Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 25, Ayat: 4-9)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ } الآية . لما تكلم أولاً في التوحيد وثانياً في الرد على عبدة الأوثان ، تكلم ههنا في مسألة النبوة ، وحكى شبه الكفار في إنكار نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - . فالشبهة الأولى : قوله : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } . قال الكلبي ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث هو الذي قال هذا القول { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } يعني : عامر مولى حويطب بن عبد العزى ، ويسار غلام عامر بن الحضرمي ، وجبير مولى عامر ، هؤلاء الثلاثة كانوا من أهل الكتاب ، وكانوا يقرؤون التوراة ، فلما أسلموا ، وكان النبي يتعهدهم ، فمن أجل ذلك قال النضر ما قال . وقال الحسن : عبيد بن الحصر الحبشيّ الكاهن . وقيل : جبر ويسار وعداس عبيد كانوا بمكة من أهل الكتاب ، فزعم المشركون أن محمداً يأخذ منهم . قوله : " افتراه " الهاء تعود على " إفك " وقال أبو البقاء : الهاء تعود على " عبده " في أول السورة . قال شهاب الدين : ولا أظنه إلا غلطاً وكأنه أراد أن يقول الضمير المرفوع في " افتراه " فغلط . قوله " ظلماً " فيه أوجه : أحدها : أنه مفعول به ، لأن جاء يتعدى بنفسه ( وكذلك أتى ) . والثاني : أنه على إسقاط الخافض ، أي : جاءوا بظلم . قاله الزجاج . الثالث : أنه في موضع الحال ، فيجيء فيه ما في قولك : جاء زيد عدلاً . قال الزمخشري : { فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً } أي : أتوا ظلماً وكذباً كقوله : { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } [ مريم : 89 ] فانتصب بوقوع المجيء . أما كونه " ظلماً " فلأنهم نسبوا هذا الفعل القبيح إلى من كان مبرأ عنه ، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه ، وذلك هو الظلم . وأما كونه " زوراً " فلأنهم كذبوا ، قال أبو مسلم : الظلم تكذيبهم الرسول . الشبهة الثانية : قوله تعالى : { وَقَالُوۤاْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ . ٱكْتَتَبَهَا } الآية . يجوز في " اكْتَتَبَهَا " ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون حالاً من " أساطير " ، والعامل فيها معنى التنبيه أو الإشارة المقدرة ، فإن " أَسَاطِير " خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هذه أساطير الأولين مكتتبة . الثاني : أن يكون في موضع خبر ثان لـ " هذه " . الثالث : أن يكون " أساطير " مبتدأ و " اكْتَتَبَها " خبره . و " اكْتَتَبَها " الافتعال هنا يجوز أن يكون بمعنى : أمر بكتابتها كافتصد واحتجم إذا أمر بذلك ويجوز أن يكون بمعنى كتبها ، وهو من جملة افترائهم عليه ، لأنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ، ويكون كقولهم : ( استكبه واصطبه ، أي : سكبه وصبه ) ، والافتعال مشعر بالتكليف . ويجوز أن يكون من كتب بمعنى جمع من الكتب ، وهو الجمع لا من الكتابة بالقلم . وقرأ طلحة " اكتُتِبهَا " مبنياً للمفعول . قال الزمخشري : والمعنى : اكتتبها له كاتب ، لأنه كان أمياً لا يكتب بيده ، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير ، فصار اكتُتِبها إياه كاتب ، كقوله : { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] ، ثم بنى الفعل للضمير الذي هُوَ إيَّاه فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان منصوباً بارزاً ، وبقي ضمير الأساطير على حاله ، فصار " اكتُتِبَها " كما ترى . قال أبو حيان : ولا يصح ذلك على مذهب جمهور البصريين ، لأن " اكتَتَبها " له كاتب ، وصل الفعل فيه المفعولين : أحدهما : مسرح ، وهو ضمير الأساطير والآخر مقيّد ، وهو ضميره عليه السلام - ثم اتسع في الفعل ، فحذف حرف الجر ، فصار " اكْتَتَبَها إياه كاتبٌ " ، فإذا بني هذا للمفعول إنما ينوب عن الفاعل المفعول المسرح لفظاً وتقديراً ، لا المسرح لفظاً المقيد تقديراً ، فعلى هذا كان يكون التركيب ( اكتَتَبه ) لا ( اكتَتَبها ) ، وعلى هذا الذي قلناه جاء السماع ، قال الفرزدق : @ 3861 - ومنَّا الَّذِي اختير الرجال سماحةً وجوداً إذا هبَّ الرياحُ الزّعازعُ @@ ولو جاء على ما قدره الزمخشري لجاء التركيب : ومنَّا الذي اختيره الرجال . لأن ( اختير ) تعدى إلى الرجال بإسقاط حرف الجر ؛ إذ تقديره : اختير من الرجال . وهو اعتراض حسن بالنسبة إلى مذهب الجمهور ، ولكن الزمخشري قد لا يلتزمه ، ويوافق الأخفش والكوفيين ، وإذا كان الأخفش وهم يتركون المسرح لفظاً وتقديراً ، ويقيمون المجرور بالحرف مع وجوده ، فهذا أولى . والظاهر أن الجملة من قوله { اكتتبها فهي تملى } من تتمة قول الكفار . وعن الحسن أنها من كلام الباري تعالى ، وكان حق الكلام على هذا أن يقرأ " أَكْتَتَبَها " بهمزة مقطوعة مفتوحة للاستفهام كقوله : { أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ } [ سبأ : 8 ] . ويمكن أن يعتذر عنه أنه حذف الهمزة للعلم بها كقوله تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } [ الشعراء : 22 ] . وقول الآخر : @ 3862 - أفْرَحُ أَنْ أُرزأَ الكرام وأن أُورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبلاَ @@ يريد : أو تلك ، أو أأفرح ، فحذف لدلالة الحال ، وحقه أن يقف على " الأولين " قال الزمخشري : كيف قيل : { اكتَتَبها فهي تملى عليه } وإنما يقال : أمليت عليه فهو يكتبها . قلت فيه وجهان : أحدهما : أراد اكتِتَابها وطلبه ، فهي تملى عليه ، أو كتبت له ، وهو أمر فهي تملى عليه ، أي : تلقى عليه من كتاب يتحفظها ، لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب . وقرأ عيسى وطلحة " تُتْلَى " بتاءين من [ فوق من التلاوة . و " بُكْرَةً وأَصِيلاً " ظرفا زمان للإملاء ، والياء في " تُمْلَى " بدل من ] اللام ، كقوله : { فَلْيُمْلِلِ } [ البقرة : 282 ] وقد تقدم . فصل المعنى : أن هذا القرآن ليس من الله ، إنما هو مما سطره الأولون كأحاديث رستم واسفنديار ، جمع أسطار وأسطورة كأحدوثة استنسخها محمد من أهل الكتاب { فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ } أي : تقرأ عليه ليحفظها لا ليكتبها " بُكْرَةً وأَصِيلاً " غدوة وعشيًّا . قوله : { قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ } الآية . وهذا جواب عن شبههم ، وذلك أنه - عليه السلام - تحداهم بالمعارضة وأظهر عجزهم عنها ، ولو كان عليه السلام أتى بالقرآن من عند نفسه ، أو استعان بأحد لكان من الواجب عليهم أيضاً أن يستعينوا بأحد ، فيأتوا بمثل هذا القرآن ، فلما عجزوا عنه ثبت أنه وحي الله وكلامه ، فلهذا قال : " قُلْ أَنْزَلَهُ " يعني : القرآن { ٱلَّذِي يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ } أي : الغيب { فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } ؛ لأن القادر على تركيب ألفاظ القرآن لا بد وأن يكون عالماً بكل المعلومات ظاهرها وخفيها ، { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] ثم قال : { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } ، فذكر الغفور في هذا الموضع لوجهين : أحدهما : قال أبو مسلم : إنه لما أنزله لأجل الإنذار وجب أن يكون غفوراً رحيماً ، غير مستعجل بالعقوبة . الثاني : أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العقاب صبًّا ، ولكن صرف عنهم كونه غفوراً رحيماً ، يمهل ولا يعاجل . الشبهة الثالثة : قوله تعالى : { وَقَالُواْ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ } . الآية . " ما " استفهامية مبتدأة ، والجار بعدها خبر ، و " يأكل " جملة حالية ، وبها تتم فائدة الإخبار ، كقوله : { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] وقد تقدم في النساء أن لام الجر كتبت مفصولة من مجرورها ، وهو خارج عن قياس الخط . والعامل في الحال الاستقرار العامل في الجر ، أو نفس الجر ذكره أبو البقاء . قوله : " فَيَكُونَ " . العامة على نصبه ، وفيه وجهان : أحدهما : نصبه على جواب التحضيض . والثاني : قال أبو البقاء : " فَيَكُونَ " منصوب على جواب الاستفهام . وفيه نظر ، لأن ما بعد الفاء لا يترتب على هذا الاستفهام ، وشرط النصب أن ينعقد منهما شرط وجزاء . وقرئ " فَيَكُونُ " بالرفع وهو معطوف على " أُنْزِلَ " ، وجاز عطفه على الماضي ؛ لأن المراد بالماضي المستقبل إذ التقدير : لولا ينزل . قوله : " أَوْ يُلقَى … أَوْ تَكُون " معطوفان على " أنزل " لما تقدم من كونه بمعنى ينزل ، ولا يجوز أن يُعطفا على " فَيَكُون " المنصوب في الجواب ؛ لأنهما مندرجان في التحضيض في حكم الواقع بعد " لولا " ، وليس المعنى على أنهما جواب للتحضيض ، فَيُعْطَفا على جوابه . وقرأ الأعمش وقتادة { أَوْ يَكُونُ لَهُ } بالياء من تحت ؛ لأن تأنيث الجنة مجازي . قوله : " يَأْكُلُ مِنْهَا " الجملة في موضع الرفع صفة لـ " جَنّة " . وقرأ الأخوان " نَأْكُلُ " بنون الجمع ، والباقون بالياء من تحت أي : الرسول . قوله : " وَقَالَ الظَّالِمُون " وضع الظاهر موضع المضمر ؛ إذ الأصل " وَقَالُوا " . قال الزمخشري : وأراد بالظالمين إياهم بأعيانهم . قال أبو حيان : وقوله ليس تركيباً سائغاً بل التركيب العربي أن يقول أرادهم بأعيانهم . فصل وهذه الشبهة التي ذكروها في نهاية الرذالة ، فقالوا : { مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ } يلتمس المعاش كما نلتمس فمن أين له الفضل علينا ؟ وكيف يمتاز عنّا بالنبوة ، وهو مثلنا في هذه الأمور . وقالوا : { لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ } هلاّ أنزل إليه ملك { فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } يصدقه ويشهد له ، ويرد على من خالفه . { أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ } من السماء ، فينفعه ولا يحتاج إلى تردد لطلب المعاش ، وكانوا يقولون له : لستَ أنتَ بملك ، لأنك تأكل والملك لا يأكل ، ولست بملك ؛ لأن الملك لا يتسوق ، وأنت تتسوق وتتبذل . وما قالوه فاسد ؛ لأن أكله الطعام لكونه آدمياً ، ومشيه في الأسواق لتواضعه ، وكان ذلك صفة له . وقالوا : { أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } ، والمعنى : إن لم يكن له كنز فلا أقلّ أن يكون كواحد من الدهاقين ، فيكون له بستان يأكل منه { وَقَالَ ٱلظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } مخدوعاً ، وقيل : مصروفاً عن الحق . وتقدمت هذه القصة في آخرِ بني إسرائيل . ثم أجابهم الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله : { ٱنظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ } يعني الأشباه فضلوا عن الحق { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } إلى الهدى ومخرجاً عن الضلالة . وبيان وجه الجواب كأنه تعالى قال : انظر كيف اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي لا فائدة فيها : لأجل أنهم لما ضلوا وأرادوا القدح في نبوَّتِك لم يجدوا إلى القدح فيه سبيلاً البتّة ، إذ الطعن عليه إنما يكون بما يقدح في المعجزات التي ادعاها لا بهذا الجنس من القول .