Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 4-5)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ … } الآية هي كقوله : { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ } [ النور : 2 ] فيعود فيه ما تقدم بحاله ، وقوله : " المُحْصَنَات " فيه وجهان : أحدهما : أن المراد به النساء فقط ، وإنما خَصَّهُنَّ بالذكر لأن قَذْفَهُنَّ أشْنَعُ . والثاني : أن المراد بهن النساء والرجال ، وعلى هذا فيقال : كيف غلَّب المؤنث على المذكر ؟ والجواب أنه صفةٌ لشيء محذوف يَعمُّ الرجال والنساء ، أي : الأنْفُسَ المحصنات ، وهو بعيد أو تقول : ثمَّ معطوف محذوف لفهم المعنى ، وللإجماع على أن حُكْمَهُمْ حُكْمهُنَّ أي : والمُحْصَنين . قوله : { بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } العامة على إضافة اسم العدد للمعدود ، وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم بالتنوين في العدد ، واستَفْصَحَ الناس هذه القراءة حتى تجاوز بعضهم الحد كابن جني ففضّلها على قراءة العامة ، قال : لأنَّ المعدودَ متى كان صفةً فالأجود الإتباع دون الإضافة ، تقول : " عندي ثلاثةٌ ضاربون " ، ويَضعف " ثلاثةُ ضاربين " وهذا غلط ، لأن الصفة التي جَرَتْ مُجْرَى الأسماء تُعْطَى حُكْمَهَا ، فَيُضَافُ إليها العددُ ، و " شُهَدَاء " من ذلك ، فإنه كَثُرَ حذف موصوفه ، قال تعالى : { مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] . و { اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَينِ } [ البقرة : 282 ] ، وتقول : عندي ثلاثةُ أعبد ، وكل ذلك صفةٌ في الأصل . ونقل ابن عطية عن سيبويه أنه لا يُجيزُ تنوين العدد إلاّ في شعر . وليس كما نقله عنه ، إنما قال سيبويه ذلك في الأسماء نحو " ثلاثةُ رجالٍ " وأما الصفات ففيها التفصيل المتقدم . وفي " شُهَدَاءَ " على هذه القراءة ثلاثة أوجه : أحدها : أنه تمييزٌ ، وهذا فاسد ، لأنَّ من ثلاثة إلى عشرة يضاف لمُمَيِّزه ليس إلا ، وغير ذلك ضرورة . الثاني : أنه حالٌ ، وهو ضعيف أيضاً لمجيئها من النكرة من غير مخصِّصٍ . الثالث : أنها مجرورة نعتاً لـ " أربعة " ، ولم تنصرف لألف التأنيث . فصل ظاهر الآية لا يدل على الشيء الذي رموا به المحصنات ، وذكر الرمي لا يدل على الزنا ، إذ قد يرميها بسرقة أو شرب خمر ، بل لا بد من قرينة دالة على التعيين . واتفق العلماء على أن المراد الرمي بالزنا ، وفي دلالة الآية عليه وجوه : الأول : تقدم ذكر الزنا . الثاني : أنه تعالى ذكر المحصنات وهن العفائف ، فدل ذلك على أن المراد رميها بعدم العفاف . الثالث : قوله : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } يعني : على صحة ما رموا به ، وكون الشهود أربعة من شروط الزنا . الرابع : الإجماع على أنه لا يجب الحد بالرمي بغير الزنا ، فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنا . فصل شروط الإحصان خمسة : الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، والحرية ، والعفة من الزنا ، حتى أن من زنا مرة أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته منذ عمره ، فقذفه قاذف لا حدّ عليه ، فإن أقر المقذوف على نفسه بالزنا ، أو أقام القاذف أربعة من الشهود على زناه سقط الحد عن القاذف ، لأن الحد وجب للفرية ، وقد ثبت صدقه . فصل وألفاظ القذف : صريح ، وكناية ، وتعريض . فالصريح : أن يقول : يا زانية ، أو زنيت ، أو زنا قُبُلُكِ أو دُبُرُكِ ، فإن قال : زنا يدك ، فقيل : كناية ، لأن حقيقة الزنا من الفرج ، والصحيح أنه صريح ، لأن الفعل يصدر بكل البدن ، والفرج آلة . والكناية : أن يقول : يا فاسقة ، يا فاجرة ، يا خبيثة ، يا مؤاجرة ، يا ابنة الحرام ، أو لا ترد يد لامس ، فلا يكون قذفاً إلا بالنية ، وكذا لو قال لعربي : يا نبطي ، أو بالعكس ، فإن أراد القذف فهو قذف لأم المقول له ، وإلا فلا . فإن قال : عنيت نبطي الدار أو اللسان ، وادعت أم المقول له إرادة القذف فالقول قوله مع يمينه . والتعريض ليس بقذف وإن نواه ، كقوله : يا ابن الحلال أما أنا فما زنيت وليست أمي بزانية ، لأن الأصل براءة الذمة ، فلا يجب بالشك ، والحد يُدْرَأ بالشبهات . وقال مالك : يجب فيه الحد . وقال أحمد وإسحاق : هو قذف في حال الغضب دون الرضا . فصل إذا قذف شخصاً واحداً مراراً ، فإن أراد بالكل زنية واحدة وجب حدّ واحد ، ( فإن قال الثاني بعدما حد للأول عزر للثاني . وإن قذفه بزناءين مختلفين كقوله : زنيت بزيد ، ثم قال : زنيتِ بعمرو ، فقيل : يتعدد اعتباراً باللفظ ، ولأنه حقّ آدمي فلا يتداخل كالديون . والصحيح أنه يتداخل لأنهما حدان من جنس واحد ، فتداخل كحدود الزنا . ولو قذف زوجته مراراً فالصحيح أنه يكفي بلعان واحد سواء قلنا بتعدد الحد أو لا . وإن قذف جماعة بكلمة واحدة ، فقيل : حدّ واحد ) ، لأن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء ، فقال عليه السلام : " البينةُ أو حَدٌّ في ظهرك " ، فلم يوجب على هلال إلا حداً واحداً مع أنه قذف زوجته بشريك . وقيل : لكل واحد حدٌّ . وإن كان بكلمات فلكل واحد حدّ . فصل إذا قذف الصبي أو المجنون أو أجنبية فلا حد عليه ولا لعان ، لا في الحال ولا بعد البلوغ ، لقوله عليه السلام : " رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاث " ولكن يعزّران للتأديب إن كان لهما تمييز . والأخرس إن فهمت إشارته أو كتابته وقذف بالإشارة أو بالكتابة لزمه الحد ، ولذلك يصح لعانه بالإشارة والكتابة . وأما العبد إذا قذف الحر ، فقيل : يلزمه نصفُ الحد . وقيل : الحد كله . وأما الكافر إذا قذف المسلم فعليه الحد لدخوله في عموم الآية . وإن كان المقذوف غير محصَن لم يجب الحد ، بل يوجب التعزير إلا أن يكون المقذوف معروفاً بما قذف به فلا حدّ هناك ولا تعزير . قوله : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } أي : يشهدون على زناهن { فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } قوله : { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، وهو الأظهر ، وجوَّز أبو البقاء فيها أن تكون حالاً . وقوله { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } اعلم أن في هذا الاستثناء خلافاً ، هل يعود لما تقدَّمه من الجمل أم إلى الجملة الأخيرة فقط ؟ وتكلم عليها من النحاة ابن مالك والمَهَابَاذِيُّ ، فاختار ابن مالكٍ عوده إلى الجمل المتقدمة والمَهَابَاذِي إلى الأخيرة . وقال الزمخشري : رد شَهَادَةِ القاذفِ معَلَّقٌ عند أبي حنيفة - رحمه الله - باستيفاء الحدِّ ، فإذا شهد قبل الحدِّ أو قبل تمام استيفائِهِ قُبِلَتْ شهادته ، فإذا استوفي لم تُقْبَلْ شهادته أبداً وإن تابَ وكان من الأبرار الأتقياء . وعند الشافعي - رحمه الله - يتعلَّقُ ردُّ شهادِتِه بنفس القَذْفِ ، فإذا تاب عن القذف بأن رجع عنه عاد مقبول الشهادة ، وكلاهما مُتَمَسِّكٌ بالآية ، فأبو حنيفة - رحمه الله - جعل جزاء الشرط الذي هو الرميُ : الجلدَ وردَّ الشهادة عُقَيْبَ الجلد على التأبيد ، وكانوا مَرْدُودِي الشهادة عنده في أبدهم ، وهو مدَّة حياتهم ، وجعل قوله : { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } كلاماً مستأنفاً غير داخلٍ في حيز جزاء الشرط ، كأنه حكاية حال الرامين عند الله بعد انقضاء الجملة الشرطية ، و { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } استثناء من " الفَاسِقِينَ " ، ويدلُّ عليه قوله : { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . والشافعيُّ - رحمه الله - جعل جزاء الشرط الجملتين أيضاً غير أنه صَرَفَ الأبد إلى مدة كونه قاذفاً ، وهي تنتهي بالتوبة ( والرجوع ) عن القذف ، وجعل الاستثناء متعلِّقاً بالجملة الثانية . انتهى . واعلم أن الإعراب متوقفٌ على ذكر الحكم ، ومحلُّ المستثنى فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه منصوب على أصل الاستثناء . والثاني : أنه مجرور بدلاً من الضمير في " لَهُمْ " . وقد أوضح الزمخشري ذلك بقوله : وحق المستثنى عنده - أي : الشافعي - أن يكون مجروراً بَدَلاً من " هُمْ " في " لَهُمْ " ، وحقه عند أبي حنيفة أن يكون منصوباً ، لأنه عن موجب والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاثة بمجموعهن جزاء الشرط ، كأنه قيل : وَمَنْ قَذَفَ المُحْصَنَاتِ فَاجْلِدُوهُمْ ، وَرُدّوا شَهَادَتَهُمْ ، وفسِّقوهم ، أي : فاجمعوا لهم الجلد والردَّ والتفسيق ، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ، يغفر لهم فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسَّقين . قال أبو حيان : وليس ظاهر الآية يقتضي عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث ، بل الظاهر هو ما يعضده كلام العرب ، وهو الرجوع إلى الجملة التي تليها . والوجه الثالث : أنه مرفوع بالابتداء ، وخبره الجملة من قوله : { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . واعترض بخلوّها من رابطٍ . وأُجيبَ بأنه محذوف ، أي : غفور لهم . واختلفوا أيضاً في هذا الاستثناء ، هل هو مُتَّصِلٌ أم مُنْقَطِعٌ ؟ والثاني ضَعيفٌ جداً . فصل الإقرار بالزنا يثبت بشهادة رجلين بخلاف فعل الزنا ، لأن الفعل يعسر الاطلاع عليه وقيل : لا يثبت إلا بأربعة كفعل الزنا . فصل إذا شهدوا على فعل الزنا يجب أن يذكروا الزاني والمزني به ، لأنه قد يراه على جارية ابنه فيظن أنه زنا . ويجب أن يشهدوا أنا رأينا ذكره يدخل في فرجها دخول الميل في المُكْحُلة ، فلو شهدوا مطلقاً أنه زنا لم يثبت ، بخلاف ما لو قذف إنساناً وقال : " زنيتَ " يجب الحد ولا يستفسر ، ولو أقر على نفسه بالزنا ، فقيل : يجب أن يستفسر كالشهود ، وقيل : لا يجب كما في القذف . فصل لا فرق بين أن يجيء الشهود مجتمعين أو متفرقين . وقال أبو حنيفة : إذا شهدوا متفرقين لا يثبت ، وعليهم حد القذف . وحجة الأول : أن الإتيان بأربعة شهداء قدر مشترك بين الإتيان بهم مجتمعين ومتفرقين . وأيضاً فكل حكم ثبت بشهادة الشهود إذا جاءوا مجتمعين ثبت إذا جاءوا متفرقين كسائر الأحكام ، بل هذا أولى ، لأن مجيئهم متفرقين أبعد من التهمة وعن تلقن بعضهم من بعض ، ولذلك إذا وقعت ريبة للقاضي في شهادة الشهود فرقهم ، وأيضاً فإنه لا يشترط أن يشهدوا معاً في حالة واحدة ، بل إذا اجتمعوا عند القاضي قدَّم واحداً بعد واحد ويشهد ، وكذا إذا اجتمعوا على بابه يدخل واحد بعد واحد . واحتج أبو حنيفة بأن الشاهد الواحد لما شهد فقد قذفه ولم يأت بأربعة من الشهداء فيجب عليه الحد للآية ، أقصى ما في الباب أنهم عبروا عن القذف بلفظ الشهادة ، وذلك لا عبرة به ، لأنه يؤدي إلى إسقاط حدّ القذف رأساً ، لأن كل قاذف يمكن أن يقذف بلفظ الشهادة ويتوسل بذلك إلى إسقاط الحد عن نفسه ويحصل مقصوده . وأيضاً فإن المغيرة بن شعبة شهد عليه بالزنا أربعة عند عمر بن الخطاب : أبو بكرة ، وشبل بن معبد ، ونافع ، ونفيع ، قال زياد : وقال رابعهم : رأيت استاً تنبو ، ونفساً يعلو ، ورجلاها على عاتقه كأذني حمار ، ولا أدري ما وراء ذلك ، فجلد عمر الثلاثة ، ولم يسأل : هل معهم شاهد آخر ؟ فلو قبل بعد ذلك شهادة غيرهم لتوقف أداء الحد عليه . فصل لو شهد على الزنا أقل من أربعة لم يثبت ، وهل يجب حد القذف على الشهود ؟ فقيل : يجب عليهم حد القذف لما تقدم آنفاً . وقيل : لا يجب لأنهم جاءوا مجيء الشهود ، ولأنا لو حَدَدْنَا لانسد باب الشهادة على الزنا ، لأن كل واحد لا يأمن أن يوافقه صاحبه فيلزمه الحد . فصل لو أتى القاذف بأربعة فساق فشهدوا على المقذوف بالزنا : قال أبو حنيفة : يسقط الحد عن القاذف ، ويجب الحد على الشهود . وقال الشافعي في أحد قوليه : يُحَدُّون . واحتج أبو حنيفة بأنه أتى بأربعة شهداء ، فلا يلزمه الحد ، والفاسق من أهل الشهادة ، فقد وجدت شرائط الشهادة إلا أنه لم يقبل شهادتهم للتهمة . واحتج الشافعي بأنهم ليسوا من أهل الشهادة . قوله : { فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وهذا خطاب للإمام ، أو للمالك ، أو لرجل صالح إذا فُقِد الإمام . ويخص من هذا العموم صور : الأولى : الوالد إذا قذف ولده ( أو ولد ولده ) وإن سفل لا يجب عليه الحد ، كما لا يجب عليه القصاص بقتله . الثانية : القاذف إذا كان عبداً فالواجب جلده أربعين ، وكذا المكاتب ، وأم الولد ، ومن بعضه حر ، فقيل : كالرقيق . وقيل : بالحساب . الثالثة : من قذف رقيقه ، أو من زنت قديماً ثم تابت فهي محصنة ولا يجب الحد بقذفها . فصل قالوا : أشد الضرب في الحدود ضرب حد الزنا ، ثم ضرب حدّ الخمر ، ثم ضرب القاذف ، لأن سبب عقوبته محتمل للصدق والكذب ، إلا أنه عوقب صيانة للأعراض . فصل قال مالك والشافعي : حدّ القذف يورث ، وكذلك إذا كان الواجب بقذفه التعزير يورث عنه . وقيل : لا يورث إلا أن يطالب المقذوف قبل موته ، فإن قذف بعد موته ثبت لوارثه طلب الحد . وعند أبي حنيفة : الحد لا يورث ، ويسقط بالموت . حجة الشافعي : أنه حق آدمي يسقط بعفوه ، ولا يستوفى إلا بطلبه ، ويحلف فيه المدعى عليه إذا أنكر ، وإذا كان حق آدمي وجب أن يورث لقوله عليه السلام : " مَنْ مَاتَ عَنْ حَقٍّ فَلورثَتِهِ " . وحجة أبي حنيفة : لو كان موروثاً لورثة الزوج والزوجة : ولأنه حق ليس فيه معنى المال فلا يورث كالوكالة والمضاربة . وأجيب بأنا لا نسلم أن الزوج والزوجة لا يرثان ، وإن سلم فالفرق بينهما أن الزوجية تنقطع بالموت ، ولأن المقصود من الحدّ دفع العار عن النسب ، وذلك لا يلحق الزوج والزوجة . فصل إذا قذف إنساناً بين يدي الحاكم ، أو قذف امرأته برجل بعينه ، والرجل غائب فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف ويخبره بأن فلاناً قذفك ، وثبت لك حدّ القذف عليه ، كما لو ثبت له مال على آخر وهو لا يعلم ، يجب عليه إعلامه ، ولهذا بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنيساً ليخبرها أن فلاناً قذفها بابنه ، ولم يبعثه ليتفحص عن زناها وليس للإمام إذا رمي رجل بزنا أن يبعث إليه يسأله عن ذلك . قوله : { ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً } . قال أكثر الصحابة والتابعين : إذا تاب قُبِلَتْ شهادته وهو قول الشافعي . وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح : لا تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب . وأدلة المذهبين مذكورة في كتب الفقه ، وهاهنا مبنية على أن الاستثناء هل يرجع إلى الجملة الأخيرة أو إلى الجمل المتقدمة ؟ فلذلك اختلف العلماء في قبول شهادة القاذف بعد التوبة وفي حكم هذا الاستثناء : فذهب قوم إلى أن القاذف ترد شهادته بنفس القذف ، وإذا تاب وندم على ما قال وحسنت حالته قبلت شهادته ، سواء تاب بعد إقامة الحد أو قبله لقوله تعالى : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } . وقالوا : الاستثناء راجع إلى الشهادة وإلى الفسق ، فبعد التوبة تقبل شهادته ويزول عنه اسم الفسق ، يروى ذلك عن عمر وابن عباس ، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري ، وبه قال مالك والشافعي . وذهب قوم إلى أن شهادة المحدود في القذف لا تقبل أبداً وإن تاب ، وقالوا : الاستثناء يرجع إلى قوله : { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } وهو قول النخعي وشريح وأصحاب الرأي . وقالوا : بنفس القذف ترد شهادته ما لم يحد . قال الشافعي : هو قبل أن يحد شر منه حين يحد لأن الحدود كفارات ، فكيف تردون شهادته في أحسن حالته وتقبلونها في شر حالته . وذهب الشعبي إلى أن حد القذف يسقط بالتوبة . وقالوا : الاستثناء يرجع إلى الكل . وعامة العلماء على أنه لا يسقط بالتوبة إلا أن يعفو عنه المقذوف فيسقط كالقصاص يسقط بالعفو ولا يسقط بالتوبة . فإن قيل : إذا قبلتم شهادته بعد التوبة فما معنى قوله : " أبَداً " ؟ قيل : معناه : لا تقبل شهادته أبداً ما دام مصرًّا على قذفه ، لأن أبد كل إنسان على ما يليق بحاله ، كما يقال : لا تقبل شهادة الكافر أبداً ، يراد : ما دام كافراً . فصل اختلفوا في كيفية التوبة بعد القذف . فقيل : التوبة منه إكذابه نفسه بأن يقول : كذبت فلا أعود إلى مثله . وقيل : لا يقول كذبت ، لأنه ربما يكون صادقاً ، فيكون قوله : " كذبت " كذباً ، والكذب معصية ، وإتيان المعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى ، بل يقول : القذف باطل ، ندمت على ما قلت ورجعت عنه ولا أعود إليه . ولا بد من مضي مدة عليه بعد التوبة يحسن حاله فيها حتى تقبل شهادته ، وقدر تلك المدة سنة حتى يمر عليه الفصول الأربعة التي تتغير فيها الأحوال والطباع كأجل العنِّين ، وقد علق الشرع أحكاماً بالنسبة من الزكاة والجزية وغيرهما ، وهذا معنى قوله : " وَأَصْلَحُوا " ، ثم قال : { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي يقبل التوبة . لما ذكر أحكام قذف الأجنبيات عقبه بأحكام قذف الزوجات .