Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 117-121)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
" إن " هُنَا مَعْنَاها : النَّفْي ؛ كقوله - تعالى - : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } [ النساء : 159 ] " ويَدْعُون " : بمعنى : يَعْبُدُون ، نزلت في أهْل مَكَّة ، أي : يَعْبُدُون ، كقوله [ - تعالى - ] : { وَقَالَ رَبُّكُـمُ ٱدْعُونِيۤ } [ غافر : 60 ] فإنَّ مَنْ عَبَد شَيْئاً ، فإنَّه يدعوه عِنْد احْتِيَاجِهِ إليْه ، وقوله : " مِن دُونِهِ " أي : من دُونِ اللَّه . قوله : " إلا إناثاً " : في هذه اللَّفْظَةِ تِسْعُ قراءاتٍ . المشهُورةُ : وهي جَمْع أنْثى ، نحو : رباب جمعُ رُبَّى . والثانية : وبها قَرَأ الحسن : " أنْثَى " بالإِفْرَاد ، والمرادُ به الجَمْع . والثالثة : - وبها قَرَأ ابن عبَّاسٍ ، وأبو حَيْوَة ، وعَطَاء ، والحَسَن أيْضاً ، ومعاذ القَارِئ ، وأبو العَالِيَة ، وأبُو نُهَيْك - : " إلا أنُثاً " كرُسُل ، وفيها ثلاثةُ أوجه : أحدها : - [ وبه ] قال ابن جَرِيرٍ - أنه جمعُ " إناث " ؛ كثِمار وثُمُر ، وإناثٌ جمع أنْثَى ، فهو جَمْع الجَمْع ، وهو شَاذٌّ عند النحويِّين . والثاني : أنه جَمْع " أنيثٍ " كَقَلِيب وقُلُب ، وغَدِير وغُدُر ، والأنيثُ من الرِّجَال : المُخَنَّثُ الضَّعِيفُ ، ومنه " سَيْف أنِيثٌ ، ومئنَاث ، ومئنَاثَة " أي : غَيْر قَاطِعٍ قال صخر : [ الوافر ] @ 1877 - فَتُخْبِرهُ بأنَّ العَقْلَ عِنْدِي جُرَازٌ لا أفَلُّ وَلاَ أنِيثُ @@ والثَّالث : أنه مُفْرَدٌ أي : يكون من الصِّفات التي جاءت على فُعُل ، نحو : امرأة حُنُثٌ . والرابعة : وبها قَرَأ سَعْدُ بن أبِي وقَّاصٍ ، وابْن عُمَر ، وأبو الجَوْزَاء - " وثنا " بفتحِ الواوِ والثَّاء على أنَّه مفردٌ يراد به الجَمْع . والخامسة - وبها قَرَأ سعيد بن المُسَيب ، ومُسْلم بن جُنْدُب ، وابن عبَّاسٍ أيْضاً - " أثُنا " بضم الهمزة والثاء ، وفيها وجهان : أظهرهما : أنه جَمْع وثَن ، نحو : " أسَد وأُسُد " ثم قَلَب الوَاوَ همزةً ؛ لضمِّها ضمّاً لازماً ، والأصْلُ : " وُثُن " ثم أُثُن . والثاني : أن " وَثَناً " المُفْردَ جمع على " وِثانٍ " نحو : جَمَل وجمال ، وجَبَل وجِبال ، ثم جُمِع " وثان " على " وُثُن " نحو : حِمَار وحُمُر ، ثم قُلبت الواوُ همزةً لما تقدَّم ؛ فهو جمعُ الجَمْعِ . وقد رَدَّ ابن عَطِيَّة هذا الوجه بأنَّ فِعَالاً جمعُ كثرة ، وجُمُوعُ الكَثْرة لا تُجْمَع ثانياً ، إنما يُجْمَعُ من الجُمُوعِ ما كان من جُمُوعِ القِلَّة . وفيه مُنَاقَشَةٌ من حَيْثُ إنَّ الجَمْع لا يُجْمَع إلا شَاذّاً ، سواءً كان من جُمُوعِ القِلَّة ، أم من غيرها . والسادسة - وبها قَرَأ أيُوب السَّختياني - : " وُثُناً " وهي أصْل القراءة التي قبلها . والسَّابعة والثَّامنة : " أُثْنا ووُثْنا " بسُكُونِ الثَّاء مع الهَمْزَة والوَاوِ ، وهي تَخْفِيفُ فُعُل ؛ كسُقُف . والتاسعة - وبها قرأ أبو السوار ، وكذا وُجِدَتْ في مُصْحَفِ عَائِشة - رضي الله عنها - : " إلا أوْثاناً " جَمْعَ " وَثَن " نَحْو : جَمَل وأجْمال ، وجَبَل وأجْبال . فصل وسُمِّيَتْ أصْنَامهم إناثاً ؛ لأنهم كانوا يُلْبسُونها أنواع الحُلِيِّ ، ويسمونها بأسْمَاءِ المُؤنثات ، نحو : اللاَّت ، والعُزَّى ، ومناةَ ، وقد ردَّ هذا بَعْضُهم بأنَّهم كانوا يُسَمُّون بأسْمَاء الذُّكُور ، نحو : هُبَل ، وذِي الخَلَصَة ، وفيه نظر ؛ لأن الغَالِب تَسميتُهُم بأسماء الإناثِ ، و " مُرِيداً " : فَعِيل من " مَرَدَ " أي : تَجرَّد للشَّرِّ ، ومنه " شَجَرَة مَرْداء " أي : تناثر وَرَقُها ، ومنه : الأمْرَدُ ؛ لتجرُّدِ وَجْهِه من الشَّعْر ، والصَّرْحُ الممرَّد : الذي لا يَعْلُوه غُبَارٌ من ذَلِك فاللاَّت : تَأنيث اللَّه والعُزَّى : تأنيث العَزِيز . قال الحَسَن : لَمْ يكن حَيٌّ من أحْيَاء العَرَب إلا وَلَهُم صَنَمٌ يعبُدُونه ، ويسمى أنْثَى بَنِي فُلان ، ويدُلُّ عليه قِرَاءة عَائِشَة . وقال الضَّحَّاك : كان بعضهم يَعْبُد الملائِكَة ، وكانوا يقُولُون : المَلاَئكة بَنَاتُ اللَّه ، قال - تعالى - : { ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ ٱلْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ ٱلأُنثَىٰ } [ النجم : 27 ] . وقال الحسن : قوله " إلاَّ إناثاً " أي : إلا مَوْتاً ، وفي تسمية الأمْوَات إنَاثاً وجهان : الأوَّل : إن الإخْبَار عن الموات يكُون على صِيغَة الإخْبَارِ عن الأنْثَى ، تقُول : هذه الأحْجَار تُعْجِبُنِي ، كما تقُول : هذه المَرْأة تُعْجِبُني . الثَّاني : الأنْثَى أخسّ من الذَّكر ، والمَيِّت أخسُّ من الحَيِّ ، فلهذهِ المُنَاسَبة أطْلَقُوا اسمْ الأنْثَى على الجَمَادَات المَوَاتِ ، والمَقْصُود هل إنسان أجهل ممن أشرك . قوله : { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً } فعيلٌ من مَرَدَ إذا عَتَا ، ومنه : شَجَرةٌ مَرْدَاء ، أي : تَنَاثَر وَرَقُها ، ومنه : الأمْرَد ؛ لتجرّد وجهه من الشَّعْر ، والصَّرْحُ الممرَّدُ : الذي لا يَعْلُوه غُبَار ، وقرأ أبو رَجَاء ويُرْوى عن عاصِمٍ " تَدْعُونَ " بالخِطَاب . فصل قال المفُسِّرونُ : كان [ في ] كُلُّ واحدٍ من تِلْك الأوثَان شَيْطَان يَتراءَى للسَّدَنَة والكَهَنَة يُكَلِّمُهُم . وقل الزَّجَّاج : المُرادُ بالشَّيْطَان هَاهُنَا : إبْلِيس ؛ لقوله - تعالى - : بعد ذلك : { لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } . وهذا قول إبْلِيس ، ولا يَبْعُد أنّ الذي يتراءى للسَّدنة ، هو إبْلِيس . قوله : " لَعَنَهُ الله " فيه وجهان : أظهرهما : أنَّ الجُمْلَة صِفَةٌ لـ " شيطاناً " ، فهي في مَحَلِّ نَصْب . والثاني : أنها مُسْتأنفةٌ : إمَّا إخْبَار بذلك ، وإمَّا دُعَاء عليه ، وقوله : " وقال " فيه ثلاثة أوجه : قال الزَّمَخْشَرِيُّ : قوله لَعَنَهُ " وقال لأتَّخِذَنَّ " صِفَتَان ، يعني : شيطاناً مَرِيداً جَامِعاً بين لَعْنَة اللَّه ، وهذا القَوْل الشَّنِيعِ . الثاني : الحالُ على إضْمَار " قد " أيْ : وقد قَالَ . الثالث : الاستئناف . و " لأتخِذَنَّ " جوابُ قسمٍ مَحْذُوف ، و " مِنْ عبادك " يجوزُ أن يتعلَّق بالفعل قبله ، أو بمحذوفٍ على أنَّه حَالٌ من " نَصِيباً " ؛ لأنه في الأصْلِ صِفَةُ نكرةٍ قُدِّم عليها . فصل النَّصِيب المَفْرُوض : أي : حظاً مَعْلُوماً ، وهم الذين يَتَّبِعُون خُطُواته ، والفَرْضُ في اللغة ، التَّأثِير ، ومنه : فرض القَوْس للجُزْء الذي يُشَدُّ فيه الوَتَر ، والفريضة : ما فَرَضَهُ اللَّه على عِبَادِهِ حَتْماً عليهم . رُوِي عنه النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : " من كُلِّ ألْفٍ واحدٌ للَّه ، والبَاقِي للشَّيْطَان " . فإن قيل : العَقْل والنَّقْل يدلاَّن على أنَّ حِزْب اللَّه أقلُّ من حِزْب الشَّيطان . أما النَّقْل : فقوله - تعالى - : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 249 ] ، وحُكِيَ عن الشيطان قوله { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ] ، وقوله : { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ الحجر : 39 ، 40 ] ، ولا شك أن المُخْلَصِين قليلُون . وأمَّا العَقْل : فهو أنّ الفُسَّاق والكُفَّار كُلَّهم حِزْب إبليس . إذا ثَبَت هذا ، فلفظ النَّصِيب إنَّما يتناول القِسْم الأوّل . فالجواب : أنَّ هذا التَّفَاوُت إنَّما يَحْصُل في نَوْعٍ من البَشَر ، أمَّا إذا ضَمَمت زُمْرَة الملائِكَة مع غَاية كَثْرَتِهِم إلى المُؤمنين ، كانت الغَلَبَة للمُؤمِنِين . وأيضاً : فالمُؤمِنُون وإن كانُوا قَلِيلين في العَدَدِ ، إلاَّ أن مَنْصِبَهُم عَظِيم عند الله ، والكُفَّار ، والفُسَّاق وإن كانُوا أكْثَر في العددِ ، فهم كالعَدَم ؛ فلهذا وقع اسم النَّصِيب على قَوْم إبْلِيس . قوله : " ولأضِلَّنَّهُمْ " يَعْنِي : عن الحَقِّ ، أو عن الهُدَى ، وأراد به : التَّزْيين ، وإلا فليْس إليه من الإضْلال شَيْء . ولأمَنِّيَنَّهم : بالباطل ، ولآمُرَنَّهم : بالضلال ، كذا قدَّره أبو البقاء ، والأحْسَنُ أن يُقَدَّر المحذُوفُ ، من جنس المَلْفُوظِ به ، أي : ولآمُرَنَّهم بالبَتْكِ ، ولآمُرَنَّهم بالتَّغْيير . وقرأ أبو عمرو فِيما نَقَل عنه ابْن عَطِيَّة : " ولأمُرَنَّهم " بغيرِ ألفٍ ، وهو قصرٌ شاذٌّ لا يُقاسُ عليه ، ويجُوز ألاَّ يُقَدَّر شَيءٌ من ذلك ؛ لأنَّ القَصْدَ : الإخْبَارُ بوقوعِ هذه الأفْعَال من غيرِ نَظَرٍ إلى مُتعلَّقاتِها ، نحو : { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } [ الطور : 19 ] . فصل قالت المُعْتَزِلَة : قوله : " ولأضِلَّنَّهُم " يدل على أصْلَيْن عظيمين : أحدهما : أن المُضِلَّ هو الشَّيْطَان ، وليس المُضِلُّ هو اللَّه - تعالى - ؛ لأنَّ الشيطان ادَّعى ذَلِك ، والله - سبحانه وتعالى - ما كذَّبَهُ فيه ، فَهُو كقوله : { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 39 ] وقوله : { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ] وقوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الأعراف : 16 ] ، وأيضاً : فإنه - تعالى - وَصَفَه بكونه مُضِلاًّ [ للنَّاسِ ] في معرض الذَّمِّ له ، وذلك يَمْنَع من كون الإله مَوْصُوفاً بذلك . [ الثاني : أن أهْل السُّنَّة يقُولُون : الإضْلال عِبَارة عن خَلْق الكُفْر والضَّلال ، ونَحْنُ نَقُول : لَيْس الإضلال عِبَارة عن خَلْقِ الكُفْرِ والضَّلال ] ؛ لأن إبْلِيس وَصَفَ نَفْسَه بأنه مُضِلٌّ ، مع أنه بالإجْمَاعِ لا يَقْدِر على خلق الضَّلال . والجواب : أن هذا كلامُ إبليس ، فلا يكون حُجَّةً ، وأيضاً : فكلامه في هذه المسألة مُضْطَرِبٌ جِدّاً . فتارةً يَمِيل إلى القَدَرِ المَحْض ، وهو قوله : " لأغويَنَّهُم " وأخرى إلى الجبْرِ المَحْضِ ، وهو قوله : { رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } [ الحجر : 39 ] وتارة يَظْهَرُ التَّردد فيهن حَيْث قال : { رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } [ القصص : 63 ] يَعْني : أنه قال هؤلاء الكُفَّار : نحن أغْويْنَا ، فمن الذي أغْوَانا عن الدِّين ؟ فلا بُدَّ من انْتِهَاء الكلِّ في الآخِرة إلى اللَّه . قوله : " ولأمَنِّيَنَّهُم " قيل : أمَنِّينَّهُم ركوب الأهْوَاء . وقيل : أمَنِّيَنَّهُم إدْرَاك الآخِرَة مع ركوب المَعَاصِي . قوله : { ولآمرنَّهم فليبتّكُنّ ءاذان الأنعامِ } أي : يَقْطَعُونها ، ويَشقُّونها ، وهي البَحِيرة ، والبتكُ : القَطْعُ والشّقُّ ، والبِتْكَة : القطعة من الشيء ، جَمْعُها : بِتَك ، قال : [ البسيط ] @ 1878 - حَتَّى إذَا مَا هَوَتْ كَفُّ الغُلاَمِ لَهَا طَارَتْ وَفِي كَفِّهِ مِنْ رِيشِهَا بِتَكُ @@ ومعنى ذلك : أنَّ الجاهليَّة كانوا يَشُقُّون أذُن النَّاقَة إذا ولدت خَمْسَة أبْطُن ، آخرُها ذَكَر ، وحرَّمُوا على أنْفُسِهِم الانتفاع بها ، وقال آخرون : كانوا يَقْطَعُون آذَان الأنْعَام نُسُكاً في عِبَادَة الأوْثَان ، ويَظُنُّون أنَّ ذلك عِبَادة ، مع أنَّه في نفسه كُفْرٌ وفِسْقٌ . قوله : { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ } هذه اللاَّمات كلها للقَسَم . قال ابن عبَّاسٍ : والحَسَن [ ومُجَاهِدٌ ] وسعيد بن جُبَيْر ، وسَعِيد بن المسيَّب والسُّدِّي ، والضَّحاك ، والنَّخْعِيُ : دِينُ الله ، كقوله { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ } [ الروم : 30 ] أي : لدين اللَّه ، وفي تَفْسير هذا القَوْل وَجْهَان : الأول : أن اللَّه - تعالى - فطر الخَلْقَ على الإسْلام يَوْم أخْرَجَهُم من ظَهْر آدَم كالذَّرِّ ، وأشْهَدَهُم على أنْفُسِهم ، ألَسْتُ بِربِّكم ؛ قالوا بَلَى ، فمن كَفَر به ، فقد غيَّر فِطْرَة اللَّه تعالى ؛ يؤيده قوله - عليه الصلاة والسلام - " كل مَوْلُود يُولَدُ على الفِطْرة ، فأبواه يُهوِّدَانه ، ويُنَصِّرانه ، ويُمَجِّسانه " . والثاني : أن التَّغْيير : تَبْدِيل الحَلالِ حَراماً ، والحرام حَلاَلاً . وقال الحسن ، وعكرمة ، وجماعة من المُفسِّرين : التَّغْيِير : ما روى عبد اللَّه [ بن مَسْعُود ] عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم [ أنَّه ] قال : " لَعَن اللَّه الوَاشِمَاتِ والمُسْتَوشِمَات " . قالوا : لأنَّ المرأة تَتَوصَّل بهذه الأفعال إلى الزِّنا ، و " لَعَن رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم النامِصَة والمُتَنَمِّصَة ، والوَاصِلَة والمُتَوَصِّلة ، والوَاشِمة والمُتَوَشِّمَة " . قال القرطبي ، قال مَالِك ، وجماعة : إن الوَصْل بكل شَيء ، من الصُّوفِ والخِرق وغَيْر ذَلِك في مَعْنَى وصله بالشَّعْر ، وأجازه اللَّيْث بن سَعْد ، وأباح بَعْضُهم وَضْع الشَّعْر على الرَّأس من غير وَصْل ، قالوا : لأن النهي إنما جَاءَ في الوَصْل ، والمُتَنمِّصَةُ : هي التي تَقْطَع الشَّعْر من وَجْهِهَا بالنِّمَاص ، وهو الذي يقلع الشَّعْر . قال ابن العرَبيِّ : وأهلْ مِصر يَنْتفُون شَعْر العانَة ، وهو منه ، فإن السُّنَّة حَلْق العَانَة ، ونَتْفُ الإبط ، فأما نَتْفُ الفَرْج فإنه يُرخيه ويؤذِيه ويُبْطل كَثِيراً من المَنْفَعَةِ فيه . وأمَّا الوَاشِمَة والمُسْتَوْشِمَة ، فهي الَّتِي تغرز ظَهْر كَفِّها ومِعْصَمَها ، ووجْههَا بإبْرَةٍ ، ثُمَّ يحشى ذلك المكانُ بالكُحْل أو بالنؤر ، فيخْضَرّ ، وفي بعض الروايات " الواشية ، والمُسْتَوْشِيَة " باليَاء مكان المِيم ، والوَشْي : التَّزَيُّن ، مأخوذ من نَسْج الثَّوْب على لونين ، وثورٌ مُوشًّى : في وَجْهِه وقوَائِمِه سوادٌ ، وأما الوشْمٌ فجائز في كل الأعْضَاء غير الوَجْه ؛ لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - " نهى عن الضَّرْب في الوَجْه وعن الوَشْمِ في الوجْهِ " ، ورُوي عن أنس ، وشهر بن حَوْشَب ، وعِكْرِمَة ، وأبِي صالح : التَّغْيير هَهُنَا هو الإخْصَاء ، وقطع الآذان ، وفَقْأ العُيُون ؛ لأن فيه تَعْذِيب للحَيَوان ، وتَحْريم وتَحْلِيل بغير دليلٍ ، والآذَان في الأنْعَام جمالٌ ومَنْفَعة ، وكذلِك غيرها من الأعْضَاء ، فَحَرّم عليهم الشَّيْطَان ما أحلَّه اللَّه لهم ، وأمرَهُم أن يشركوا باللَّه ما لم يُنَزِّل به سُلْطَاناً ، ولما كان هذا من فِعْل الشَّيْطَان ، أمرنا رسُول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العَيْن والأذُن ، ولا نُضَحِّي بعَوْرَاءَ ، ولا مُقَابَلة ، ولا مُدَابرة ؛ ولهذا كان أنَس يكره إخْصَاء الغَنَم ، وحرمه بَعْضُهم . قال القُرْطُبِي : فأما خِصاء الآدمِيِّ ، فمصيبَةٌ ، فإنَّه إذا خُصِي ، بَطَل قلبه وقُوَّته ، عَكْس الحَيَوان ، وانْقَطع نَسْلُه المأمُور به فِي قوله - عليه الصلاة والسلام - : " تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا " ثم إن فيه ألَماً عَظِيماً ، ربما يُفْضِي بَصَاحِبهِ إلى الهلاكِ ، فيكون [ فيه ] تضْييع مالٍ ، وإذْهَابُ نَفْسٍ ، وكل ذلك مَنْهِيٌّ عنه ، ثم هذه مُثْلَةٌ ، وقد نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن المُثْلَةِ ، وجوَّز بَعْضُهم في البَهَائِم ؛ لأن فيه غَرَضاً ، وكانت العَرَب إذا بَلغَتْ إبلُ أحَدِهِمْ ألْفاً عوَّرُوا عَيْنَ فَحْلِها . وحكى الزَّجَّاج عن بعضهم : التَّغْيير هو أن اللَّه - تعالى - خلق الأنْعامَ للرُّكُوب والأكْل ، فحربوها ، وخَلَق الشَّمْس ، والقَمَر ، والنُّجُوم ، والأحْجَار لمنفعة العِبَاد ، فعبدوها من دُونِ اللَّه . وقيل : التَّغْيير هو التَّخَنُّث ؛ وهو عِبَارَةٌ عن الذكر يُشْبِهُ الأنْثَى والسُّحْق ؛ عِبَارة عن تَشَبُّه الأنْثَى بالذّكر . ثم قال : { وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } أي : ربًّا يطيعه ، { فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً } لأن طاعة اللَّه تعالى تُفِيد المَنَافِع العَظِيمة ، الدَّائِمة ، الخَالِصَة عن شَوائب الضَّرَر ، وطاعَة الشَّيْطَان تفيد المَنَافِع القَلِيلَة ، المُنْقَطِعة ، المشوبة بالغموم والأحزان ، ويعمها العَذَاب الدَّائِم ، وهذا هُو الخسَار المُطْلَق . قال أبُو العبَّاس المُقْرِي : ورد لَفْظُ الخُسْرَان [ قي القرآن ] على أربَعَة أوْجُه : الأوَّل : بمعنى الضَّلالة ؛ كهذه الآيَة . الثَّاني : بمعنى العَجْز ؛ قال - تعالى - : { لَئِنْ أَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } [ يوسف : 14 ] أي : عَاجِزُون ومثله : { لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } [ الأعراف : 90 ] . الثَّالث : بمعنى الغَبْن ؛ قال - تعالى - : { ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } [ المؤمنون : 103 ] أي : غبنوا أنْفُسَهم . الرابع : بمعنى : المُخسِرُون ؛ قال - تعالى - : { خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ [ ٱلْمُبِينُ ] } [ الحج : 11 ] . قوله : " يَعدُهُمْ وَيُمَنِّيهمْ " ، قُرِئَ : " يَعدْهُمْ " بسُكون الدَّال تَخْفِيفاً ؛ لتوالي الحَرَكات ، ومَفْعُولُ الوَعْد مَحْذُوفٌ ، أي : يعدُهُم البَاطِل أو السلامة والعافية ووعدُهُ وتمْنِيَتُهُ : ما يُوقعه في قَلْب الإنْسَان من طُول العمر ، ونَيْل الدُّنْيَا ، وقد يكون بالتَّخْوِيف بالفَقْر ، فيَمْنَعُه من الإنْفَاقِ ، وصِلَة الرَّحِم ؛ كما قال - تعالى - : { ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ } [ البقرة : 268 ] و " يُمنيهِم " بأنْ لا بَعْثَ ، ولا جنَّةَ ، { وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } أي : بَاطِلاً ؛ لأنَّ تلك الأمَانِي لا تُفِيدُ إلا المَغْرُور ؛ وهو أن يَظُنَّ الإنْسَان بالشيء أنه نَافِعٌ لدينه ، ثم يَتَبَيَّن اشْتِمَالُه على أعْظَم المَضَارِّ . قوله " إِلاَّ غُرُوراً " يُحْتمل أن يكونَ مَفْعُولاً ثانياً ، وأن يكُون مفعولاً من أجْله ، وأن يكون نعت مَصْدرٍ محذوفٍ ، أي : وعْداً ذا غُرور ، وأنْ يكونَ مَصْدراً على غير الصَّدْرِ ؛ لأنَّ " يَعِدُهم " في قوة يَغُرُّهم بوعْدِهِ . فـ { أُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } " أولئك " : مبتدأ ، و " مأواهم " : مبتدأ ثانٍ ، و " جهنم " : خبر الثَّانِي ، [ والجُمْلَة خبر الأوَّل ] وإنما قال : " مأواهُم جَهَنَّم " ؛ لأن الغُرُور عِبَارة عن الحَالَةِ التي يُسْتَحْسَنُ ظَاهِرُهَا ، ويَحْصُل النَّدَم عند انْكِشَاف الحَالِ فيها ، والاستِغَراق في طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا ، وفي مَعَاصِي الله - تعالى - ، وإن كان في الحَالِ لَذِيذٌ ، إلا أن عَاقِبَتَهُ جَهَنَّم ، وسُخْطُ الله [ - تعالى - ] ، وهذا معنى الغُرُور . ثم قال { وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً } ، فقوله " عَنْهَا " : يجُوز أن يَتعلَّق بِمَحْذُوف : إمَّا على الحَالِ من " مَحِيصاً " لأنَّه في الأصْلِ صِفَةٌ نكرةٍ قُدِّمَتْ عليها ، وإمَّا على التَّبْيين أي : أعني عنها ، ولا يجوزُ تعلُّقُه بمحْذُوفٍ ؛ لأنه لا يتعدَّى بـ " عَنْ " ولا بـ " مَحِيصاً " ، وإنْ كان المَعْنَى عليه لأنَّ المَصْدَر لا يتقدَّمُ معمولُه عليه ، ومَنْ يَجُوِّزُ ذلك ، يُجَوِّزُ تعلُّق " عن " به ، والمَحِيصُ : اسمُ مَصْدر من حَاصَ يَحِيص : إذا خَلَص ونَجا ، وقيل : هو الزَّوَغَان بنُفُور ، ومنه قولُه : [ الطويل ] @ 1879 - وَلَمْ نَدْرِ إنْ حِصْنا مِنَ المَوْتِ حَيْصَةً كَمِ الْعُمْرُ بَاقٍ والمَدَى مُتَطَاوِلُ @@ ويروي : " جِضْنا " بالجيم والضَّاد المعجمة ، ومنه : " وَقَعُوا في حَيْصَ بَيْصَ " ، وحَاصَ بَاص ، أي : وقعوا في أمْرٍ يَعْسرُ التَّخلُّص منه ، ويقال : مَحِيص ومَحَاص ، قال : [ الكامل ] @ 1880 - أتَحِيصُ مِنْ حُكْمِ الْمَنِيَّةِ جَاهِداً مَا لِلرِّجَالِ عِنِ المَنُونِ مَحَاصُ @@ ويقال : حاصَ يَحُوص حَوْصاً وحِيَاصاً أي : زَايَل المكانَ الذي كان فيه ، والحَوْصُ : ضِيقُ مُؤخر العين ، ومنه : الأحْوَصُ . قال الواحِدِي : الآية تَحْتَمِل وَجْهَيْن : أحدهما : أنه لا بُدَّ لهم من وُرُودِ النَّارِ . والثَّاني : الخُلُود الذي هو نَصِيبُ الكُفَّار . ولما فرغ من الوعيد ، أتبعه بذكر الوَعْد .