Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 26, Ayat: 23-31)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } إنما أتى بـ " مَا " دون " مَنْ " لأنها يسأل بها عن طلب الماهية ، كقولك : ما العنقاء ؟ ولما كان جواب هذا السؤال لا يمكن عدل موسى - عليه السلام - إلى جواب ممكن ، فأجاب بصفاته تعالى ، وخصَّ تلك الصفات لأنه لا يشاركه فيها أحد ، وفيه إبطال لدعواه أنه إله . وقيل : جهل السؤال فأتى بـ " ما " دون " مَنْ " . وليس بشيء . وقيل : إنما سأل عن الصفات , ذكره أبو البقاء . وليس بشيء ، لأن أهل البيان نَصُّوا على أنها يطلب بها الماهيات ، وقد جاء بـ " من " في قوله : { فَمَن رَّبُّكُمَا يٰمُوسَىٰ } [ طه : 49 ] . فصل اعلم أن فرعون لم يقل : { وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } إلا وقد دعاه موسى إلى طاعة رب العالمين ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 16 ] فلا بد من أنهما قالا ذلك حين دخلا عليه ، فعند ذلك قال فرعون : { وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } يقول : أيّ شيء رب العالمين الذي تزعم أنك رسوله إليّ يستوصفه إلاهه الذي أرسل إليه ؟ وهو سؤال عن جنس الشيء ، والله منزَّه عن الجنسية . فأجابه موسى - عليه السلام - بذكر أفعاله التي يعجز الخلق عن الإتيان بمثلها ، فقال : { رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } أنه خلقها . قال أهل المعاني : كما توقنون هذه الأشياء التي تعاينوها ، فأيقنوا أن إله الخلق هو الله عزَّ وجل . قوله : " وَمَا بَيْنَهُمَا " عاد ضمير التثنية على جمعين اعتباراً بالجنسين ، كما فعل ذلك في قوله : @ 3901 - بَيْـنَ رماحَـيْ مَالِـكٍ وَنَهْشَـلٍ @@ ولمّا ذكر موسى - عليه السلام - هذا الجواب الحق تحير فرعون في جواب موسى ، فقال لمن حوله من أشراف قومه - قال ابن عباس : كانوا خمسمائة - : " ألا تَسْتَمِعُونَ " على سبيل التعجب من جواب موسى ، يعني : أنا أطلب منه الماهية وهو يجيبني بالفاعلية . وقيل : استبعد جواب موسى وقال " أَلاَ تَسْتَمِعُونَ " لأنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم ملوكهم ، فزادهم موسى بياناً فقال : { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } فعدل عن التعريف بخالقية السموات والأرض إلى التعريف بكونه تعالى خالقاً لنا ولآبائنا ، وذلك لأنه يمكن أن يعتقد أن السموات والأرضين واجبة لذواتها ، فهي غنية عن الخالق ، ولا يمكن أن يعتقد في نفسه وفي آبائه وأجداده [ كونهم واجبين لذواتهم ، لأن المشاهدة دلَّت على أنهم وجدوا ] بعد العدم ، وعدموا بعد الوجود ، وما كان كذلك استحال أن يكون واجباً لذاته ، واستحال وجوده إلا بالمؤثر ، فكان التعريف بهذا الأثر أظهر ، فلهذا عدل موسى - عليه السلام - إليه فقال فرعون : { إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } يعني : أن المقصود من سؤالنا طلب الماهية والحقيقة ، والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد البتة تلك الخصوصية فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه ، فقال موسى - عليه السلام - : { رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني ، وذلك أنه أراد بـ " المَشْرِق " طلوع الشمس وظهور النهار ، وأراد بـ " المَغْرِب " : غروب الشمس وزوالها ، والأمر ظاهر ؛ لأن التدبير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر ، وهذا بعينه طريقة إبراهيم - عليه السلام - مع نمروذ ، فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة ، وهو الذي ذكره إبراهيم - عليه السلام - بقوله : { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } فأجابه نمروذ : { أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] فقال : { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ } [ البقرة : 258 ] وهو الذي ذكره موسى - عليه السلام - بقوله : { رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } . وأما قوله { إِنْ كَنْتُم تَعْقِلُونَ } فكأنه - عليه السلام - قال : إن كنت من العقلاء عرفت أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت ، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته ، ولا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ، ولا بأجزاء حقيقته ، فلم يبق إلا أن أُعرِّف حقيقته بآثار حقيقته ، وقد عرّفت حقيقته ، فمن كان عاقلاً يقطع بأنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرته . واعلم أن حقيقته غير معقولة للبشر ، فيستحيل من موسى - عليه السلام - أن يذكر ما تعرف ( به تلك ) الحقيقة ، إلا أن عدم العلم بتلك الخصوصية لا يقدح في صحة الرسالة ، فلما انقطع فرعون عن الجواب ولزمته الحجة تكبر عن الحق ، وعدل إلى التخويف ، وقال : { لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ } : المحبوسين . قال الكلبي : كان سجنه أشد من القتل ، لأنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في مكان وحده فرداً لا يسمع ولا يبصر فيه شيئاً يهوي به في الأرض . وقال : { لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ } ولم يقل : " لأَسْجُنَنَّكَ " وهو أخص منه ؛ لأن فيه مبالغة ليست في ذاك ، أو معناه : لأجعلنك ممن عرفت حاله في سجوني فعند ذلك ذكر موسى كلاماً مجملاً ليعلق قبله به فيعدل عن وعيده ، فقال { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } أي : هل يحسن أن يذكر هذا مع اقتداري على أن آتيك بدليلين يدلان على وجوه الله ، وعلى أنِّي رسوله . فعند ذلك قال : { فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } وإنما قال موسى ذلك لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف والإجابة إلى الحق بعد البيان فقال فرعون : " فَأْتِ بِهِ " فإنا لن نسجنك حينئذ { إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } فإن قيل : كيف قطع الكلام بما لا تعلق له بالأول ، وهو قوله : { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } أي : بآيةٍ بيِّنة ، والمعجز لا يدل على الله لدلالة سائر ما تقدم ؟ فالجواب : بل يدل على ما أراد أن يظهره من انقلاب العَصَا حَيَّةً على الله ، وعلى توحيده ، وعلى أنه صادق في ادعاء الرسالة ، فالذي ختم به كلامه أقوى من كل ما تقدم . والواو في قوله : { أَوَلَوْ جِئْتُكَ } واو الحال ، دخلت عليها همزة الاستفهام ، والمعنى : أتفعل بي ذلك ولو جئتُكَ بشيء مبين ؟ أي : جائياً بالمعجزة وقال الحوفي : " هي واو العطف " . وتقدم تحرير هذا عند قوله : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } [ 170 ] في البقرة ، وغالب الجمل هنا تقدم إعرابها .