الوَدْق والبَرَد معاً جرياً بالضمير مُجْرَى اسم الإشارة ، كأنه قيل : فيصيب بذلك ، وقد تقدم نظيره . فصل قال ابن عباس : أخبر الله أن في السماء جبالاً من برد ، ثم ينزل منها ما شاء وهو قول أكثر المفسرين . وقيل : المراد بالسماء هو الغيم المرتفع ، سمي بذلك لسموه وارتفاعه ، وأنه تعالى أنزل من الغيم الذي هو سماء البرد . وأراد بقوله : " مِنْ جِبَالٍ " : السحاب العظام ، لأنها إذا عظمت شبهت بالجبال كما يقال : فلان يملك جبالاً من مال ، ووصف بذلك توسعاً . وذهبوا إلى أن البرد ماء جامد خلقه الله في السحاب ، ثم أنزل إلى الأرض . وقال بعضهم : إنما سمي ذلك الغيم جبالاً لأنه سبحانه خلقها من البرد ، وكل جسم متحجر فهو من الجبال ، ومنه قوله تعالى : { خَلَقَكُمْ وَٱلْجِبِلَّةَ ٱلأَوَّلِينَ } [ الشعراء : 184 ] . قال المفسرون : والأول أولى ، لأنَّ السماء اسم لهذا الجسم المخصوص ، فتسمية السحاب سماء بالاشتقاق مجاز ، وكما يصح أن يجعل الماء في السحاب ثم ينزله برداً ، فقد يصح في القدرة جعل هذين الأمرين في السماء ، فلا وجه لترك الظاهر . قوله : { فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ } أي : بالبرد من يشاء فيهلك زرعه وأمواله { وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ } أي : يصرف ضرره عمن يشاء بأن لا يسقطه عليه . قوله : { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ } . العامة على قصر " سَنَا " وهو الضوء ، وهو من ذوات الواو ، يقال : سَنَا يَسْنُو سَناً ، أي أضاء يُضِيء ، قال امرؤ القيس : @ 3842 - يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحُ رَاهِبِ @@ والسناءُ - بالمد - : الرفعة ، قال : @ 3843 - ( وسِنٍّ كسُنَّيْقٍ سَنَاءً وسُنَّما ) @@ وقرأ ابن وثاب : " سَنَاءُ بُرَقِهِ " بالمد ، وبضم الباء من " بَرْقِهِ " وفتح الراء وروي عنه ضم الراء أيضاً . فأما قراءة المد فإنه شبه المحسوس من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان . فأما " بُرَقِهِ " فجمع " بُرْقَةٍ " ، وهي المقدار من البرق ، كـ " غُرْفَة وغُرَف " ، و " لُقْمَة ولُقَم " . وأما ضم الراء فإتباع ، كـ " ظُلُمَات " بضم اللام إتباعاً لضم الظاء ، وإن كان أصلها السكون . وقرأ العامة أيضاً " يَذْهَبُ " بفتح الياء والهاء . وأبو جعفر بضم الياء وكسر الهاء من " أَذْهَبَ " . وقد خَطَّأ هذه القراءة الأخفش وأبو حاتم ، قالا : " لأنَّ الباءَ تُعَاقِبُ الهمزة " . وليس ردُّهما بصوابٍ ، لأنَّها تَتَخرّجُ على ما خُرِّجَ ما قُرِئَ به في المتواتر : " تُنْبِتُ بالدُّهْنِ " من أنَّ الباء مزيدةٌ ، أو أنَّ المفعول محذوف والباء بمعنى " مِنْ " تقديره : يَذهب النور من الأبصار ، كقوله : @ 3844 - شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الحَشْرَجِ @@ فصل المعنى : يكاد ضوء برق السحاب يذهب بالأبصار من شدة ضوئه . واعلم أنّ البرق الذي صفته كذلك لا بد وأن يكون ناراً عظيمة خالصة ، والنار ضد الماء والبرد ، فظهوره يقتضي ظهور الضد من الضد ، وذلك لا يمكن إلا بقدرة قادر حكيم ، ثم قال : { يُقَلِّبُ ٱللَّهُ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } يصرفهما في اختلافهما ، ويعاقبهما : يأتي بالليل ويذهب بالنهار ، ويأتي بالنهار ويذهب بالليل قال عليه السلام : " قال الله تعالى : يُؤْذيني ابن آدم ، يَسُبُّ الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أُقَلِّبُ الليلَ والنهارَ " وقيل : المراد ولوج أحدهما في الآخر . وقيل : المراد تغير أحوالهما في الحر والبرد وغيرهما . { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } أي : إن في الذي ذكرت من هذه الأشياء { لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } البصائر ، أي : دلالة لأهل العقول على قدرة الله وتوحيده .