Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 28, Ayat: 22-28)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ } أي : قصد نحوها ماضياً إليها ، يقال : داره تلقاه دار فلان ، إذا كانت محاذيتها وأصله من اللقاء ، قال الزجاج : أي : سلك الطريق الذي تلقاء مدين فيها . قال ابن عباس : خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله ومشى من غير معرفة فأسلمه الله إلى مدين ، وقيل : وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة ؛ لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم وكان من بني إسرائيل ، سميت البلدة باسمه فخرج ولم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على الله ، وقيل : جاءه جبريل عليه السلام ، وعلمه الطريق . قال ابن إسحاق : خرج من مصر إلى مدين خائفاً بلا زاد ولا ظهر وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر . { قَالَ عَسَىٰ رَبِّيۤ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } ، أي : قصد الطريق إلى مدين . قوله : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } وهو الماء الذي يستقون منه وهو بئر ، ووروده : مجيئه ، والوصول إليه ، " وَجَدَ عليه " أي : على شفيره ( " أمَّةً " جماعة كثيفة العدد " مِنَ النَّاسِ " مختلفين " يَسْقُونَ " منها مواشيهم ) ، { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ } أي : سوى الجماعة ، وقيل : في مكان أسفل من مكانهم . قوله : " امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ " فـ " تذودان " صفة لـ " امْرَأَتِيْنِ " لا مفعول ثان ، لأَنَّ " وَجَدَ " بمعنى : لقي ، والذَّودُ ، الطرد والدفع ، قال : @ 3985 - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ @@ وقيل : حبس : ومفعوله محذوف ، أي : يَذُودانِ النَّاسَ عن غَنمهما ، أو عن مزاحمة الناس ، وقال الزمخشري : لم ترك المفعول غير مذكور في " يَسْقُونَ " و " تَذُودَانِ " و " لاَ نَسْقِي " ، قُلتُ : لأنَّ الغرض هو الفعل لا المفعول ، وكذلك قَوْلهُمَا : { لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ } المقصود منه السَّقي لا المَسْقِيّ . فصل واختلفوا في السبب المقتضي لذلك الحبس ، فقال الزجاج : لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم ، وقيل : لئلا يختلطن بالرجال ، وقيل : كانتا تذودان عن وجوههما نظر الرجال لتسترهما ، وقيل : تذودان الناس عن غنمهما ، وقال الفراء : يحبسانها لئلا تتفرق وتتسرب ، وقيل : تذودان أي : معهما قطيع من الغنم ، والقطيع من الغنم يسمى : ذوداً ، وكذلك قطيع البقرب وقطيع الإبل . قال عليه السلام : " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَة " وقال الشاعر : @ 3986 - ثَلاَثَةُ أَنْفُسٍ ، وَثَلاَثُ ذَوْدٍ لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي @@ قوله : " مَا خَطْبكُمَا " تقدم في طه ، وقال الزمخشري : هنا حقيقته : مَا مخطُوبُكما ؟ أي : ما مطلُوبُكُمَا من الذياد ؟ فسمي المخطُوب خطباً كما سمي المشئُونُ شأْناً في قولك : ما شأنُكَ ؟ يقال : شَأنْتُ شَأْنَهُ ، أي : قَصَدْتُ قَصْدَه . وقال ابن عطية : السؤال بالخطب إنما هو في مُصَاب أو مُضطهد أو مَنْ يُشْفقُ عليه أو يأتي بمنكر من الأمر . وقرأ شَمِر " خِطْبَكُمَا " بالكسر أي : ما زوجكما ؟ أي : لِمَ تَسْقِيَانِ وَلَمْ يَسْقِ زَوْجُكُمَا ؟ وهي شاذة جداً . قوله : { حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ } قرأ أبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر بفتح الياء وضم الدال من صَدَرَ يَصْدُرُ وهو قاصر ، أي : حتى يرجع الرعاء : أي : يرجعون بمواشيهم والباقون بضم الياء وكسر الدال مضارع أَصدرَ مُعدًّى بالهمزة ، والمفعول محذوف ، أي : يُصدرُونَ مواشِيهم ، والعامة على كسر الراء من " الرِّعَاء " ، وهو جمع تكسير غير مقيس لأنَّ فاعلاً الوصف المعتل اللام كقاضٍ قياسه ( فُعَلَة ) نحو قُضَاة ورُمَاة . وقال الزمخشري : وأما الرِّعَاء بالكسر فقياس كصِيام وقِيام . وليس كما ذكر ( لِمَا ذَكَرْنَاهُ ) . وقرأ أبو عمرو - في رواية - بفتح الراء . قال أبو الفضل : هو مصدر أقيم مقام الصفة فلذلك استوى فيه الواحد والجمع أو على حذف مضاف ، وقرىء بضمها ، وهو اسم جمع كرخال وثُنَاء . وقرأ ابن مصرف " لا نُسْقِي " بضم النون من أَسْقَى ، وتقدم الفرق بين سَقَى وأَسْقَى في النحل ، والمعنى لا نسقي حتى يرجع الرّعاء عن الماء ، والرّعاء جمع راع مثل تاجر وتِجَار ، أي : نحن امرأتان لا نطيق أن نزاحم الرجال فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض ، و { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } لا يقدر أن يسقي مواشيه ولذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم . فصل قال مجاهد والضحاك والسدي والحسن : أبوهما هو شعيب النبي صلى الله عليه وسلم . ( وإنه عاش عمراً طويلاً بعد هلاك قومه حتى أدركه موسى عليه السلام ، وتزوج بابنته ) . وقال وهب وسعيد بن جبير : هو يثرون ابن أخي شعيب ( وكان شعيب ) قد مات بعد ذلك بعدما كف بصره فدفن بين المقام وزمزم . وقيل : رجل ممن آمن بشعيب . قالوا : فلما سمع قولهما رحمهما فاقتلع صخرة من رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس ، وقال ابن إسحاق : إنَّ موسى زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر فسقى غنم المرأتين . وروي أن القوم لمَّا رجعوا بأغنامهم غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشر نفر ، فجاء موسى فرفع الحجر وحده ، وسقى غنمهما ، ويقال : إنه نزع ذنوباً واحداً ودعا فيه بالبركة فروي منه جميع الغنم . قوله : " فَسَقَى لَهُمَا " مفعوله محذوف أي : غنمهما لأجلهما ، { ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ } أي : إلى ظل شجرة فجلس في ظلها من شدة الحر وهو جائع . قال الضحاك : لبث سبعة أيام لم يذق طعاماً إلا بقل الأرض . فصل " لِمَا أَنْزَلْتَ " متعلق بـ " فَقير " قال الزمخشري : عُدِّي فقير باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب ويحتمل إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلتَ إِليَّ من خير الدين ، وهو النجاة من الظالمين . يعني أن افتقر يتعدى بـ " مِنْ " ، فإمَّا أن نجعله من باب التضمين ، وإمّا أَنَّ متعلقه محذوف و " أَنْزَلْتَ " قيل ماض على أصله ، ويعني بالخير ما تقدم من خير الدين ، وقيل : بمعنى المستقبل . قال أهل اللغة : اللام بمعنى إلى ، يقال : فقير له ، وفقير إليه ، فإنْ قيل : كيف ساغ بنبي الله شعيب أن يرضى لابنتيه السعي بالماشية فالجواب : أنَّ الناس اختلفوا فيه : هل هو شعيب أو غيره كما تقدم ، وإن سلمنا أنه شعيب لكن لا مفسدة فيه ، لأن الدين لا يأباه ، وأحوال أهل البادية يغر أحوال أهل الحضر سيما إذا كانت الحال حالة ضرورة . فصل قال ابن عباس : سأل الله تعالى فلقة خبز يقيم بها صلبه . قال الباقر : لقد قالها وإنه لمحتاج إلى شق تمرة ، وقال سعيد بن جبير : قال ابن عباس : لقد قال { رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } وهو أكرم خلقه عليه ، ولقد افتقر إلى شق تمرة ، وقيل : إنما قال ذلك في نفسه مع ربه ، وهو اللائق بموسى عليه السلام . فلما رجعتا إلى أبيهما سريعاً قبل الناس وأغنامهما حُفّل بِطَان قال لهما : ما أعجلكما : قالتا : وجدنا رجُلاً صالِحاً رحيماً فسقى لنا أغنامنا ، فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي ، قوله " فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا " قرأ ابن محيصن : " فَجَاءَتْهُ حْدَاهمَا " بحذف الهمزة تخفيفاً على غير قياس ، كقوله : يا با فلان ، وقوله : @ 3987 - يَا بَا المُغيرة رُبَّ أمْرٍ مُعْضِلٍ فَرَّجْتهُ بِالنُّكْرِ عَنِّي وَالدَّهَا @@ وَوَيْلُمِّه أي : ويلٌ لأُمِّهِ . قال : @ 3988 - وَيْلُمِّهَا حَالُه لَوْ أَنَّهَا صَدَقَتْ @@ و " تَمْشِي " حال ، و " اسْتِحْيَاءٍ " حال أخرى ، إما من " جَاءَتْ " وإما من " تَمْشِي " . فصل قال عمر ابن الخطاب : ليست بسلفع من النساء خرَّاجة ولاَّجة ، ولكن جاءت مستترة وضعت كم درعها على وجهها استحياء . { قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } صرحت بهذا لئلا يوهم كلامها ريبة ، وهذا من تمام حيائها وصيانتها ، وقيل : ماشية على بُعْد ، مائلة عن الرجال . وقال عبد العزيز بن أبي حازم : على إجلال له ، ومنهم من يقف على قوله " تَمْشِي " ، ثم يبتدىء { عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ } أي : إنها على استحياء قالت هذا القول ، لأن الكريم إذا دعا غيره إلى الضيافة يستحي لا سيما المرأة . قال ابن إسحاق : اسم الكبرى صَفورا والصغرى لبنا ، وقيل ليا ، وقال غيره : صَفُورا وصَفِيرا . وقال الضحاك : صافُورا ، قال الأكثرون : التي جاءت إلى موسى الكبرى . وقال الكلبي : هي الصغرى . قال ابن الخطيب : وفي الآية إشكالات . أحدها : كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يعمل بقول امرأة ، ( وَأَنْ يَمْشِي مَعَهَا ) وهي أجنبية ، فإذن ذلك يورث التهمة العظيمة ؟ وقال صلى الله عليه وسلم : " اتَّقُوا مَوَاضِع التُّهَم " . وثانيها : أنه سقى أغنامها تقرباً إلى الله تعالى ، فكيف يليق به أخذ الأجرة عليه ، وذلك غير جائز في الشريعة ؟ . وثالثها : أنه عرف فقرَهُنَّ ، وفَقْرَ أبيهنّ ، وأنه عليه السلام كان في نهاية القوة بحيث يمكنه الكسب بأقل سعي ، فكيف يليق بمروءة مثله طلب الأجرة على ذلك القدر من الشيخ الفقير والمرأة الفقيرة ؟ ورابعها : كيف يليق بالنبي شُعَيب عليه السلام أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شابٍّ قبل العلم بكون الرجل عفيفاً أو فاسقاً ؟ والجواب عن الأول : أما العمل بقول امرأة فإن الخبر يعمل فيه بقول الواحد حراً كان أو عبداً ذكراً كان أو أنثى ، وهي ما كانت إلاَّ مخبرة عن أبيها . وأما المشي مع المرأة فلا بأس به مع الاحتياط والتورع . وعن الثاني : أن المرأة لما قالت ذلك ، فموسى عليه السلام ما ذهب إليهم طالباً للأجرة ، بل للتبرك بذلك الشيخ ، لِما رُوِي أنه لما دخل على شعيب إذا هو بالعَشاء تهيَّأ ، فقال : اجلس يا شاب فتعش ، فقال موسى : أعوذُ بالله ، فقال شُعَيْب : ولم ذلك ؟ ألست بجائع ؟ فقال : بلى ، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما ، وأنا من أهل بيت لا نطلبُ على عملٍ من أعمال الآخرة عوضاً من الدنيا ، وفي رواية : لا نبيع ديننا بالدُّنيا ، ولا نأخذ بالمعروف ثمناً . فقال شُعيب : لا والله يا شاب ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ، ونطعم الطعام ، فجلس موسى ، فأكل . وأيضاً فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ به إلى حيث ما كان يطيق تحمله ، فقبل ذلك اضطراراً ، وهو الجواب عن الثالث ، فإن الضرورات تبيح المحظورات . وعن الرابع : لعله عليه السلام كان قد علم بالوحي طهارتها وبراءتها ، فكان يعتمد عليها . فصل قال عمر بن الخطاب : فقام يمشي والجارية أمامه ، فعبثت الريح ، فوصفت ردفها ، فكره موسى أن يرى ذلك منها ، فقال موسى عليه السلام : إني من عنصر إبراهيم ، فكوني خَلْفي حتى لا ترفع الريح ثيابك ، فأرى ما لا يَحِل ، وفي رواية : كوني خلفي ودليني على الطريق برمي الحَصَى ، لأن صوت المرأة عورة . فإن قيل : لِمَ خشي موسى - عليه السلام - أن يكون ذلك أجرة له عن عمله ، ولم يكره مع الخضر ذلك حين قال : { لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } [ الكهف : 77 ] ؟ فالجواب : أن أخذ الأجرة على الصدقة لا يجوز ، وأما الاستئجار ابتداء ( فـ ) غير مكروه . قوله : { فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ } مصدر كالعلل سمي به المقصوص ، قال الضَّحاك : قال له : مَنْ أنت يا عبد الله ؟ قال له : أنا موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب ، وذكر له جميع أمره من لدن ولادته وأمر القوابل والمراضع والقذف في اليم وقتل القبطي ، وأنهم يطلبوه فيقتلوه ، فقال شعيب عليه السلام : { لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } أي : لا سلطان له بأرضنا ، فإن قيل إن المفسرين قالوا : إن فرعون يوم ركب خلف موسى ، ركب في ألف ألف وستمائه ، والملك الذي هذا شأنه كيف يعقل ألا يكون في ملكه قرية على بُعْد ثمانية أيام من دار مملكته ؟ فالجواب : هذا وإن كان نادراً إلا أنَّه ليس بمحال . قوله : { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يٰأَبَتِ ٱسْتَأْجِرْهُ } اتخذه أجيراً ليرعى أغنامنا ، { إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَأْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلأَمِينُ } أي : خير من استعملت مَنْ قَوي على العمل ، وأداء الأمانة ، وإنما جعل { خَيْرَ مَنِ ٱسْتَأْجَرْتَ } اسماُ و " القَوِيُّ الأَمِينُ " خبراً مع أن العكس أولى ، لأن العناية سبب للتقديم . فإن قيل : القوة والأمانة لا يكفيان في حصول المقصود ما لم ينضم إليهما العطية والكتابة ، فلم أهمَل أمرَ الكتابة ؟ فالجواب أنهما داخِلان في الأمانة . قال ابن مسعود : أفرسُ الناس ثلاثة : بنتُ شعيب ، ( وصاحب يوسف ) ، وأبو بكر في عمر . فقال لها أبوها : وما علمك بقوته وأمانته ؟ قالت : أما قوتُه ، فإنه رفع حجراً من رأس البئر لا يرفعه إلا عشرة ، وقيل : إلا أربعون ، وأمَّا أمانته ، فإنه قال لي : امشي خلفي حتى لا تصف الريح بدنك . قال شعيب عند ذلك : { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } . قال أكثر المفسرين : إنه زوجه الصغيرة منهما ، وهي التي ذهبت لطلب موسى واسمها صفورة . قوله : { أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى } روي عن أبي عمرو " أنْكِحَكَ حدى " بحذف همزة " إحدَى " ، وهذه تشبه قراءة ابن محيصن " فَجَاءَتْهُ حْدَاهُما " ، وتقدم التشديد في نون " هَاتَيْنِ " في سورة النساء . قوله { عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي } في محل نصب على الحال ، إما من الفاعل أو من المفعول ، أي : مشروطاً على أو عليك ذلك . و " تَأْجُرَنِي " مضارع أَجَرْتُه ، كنتُ له أجيراً ، ومفعوله الثاني محذوف ، أي : وتأجُرنِي نفسَك ، و " ثَمَانِيَ حِجَجٍ " ظرف له . ونقل أبو حيان عن الزمخشري أنها هي المفعول الثاني . قال شهاب الدين : الزمخشري لم يجعلها مفعولاً ثانياً على هذا الوجه ، وإنَّما جعلها مفعولاً ثانياً على وجه آخر ، وأما على هذا الوجه فلم يجعلها غير ظرف ، وهذا نصه ليتبين لك ، قال : " تَأْجُرَنِي " ، من أجرته إذا كنت له أجيراً ، كقولك : أبوته إذا كنت له أَباً ، و " ثَمَانِيَ حِجَجٍ " ظفر ، أو مِنْ أجرته إذا أثبته ، ومنه تعزية رسول الله صلى الله عليه وسلم : " آجركُم اللَّهُ ورحِمَكُمْ " و " ثماني حججٍ " مفعول به ، ومعناه رعية ثماني حجج . فنقل الشيخ عنه الوجه الأول من المعنيين المذكورين في " تأجُرنِي " فقط ، وحكى عنه أنه أعرب " ثَمَاني حِجَجٍ " مفعولاً به ، وكيف يستقيم ذلك أو يتجه ؟ وانظر إلى الزمخشري كيف قدر مضافاً ليصح المعنى به ، أي : رَعْيُ ثَمَانِي حِجَجٍ ، لأن العمل هو الذي تقع به الإثابة لا نفس الزمان ، فكيف يوجه الإجارة على الزمان ؟ ( قوله ) " فَمِنْ عِنْدِكَ " يجوز أن يكون في محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف تقديره : فهي من عندك ، أو نصب أي : فقد زدتها أو تفضلت بها من عندك . فصل معنى الآية : أريدُ أن أنكِحَكَ إحدى ابنتيَّ هاتين على أن تكون أجيراً لي ثمانِ سنين قال الفراء : أي تجعل ثوابي من تزويجها أنْ ترعى غنمي ثماني حجج ، تقول العرب : أَجَرَكَ اللَّه بأجْرِكَ ، أي : أثابك والحِجَج : السِّنُون ، واحدها حجَّة . { فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً } أي : عشر سنين " فَمِنْ عِنْدِك " أي : ذلك تفضل منك وتبرع ليس بواجب عليك . واعلم أن هذا اللفظ - وإن كان على الترديد - فلا شبهة أنه عند التزويج عين ، ولا شبهة في أن العقد وقع على أقل الأجلين ، والزيادة كالتبرع . ودلت الآيية على أنَّ العمل قد يكون مهراً كالمال ، وعلى أن إلحاق الزيادة بالثمن والمثمَّن جائز ، ولكنه شرع من قبلنا ، ودلَّت أيضاً على أنه يجوز أن يشرط الوليُّ ، وعلى أنَّ عقد النكاح لا تفسده الشروط التي لا يوجبها العقد . ( واستدل بعض الحنفية بهذه الآية على صحة بيع أحد هذين العبدين ، أو الثوبين ، وفيه نظر ، لأنها مراضاة لا معاقدة . ودلت الآية أيضاً على صحة الإجارة بالطعمة والكسوة ، كما جرت به العادة ، ويؤيده قوله عليه السلام : " إنَّ مُوسَى أَجَّر نَفْسه ثَمَانِيَ سنينَ أوْ عَشْرَة على عفة فرجه وطعام بطنه " وهو مذهب الحنابلة قاله ابن كثير . فصل قال النووي : الإجارة بكسر الهمزة هو المشهور ، وحكى الرافعي أن الجياني حكى في الشامل أيضاً ضم الهمزة ، قال أهل اللغة : وأصل الأجر الثواب ، يقال : أجرت فلاناً عن عمله كذا أي : أثبته ، والله يأجر العبد أي ؛ يثيبه ، والمستأجر يثيب المأجور عوضاً عن بذل المنافع . قال الواحدي : قال المبرد : يقال أجرت داري ومملوكي غير ممدود ، وآجرت ممدود قال المبرد : والأول أكثر ) . قوله : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ } أي ؛ ألزمك تمام العشر . وأَنْ أَشُقَّ ، مفعول " أريد " وحقيقة قولهم : شَقَّ عليه أي : شقَّ ظنَّه نصفين فتارة يقول أطيق ، وتارة لا أطيق ، وهو من أحسن مجاز . قوله { سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } قال عمر : أي في حسن الصحبة والوفاء ولين الجانب . وقيل : أراد الصلاح على العموم ، وإنما قال { إِن شَاءَ اللَّهُ } للاتكال على توفيقه ومعونته ، فإنْ قيل : كيف ينعقد العقدُ بهذا الشَّرط ، ولو قلت أنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ الله لا تطلَّق ؟ فالجواب : هذا ما يختلف بالشرائع . قوله : " ذَلِكَ " مبتدأ ، والإشارة به إلى ما تعاقدا عليه ، والظرف خبره ، وأضيفت " بَيْنَ " لمفرد لتكررها عطفاً بالواو ، فإن قلت : المالُ بَيْن زيد فعمرو لم يجز ، وأما قوله : @ 3989 - بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ @@ فكان الأصمعي يأباها ، ويوري " وحومل " بالواو ، والصحيح بالفاء ، وأول البيت على أن الدَّخُول وحَوْمَل مكانان كل منهما مشتمل على أماكن ، نحو قولك : دارِي بين مصر ، لأنه يريد به المكان الجامع ، والأصل ذلك بيننا ففرق بالعطف . قوله : " أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ " أي شرطية وجوابها " فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ " . وفي " مَا " هذه قولان : أشهرهما : أنها زائدة ، كزيادتها في أخواتها من أدوات الشرط . والثاني : أنها نكرة ، و " الأَجَلَيْنِ " بدل منها . وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية " أَيْمَا " بتخفيف الياء كقوله : @ 3990 - تَنَظَّرْتُ نَسْراً والسِّمَاكَيْنِ أَيْهُمَا عَلَيَّ مِنَ الغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مَوَاطِرُه @@ وقرأ عبد الله { أيَّ الأَجَلَيْنِ مَا قَضَيْت } بإقحام " مَا " بين " الأَجَلَيْن " و " قَضَيْتُ " . قال الزمخشري : فإن قلت : ما الفرق بين موقع زيادة " مَا " في القراءتين ؟ قلت : وقعت في المستفيضة مؤكدة لإبهام ، " أَيْ " زيادة في شياعها ، وفي الشاذة تأكيداً للقضاء كأنَّه قال : أي الأجلين صمَّمْت على قضائه وجرَّدتُ عزيمتي له . وقرأ أبو حيوة وابن قُطَيب " عِدْوانَ " . قال الزمخشري : فإن قلت : تصوُّر العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو أقصرهما ، وهو المطالب بتتمة العشر ، فما معنى تعلق العدوان بهما جميعاً ؟ قلت : معناه : كما أني إن طولبت بالزيادة على العَشْر ( كان عدواناً ) لا شك فيه ، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثماني ، أراد بذلك تقرير أمر الخيار ، وأنه ثابت مستقر ، وأنَّ الأجلين على السواء إما هذا وإما هذا ، ويكون اختيار الأقل والزائد موكولاً إلى رأيه من غير أن يكون لأحدهمَا عليه إجبار . ثم قال : وقيل : معناه فلا أكون متعدِّياً ، وهو في نفي العدوان عن نفسه كقولك : لا إثم عليَّ ولا تبعة . قال أبو حيان : وجوابه الأول فيه تكثير . قال شهاب الدين : كأنه أعجبه الثاني . والثاني لم يرتضه الزمخشري ، لأنه ليس جواباً في الحقيقة ، فإن السؤال باق أيضاً ، ولذلك نقله عن غيره ، وقال المبرد : وقد علم أنه لا عدوان عليه في أيهما ، ولكن جمعهما ليجعل الأول كالأَتَمِّ في الوفاء . فصل قال المفسرون : المعنى " أيّ الأَجَلَيْن قَضَيْتُ " أتممتُ وفرغت منه الثماني أو العشر ، { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } لا ظلم عليَّ بأن أطالب بأكثر { وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } قال مقاتل : شهيد فيما بيني وبينك ، وقيل : حفيظ ، ولما استعمل الوكيل بمعنى الشاهد عُدِّي بـ ( عَلَى ) قال سعيد بن جبير : سألني يهودي من أهل الحيرة : أيَّ الأَجلينِ قَضَى مُوسَى ؟ قلت : لا أدري حتى أقدم على حَبْر العرب فأسأله ، فقدمتُ فسألتُ ابن عباس فقال : قَضَى أكثرها وأطيبهما ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل . وروي عن أبي ذر مرفوعاً " إذَا سُئِلْتَ أَيَّ الأَجَلينِ قَضَى مُوسَى ؟ فقل خيرهُما وأبرَّهما ، وإذا سئلت أيَّ المرأتين تزوَّج موسى ؟ فقل الصغرى منهما ، وهي التي جاءت فقالت : { يٰأَبَتِ ٱسْتَأْجِرْهُ } فتزوج صغراهما ، وقضى أوفاهما " وقال وهب : أنكَحَه الكُبْرى . ولمَّا تعاقد العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه ، واختلفوا في تلك العصا . فقال عكرمة : عرج بها آدم من الجنة ، فأخذها جبريل بعد موت آدم ، فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلاً ، فدفعها إليه ، قيل : كانت من آس الجنة حملها آدم من الجنة ، فتوراثتها الأنبياء ، وكان لا يأخذها غير نبي ، فصارت من آدم إلى نوح ، ثم إلى إبراهيم حتى وصلت إلى شعيب ، فكانت عصا الأنبياء عنده فأعطاها موسى ، وقال السُّدي : كانت تلك العصا استودعها إياه ملك في صورة رجل فأمر ابنته أن تأتيه بعصا ، فدخلت فأخذت العصا فأتته بها ، فلما رآها شعيب قال لها : رُدِّي هذه العصا ، وأتيه بغيرها ، فدخلت وألقتها ، وأرادت أن تأخذ غيرها ، فلا تقع في يدها إلا هي ، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات ، فأعطاها موسى ، وأخرجها موسى معه ، ثم إن الشيخ ندم وقال : كانت وديعة فذهب في أثره فطلب أن يرد العصا ، فأبى موسى أن يعطيه وقال : { هِيَ عَصَايَ } [ طه : 18 ] ، فرضي أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما ، فلقيهما ملك في صورة رجل ، فحكم أن تطرح العصا فمن حملها فهي له فطرح موسى العصا فعالجها الشيخ ليأخذها ، فلم يطقها ، فأخذها موسى بيده ، فرعفها فتركها له الشيخ ثم إن موسى لم أتم الأجل وسلم شعيب ابنته إليه ، قال مجاهد : لما قضى موسى الأجل مكث بعد ذلك ( عند صهره عشراً ) أخرى فأقام عنده عشرين سنة ، ثم استأذنه في العود إلى مصر ، فأذن له فخرج بأهله إلى جانب الطور .