Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 27, Ayat: 6-9)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : " وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى " : ( لقي ) مخفَّفاً يتعدى لواحد ، وبالتضعيف يتعدى لاثنين ، فأقيم أولهما هنا مقام الفاعل ، والثاني " القرآن " ، وقول من قال : إنَّ أصله ( تُلَقَّن ) بالنون تفسير معنى ، فلا يتعلّق به متعلق بأن النون أبدلت حرف عِلَّة . فصل المعنى لتؤتاه وتلقنه من عند أي حكيم وأي عليم ، وهذا معنى مجيئهما منكرتين ، وهذه الآية تمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من القصص كأنه قال على أثر ذلك : خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى ، فإن قيل : الحكمة إما أن تكون نفس العلم ، وإما أن يكون العلم داخلاً فيها ، فبعد ذكر الحكمة لم ذكر العلم ؟ فالجواب : أن الحكمة هي العلم بالأمور العملية فقط ، والعلم أعم منه ؛ لأن العلم قد يكون عملياً وقد يكون نظرياً ، والعلوم النظرية أشرف من العلوم العملية ، فذكر الحكمة على العموم ثم ذكر العليم وهو البالغ في كمال العلم ، وكمال العلم من جهات ثلاثة : وحدتها ، وعموم تعلقها بكل المعلومات ، وبقاؤها مصونة عن كل التغيرات وما حصلت هذه الكمالات الثلاثة إلا في علمه ( سبحانه ) . قوله تعالى : { إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لأَهْلِهِ … } الآيات ، يجوز أن يكون " إذْ " منصوباً بإضمار اذكر ، أو ( يعلم ) مقدر مدلولا عليه بـ " عليم " ، ( أو بـ " عليم " ) وفيه ضعف لتقيد الصفة بهذا الظرف . فصل { إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لأَهْلِهِ } في مسيره من مدين إلى مصر ، قيل : إنه لم يكن مع موسى - عليه السلام - غير امرأته ابنة شعيب - عليه السلام - ، وقد كنى الله عنها بالأهل ، فتبع لك ورود الخطاب بلفظ الجمع ، وهو قوله : { ٱمْكُثُوۤاْ إِنِّيۤ آنَسْتُ } [ طه : 10 ] : أبصرت ناراً ، وذلك أنهما كانا يسيران ليلاً وقد اشتبه الطريق عليهما ، والوقت وقت برد ، وفي مثل هذا الحال تقوى النفس بمشاهدة نار لما يرجى فيها من زوال الحيرة في أمر الطريق ، ومن الانتفاع بالنار للاصطلاء ، فلذلك بشرها فقال : { إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } والخبر : ما يخبر به عن حال الطريق ؛ لأنه كان قد ضله . ثم في الكلام حذف ، وهو أنه لما أبصر النار توجه إليها ، وقال : سآتيكم منها بخبر يعرف به الطريق . قوله : { أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ } قرأ الكوفيون بتنوين " شِهَاب " ، على أن " قَبَس " بدل من " شِهَابٍ " أو صفة له ، لأنه بمعنى مقبوس ، كالقبض والنفض ، والباقون بالإضافة على البيان ، لأنَّ الشِّهاب يكون قبساً وغيره . والشِّهَابُ : الشُّعلة ، والقَبَسُ : القطعة منها يكون في عودٍ وغير عود . و " أو " : على بابها من التنويع ، والطاء في " تَصْطَلُونَ " : يدل من تاء الافتعال ، لأنه من صَلِيَ بالنار . فإن قيل : قال هاهنا : { سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } ، وفي موضع آخر ، { لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } [ القصص : 29 ] وهما كالمتدافعين ، لأن أحدهما تَرَجٍّ والآخر تيقن . فالجواب : قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه : سأفعل كذا ، وسيكون كذا ، مع تجويزه الخيبة . فإن قيل : كيف جاء بسين التسويف ؟ فالجواب : عدة لأهله أنه يأتيهم به ، وإن أبطأ ، أو كانت المسافة بعيدة ، وأدخل " أو " بين الأمرين المقصودين ، يعني الرجاء على أنه إن لم يظفر بهذين المقصودين ، ظفر بأحدهما ، إما هداية الطريق ، وإما اقتباس النار ، ثقة منه بعادة الله تعالى لأنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده . " لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ " تستدفئون من البرد . قوله : " نُودِي " في القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه : أحدها : أنه ضمير موسى ، وهو الظاهر ، وفي " أن " حينئذ ثلاثة أوجه : أحدها : أنها المفسرة ، لتقدم ماهو بمعنى القول . والثاني : أنها الناصبة للمضارع ، ولكن وصلت هنا بالماضي ، وتقدم تحقيق ذلك ، وذلك على إسقاط الخافض ، أي : نودي موسى بأن بورك . الثالث : إنها المخففة ، واسمها ضمير الشأن ، و " بورك " خبرها ، ولم يحتج هنا إلى فاصل ، لأنه دعاء ، وقد تقدم نحوه في النور ، في قوله : { أَنْ غَضِبَ } [ النور : 9 ] - في قراءته فعلاً ماضياً - قال الزمخشري : فإن قلت : هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة ، والتقدير : بأنه بورك ، والضمير ضمير الشأن والقصة ؟ قلت : لا ؛ لأنَّه لا بدَّ من ( قَدْ ) ، فإن قلت : فعلى إضمارها ؟ قلت : لا يصحّ , لأنها علامة ، والعلامة لا تحذف انتهى . فمنع أن تكون مخففة لما ذكر ، وهذا بناء منه على أنَّ " بُورِكَ " خبر لا دعاء ، أما إذا قلنا إنه دعاءكما تقدم في النور فلا حاجة إلى ( الفاصل كما تقدم ، وقد تقدم فيه استشكال ، وهو الطلب أن لا يقع خبراً في هذا الباب ، فكيف وقع هذا خبراً لـ ( أن ) المخففة ، وهو دعاء . الثاني من الأوجة الأول : انَّ القائم مقام ) الفاعل نفس " أَنْ بُورِكَ " على حذف حرف الجرّ ، أي : بأن بورك ، فـ ( أَنْ ) حينئذ إمّا ناصبة في الأصل ، وإمّا مخففة . الثالث : أنه ضمير المصدر المفهوم من الفعل ، أي : نودي النِّداء ، ثم فسِّر بما بعده ومثله { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ } [ يوسف : 35 ] . قوله : { مَنْ فِي النَّارِ } مَنْ قَائمٌ مقام الفاعل لـ " بُورِكَ " ، وبَارَكَ يتعدى بنفسه ، ولذلك بُنِيَ للمفعول ، يقال : بَارَكك اللَّهُ ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ ، وبَارَكَ فِيكَ ، وَبَارَكَ لَكَ ، وقال الشاعر : @ 3930 - فَبُورِكْتَ مَولُوداً وبُورِكْتَ نَاشِئاً وبُورِكْتَ عِنْدَ الشَّيبِ إذْ أَنْتَ أَشْيَبُ @@ وقال عبد الله بن الزبير : @ 3931 - فبُورك في بَنِيكَ وفي بَنِيهِمْ إذا ذُكِرُوا ونَحْنُ لَكَ الفِدَاءُ @@ وقال آخر : @ 3932 - فَبُورِكَ في المَيتِ الغَرِيبِ كَمَا بُورِكَ نبع الرُّمَّانِ والزَّيْتُون @@ فصل والمراد بـ " مَنْ " إما الباري تعالى ، وهو على حذف مضاف ، أي من قدرته وسلطانه في النار ، وقيل المراد به موسى والملائكة ، وكذلك بـ " مَنْ حَوْلَهَا " ، وقيل المراد بـ " مَنْ " غير العقلاء وهو النور والأمكنة التي حولها ، فالأول مروي عن ابن عباس ، وروى مجاهد عنه أنه قال : معناه بوركت النار . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أيضاً ، قال : سمعت أبيّاً يقرأ : { أَنْ بُورِكَتِ النَّارُ وَمَنْ حَوْلَهَا } و " مَنْ " : قد تأتي بمعنى ( ما ) كقوله : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ } [ النور : 45 ] ، و ( مَا ) قد تكون صلة في الكلام ، كقوله : { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ } [ ص : 11 ] ، ومعناه : بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وفيمَنْ حَوْلَهَا وهم الملائكة وموسى عليهم السلام ، وقال الزمخشري : { بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ } : بورك من في مكان النار ومن حولها : مكانها ، ومكانها : هي البقعة التي حصلت فيها ، وهي البقة المذكورة في قوله تعالى : { مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِ ٱلأَيْمَنِ فِي ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ } [ القصص : 30 ] وتدل عليه قراءة أبيّ . قوله : " وَسُبْحَانَ اللَّهِ " فيه أوجه : أحدها : أنه من تتمّة النداء : أي : نودي بالبركة وتنزيه ربِّ العزَّة ، أي : نودي بمجموع الأمرين . الثاني : أنه من كلام الله تعالى مخاطباً لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهو على هذا اعتراض بين أثناء القصة . الثالث : أنّ معناه وبُورِكَ من سَبَّحَ اللَّهَ ، يعني أنه حذف ( مَنْ ) وصلتها ، وأبقى معمول الصلة ، إذ التقدير : بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا ، ومن قال : سُبْحَانَ اللَّهِ و " سُبْحَانَ " في الحقيقة ليس معمولاً لقال ، بل لفعل من لفظه ، وذلك الفعل هو المنصوب بالقول . فصل روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن في قوله : { بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ } يعني : قُدِّس من في النار ، وهو الله ، عنى به نفسه على معنى : أنه نادى موسى منها ، وأسمعه كلامه من جهتها ، كما روي أنه مكتوب في التوراة : " جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلى من جبال فاران " ، فمجيئه من سيناء بعثته موسى منها ، ومن ساعير بعثته المسيح ، ومن جبال فاران بعثته المصطفى منها ، وفاران : مكة . وهل كان ذلك نوره عز وجل ؟ قال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها ، والنار إحدى حجب الله تعال ، كما جاء في الحديث : " حجابُهُ النَّارُ لَوْ كَشَفَهَا لأَحْرَقَتَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ ما انتهى إليه بَصَرُهُ من خلقه " والسبب الذي لأجله بوركت البقعة ، وبورك من فيها وحواليها : حدوث هذا الأمر العظيم فيها ، وهو تكليم موسى وجعله رسولاً ، وإظهار المعجزات عليه ، ولهذا جعل الله أرض الشام موسومة بالبركات في قوله : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } [ الأنبياء : 7 ] وحقت أن تكون كذلك ، فهي مبعث الأنبياء عليهم السلام ومهبط الوحي ، وكفاتهم أحياء وأمواتاً . ولما نزه نفسه ، - وهو المنزه من كل سوء وعيب - تعرف إلى موسى بصفاته في قوله : { يٰمُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } . في اسم " إنَّ " وجهان : أظهرهما أنَّه ضمير الشأن ( " وَأَنَّا اللَّهُ " مبتدأ ) وخبره ، و " العزيز الحَكِيمُ " صفتان لله . والثاني : أنه ضمير راجع إلى دلَّ عليه ما قبله ، يعني : إن مكلِّمك أنا ، و " الله " بيان لـ " أَنَا " ، و " العَزِيزُ الحَكِيمُ " : صفتان للبيان قاله الزمخشري . قال أبو حيان ، وإذا حذف الفاعل وبني الفعل للمفعول فلا يجوز أن يعود الضمير على ذلك المحذوف : إذ قد غيِّر الفعل عن بنائه له وعزم على أن لا يكون محدِّثاً عنه ، فعود الضمير إليه ممَّا ينافي ذلك ؛ إذ يصير معتنًى به . قال شهاب الدين : وفيه نظر ، لأنه قد يلتفت إليه ، وقد تقدم ذلك في البقرة عند قوله : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ } [ البقرة : 178 ] ، ثم قال : { وَأَدَاءٌ إلَيْهِ } [ البقرة : 178 ] ، قيل : إلا الذي عفي له وهو وليُّ الدم ما تقدم تحريره ولئن سلِّم ذلك ، فالزمخشري لم يقل إنه عائد على ذلك الفاعل ، إنما قال : راجع إلى ما دل عليه ما قبله يعني من ( السِّياق ) . وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون ضمير ربِّ : أي : إن الرب أنا الله ، فيكون " أنَا " فصلاً أو توكيداً أو خبر إن ، والله بدل منه . وقيل : الهاء في قوله " إنَّهُ " عماد ، وليست كناية ، فإن قيل : هذا النداء قد يجوز أن يكون من عند غير الله ، فكيف علم موسى أنه من الله ؟ فالجواب : لأهل السنة فيه طريقان : الأول : أنه سمع الكلام المنزه عن مشابهة كلام المخلوقين ، فعلم بالضرورة أنه صفة الله . الثاني : قول أئمة ما وراء النهر ، وهو أنه - عليه السلام - سمع الصوت من الشجرة ، فنقول : إنما عرف أن ذلك من الله تعالى لأمور : أحدها : أن النداء إذا حصل في النار أو الشجرة ، علم أنه من قبل الله تعالى : لأن أحداً منا لا يقدر عليه ، وهذا ضعيف ، لاحتمال أن الشيطان دخل في النار والشجرة ، ثم نادى . والثاني : يجوز في نفس النداء أن يكون قد بلغ في العظم مبلغاً لا يكون إلا معجزاً ، وهو أيضاً ضعيف ، لأنا لا نعرف مقادير قوى الملائكة والشياطين ، فلا قدر إلا ويجوز صدوره منهم . وثالثها : أنه قد يقترن به معجز دل على ذلك ، وقيل : إن النار كانت مشتعلة في شجرة خضراء لم تحترق ، فصار ذلك كالمعجزة وهذا أيضاً في غاية الضعف والبعد ، لأنه كيف تنادي النار أو الشجرة ، وتقول : يا موسى إني أنا ربك ، أو إني أنا الله رب العالمين ! !