Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 26, Ayat: 78-82)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
واعلم أن إبراهيم - عليه السلام - لما استثنى رب العالمين وصفه بما يستحق العبادة لأجله بأوصاف : أحدها : قوله { ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } ، وذلك لأن الله تعالى أثنى على نفسه بهذين الأمرين في قوله : { ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [ الأعلى : 2 - 3 ] . وقال : " خَلَقَنِي " بلفظ الماضي ، لأن خلق الذات لا يتجدد في الدنيا ، بل لما وقع بقي إلى الأمد المعلوم . وقال : " فَهُوَ يَهْدِيْن " بلفظ المستقبل ، لأن الهداية مما تتكرر كل حين وأوان ، سواء كانت تلك الهداية من المنافع الدنياوية بتمييز النافع عن الضار ، أو من المنافع الدينية بتمييز الحق عن الباطل والخير عن الشر . قوله : { وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } . يجوز أن يكون مبتدأ وخبره محذوف وكذلك ما بعده ، ويجوز أن تكون أوصافاً لـ " الَّذِي خَلَقَنِي " ودخول الواو جائز ، وقد تقدم تحقيقه في أول البقرة كقوله : @ 3911 - إلَى المَلِك القَرْمِ وَابنِ الهَمَامِ وَلَيْثِ الكَتِيبَةِ في المُزْدَحَمْ @@ وأثبت ابن أبي إسحاق - وتروى عن عاصم أيضاً - ياء المتكلم في : " يَسْقِينِ ، ويَشْفِينِ ، ويُحْيِينِ " . فصل المعنى : يرزقني ويغذوني بالطعام والشراب ، ونبه بذكر الطعام والشراب على ما عداهما . قوله : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } أضاف المرض إلى نفسه ، وإن كان المَرض والشفاء كله من الله استعمالاً لحُسن الأدب كما قال الخضر : { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } [ الكهف : 79 ] ، وقال : { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا } [ الكهف : 82 ] . وأجاب ابن الخطيب بأجوبة أخر ، منها : أن أكثر أسباب المرض تحدث بتفريط الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك ، ومن ثم قال الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى : ما سبب آجالكم ؟ لقالوا : التخَم . ومنها : أن الشفاء محبوب ، وهو من أصول النعم ، والمرض مكروه وليس من النعم وكان مقصود إبراهيم - عليه السلام - تعديد النعم ، ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إلى الله ، فإن نقضته بالأمانة فجوابه : أن الموت ليس بضرر ، لأن شرط كونه ضرراً وقوع الإحساس به ، وحال حصول الموت لا يحصل الإحساس به ، إنما الضرر في مقدماته ، وذلك هو عين المرض ، ولأن الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر ، وخلاصتها عنها عين السعادة ( بخلاف المرض ) . قوله : { وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } . والمراد منه : الإماتة في الدنيا والتخلص عن آفاتها ، والمراد من الإحياء : المجازاة ، ولذلك أدخل " ثُمَّ " ههنا للتراخي ، أي يميتني ويحيين في الآخرة . قوله : { وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ ٱلدِّينِ } قرأ العامة : " خَطِيئَتِي " بالإفراد . والحسن : " خَطَايَايَ " جمع تكسير . فإن قيل : لم يقال : " والَّذِي أَطْمَعُ " والطمع عبارة عن الظن والرجاء ، وهو عليه السلام كان قاطعاً بذلك ؟ فالجواب : هذا الكلام يستقيم على مذهب أهل السنة ، حيث قالوا : لا يجب على الله لأحد شيء ، وأن يحسن منه كل شيء ، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله . وأجاب الجبائي عنه من وجهين : الأول : أن قوله : { وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي } أراد به سائر المؤمنين ، لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون به . والثاني : المراد من الطمع : اليقين ، وهو المروي عن الحسن . وأجاب الزمخشري بأنه إنما ذكره على هذا الوجه تعليماً لأمته كيفية الدعاء . قال ابن الخطيب : وهذه وجوه ضعيفة ، أما الأول فإن الله تعالى حكى الثناء أولاً والمدح ثانياً ، ومن أول المدح إلى آخر الدعاء كلام إبراهيم - عليه السلام - فجعل الشيء الواحد وهو كقوله : { وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ ٱلدِّينِ } كلام غيره ممّا يبطل نظم الكلام ويفسده . وأما قوله : إن الطمع هو اليقين ( فهذا ) على خلاف اللغة . وأما الثالث وهو أن المراد تعليم الأمة فباطل أيضاً ، لأن حاصله يرجع إلى أنه كذب على نفسه لغرض تعليم الأمة ، وإنه باطل أيضاً . فإن قيل : لم أسند إلى نفسه الخطيئة مع أن الأنبياء منزهون عن الخطايا ؟ فالجواب من وجوه : أحدها : قال مجاهد : هي قوله : { إِنِّي سَقِيمٌ } [ الصافات : 89 ] وقوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } [ الأنبياء : 63 ] وقوله لسارة : " هذه أختي " وزاد الحسن قوله للكوكب : { هَـٰذَا رَبِّي } [ الأنعام : 76 ] . قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف ، لأن نسبة الكذب إليه غير جائز . وثانيها : أنه ذكره على سبيل التواضع وهضم النفس . قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف ، لأنه إن كان صادقاً في هذا التواضع فقد لزم الإشكال ، وإن كان كاذباً فحينئذ يرجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به ، وهو منزه عن المعصية . وقال : وثالثها ، وهو الجواب الصحيح : أن يحمل ذلك على ترك الأولى ، وقد يسمى ذلك خطأ ، فإن من ملك جوهرة أمكنه أن يبيعها بألف ألف دينار ، فباعها بدينار ، وقيل : إنه أخطأ ، وترك الأولى على الأنبياء جائز . فإن قيل : ما فائدة قوله : " يَغْفِرَ لِي " ؟ فالجواب من وجوه : الأول : أن الأب إذا عفا عن ولده ، والسيد عن عبده ، والزوج عن زوجته فإنما يكون ذلك طلباً للثواب ، أو لحسن الثناء والمحمدة ، أو دفعاً للألم الحاصل من الرقة الجنسية ، وإذا كان كذلك لم يكن عفوه إلا رعاية جانب نفسه ، إما لتحصيل ما ينبغي ، أو لدفع ما لا ينبغي ، وأما الإله سبحانه فإنه كامل بذاته فيستحيل أن تحدث له صفات كمال لم تكن ، أو يزول عنه نقصان كان ، وإذا كان كذلك لم يكن عفوه إلا رعاية لجانب المعفو عنه . فقوله : " يَغْفِر لِي " معناه : أن غفرانه لي ولأجلي ، لا لأجل أمر عائد إليه ألبتة . وثانيها : كأنه قال : خلقتني لا لي ، فإنك حين خلقتني لم أكن موجوداً ، فإذا عفوت كان ذلك العفو لأجلي ، فلما خلقتني أولاً مع أني ما كنت محتاجاً إلى ذلك الخلق ، فلأن تغفر لي وتعفو عني حال ما أكون في أشد الحاجة إلى العفو والمغفرة كان أولى . وثالثها : أن إبراهيم - عليه السلام - كان مع شدة استغراقه في المعرفة شديد الفرار عن الوسائط ، ولذلك لما قال له جبريل : " ألك حاجة ؟ " قال : " أما إليك فلا " فهاهنا قال : { أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي } أي : بمجرد عبوديتي واحتياجي إليك تغفر لي خطيئتي ، لا أن تغفرها بواسطة شفاعة شافع ، فإن قيل : لم علق غفران الخطيئة بيوم الدين وإنما تغفر في الدنيا ؟ فالجواب : لأن أثرها يظهر يوم الدين ، وهو الآن خفي لا يعلم .