Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 175-176)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
" إنما " حرف مكفوف بـ " ما " عن العمل وقد تقدم الكلام فيها أول الكتاب . وفي إعراب هذه الجملة خمسةُ أوجهٍ : الأول : أن يكون " ذلكم " مبتدأ ، " والشيطان " خبره ، و " يخوف أولياءه " حال ؛ بدليل وقوع الحالِ الصريحةِ في مثل هذا التركيب ، نحو قوله : { وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] وقوله : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [ النمل : 52 ] . الثاني : أن يكون " الشيطان " بدلاً ، أو عطف بيان ، و " يخوف " الخبر ، ذكره أبو البقاء . الثالث : أن يكون " الشيطان " نعتاً لاسم الإشارة ، و " يخوف " على أن يرادَ بـ " الشيطان " نعيم ، أو أبو سفيان - ذكره الزمخشري قال أبو حيّان : " وإنما قال : والمراد بـ " الشيطان " نعيم ، أو أبو سفيان ؛ لأنه لا يكون نعتاً - والمراد به إبليس - لأنه إذ ذاك - يكون علماً بالغلبة ، إذ أصله صفة - كالعيُّوق - ثم غلب على إبليس كما غلب العيُّوق على النَّجْمِ الَّذِي ينطلق عليه " وفيه نظرٌ . الرابع : أن يكون " ذلكم " ابتداء ، و " الشيطان " خبر ، و " يخوف " جملةٌ مستأنفةٌ ، بيان لشيطنته ، والمراد بالشَّيْطانِ هو المثبط للمؤمنين . الخامس : أن يكون " ذلكم " مبتدأ ، و " الشيطان " مبتدأ ثانٍ ، و " يخوف " خبر الثاني ، والثاني وخبره خبرُ الأول ؛ قاله ابنُ عطيةَ ، وقال : " وهذا الإعرابُ خير - في تناسق المعنى - من أن يكون " الشيطان " خبر " ذلكم " لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة " . ورَدَّ عليه أبو حيّان هذا الإعراب - إن كان الضمير في " أولياءه " عائداً على " الشيطان " لخُلُوِّ الجملة الواقعة خبراً عن رابط يربطها بالمبتدأ - وليست نفس المبتدأ في المعنى ، نحو : هِجِّيرَى أبِي بكر لا إلَه إلا الله وإن كان عائداً على " ذلكم " - ويراد بـ " ذلكم " غير الشيطان جاز ، وصار نظير : إنما هند زيد [ يضرب غلامها ] ، والمعنى : إنما ذلكم الركب ، أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أنتم أولياؤه ، أي : أولياء الركب ، أو أولياء أبي سفيان - والمشار إليه بـ " ذلكم " هل هو عين أو معنى ؟ فيه احتمالان : أحدهما : أنه إشارةٌ إلى ناسٍِ مخصوصين - كَنُعَيْم وأبي سفيانَ وأشياعهما - على ما تقدم . الثاني : إشارة إلى جميع ما جرى من أخبارِ الركبِ وإرسال أبي سفيان وجزع من جزع - وعلى هذا التقدير فلا بُدّ من حذف مضافٍ ، أي : فعل الشيطان ، وقدَّره الزمخشري : قول الشيطانِ ، أي : قوله السابق ، وهو : { إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ } [ آل عمران : 173 ] وعلى كلا التقديرين - أعني كون الإشارة لأعيان أو معان - فالإخبار بـ " الشيطان " عن " ذلكم " مجاز ؛ لأن الأعيان المذكورين والمعاني من الأقوال والأفعال الصادرة من الكفار - ليست نفس الشيطان ، وإنما لما كانت بسببه ووسوسته جَازَ ذلك . قوله : { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } قد تقدم ما محله من الإعراب . والتضعيفُ فيه للتعدية ، فإنه قَبْلَ التَّضْعيف متعدٍّ إلى واحدٍ ، وبالتضعيف يكتسب ثانياً ، وهو من باب " أعطى " ، فيجوز حذف مفعوليه ، أو أحدهما اقتصاراً واختصاراً ، وهو في الآية الكريمة يحتمل أوجُهاً : أحدها : أنْ يكون المفعولُ الأولُ محذوفاً ، تقديره : يخوفكم أولياءه ، ويقوِّي هذا التقديرَ قراءة ابن عبَّاسٍ وابن مسعود هذه الآية كذلك ، والمراد بـ " أولياءه " - هنا - الكفارُ ، ولا بُدَّ من حذف مضافٍ ، أي : شر أوليائه ؛ لأن الذوات لا يخاف منها . الثاني : أن يكون المفعول الثاني هو المحذوف ، و " أولياءه " هو الأول ، والتقدير : يخوف أولياءه شَرَّ الكفار ، ويكون المراد بـ " أولياءه " - على هذا الوجه - المنافقين ومَنْ في قلبه مرضٌ ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج . والمعنى : أن تخويفه بالكفار إنما يحصل للمنافقين الذين هم أولياؤه ، وأما أنتم فلا يصل إليكم تخويفه قاله الحسنُ والسُّدِّي . الثالث : أن المفعولين محذوفان ، و " أولياءه " نعتٌ - على إسقاط حرف الجر - والتقدير : يخوفكم الشر بأوليائه . والباء للسبب ، أي : بسبب أوليائه فيكونون هم كآلةِ التخويف لكم . قالوا : ومثل حذف المفعول الثاني قوله تعالى : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ } [ القصص : 7 ] أي : فإذا خِفْتِ عليه فرعونَ . ومثال حذف الجارّ قوله تعالى : { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ } [ الكهف : 2 ] معناه لينذركم ببأسٍ ، وقوله : { لِيُنذِرَ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ } [ غافر : 15 ] . وهذا قول الفرّاء والزّجّاج وأبي عليّ ، قالوا : ويدل عليه قراءة أبَيٍّ والنَّخَعِيِّ : يخوفكم بأوليائه . قال شهابُ الدّينِ : فكأن هذا القائل رأى قراءة أبَيّ والنخعيّ " يخوف بأوليائه " فظن أنَّ قراءة الجمهورِ مثلها في الأصل ، ثم حُذِفتَ الباء ، وليس كذلك ، بل تُخَرَّج قراءةُ الجمهورِ على ما تقدم ؛ إذ لا حاجةَ إلى ادِّعاء ما لا ضرورة له . وأما قراءة أبَيّ فيحتمل أن تكون الباء زائدة ، كقوله : [ البسيط ] @ 1695 - … سُودُ الْمَحَاجِرِ لا يَقْرَأنَ بِالسُّوَرِ @@ فتكون كقراءة الجمهور في المعنى . ويحتمل أن تكون للسبب ، والمفعولان محذوفان - كما تقدم . قوله : { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } في الضمير المنصوب ثلاثةُ أوجهٍ : الأول - وهو الأظهر - : أنه يعود على " أولياءه " أي : فلا تخافوا أولياءَ الشيطان ، هذا إن أريد بالأولياء كفار قريش . الثاني : أنه يعود على " الناس " من قوله : { إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [ آل عمران : 173 ] إن كان المراد بـ " أولياءه " المنافقين . الثالث : أنه يعود على " الشيطان " قال أبو البقاء : " إنما جمع الضمير ؛ لأن الشيطان جنس " والياء في قوله : " وخافوني " من الزوائد ، فإثبتها أبو عمرو وصلاً ، وحَذَفَها وقفاً - على قاعدته - والباقون يحذفونها مطلقاً . فصل في ورود الخوف في القرآن الكريم ورد الخوف على ثلاثةِ أوجهٍ : الأول : الخوفُ بعينه ، كهذه الآية . الثاني : الخوف : القتال ، قال تعالى : { فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } [ الأحزاب : 19 ] أي : إذا ذهب القتال . الثالث : الخوف : العِلْم ، قال تعالى : { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً } [ البقرة : 182 ] أي عَلِمَ ، ومثله قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ } [ البقرة : 229 ] وقوله : { وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } [ الأنعام : 51 ] . أي : يعلمون وقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } [ النساء : 35 ] أي : علمتم . وقوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } جوابه محذوف ، أو متقدم - عند مَنْ يرى ذلك - وهذا من باب الإلهاب والتهييج . إلا فهم ملتبسون بالإيمان . قوله : { وَلاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ } قرأ نافع " يُحزنك " - بضم حرف المضارعة - من " أحزن " - رباعياً - في سائر القرآن إلا التي في قوله : { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ } [ الأنبياء : 103 ] فإنه كالجماعة . والباقون بفتح الباء - من " حزنه " ثلاثياً - فقيل : هما من باب ما جاء فيه فَعَلَ وأفْعَل بمعنى . وقيل : باختلاف معنى ، فَحَزَنَه : جَعَل فيه حُزْناً - نحو : دهنه وكحله ، أي : جعل فيه دهناً وكحلاً - وأحزنته : إذا جعلته حزيناً . ومثل حَزَنَه وأحْزَنَه فَتَنَه وأفتَنَه ، قال سيبويه : " وقال بعضُ العربِ : أحزنت الرجل وأفتنته : أرادوا : جعلته حزيناً وفاتناً " . وقيل : حزنته : أحدثت له الحُزْن ، وأحزنته : عرَّضته للحُزْن . قاله أبو البقاء وقد تقدم اشتقاق هذه اللفظة في " البقرة " . قال شهابُ الدينِ : " والحق أن حزنه وأحزنه لغتان فاشيتان ، لثبوتهما متواترتين - وإن كان أبو البقاء قال : إن أحزن لغة قليلة ، ومن عجيب ما اتفق أن نافعاً - رحمه الله - يقرأ هذه المادة من " أحزن " إلا التي في الأنبياء - كما تقدم - وأن شيخه أبا جعفر يزيد بن القعقاع يقرأها من " حزنه " - ثلاثياً - إلا التي في الأنبياء ، وهذا من الجمع بين اللغتين ، والقراءة سنة مُتَّبَعَة " . وقرأ الجماعة : " يسارعون " بالفتح والإمالة ، وقرأ النحوي " يسرعون " - من أسرع - في جميع القرآن ، قال ابن عطيةَ : " وقراءة الجماعة أبلغ ؛ لأن مَنْ يسارع غيرَه أشد اجتهاداً من الذي يُسرع وحده " . قوله : { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً } في نصب " شيئاً " وَجْهَانِ : أحدهما : أنه مصدر ، أي : لا يضرونه شيئاً من الضرر . الثاني : أنه منصوب على إسقاط الخافض ، أي : لن يضروه بشيء . وهكذا كل موضع أشبهه ففيه الوجهان . فصل اختلفوا في هؤلاء المسارعين فقال الضَّحَّاك : هم كفار قريش ، وقال غيره : هم المنافقون ؛ يسارعون في الكفر مظاهرةً للكفار { إنهم لن يضروا الله } بمُسارعتهم في الكُفْر . وقيل : إن قوماً من الكفار أسلموا ، ثم ارتدوا ؛ خوفاً من قريش ، فوقع الغمُّ في قَلْبِ الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك السبب فإنه صلى الله عليه وسلم ظن أنهم بسبب تلك الرِّدَّة يُلحِقون به مَضَرَّة ، فبيَّن - تعالى - أن ردَّتَهم لا تؤثر في لُحُوقِ ضررٍ بك . قال القاضي : ويقوى هذا الوجه بأن المستمر على الكفر لا يوصَفُ بأنه يسارعُ في الكفرِ ، وإنما يُوصَف بذلك مَنْ يكفر بعد الإيمان . وأيضاً فإن إرادته ألا يجعل لهم حَظَّاً في الآخرة لا تليق إلا بمن قد آمن واستوجب ذلك ، ثم أحبط . وأيضاً فإن الحُزْن إنما يكون على فوات أمرٍ مقصودٍ ، فلما قدَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الانتفاع بإيمانهم - ثم كفروا - حَزنَ صلى الله عليه وسلم عند ذلك ؛ لفوات التكثير بهم ، فآمنه الله من ذلك ، وعرَّفه أن وجودَ إيمانهم كعدمه في أن أحوالَه لا تتغير . وقيل : المراد رؤساء اليهود - كعب بن الأشرف وأصحابه - كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم لمتاع الدنيا . قال القَفَّال ولا يبعد حمل الآية على جميع أصناف الكفار ؛ لقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هِادُواْ } [ المائدة : 41 ] . فإن قيل : الحُزْن على كُفر الكافر ، ومعصية العاصي طاعة ، فكيف نهاه الله عن الطاعة ؟ فالجوابُ من وجهين : الأول : أنه كان يفرط في الحُزْن على كُفْر قومه ، حتَّى كاد يؤدي ذلك إلى لحوق الضرر به ، فنهاه الله تعالى عن الإسراف فيه ، كما قال : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] . الثاني : أن المعنى لا يُحْزنوكَ بخوف أن يضروك ، ويعينوا عليك ؛ ألا ترى إلى قوله : { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً } يعني : أنهم لا يضرون - بمسارعتهم في الكفر - غير أنفسهم ، ولا يعود وبال ذلك على غيرهم ألبتة . ثم قال : { يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي ٱلآخِرَةِ } وهذا تنصيصٌ وردٌّ على المعتزلة بأنَّ الخيرَ والشر بإرادة الله تعالى ، وتدل الآية - أيضاً - على أنَّ النكرةَ في سياق النَّفي تعم ؛ إذ لو لم يحصل العموم لم يحصل في تهديد الكفار بهذه الآية ، ثم قال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهذا كلام مبتدأ والمعنى : أنه كما لا حَظَّ لهم ألبتة من منافع الآخرة ، فلهم الحَظُّ العظيمُ من [ مضارِّها ] .