Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 25, Ayat: 17-20)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } الآية قرأ ابن عامر " نَحْشَرُهُمْ … فَنَقُولُ " بالنون فيهما ، وابن كثير وحفص بالياء من تحت فيهما ، والباقون بالنون في الأوّل وبالياء في الثاني . وهُنّ واضحات . وقرأ الأعرج " نَحْشِرهُمْ " بكسر الشين في جميع القرآن . قال ابن عطية : هي قليلة في الاستعمال قوية في القياس ، لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعُل بضم العين . وقال أبو الفضل الرازي : وهو القياس في الأفعال الثلاثية المتعدية ؛ لأن يفعل بضم العين قد يكون من اللازم الذي هو فَعُل بضمها في الماضي . قال أبو حيان : وليس كما ذكرا بل فعل المُتعدي الصحيح جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة ، ولا حلقي عين ولا لام فإنه جاء على يفعِل ويفعُل كثيراً ، فإن شُهِرَ أحد الاستعمالين اتُّبع وإلا فالخيار حتى إن بعض أصحابنا خيَّر فيهما سُمِعَا للكلمة أم لم يُسْمَعَا . قال شهاب الدين : الذي خيَّر في ذلك ابن عصفور ، فيجيز أن يقول : زيد يفعِل بكسر العين ، ويَضْرِب بكسر الراء مع سماع الضم في الأول والكسر في الثاني وسبقه إلى ذلك ابن درستويه ( إلا أن ) النحاة على خلافه . قوله : " وَمَا يَعْبُدُونَ " عطف على مفعول " يَحْشُرُهُمْ " ، ويضعف نصبه على المعية ، وغلب غير العاقل عليه فأتي بـ " ما " دون " من " . فصل ظاهر قوله : " وَمَا يَعْبُدُونَ " أنها الأصنام ، لأن ( ما ) لما لا يعقل . وظاهر قوله : { فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ } أنه من عبد من الأحياء كالملائكة والمسيح وعزير وغيرهم ؛ لأن الإضلال وجد بهم فلهذا اختلفوا . فقال مجاهد : أراد الملائكة والجن والمسيح وعزير . وقال عكرمة والضحاك والكلبي : يعني الأصنام . فقيل لهم : كيف يخاطب الله تعالى الجماد فأجابوا بوجهين : أحدهما : أنه تعالى يخلق الحياة فيها ويخاطبها . والثاني : أن يكون ذلك بالكلام النفساني لا بالقول اللساني بل بلسان الحال كما ذكر بعضهم في تسبيح الموات ، وكلام الأيدي والأرجل ، وكما قيل سل الأرض من شق أنهارك ، وغرس أشجارك ؟ فإن لم يحصل جواباً أجابتك اعتباراً . وقال الأكثرون : المراد الملائكة وعيسى وعزير - عليهم السلام - قالوا : ويتأكد هذا القول بقوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ سبأ : 40 ] فإن قيل : لفظة " ما " لا تستعمل في العقلاء . فالجواب من وجهين : الأول : لا نسلم أن كلمة " ما " لا تستعمل لمن لا يعقل ؛ لأنهم قالوا : " مَنْ " لمن لا يعقل في قوله تعالى : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ } [ النور : 45 ] . الثاني : أنه أريد به الوصف كأنه قيل : ومعبودهم . وقال تعالى : { وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] ، { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [ الكافرون : 3 ] وهذا لا يستقيم إلا على أحد هذين الوجهين . فصل قالت المعتزلة : ( وفيه كسر بيّن لقول من يقول إن ) الله يضل عباده في الحقيقة لأنه لو كان الأمر كذلك لكان الجواب الصحيح أن يقول : إلهنا ههنا قسم ثالث غيرهما هو الحق ، وهو أنّك أضللتهم فلما لم يقولوا ذلك بل نسبوا ضلالهم إلى أنفسهم ، علمنا أنه تعالى لا يضل أحداً من عباده ، فإن قيل : لا نسلم أن المعبودين ما تعرضوا لهذا القسم بل ذكروه ، وقالوا : { وَلَـٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكْرَ } ، وهذا تصريح بأن ضلالهم إنما حصل لأجل ما فعل الله بهم ، وهو أنه تعالى متَّعهم وآباءهم بنعيم الدنيا . قلنا : لو كان الأمر كذلك لكان يلزم أن يصير الله محجوجاً في يد أولئك المعبودين ، ومعلوم أنه ليس الغرض ذلك بل الغرض أن يصير الكافر محجوجاً مفحماً ملوماً . وأجاب أهل السنة بأن القدرة على الضلال إن لم تصلح للاهتداء فالإضلال من الله ، وإن صلحت له لم يترجح اقتدارها للضلال على اقتدارها على الاهتداء إلا لمرجح من الله تعالى ، وعند ذلك يزول السؤال . وأما ظاهر الآية وإن كان لهم لكنه معارض بسائر الظوهر المطابقة لقولنا . قوله : " هؤلاء " يجوز أن يكون نعتاً لـ " عِبَادي " أو بدلاً أو بياناً . قوله : " ضلّوا السَّبِيلَ " على حذف حرف الجر وهو " عن " كما صرح به في قوله { يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 117 ] ثم اتُّسع فيه فحُذِف نحو هَدَى ، فإنَّه يتعدَّى بـ ( إلى ) وقد يُحْذَف اتساعاً . و " ضَلَّ " مطاوع ( أَضَلَّ ) . فإن قيل : إِنَّهُ تعالى كان عالماً في الأزل بحال المسؤول عنه فما فائدة هذا السؤال ؟ فالجواب : هذا سؤال تقريع للمشركين كما قيل لعيسى { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [ المائدة : 116 ] . فإن قيل : فما فائدة " أَنْتُمْ " ، وهلاَّ قيل : أَأَضْلَلْتُمْ عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل ؟ فالجواب : هذا سؤال عن الفاعل فلا بدَّ من ذكره حتى يعلم أنه المسؤول عنه . وقوله : " أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ … أَمْ هُمْ ضَلُّوا " ( إنما قدم الاسم على الفعل ) كما تقدم في قوله : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } [ المائدة : 116 ] . قوله : " يَنْبَغِي " العامة على بنائه للفاعل ، وأبو عيسى الأسود القارئ " يُنْبَغَى " مبنيًّا للمفعول . قال ابن خالويه : زعم سيبويه أنَّ " يُنْبَغَى " لغة . قوله : " أَنْ نَتَّخِذَ " فاعل " يَنْبَغِي " ، أو مفعول قائم مقام الفاعل في قراءة الأسود وقرأ العامة " نَتَّخِذَ " مبنيًّا للفاعل ، و " مِنْ أَوْلِيَاء " مفعوله وزيدت فيه ( مِنْ ) ويجوز أن يكون مفعولاً أوَّلَ على أن ( اتَّخَذَ ) متعدياً لاثنين . ويجوز أن لا تكون المتعدية لاثنين بل لواحد ، فعلى هذا " مِنْ دُونِكَ " متعلق بالاتخاذ ، أو بمحذوف على أنه حال من " أَوْلِيَاء " . وقرأ أبو الدرداء ، وزيد بن ثابت ، وأبو رجاء ، والحسن ، وأبو جعفر في آخرين : " نُتَّخَذَ " مبنيًّا للمفعول . وفيه أوجه : أحدها : أنها المتعدية لاثنين ، فالأول : " هُمْ " ضمير الاثنين ، والثاني : قوله : " مِن أَوْلِيَاء " و " مِنْ " للتبعيض ، أي : ما كان ينبغي أن نتخذ بعض أولياء ، قاله الزمخشري . الثاني : أنَّ " مِنْ أَوْلِيَاء " هو المفعول الثاني - ( أيضاً - إلاَّ أن " مِنْ " مزيدة في المفعول الثاني ) . وهذا مردود بأن " مِنْ " لا تزاد في المفعول الثاني إنما تزاد في الأول . قال ابن عطية : ويضعف هذه القراءة دخول " مِنْ " في قوله : " مِنْ أَوْلِيَاء " اعترض بذلك سعيد بن جبير وغيره . قال الزجاج : أخطأ من قرأ بفتح الخاء وضم النون ، لأنَّ " مِنْ " إنما تدخل في هذا الباب إذا كانت مفعولةً أولاً ولا تدخل على مفعول الحال ، تقول : ما اتخذت من أحدٍ ولياً ، ولا يجوز ما اتخذت أحداً من وليٍّ . الثالث : أن يكون " مِنْ أَوْلِيَاء " في موضع الحال قاله ابن جني إلاَّ أنه قال : ودخلت " مِنْ " زيادة لمكان النفي المتقدم كقولك : ما اتخذت زيداً من وكيل . فظاهر هذا أنه جعل الجار والمجرور ( في موضع الحال ، وحينئذ يستحيل أن تكون " مِنْ " مزيدة ولكنه يريد أن هذا المجرور ) هو الحال نفسه و " مِنْ " مزيدة فيه إلاَّ أنه لا يحفظ زيادة " مِنْ " في الحال وإن كانت منفية وإنما حفظ زيادة الباء فيها على خلاف في ذلك . فإن قيل : هذه القراءة غير جائزة ، لأنه لا مدخل لهم في أن يتخذهم غيرهم أولياء . قلنا : المراد أنا لا نصلح لذلك ، فكيف ندعوهم إلى عبادتنا ؟ وقرأ الحجاج : نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ [ أولياء ] فبلغ عاصماً فقال : مَقَّتَ المُخْدجُ ، أو ما علم أنَّ فيها " مِنْ " . فصل أجابوا بقولهم : " سُبْحَانَكَ " . وفيه وجوه : أحدها : أنه تعجب منهم ، تعجبوا مما قيل لهم ؛ لأنهم ملائكة ، والأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختصٌّ بإبليس وجنوده . وثانيها : أنهم نطقوا بـ " سُبْحَانَكَ " ليدلوا على أنهم المسبحون الموسومون بذلك ، فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده . وثالثها : قصدوا بالتسبيح تنزيهه عن الأنداد سواء كان المسبح وثناً أو نبياً أو ملكاً . ورابعها : قصدوا تنزيهه أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفادة علم أو إبراء من كان بريئاً من الجرم ، بل إنما سألهم تقريعاً للكفار وتوبيخاً لهم . وقولهم : { مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ } . معناه : إذا كنا لا نرى أن يتخذ من دونك ولياً ، فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك ، أي ما كان لنا أن نأمرهم بعبادتنا ونحن نعبدك . وقيل : ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين . وقيل : ما كان لنا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء ، أي : إنا علمنا أنك لا ترضى بهذا فما فعلنا ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وقيل : قالت الملائكة : ( إنَّا وهم عبيدك ، ولا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دون إذنك ولياً ولا حبيباً فضلاً عن أن يتخذ عبداً آخر إلهاً . وقيل : قالت الأصنام ) : إنا لا يصلح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا ادعاؤنا من المعبودين . قوله : " وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ " . لمَّا تضمَّن كلامهم أنَّا لم نضلهم ولم نحملهم على الضلال حسن هذا الاستدراك ، وهو أن ذكروا سببه ، أي : أنعمت عليهم وتفضلت فجعلوا ذلك ذريعةً إلى ضلالهم عكس القضية . والمعنى متعتهم وآباءهم في الدنيا بطول العمر والصحة والنعمة . { حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكْرَ } تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن . وقيل : تركوا ذكرك وغفلوا عنه . قوله : { وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } أي : هلكى غلب عليهم الشقاء والخذلان . و " بُوراً " يجوز فيه وجهان : أحدهما : أنه جمع بائر كعائذ وعوذ . والثاني : أنه مصدر في الأصل كالزور ، فيستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ، وهو من البوار وهو الهلاك . وقيل من الفساد ، وهي لغة الأزد ، يقولون : بَارَتْ بِضَاعَتُه أي : فسدت ، وأمرنا بائر ، أي : فاسد ، وهذا معنى قولهم : كسدت البضاعة . وقال الحسن : هو من قولهم : أرض بورٌ ، أي : لا نبات بها . وهذا يرجع إلى معنى الهلاك والفساد . قوله تعالى : " فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ " هذا خطاب مع المشركين ، أي : كَذَّبَكُمُ المعبودون في قولكم إنهم آلهة وإنهم أضلوكم . وقيل : خطاب للمؤمنين في الدنيا ، أي : فقد كذبوكم أيها المؤمنون الكفار بما تقولون من التوحيد في الدُّنيا ، وهو معنى قوله " بِما تَقُولُونَ " . وهذه الجملة من كلام الله تعالى اتفاقاً ، فهي على إضمار القول والالتفات . قال الزمخشري : هذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنةٌ رائعةٌ وخاصة إذا انضمَّ إليها الالتفات وحذف القول ، ونحوها قوله : { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مَّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ [ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ] } [ المائدة : 19 ] ، وقول القائل : @ 3868 - قالوا خُراسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ثُمَّ القُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا @@ انتهى . يريد أنَّ الأصل في الآية الكريمة فقلنا فقد كذبوكم ، وفي البيت : فقلنا قد جئنا . وقرأ أبو حيوة وقنبل في رواية ابن أبي الصلت عنه بالياء من تحت ، أي : " فَقَدْ كَذَّبَكُم الآلِهَةُ بِمَا يَقُولُونَ ( سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ " إلى آخره وقيل : المعنى : فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفار بما يقولون ) من الافتراء عليكم . قوله : " فَمَا يَسْتَطِيعُونَ " . قرأ حفص بتاء الخطاب ، والمراد عبَّادها ، والمعنى فما تستطيعون أنتم يا كفار صرف العذاب عنكم . وقيل : الصرف : التوبة ، وقيل : الحيلة . وقرأ الباقون باء الغيبة ، والمراد الآلهة التي كانوا يعبدونها من عاقل وغيره ، ولذلك غلب العاقل وأتى بواو الضمير ، والمعنى : فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب وأن يحتالوا لكم . قوله : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ } . قرأ العامة " نُذِقْهُ " بنون العظمة ، وقرئ بالياء ، وفي الفاعل وجهان : أظهرهما : أنه الله تعالى لدلالة قراءة العامة على ذلك . والثاني : أنه ضمير الظلم المفهوم من الفعل ، وفيه تجوز بإسناد إذاقة العذاب إلى سببها وهو الظلم ، والمعنى : ومن يشرك منكم نذقه عذاباً كبيراً . فصل تمسك المعتزلة بهذه الآية ( في القطع بوعيد أهل الكبائر ، قالوا : ثبت أن كلمة " مَنْ " في معرض الشرط للعموم ، وثبت أن الكافر ظالم لقوله { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، والفاسق ظالم لقوله : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } [ الحجرات : 11 ] فثبت بهذه الآية ) أن الفاسق لا يعفى عنه بل يعذب لا محالة . والجواب : أنا لا نسلم أن كلمة " مَنْ " في معرض الشرط للعموم ، والكلام فيه مذكور في أصول الفقه ، سلمنا أنه للعموم لكن قطعاً أم ظاهراً ؟ ودعوى القطع ممنوعة ، فإنا نرى في العرف العام والاستعمال المشهور استعمال صيغ العموم مع إرادة الأكثر أو لأن المراد أقوام معينون ويدل عليه قوله تعالى { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] ثم إن كثيراً من الذين كفروا قد آمنوا فلا دافع أن يقال : قولنا " الَّذِينَ كَفَرُوا " كان يفيد العموم ، لكن المراد منه إمَّا الغالب أو المراد منه أقوام مخصصون . وعلى التقديرين ثبت أن استعمال ألفاظ العموم في الأغلب عرف ظاهر وإذا كان كذلك كانت دلالة هذه الصيغ على العموم دلالة ظاهرة لا قاطعة ، وذلك لا ينفي تجويز العفو . سلمنا دلالته ، لكن أجمعنا على أن قوله : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ } مشروط بأن لا يزيل ذلك الظلم بتوبة أو بطاعة هي أعظم من ذلك الظلم ، فيرجع حاصل الأمر إلى أن قوله : " يَظْلِمْ مِنْكُمْ " مشروط بأن لا يعاجل ما يزيله وعند هذا فنقول : هذا مسلم ، لكن لم قلتم : إنه لم يوجد ما يزيله ؟ فإن العفو عندنا أحد الأمور الثلاثة التي تزيله ، وذلك هو أول المسألة سلمنا دلالته على ما قال ولكنه معارض بآيات الوعد كقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً } [ الكهف : 107 ] . فإن قيل : آيات الوعيد أولى ، لأن السارق يُقْطع على سبيل التنكيل ، وإذا ثبت أنه مستحق للعقاب ثبت أن استحقاق الثواب محبط لما بينا أن الجمع بين الاستحقاقين محال . قلنا : لا نسلم أنَّ السارق يقطع على سبيل التنكيل ، ألا ترى أنه لو تاب فإنه ( لا ) يقطع على سبيل التنكيل ( بل على سبيل المحنة ) . نزلنا عن هذه المقامات ، ولكن قوله تعالى : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ } خطاب مع قوم مخصوصين معينين ، فهب أنه لا يعفو عن غيرهم . قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } الآية هذا جواب عن قولهم : { مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ } [ الفرقان : 7 ] أي : هذه عادة مستمرة من الله تعالى في كل رسله فلا وجه لهذا الطعن . قوله : { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ } حق الكلام أن يقال : إلاَّ أنَّهُمْ . بفتح الألف ، لأنه متوسط ، والمكسورة لا تليق إلاَّ بالابتداء ، فلهذا ذكروا في هذه الجملة ثلاثة أوجه : أحدها : أنها في محل نصب صفة لمفعول محذوف ، فقدره الزجاج والزمخشري : " وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ أحَداً مِن المُرْسَلِين إلا آكِلِين وَمَاشِينَ " . وإنما حذف ، لأن في قوله : " مِنَ المُرْسَلِينَ " دليلاً عليه ، نظيره قوله تعالى : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] بمعنى : مَا مِنَّا أحدٌ . وقدره ابن عطية : رجالاً أو رسلاً . والضمير في " إنَّهم " وما بعده عائد على هذا الموصوف المحذوف . والثاني : قال الفراء : إنها لا محل لها من الإعراب ، وإنما هي صلة لموصول محذوف هو المفعول ( لـ " أَرْسَلْنَا " ) ، تقديره : إلا من أنهم . فالضمير في " إنَّهُمْ " وما بعده عائد على معنى " مَنْ " المقدرة ، واكتفي بقوله : " مِنَ المُرْسَلِينَ " عنه كقوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً } [ مريم : 71 ] ، أي : إلاَّ من يردها . فعلى قول الزجاج الموصوف محذوف ، وعلى قول الفراء الموصول هو المحذوف ، ولا يجوز حذف الموصول وتبقية الصلة عند البصريين إلاَّ في مواضع ، تقدَّم التنبيه عليها في البقرة . الثالث : أن الجملة محلها النصب على الحال ، وإليه ذهاب ابن الأنباري قال : التقدير : إلاَّ وإنهم ، يعني أنها حالية ، فقدَّر معها الواو بياناً للحالية ، فكسر بعد استئناف . وردَّ بكون ما بعد " إلاَّ " صفة لما قبلها ، وقدره أبو البقاء أيضاً . والعامة على كسر " إنَّ " ، لوجود اللام في خبرها ، ولكون الجملة حالاً على الراجح . قال أبو البقاء : وقيل : لَوْ لَمْ تكن اللام لكسرت أيضاً لأن الجملة حالية ، إذ المعنى : إلاَّ وَهُمْ . وقيل : المعنى : إلا قيل أنهم . وقرئ " أنَّهُمْ " بالفتح على زيادة اللام وأن مصدرية ، والتقدير : إلاَّ لأنَّهُمْ أي : ما جعلنا رسلاً إلى الناس إلا لكونهم مثلهم . وقرأ العامة " يَمْشُونَ " خفيفة ، وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وعبد الله " يُمَشُّونَ " مشدداً مبنيًّا للمفعول ، أي : تُمَشِّيهِمْ حَوَائِجُهُمْ أو الناس . وقرأ عبد الرحمن : " يَمشُّونَ " بالتشديد مبنيًّا للفاعل ، وهي بمعنى " يَمْشُونَ " قال الشاعر : @ 3869 - وَمَشَّى بِأَعْطَانِ المِيَاهِ وابْتَغَى قَلاَئِصَ مِنْهَا صَعْبَةٌ وَرَكُوبُ @@ قال الزمخشري : ولو قرئ " يَمَشُّونَ " لكان أوجه لولا الرواية . يعني بالتشديد . قال شهاب الدين : قد قرأ بها السُّلَمِيّ ولله الحمد . فصل روى الضحاك عن ابن عباس قال : لمَّا عيَّر المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : { مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ } [ الفرقان : 7 ] أنزل الله هذه الآية . يعني : ما أنا إلا رسول ، وما كنت بدعاً من الرسل ، وهم كانوا يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، كما قال في موضع آخر : { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [ فصلت : 43 ] . { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } أي : بلية ، فالغني فتنة للفقير ، ( ويقول الفقير ) : ما لي لم أكن مثله ؟ والصحيح فتنة للمريض ، والشريف فتنة للوضيع . قال ابن عباس : أي : جعلت بعضكم بلاء لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم وتتبعون الهدى . وقال الكلبي والزجاج والفراء : نزلت في رؤساء المشركين وفقراء الصحابة فإذا رأى الشريف الوضيع قد أسلم قبله أَنِفَ أن يسلم ، وأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة والفضل عليه ، ويدل عليه قوله تعالى : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] وقيل : هذا عام في جميع الناس ، روى أبو الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ويل للعالم من الجاهل ، وويل للسلطان من الرعية ، ( وويل للرعية من السلطان ) ، وويل للمالك من المملوك ، وويل للشديد من الضعيف ، وللضعيف من الشديد بعضهم لبعض فتنة " وقرأ هذه الآية . وروي عن ابن عباس والحسن هذا في أصحاب البلاء والعافية ( هذا يقول لِمَ لَمْ أجعل مثله ) في الخلق ، والخلق ، وفي العقل ، وفي العلم ، وفي الرزق ، وفي الأجل . وقيل : هذا احتجاج عليهم في تخصيص محمد بالرسالة مع مساواته لهم في البشريّة وصفاتها ، فالمرسلون يتأذون من المرسل إليهم بأنواع الأذى على ما قال : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ أَذًى كَثِيراً } [ آل عمران : 186 ] ، والمرسل إليهم يتأذون أيضاً ( من الرسل ) بحسب الحسد ، وصيرورته مكلفاً بالخدمة وبذل النفس والمال بعد أن كان رئيساً مخدوماً . والأولى حمل الآية على الكل ، لأن بين الجميع قدراً مشتركاً . قال عليه السلام : " إذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ في المَالِ والجَسدِ فَلْيَنْظُرْ إلَى مَنْ دُونَهُ في المالِ والجَسَدِ " . قوله : { أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } . " أَتَصْبِرُونَ " المعادل محذوف ، أي : أم لا تصبرون وهذه الجملة استفهام ، والمراد منه : التقرير بأن موقعه بعد الفتنة موقع أيّكم بعد الابتلاء في قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ هود : 7 ] بمعنى : أنها معلِّقة لما فيها من معنى فعل القلب ، فتكون منصوبة المحل على إسقاط الخافض والمعنى : " أَتَصْبِرُونَ " على البلاء ، فقد علمتم ما وعد الصابرون ، { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } أي : عالم بمن يصبر ، وبمن لا يصبر فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب وعقاب .