Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 100-100)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما رَغَّبَ في الهِجْرَة ، ذكر السَّبَب الذي يَمْنَع الإنْسَان من الهِجْرَة ثم أجَابَ عَنه ، وذلك المَانِعُ أمْرَان : الأوّل : أن يكون في وَطَنِه في راحةٍ وَرَفَاهِية فيظن لأنه بِمفَارَقَتِه للوَطَن يقع في الشِّدَّة وضيق العَيْش ، فأجاب اللَّه عن ذلك بقوله : { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً } . قال القرطبي : قوله : { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } شرط ، وجَوَابُه : { يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ } . واشتِقاق المُرَاغَم من الرغَام وهو التُّرَاب ؛ يقولون : رغم أنفه ، ويريدون أنه وَصَل إلى شَيْء يَكْرَهُه ؛ لأن الأنْفَ عضو في غاية العِزَّة ، والتُّرَاب في غاية الذِّلَّة ، فجعلوا قولهم : رغم أنْفه كنَايَةً عن الذُّلِّ ، إذا عرف هذا ، [ فنقول ] المشهُور أن هذه المُرَاغَمة إنِّما حصلَت بسبَب فراقهِم ، وخُرُوجهم عن دِيَارهم ، وعن ابن عبَّاس : " مُرَاغماً " [ أي ] : مُتَحَوِّلاً [ يتحوَّلُ إليه ] . وقال مُجَاهد : متَزَحْزحاً عما يكْره ، سُمِّيت المهاجرة مُرَاغَمَة ؛ لأن من يَهَاَجر يراغم قَوْمَه ؛ لأنه لا يجد ذلك [ البَلَد ] من النِّعْمَة والخَيْر ، ما يكون سَبَباً لرغم أنْفِ أعْدَائِه الَّذِين كَانُوا معه في بلدته الأصْلِيّة ، فإنه إذا اسْتَقَام حَالهُ في تِلْكَ البَلَد الأجْنَبِيَّة ، وَوَصَل خَبَرُه إلى أهْل بَلدتهِ ، خجلوا من سُوءِ معامَلَتِهم له ، ورغمت أنُوفُهم بذلك وهَذَا أوْلى الوُجُوه . وأمَّا المَانِعِ الثاني عن الهجرة : فهو أن الإنْسَان يَقُول : إن خَرَجْت عن بَلَدي لطلب هذا الغَرَضِ ، فربما وَصَلْتُ إليه ، وربَّما لم أصِلْ إليه ، فالأولى ألاَّ أُضِيعَ الرَّفَاهِيَة الحَاضَرة بسبب طَلَبِ شَيء قد يَحْصُل ، فأجَابَ الله - تعالى - عن ذَلِك بقوله : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ } . والمراد بـ " السِّعَة " : سعة الرِّزْق ، وقيل : سَعَة من الضَّلال إلى الهُدَى . قوله - تعالى - : { وَمَن يَخْرُجْ [ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } ] . روي أنه لما نَزَلت هذه الآيَةِ ، سَمِعَها رجلٌ من بَنِي لَيْث شَيْخٌ كبير مَرِيضٌ يقال له : جُنْدَعُ بن ضَمْرة ، فقال : واللَّه ما أنَا ممَّن استَثْنَى الله - عز وجل - ، وإني لأجِدُ حِيلَة ، ولي من المَالِ ما يُبَلِّغُنِي المَدِينَةَ وأبعد مِنْهَا ، واللَّه لا أبِيتُ اللَّيلة بمكَّة ، أخرِجُوني ، فخرجوا به يَحْمِلُونه على سَرير حتى أتَوْا به التَّنْعِيم ، فأدركه المَوْتُ ، فصفَّق بيمِينِه على شِمَالِه ، فقال : اللَّهُم هذه لك وهذه لِرَسُولِك ، أبَايعُك على ما بَايَعَك عليه رَسُولكُ ، فمات فَبَلَغ خَبَرُه أصْحَاب رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : لو وَافَى المَدِينَة لكان أتمَّ أجْراً . وضَحِكَ المُشْرِكُون وقالوا : ما أدْرَك هذا ما طَلَب ، فأنْزَلَ الله - تعالى - : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ [ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ } ] أي : قبل بُلُوغه إلى مهاجره ، " فقد وقع أجْرُه على اللَّه " . أي : وجَب بإيجَابِه على نفسه فَضْلاً مِنْه . و " مُهَاجِراً " نصب على الحالِ من فَاعِل " يَخْرُج " . فصل قال بَعْضُهم : إن من قَصَد طاعَةً وعجز عن إتْمَامِهَا ، كتب اللَّه ثَوابَ تِلْكَ الطَّاعَة ؛ كالمرِيض يَعْجَزُ عما كان يَعْمَلُه في حال صِحَّتِه من الطَّاعَة ، فيكتب الله [ لَهُ ] ثواب ذلك العَمَل ؛ هكذا رُوِي عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم . وقال آخَرُون : يُكْتَب له : أجر قَصْدِه ، وأجْر القَدْرِ الذي أتَى به من ذَلِكَ العَمَل ، أما أجْرُ تَمَام العَمَلِ ، فذلك مُحَالٌ . والقول الأوَّل أوْلى ؛ لأنه - تعالى - ذكر هذه الآيَةِ في مَعْرِض التَّرْغِيب في الهِجْرة ، وهو أنَّ من خرج للرَّغْبَة في الهِجْرة ، فقد وجد ثَوَاب الهِجْرَة ، والتَّرْغِيبُ إنما يَحْصُل بهذا المَعْنَى ، فأما القَوْل بأنّ معنى الآيةِ هو أن يَصِل إليه ثَوَابُ ذَلِكَ القَدْر من العَمَل ، فلا يَصْلُح مرغِّباً ؛ لأنه من المَعْلُوم أن كُلَّ من أتَى بِعَمَلٍ فإنه يَجِدُ الثَّوَاب المرتَّبَ على قَدْرِ ذلك العَمَل . فصل : شبه المعتزلة في وجوب الثواب على الله والرد عليها قالت المُعْتَزِلَة : هذه الآية تَدُلُّ على أن العمل يُوجِب الثَّوَاب على الله - تعالى - ؛ لقوله : { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ } ، وذلك يدلُّ على قَوْلِنَا من ثلاثة أوجُه : الأول : حقيقة الوُجُوب هو الوُقُوع والسُّقُوط ؛ قال - تعالى - : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } [ الحج : 36 ] أي وقعت وسَقَطَت . وثانِيها : أنه ذَكَرُه بلفظ الأجْر ، والأجر عبارة عن المَنْفَعَة المسْتَحقِّة ، فأمَّا الذي لا يكُون مُسْتَحقاً ، فلا يُسَمَّى أجْراً ، بل يُسمَّى هِبَةً . وثالثها : قوله : " على الله " وكلمة " عَلَى " للوُجُوب ؛ قال - تعالى - : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ [ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } ] [ آل عمران : 97 ] . والجواب : أنا لا نُنَازعُ في الوُجُوب ، لكن بِحُكْم الوَعْد والتَّفْضُّل والكرم ، لا بحكم الاسْتِحْقَاق الذي لو لم يفْعَل لخَرَج عن الإلهيَّة . فصل نقل القُرْطُبِي عن مالكٍ ؛ أنه قال : هذه الآية تدلُّ على أنَّهُ ليس لأحَدٍ المُقَامُ بأرض يُسَبُّ فيها السَّلَفُ ويُعْمَلُ فيها بِغَيْر الحَقِّ . فصل استدَلُّوا بهذه الآيَةِ على أنَّ الغَازِي إذا مَاتَ في الطَّرِيقِ ، وَجَبَ سهْمُهُ في الغَنِيمَةِ ، كما وَجَبَ أجْرُه ، وفيه ضَعْفٌ ؛ لأن لَفْظَ الآيَةِ مَخْصُوص بالأجْر ، وأيْضاً فاسْتِحْقَاق السَّهم من الغَنِيمَة مُسْتَحقٌّ بحيازَتِها ، إذ لا يَكُون ذلك إلا بَعْد حِيَازَتِها . قوله - تعالى - : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } قال عِكْرمَة مَوْلى ابْن عبَّاس : طَلَبْتُ اسم هذا الرَّجُل أرْبَع عَشْرَة سَنَة حتى وَجَدْتُه ، وفي قول عِكْرمة [ هذا ] دَلِيلٌ على شَرَفِ هذا العِلْمِ ، وأنَّ الاعْتِنَاء به حَسَنٌ والمَعْرِفَة به فَضْلٌ ؛ ونحوه قول [ ابن عبَّاسٍ ] : مكثت سِنين أريد أن أسْأل عُمَر - رضي الله عنه - عن المَرْأتَيْن اللَّتَيْن تظاهرتا على رسُول الله صلى الله عليه وسلم فما يَمْنَعُنِي إلا مَهَابَتُه ، والذي ذَكَرَه عِكْرِمَة هو قَوْل ضمرة بن العِيص ، أو العيص بن ضمرة بن زِنْبَاع ، حَكَاه الطَّبَرِي عن سَعِيد بن جُبَيْر ، ويقال فيه ضُمَيْرة أيضاً ، وذَكَرَ أبُو عمرو أنَّه قد قِيلَ فيه : خَالِد بن حزام بن خُوَيْلد ابن أخِي خَدِيجَة [ خرج ] مُهَاجراً إلى أرْض الحَبَشَة ، فَهَتَفَتْهُ حيَّة في الطَّرِيق ، فمات قبل أن يَبْلُغ أرْض الحَبَشَة ؛ فأنزل الله فِيهِ الآية ، وحكى ابْن الحَوْزِيّ أنه حَبيبُ بن ضَمْرة . وقال السُّدِّيُّ : ضَمْرة بن جُنْدب الضمريّ . وحكى المهدَوِيّ أنه ضمرة بن ضمرة بن نُعيم ، وقيل ضمرة بن خُزاعَةَ . وروى معمر عن قتادة : لما نَزَل قوله - تعالى - : { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } [ النساء : 97 ] قال رَجُل من المُسْلِمِين وهو مَرِيضٌ : والله - تعالى - ما لي عُذْرٌ : إني لَدَلِيل في الطَّرِيق وإني لمُوسِرٌ ، فاحْمِلُوني فأدْركه المَوْتُ في الطَّرِيق ، فقال أصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم : لو بَلَغ إلَيْنَا لتَمَّ أجْرُه ، وقد مات بالتَّنْعِيم ، وجاء بَنُوه إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأخبروه بالقِصَّة ، فنزل قوله : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً [ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } ] الآية . قوله : " ثم يدركه " الجُمْهُور على جَزْم " يدركْه " عَطْفاً على الشَّرْطِ قبله ، وجوابه : " فقد وقع " وقرأ الحَسَن البصري بالنَّصْب . قال ابن جِنِّي : " وهذا لَيْس بالسَّهْل ، وإنما بَابُه الشَّعْر لا القُرْآنُ ، وأنشد [ الوافر ] @ 1868 - سَأتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيم وَألْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأسْتَرِيحَا @@ والآيةُ أقْوَى من هذا ؛ لتقدُّم الشرط قَبْلَ المَعْطُوف " ، يعني : أن النَّصْب بإضْمَار " أن " إنَّمَا يقع بعد الواوِ والفَاءِ في جَوَابِ الأشْيَاء الثَّمانية أو عَاطِفٍ ، على تَفْصِيلٍ في كُتُب النحو ، والنَّصْبُ بإضْمَار " أن " في غَير تِلْك المَوَاضِع ضَرُورَةٌ ؛ كالبيتِ المتقدم ؛ وكَقوْل الآخر : [ الطويل ] @ 1869 - … وَيَأوِي إلَيْهَا المُسْتَجِيرُ فَيُعْصَمَا @@ وتبع الزَّمَخْشِري أبا الفَتْح في ذلك ، وأنْشَد البَيْت الأوَّل . وهذه المَسْألة جَوَّزها الكُوفيُّون لمدركٍ أخرَ ، وهو أن الفِعْلَ الواقِع بين الشَّرْط والجَزَاء ، يجوز فيه الرَّفْعُ والنَّصْبُ والجَزْمُ إذا وَقَعَ بعد الواوِ والفَاءِ ؛ واستدَلُّوا بقول الشَّاعر : [ الطويل ] @ 1870 - ومَنْ لا يُقَدِّمْ رِجْلَهُ مُطْمَئِنَّةً فَيُثْبِتَهَا فِي مُسْتَوى الْقَاعِ يَزْلَقِ @@ وقول الآخر : [ الطويل ] @ 1871 - ومَنْ يَقْتَربْ مِنَّا ويَخْضَعَ نُؤوِه ولا يَخْشَ ظُلْماً مَا أقَامَ وَلاَ هَضْمَا @@ وإذا ثَبَتَ ذلك في الواوِ والفَاءِ ، فليَجُزْ في " ثُمَّ " ؛ لأنها حَرْف عَطْفٍ . وقرأ النَّخعِيُّ ، وطَلْحَة بن مُصَرِّف برفع الكَافِ ، وخَرَّجَها ابن جنِّي على إضْمَار مُبْتَدأ ، أي : " ثم هو يُدْرِكُه المَوْتُ " فعطفَ جُمْلَةً اسمِيّة على فِعْليّة ، وهي جُمْلَة الشَّرْطِ : الفعلُ المَجْزُومُ وفاعلُه ، وعلى ذلك حَمَل يُونُس قولَ الأعْشَى : [ البسيط ] @ 1872 - إنْ تَرْكَبُوا فَرُكُوبُ الخَيْلِ عَادَتُنَا أوْ تَنْزِلُون فَإنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ @@ أي : وأنتم تنزلون ، ومثله قول الآخر : [ البسيط ] @ 1873 - إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأتِيِنِي بَقِيَّتُكُمْ فَمَا عَلَيَّ بِذَنْبٍ عِنْدَكُمْ حُوبُ @@ أي : ثم أنتم تَأتيني ، وهذا أوْجهُ من أن يُحْمَل على أن يَأتِيني . قلتُ : يريدُ أنه لا يُحْمَلُ على إهْمَالِ الجَازِمِ ، فيُرْفَعُ الفعل بعده ، كما رفع في : @ 1874 - ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي بِمَا لاَقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَادِ @@ فلم يَحْذِفِ اليَاء ، وهذا البَيْت أنشده النَّحويُّون على أنَّ عَلاَمَةَ الجَزْم ، حَذْفُ الحَرَكَةِ المُقَدَّرة في حَرْفِ العِلَّة ، وضَمُّوا إليه أبياتاً أخَرَ ، أمَّا أنَّهم يَزْعُمُون : أنَّ حَرْف الجَزْم يُهْمل ، ويَسْتدلون بهذا البَيْت فَلاَ . ومنهم مَنْ خَرَّجَهَا على وَجْه أخَر ؛ وهو أنه أراد الوَقْفَ على الكلمة ، فنقلَ حَركَة هَاءِ الضَّمِير إلى الكَافِ السَّاكنَة للجَزْمِ ، كقولِ الآخَر : [ الرجز ] @ 1875 - عَجِبْتُ والدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُه مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّنِي لَمْ أضْرِبُهْ @@ يريد : " لم أضْرِبْه " بسكون البَاء للجَازِم ، ثم نَقَل إليها حَركَة الهاءِ ، فصار اللَّفْظُ " ثم يُدْرِكُهْ " ثم أجْرََى الوصْلَ مُجْرى الوَقْفِ ، التقى ساكنان ، فاحْتاجَ إلى تَحْرِيك الأوَّلِ وهو الهَاءُ ، فَحَرَّكها بالضَّمِّ ؛ لأنه الأصلُ ، وللإتباع أيضاً . ثمَّ قالَ اللَّه - تعالى - : { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي : ويَغْفِرُ [ اللَّه ] ما كَانَ مِنْهُ [ مِنِ القُعود ] إلَى أنْ خَرَجَ . فصل قال ابن العَرَبِيَّ : قَسَّمَ العُلَمَاءُ الذِّهَاب في الأرْض [ إلى ] قسمين : هَرباً ، وطلباً . والأول ينْقَسِم سِتَّة أقْسَام : أحدها : الهِجْرَة : وهي الخُروج من دَارِ الحرب إلى دَار الإسْلام ، وكانت فَرْضاً في أيَّام النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهذه الهِجْرَةِ باقيةٌ مفروضَةٌ إلى يَوْمِ القِيَامَة ، والَّتِي انقطعت بالفَتْح : هي القَصْد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حَيْثُ كَانَ ، فإنْ بَقِيَ في دَارِ الحَرْب ، عصى ويختلف في حَالِه . وثانيها : الخُرُوج من أرْض البِدْعَة ؛ كما تقَدَّم نَقْلُه عن مالك ؛ فإنه إذا لم يَقْدِر على إزَالة المُنْكَر يَزُولُ عَنْهُ ، قال [ الله ] - تعالى - : { وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ الأنعام : 68 ] . وثالثها : الخُرُوج من أرض غلب عليها الحرامُ ؛ لأن طَلَب فَرْضٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ . ورابعها : الفِرَار من الأذِيَّة في البَدَن ، وذلك فَضْل من اللَّه ورُخْصَةٌ ؛ كما فَعَل إبْراهيم - عليه الصلاة والسلام - لمَّا خَاف من قَوْمه وقال : { إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ } [ العنكبوت : 26 ] ، وقال : { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الصافات : 99 ] ، وقال - تعالى - حكاية عن موسى - عليه الصلاة والسلام : { فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } [ القصص : 21 ] . وخامسها : خَوْف المَرَضِ في البلاد الوَخمة ، فيخرج إلى أرْضِ النزهة ؛ لأن النِّبي صلى الله عليه وسلم أذن للرُّعاة حين استَوْخَمُوا المدينة ، أن يَخْرُجُوا إلى المَسْرَح فيكونوا فيه ؛ حتى ما يَصحُّوا ، وقد استُثْني من ذلك الخُرُوج من الطَّاعُون ، بِمَا في الحَدِيث الصَّحيح . وسادسها : الفِرَار خَوْف الأذِيَّة في المَالِ ، فإن حُرْمة مال المُسْلِم ؛ كَحُرْمَة دَمِه . وأما الطَّلَبُ فينقسم قِسْمَيْن : طلب دِين وطَلَب دُنْيَا . فأمَّا طَلَب الدِّين فينقسم إلى تِسْعَة أقْسَام : الأول : سَفَر العِبْرة ، قال تعالى : { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ [ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ] [ الروم : 9 ] . يقال : إنَّ ذا القَرْنَيْنِ إنَّما طَافَ الأرْضَ ؛ ليرى عَجَائِبَها ، وقيل : ليُنْفِذَ الحَقَّ فيها . الثاني : سفر الحَجِّ ، فالأوَّل نَدْب ، وهذا فَرْضٌ . الثالث : الجهاد [ وله أحكامُه ] . الرابع : سَفَر المعاش ؛ إذا تَعَذَّر على الرَّجُل مَعَاشُه مع الإقامة ، فيخرج في طَلَبِه لا يزيد عَلَيْه ؛ من صَيْد ، أو احتِطَابٍ ، أو احتشَاسٍ ، فهو فَرْضٌ عَلَيْه . الخامس : سَفَر التِّجَارة والكَسْب الزَّائِد على القُوتِ ، وذلك جَائِزٌ بفضل الله تعالى ؛ قال - تعالى - : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } [ البقرة : 198 ] يعني : التِّجَارة ، وهو نِعْمَة مَنَّ الله بِهَا في سَفَر الحَجِّ ، [ فكيف إذَا انْفَرَدَتْ ] . السَّادس : طلب العِلْم . السَّابِع : قصد البِقَاع الشَّرِيفة ؛ قال - عليه الصلاة والسلام - " لا تُشَدُّ الرِّحَال إلاَّ إلى ثَلاثَةِ مَسَاجِد " . الثَّامن : الثُّغُور للرِّبَاط بها . التاسع : زيارة الإخْوَان في الله - تعالى - ؛ قال - عليه الصلاة والسلام : " زارَ رجُلٌ أخاً لَهُ في قَرْيَة ، [ فأَرْصَدَ الله له مَلَكاً على مدرجته ، فقال : أيْن تُرِيدُ ، قال : أريد أخاً لِي في هَذِهِ القَرْيَة ] ، فقال : هل له عَلَيْك من نِعْمَةٍ تَرُبُّها عَلَيْه ، قال : إني أحْبَبْتُه في اللَّه ، قال : فإني رسُول اللَّه إلَيْك ، بأنَّ الله قد أحَبَّك كَمَا أحْبَبْتَهُ فيه " [ رواه مسلم ، وغيره ] .