Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 135-136)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يجوز أن يكون معطوفاً على الموصول قبله ، ففيه ما فيه من الأوجه السابقة ، وتكون الجملةُ من قوله : { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 134 ] جملة اعتراض بين المتعاطفين . ويجوز أن يكون " والذين " مرفوعاً بالابتداء ، و " أولَئِكَ " مبتدأ ثانٍ ، و " جَزَاؤهُمْ " مبتدأ ثالث ، و " مَغْفِرَةٌ " خبر الثالث ، والثالث وخبره خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول . وقوله : { إِذَا فَعَلُواْ } شرط ، وجوابه : { ذَكَرُواْ } . قوله : { فَٱسْتَغْفَرُواْ } عطف على الجواب ، والجملة الشرطية وجوابها صلة الموصول ، والمفعول الأول لـ " اسْتَغْفَرُوا " محذوف ، أي : استغفروا الله لذنوبهم ، وقد تقدم الكلام على " استغفر " ، وأنه تعدى لاثنين ، ثانيهما بحرف الجر ، وليس هو هذه اللام ، بل " من " وقد يُحْذَف . فصل في سبب النزول قال ابن مسعود : قال المؤمنون : يا رسولَ الله ، كانت بو إسرائيل اكرمَ على الله مِنَّا ؛ كان أحدهم إذا أذنب اصبحت كفارةُ ذَنْبِه مكتوبةً على عتبة بابه ، اجدع أنفك ، افعل كذا ، فأنزل الله هذه الآية . قال عطاء : نزلت في نبهان التمار - وكُنيته أبو مقبل - أتته امرأة حسناء ، تبتاعُ منه تَمْراً ، فقال لها : إن هذا التمر ليس بجيِّد ، وإن في البيت أجودَ منه ، فذهب بها إلى بيته ، فضمها إلى نفسه ، وقَبَّلها ، فقالت له : أتَّقِ الله ، فتركها ، وندم على ذلك ، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك فنزلت هذه الآية . وقال مُقَاتِلٌ والكَلْبِيُّ : آخى رسولُ الله بين رجلين ، أحدهما من الأنصار ، والآخر من ثقيفٍ ، فخرج الثقفيُّ في غزاةٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقُرْعة في السفر ، وخلف الأنصاريّ على أهله ، يَتَعَاهَدُهُم ، واشترى لهم اللحمَ ذات يوم ، فلما أرادت المرأةُ أن تأخذ منه ، دخل على أثرها ، وقَبَّل يَدَهَا ، فوضعت كَفَّهَا على وَجْهها ، ثم ندم الرجل وانصرف ، ووضع الترابَ على رأسه ، وهام على وجهه ، ولما رجع الثقفيُّ لم يستقبله الأنصاريُّ ، فسأل امرأته عن حاله ، فقالت : لا أكثر اللهُ في الإخوان مثله ، ووصفت له الحال ، والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً ، فطلب الأنصاريَّ الثقفيُّ حتى وجده ، فأتى به أبا بكر ؛ رجاء أن يجدَ عنده راحةً وفرجاً ، وقال الأنصاريُّ : هلكت ، وذكر القصة ، فقال أبو بكر : ويحك ! أما علمت أن الله يغار للغازي ما لا يغار للمقيم ؟ ثم لقيا عُمَرَ ، فقال له مثل ذلك ، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لهما مثل مقالتهما ، فأنزل الله هذه الآية . الفاحشة - هنا - نعت محذوف ، تقديره : فعلوا فِعْلَةً فاحشةً . وأصل الفُحْش : القُبْح الخارج عن الحد ، فقوله : { فَاحِشَةً } يعني : قبيحة ، خارجة عما أذن الله فيه . قال جَابِر : الفاحشة : الزنا ؛ لقوله تعالى : { وَٱللاَّتِي يَأْتِينَ ٱلْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ } [ النساء : 15 ] ، وقوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء : 32 ] . قوله : { أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } . قال الزمخشري : " الفاحشة : ما كان فعله كاملاً في القُبْح ، وظُلْمُ النفس هو أي ذَنْب كان ، مما يؤاخذُ الإنسانُ به " . وقيل : الفاحشة : هي الكبيرة ، وظلم النفس هو الصغيرة . وقيل : الفاحشة ، هي الزنا ، وظلم النفس : هو القُبْلة واللَّمْسَة والنظرة . وقال مُقاتِلٌ والكَلْبِيُّ : الفاحشة ما دون الزنا من قُبْلَة أو لَمْسَةٍ ، أو نظرة ، فيما لا يحل . وقيل : فعلوا فاحشة فِعْلاً ، أو ظلموا أنفسهم قولاً . قوله : { ذَكَرُواْ ٱللَّهَ } أي : ذكروا وعيدَ الله وعقابه ، فيكون من باب حذف المضاف . قال الضحاك : ذكروا العرض الأكبر على الله . وقال مُقاتِلٌ والوَاقِدِيُّ : تفكروا أن الله سائلهم . وقيل : المراد بهذا الذكر : ذكر الله بالثناء والتعظيم والإجلال ؛ لأن من أراد أن يسأل الله تعالى مسالةً ، فالواجب أن يقدم على تلك المسألة الثناء على الله تعالى ، فهاهنا لما كان المراد منه : الاستغفار من الذنوب قدَّموا عليه الثناء ، ثم اشتغلوا بالاستغفار ، { فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } أي : ندموا على فِعْل ما مضَى مع العزم على تَرْك مثله في المستقبل ، وهذا حقيقة التوبة ، فأما الاستغفار باللسان ، فلا أثر له في إزالة الذنب ، بل يجب إظهار هذا الاستغفار ، لإزالة التهمة . وقوله : { لِذُنُوبِهِمْ } أي : لأجل ذنوبهم . قوله : { وَمَنْ يَغْفِرُ } استفهام بمعنى : النفي ، ولذلك وقع بعده الاستثناء . قوله : { إلاَّ ٱللَّهُ } بدل من الضمير المستكن في " يَغْفِرُ " ، والتقدير : لا يغفر أحد الذنوب إلا الله تعالى ، والمختار - هنا - الرفع على البدل ، لكَوْن الكلام غيرَ إيجاب . وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] . وقال أبو البقاء " مَنْ " مبتدأ ، " يَغْفِرُ " خبره ، و { إلاَّ ٱللَّهُ } فاعل " يَغْفِرُ " ، أو بدل من المضمر فيه ، وهو الوجه ؛ لأنك إذا جعلت " اللهُ " فاعلاً ، احتجْتَ إلى تقدير ضمير ، أي : ومَنْ يغفر الذنوب له غير الله . قال شهَابُ الدين : " وهذا الذي قاله - أعني : جعله الجلالة فاعلاً - يقرب من الغلط ؛ فإن الاستفهام - هنا - لا يُراد به حقيقته ، إنما يرادُ " النفي " ، والوجه ما تقدم من كون الجلالة بدلاً من ذلك الضمير المستتر ، والعائد على " من " الاستفهامية " . ومعنى الكلام أن المغفرة لا تُطْلب إلا من الله ؛ لأنه القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة ، فكان هو القادر على إزالة العقاب عنه . قوله : { وَلَمْ يُصِرُّواْ } يجوز أن تكون جملة حالية من فاعل { فَٱسْتَغْفَرُواْ } أي : ترتب على فعلهم الفاحش ذكر الله تعالى ، والاستغفار لذنوبهم ، وعدم إصرارهم عليها ، وتكون الجملة من قوله : { وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ } - على هذين الوجهين معترضة بين المتعاطفين على الوجه الثاني ، وبين الحال وذي الحال على الوجه الأول . فصل وأصْل الإصرار : الثبات على الشيء . قال الحسن : إتيان العبد ذَنْباً عَمْداً إصرار ، حتى يتوب . وقال السُّدِّي : الإصرار : السكوت وتَرْك الاستغفار . وعن أبي نُصيرة قال : لقيت مولّى لأبي بكر ، فقلتُ له : أسَمِعْتَ من أبي بكر شيئاً ؟ قال : نعم ، سمعته يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ ، وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبِعِين مَرَّةً " . وقيل : الإصرار : المداومة على الشيء ، وتَرْك الإقلاع عنه ، وتأكيد العزم على ألا يتركه ، من قولهم : صر الدنانير ، إذا ربط عليها ، ومنه : صُرَّة الدراهم - لما يربط منها - . قال الحُطََيْئة : يصف خيلاً : [ الطويل ] @ 1620 - عَوَابِسُ بِالشُّعْثِ الْكُمَاةِ إذَا ابْتَغَوْا عُلاَلَتَها بِالْمُحْصَدَاتِ أصَرَّتِ @@ أي : ثبتت ، وأقامت ، مداومة على ما حملت عليه . وقال الشاعر : [ البسيط ] @ 1621 - يُصِرُّ بِاللَّيْلِ مَا تُخْفِي شَوِاكِلُهُ يَا وَيْحَ كُلِّ مُصِرِّ القَلْبِ خَتَّارِ @@ و " ما " في قوله : { عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ } يجوز أن تكون اسمية بمعنى : الذي ، ويجوز أن تكون مصدرية . قوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل { فَٱسْتَغْفَرُواْ } ، وأن يكون حالاً من فاعل { يُصِرُّوا } ، والتقدير : ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا من الذنوب بحال ما كانوا عالمين بكونها محرمة ؛ لأنه قد يُعْذَر مَنْ لا يعلم حرمة الفعل ، أما العالم بالحرمة ، فإنه لا يعذر . ومفعول { يَعْلَمُونَ } محذوف للعلم به . فقيل : تقديره : يعلمون أن الله يتوب على مَنْ تاب ، قاله مجاهد . وقيل : يعلمون أن تَرْكه أوْلَى ، قاله ابنُ عباس والحسن . وقيل : يعلمون المؤاخذة بها ، أو عفو الله عنها . وقال ابْنُ عَبَّاسِ ، ومُقَاتِلٍ ، والحَسَنُ ، والكَلْبِيُّ : وهم يعلمون أنها معصية . وقيل : وهم يعلمون أن الإصرارَ ضار . وقال الضَّحَّاكُ : وهم يعلمون أن الله يملك مغفرةَ الذنوب ، وقال الحسن بن الفضل : وهم يعلمون أن لهم رباً يغفر الذنوب . وقيل : وهم يعلمون أن الله تعالى ، لا يتعاظمه الْعَفْو عن الذنوب - وإن كثرت - . وقيل : وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غُفِرَ لهم . قوله : { أُوْلَـٰئِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } ، والمعنى : أن المطلوب بالتوبة أمران : الأول : الأمن من العقاب ، وإليه الإشارة بقوله : { مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } . والثاني : إيصال الثواب إليه ، وهو المراد بقوله : { وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } . قوله : { مِن رَّبِّهِمْ } في محل رفع ؛ نعتاً لِـ " مَغْفِرَةٌ " ، و " مِنْ " للتبعيض ، أي : من مغفرات ربهم . قوله : { خَالِدِينَ فِيهَا } حال من الضمير في { جَزَآؤُهُمْ } ؛ لأنه مفعول به في المعنى ؛ لأن المعنى : يجزيهم الله جنات في حال خلودهم ويكون حالاً مقدراً ، ولا يجوز أن تكون حالاً من " جَنَّاتٌ " في اللفظ ، وهي لأصحابها في المعنى ؛ إذْ لو كان ذلك لبرز الضمير ، لجَرَيان الصفة على غير مَنْ هي له ، والجملة من قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } في محل رفع ؛ نعتاً لِـ " جَنَّاتٌ " . وتقدم إعراب نظير هذه الجمل . قوله : { وَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ } المخصوص بالمدح محذوف ، تقديره : ونِعْمَ أجر العاملين الجنة . فصل دلَّتْ هذه الآية على أن الغفران والجنات يكون أجراً لعملهم ، وجزاءً عليه . قال القَاضِي : وهذا يُبْطِل قولَ مَنْ قال : إن الثواب تفضُّل من الله ، وليس بجزاءٍ على عملهم . قال ثابت البُنَانِي : بلغني أن إبليسَ بكَى حين نزلت هذه الآية { وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ } الآية .