Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 26, Ayat: 52-62)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِيۤ } . قرىء " أَسْرِ " بقطع الهمزة ووصلها . لما ظهر من أمر موسى - عليه السلام - ما شاهدوه أمره الله أن يخرج ببني إسرائيل ، لما كان في المعلوم من تدبير الله وتخليصه من القوم وتمليكه بلادهم وأموالهم ، ولم يأمن . وقد جرت تلك الغلبة الظاهرة أن يقع في فرعون ببني إسرائيل ما يؤدي إلى الاستئصال ، فلذلك أمره الله تعالى أن يسري ببني إسرائيل ، وهم الذين آمنوا ، وكانوا من قوم موسى - عليه السلام - . واعلم أن في الكلام حذفاً ، وهو أنه أسرى بهم كما امره الله تعالى ، ثم إن قوم موسى قالوا لقوم فرعون : " إن لنا في هذه الليلة عيداً " ، ثم استعاروا منهم حليهم بهذا السبب ، ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر ، فلما سمع فرعون ذلك أرسل في المدائن حاشرين يحشرون الناس ، يعني الشُّرط ليجمعوا السحرة . وقيل : ليجمعوا له الجيش روي أنه كان له ألف مدينة واثنا عشر ألف قرية . و " حَاشِرِينَ " مفعول " أَرْسَلَ " ثم إنه قوى نفسه ونفس قومه بأن وصف قوم موسى بالذم ، ووصف قوم نفسه بالمدح ، أما وصفه قوم موسى - عليه السلام - بالذم ، فقال : { إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ لَشِرْذِمَةٌ } [ معمول لقول مضمر ] أي : قال : إنَّ هؤلاء ، وهذا القول يجوز أن يكون حالاً ، أي : أرسلهم قائلاً ذلك ، ويجوز أن يكون مفسراً لـ " أَرْسَلَ " . والشِّرْذِمَةُ : الطائفة من الناس وقيل : كل بقية من شيء خسيس يقال لها : شرذمة . ويقال : ثوب شراذم ، أي : أخلاق ، قال : @ 3903 - جَـاءَ الشِّتَـاءُ وَقَمِيصِـي أَخْـلاقْ شَـرَاذِمُ تَضْحَـكُ مِنْـهُ الخُـلاقْ @@ وأنشد أبو عبيدة : @ 3904 - فـي شـراذم النـعـال @@ وجمع الشرذمة : شراذم ، فذكرهم بالاسم الدال على القلة ، ثم جعلهم قليلاً بالوصف ، ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلاً ، واختار جمع السلامة الذي هو جمع القلة . ويجوز أن يريد بالقلة : الذلة ، لا قلة العدو ، أي : إنهم لقلتهم لا يبالى بهم . قال ابن عباس : كان الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف مقاتل لا شاب فيهم دون عشرين سنة ، ولا شيخ يوفي على الستين سوى الحشم ، وفرعون يقللهم لكثرة من معه . وهذا الوصف قد استعمل في الكثير عند الإضافة إلى ما هو أكثر منه ، فروي أن فرعون خرج على فرس أدهم حصان وفي عسكره على لون فرسه ثمانمائة ألف . قوله : { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ } . يقال : غَاظَهُ وَأَغَاظَهُ وَغَيَّظَهُ : إذا أغضبه . والغيظ ، الغضب . والمعنى : أنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا . واختلفوا في تلك الأفعال . فقيل : أخذهم الحليّ وغيره . وقيل : خروجهم عن عبوديته . وقيل : خروجهم بغير إذنه ، وقيل : مخالفتهم له في الدين . وقيل : لأنهم لم يتخذوا فرعون إلهاً . وأما وصفه قومه فهو قوله : { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ } . قرأ الكوفيون وابن ذكوان : " حاذرون " بألف . والباقون : " حذرون " بدونها . فقال أبو عبيدة والزجاج : هما بمعنى واحد ، يقال : رجل حذر وحاذر بمعنى . وقيل : بل بينهما فرق ، فالحذر : المتيقظ . والحاذر : الخائف . وقيل : الحذر : المخلوق مجبولاً على الحذر . والحاذر : ما عرض له ذلك . وقيل : الحذر : المتسلح الذي له شوكة سلاح ، وأنشد سيبويه في إعمال " حَذِر " على أنه مثال مبالغة محول من حاذر قوله : @ 3905 - حَـذِرٌ أُمُـوراً لاَ تَضِيـرُ وَآمِـنٌ مَـا لَيْـسَ مُنْجِيـهِ مِـنَ الأَقْـدَارِ @@ وزعم بعضهم أن سيبويه لمَّا سأله : هل يحفظ شيئاً في إعمال " فَعِل " ؟ صنع له هذا البيت ، فعيب على سيبويه : كيف يأخذ الشواهد الموضوعة ؟ وهذا غلط ، فإن هذا الشخص قد أقر على نفسه بالكذب ، فلا يقدح قوله في سيبويه . والذي ادعى انه صنع البيت هو الأخفش . و " حَذِر " يتعدى بنفسه ، قال تعالى : { يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ } [ الزمر : 9 ] ، وقال العباس بن مرداس : @ 3906 - وَإِنِّـي حَـاذِرٌ أَنْمِـي سِـلاَحِـي إلَـى أَوْصَـالِ ذَيَّالٍ مَنِيـعِ @@ وقرأ ابن السميفع وابن أبي عمار : " حَادِرُونَ " بالدال المهملة من قولهم عين حدرة ، أي : عظيمة ، كقولهم : @ 3907 - وَعَيْـنٌ لَهَـا حَـدْرَةٌ بَـدْرَةٌ @@ والمعنى : عظيماً . وقيل : الحادر : القوي الممتلىء ، وحكي : رجل حادر ، أي : ممتلىء غيظاً ، ورجل حادر ، أي : أحمق ، كأنه ممتلىء من الحمق قال : @ 3908 - أُحِـبُّ الغُـلاَمَ السُّـوءَ مِـنْ أَجْـلِ أُمِّـه وَأَبْغَضُـهُ مِـنْ بُغْضِهَـا وَهْـوَ حَادِرُ @@ ويقال أيضاً رجل [ حَدُرٌ بزنة يقظ مبالغة في ( حادر ) من هذا المعنى ، فصار يقال ] حَذِر وحَذُر وحَاذِرِ بالذال المعجمة والمهملة والمعنى مختلف . واعلم أن الصفة إذا كانت جارية على الفعل وهو اسم الفاعل واسم المفعول كالضارب والمضروب أفادت الحدوث . وإذا لم تكن كذلك وهي المشبهة [ أفادت الثبوت . فمن قرأ " حَذِرُونَ " ] ذهب إلى معنى أنا قوم من عادتنا الحذر واستعمال الحزم ومن قرأ : " حَاذِرُون " ذهب إلى معنى : إنا قوم ما عهدنا أن نحذر إلا عصرنا هذا . ومن قرأ : " حَادِرُون " بالدال المهملة ، فكأنه ذهب إلى نفي أصلاً ، لأن الحادر هو السمين ، فأراد : إنا قوم أقوياء أشداء ، أو أراد : إنا شاكون في السلاح . والغرض من هذه التقادير ألا يتوهم أهل المدائن أنه منكسر من قوم موسى ، أو خائف منهم . قوله : " فَأَخْرَجْنَاهُمْ " . أي : خلقنا في قلوبهم داعية الخروج ، فاستلزمت الداعية الفعل ، فكان الفعل مضافاً إلى الله تعالى لا محالة . وقوله : { مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ } أي : أخرجناهم من بساتينهم التي فيها عيون الماء وكنوز الذهب والفضة . قال مجاهد : سماها كنوزاً ، لأنه لم يعط حق الله منها ، وما لم يعط الله منه فهو كنز وإن كان ظاهراً . قوله : " وَمَقَامٍ " . قرأ العامة بفتح الميم ، وهو مكان القيام . وقتادة والأعرج بضمها وهو مكان الإقامة . والمراد بـ " الكَرِيم " : الحسن . قال المفسرون : هي مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت تحفها الأتباع . وقيل : المواضع التي كانوا [ يتنعمون فيها ] . قوله : " كَذَلِكَ " . فيه ثلاثة أوجه : قال الزمخشري : يحتمل ثلاثة أوجه : النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه والجر على أنه وصف لـ " مَقَام " أي : ومقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم ، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : الأمر كذلك . قال أبو حيان : فالوجه الأول لا يسوغ ، لأنه يؤول إلى تشبيه الشيء بنفسه ، وكذلك الوجه الثاني ؛ لأن المقام الذي كان لهم هو المقام الكريم ، فلا يشبه الشيء بنفسه . قال شهاب الدين : وليس في ذلك تشبيه الشيء بنفسه ؛ لأن المراد في الأول : أخرجناهم إخراجاً مثل الإخراج المعروف المشهور ، وكذلك الثاني . قوله : " وَأَوْرَثْنَاها " عطف على " فَأَخْرَجْنَاهُمْ " أي : وأورثناها بهلاكهم بني إسرائيل وذلك أن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعدما أغرق فرعون وقومه وأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والمساكن . قوله : " فَأَتْبَعُوهُمْ " . قرأ العامة بقطع الهمزة من " أَتْبعه " أي : ألحقه نفسه ، فحذف الثاني . وقيل : يقال : أَتْبعه بمعنى " اتبعه " بوصل الهمزة ، أي : لحقه . وقرأ الحسن والحارث الذَّمَّارِيّ بوصلها وتشديد التاء ، وهي بمعنى اللحاق . وقوله : " مُشْرِقِينَ " أي : داخلين في وقت الشروق من : شَرَقت الشمس شروقاً : إذا طلعت كـ " أصبح ، وأمسى " : إذا دخل في هذين الوقتين . وقيل : داخلين نحو المشرق كـ " أَنْجَد ، وأَتْهَم " . و " مُشْرِقِين " منصوب على الحال ، والظاهر أنه من الفاعل . وقيل : " مُشْرِقِين " بمعنى : مضيئين . وفي التفسير : أنّ بني إسرائيل كانوا في نور ، والقبط في ظلمة ، فعلى هذا يكون " مُشْرِقِين " حالاً من المفعول . قال شهاب الدين : وعندي أنه يجوز أن يكون حالاً من الفاعل والمفعول إذا جعلنا " مُشْرِقِين " : داخلين في وقت الشروق ، أو في مكان المشرق ، لأن كلاً من القبيلين كان داخلاً في ذلك الزمان ، أو في ذلك المكان . قوله : { فَلَمَّا تَرَاءَى ٱلْجَمْعَانِ } أي : تقابلا ورأى بعضهم بعضاً . قرأ العامة : " تَرَاءَى " بتحقيق الهمزة . وابن وثاب والأعمش من غير همز ، بأن تكون الهمزة مخففة بين بين ، لا بالإبدال المحض ، لئلا يجتمع ثلاث ألفات ، الأولى الزائدة بعد الراء ، والثانية المبدلة من الهمزة ، والثالثة لام الكلمة ، لكن الثالثة لا تثبت وصلاً لحذفها لالتقاء الساكنين ، ثم اختلف القراء في إمالة هذا الحرف فنقول : هذا الحرف إما أن يوقف عليه أو لا ، فإن وقف عليه فحمزة يميل ألفه الأخيرة ؛ لأنها طرف منقبلة عن ياء . ومن ضرورة إمالتها إمالة فتحة الهمزة المسهلة ، لأنه إذا وقف على مثل هذه سهلها على مقتضى مذهب ، وأمال الألف الأولى إتباعاً لإمالة فتحة الهمزة . ومن ضرورة إمالتها إمالة فتحة الراء قبلها ، وهذا هو الإمالة لإمالة . وغيره من القراء لا يميل شيئاً من ذلك . وقياس مذهب الكسائي أن يميل الألف الأخيرة ، وفتحة الهمزة قبلها ، وكذا نقله ابن الباذش عنه وعن حمزة . وإن وصل فإن الألف الأخيرة تذهب لالتقاء الساكنين ، ولذهابها تذهب إمالة فتحة الهمزة ، وتبقى إمالة الألف الزائدة ، وإمالة فتحة الراء قبلها عنده اعتداداً بالألف المحذوفة ، وعند ذلك يقال : حذف السبب وبقي المسبب ؛ لأن إمالة الألف الأولى إنما كان لإمالة الألف الأخيرة [ كما تقدم تقريره ، وقد ذهبت الأخيرة ] فكان ينبغي ألا تمال الأولى لذهاب المقتضي لذلك ، ولكنه راعى المحذوف وجعله في قوة المنطوق ؛ ولذا تجرأ عليه أبو حاتم فقالك وقراءة هذا الحرف بالإمالة محال . وقد تقدم في الأنعام عند " رَأَى القَمَرَ " و " رَأَى الشَّمْسَ " ما يشبه هذا العمل . قوله : " لَمَدْرَكُونَ " . العامة على سكون الدال ، اسم مفعول من " أَدْركَ " أي : لملحقون . وقرأ الأعرج وعبيد بن عمرو بفتح الدال مشددة وكسر الراء . قال الزمخشري : المعنى : متتابعون في الهلاك على أيديهم ، ومنه بيت الحماسة : @ 3909 - أَبَعْـدَ بَنِـي أُمِّـي الَّـذِيـنَ تَتَـابَعُـوا أُرَجِّـي الحَيَـاةَ أَمْ مِـنَ المَـوْتِ أَجْـزَعُ @@ يعني : أن " ادَّرَك " على " افتعل " لازم بمعنى فني واضمحلّ ، يقال : ادَّرَكَ الشيء يدَّرك فهو مدَّرَك ، أي : فني متتابعاً ، ولذلك كسرت الراء . وممن نص على كسرها أبو الفضل الرازي ، قال : " وقد يكون " ادَّرَك " على " افتعل " بمعنى " أفعل " متعدياً ، ولو كانت القراءة من هذا لوجب فتح الراء ولم يبلغني عنهما - يعني : عن الأعرج وعبيد - إلا الكسر " . فصل المعنى { فَلَمَّا تَرَاءَى ٱلْجَمْعَانِ } ، أي : رأى كل فريق صاحبه . وقرىء " فَلَمَّا تَرَاءْتِ الفِئَتَانِ " قال أصحاب موسى : " إنَّا [ لَمُدْرَكُونَ " أي ] لَمُلْحَقُون ، وقالوا : يا موسى { أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا } [ الأعراف : 129 ] كانوا يذبحون أبناءنا ، { وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } [ الأعراف : 129 ] يدركوننا في هذه الساعة فيقتلوننا ، ولا طاقة لنا بهم ، فعند ذلك قال موسى ثقة بوعد الله إياه " كَلاّ " وذلك كالمنع مما توهموه ، أي : لن يدركونا { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } يدلني على طريق النجاة .