Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 137-139)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما أمر بالإيمان ، ورغَّب فيه ، بَيَّن فساد طَرِيقة من يَكْفُر بعد الإيمَان . قال قتادة : هم اليَهُود ؛ آمَنُوا بِمُوسى ، ثم كفروا من بعد بعبادتهم العجل ، [ ثم آمَنُوا بالتَّوْراة ] ، ثم كَفَرُوا بعيسى - عليه السلام - ، ثم ازدادُوا كُفْراً بمحمَّد صلى الله عليه وسلم . وقيل : هو في جَمِيع أهْل الكِتَاب آمَنُوا بِنَبِيِّهم ، ثم كَفَرُوا به ، وآمَنُوا بالكِتَاب الذي نُزِّل عليه ، ثم كَفَرُوا به ، وكفرهم به : تركهم إيَّاه ، أي : ثم ازْدَادُوا كفراً بمحمَّد صلى الله عليه وسلم . وقيل : هذا في قَوْم مُرْتَدِّين ، آمَنُوا ثم ارتَدُّوا ، ومثل هذا هل تقبل تَوْبتهُ ؟ حُكِي عن عَلِيٍّ : أنه لا تُقْبَل تَوْبَته ، بل يُقْتَل ؛ لقوله - تعالى - : { لَّمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } وذلك لأن تَكْرَار الكُفْر منهم بعد الإيمان مراتٍ ، يدلُّ على أنَّه لا وَقْع للإيمَانِ في قُلُوبهم ، إذ لو كان للإيمان وَقْعٌ في قُلُوبهم ، لما تركُوهُ بأدْنى سَبَب ، ومن كان كَذَلِك ، فالظَّاهر أنَّه لا يُؤمِن إيماناً صَحِيحاً ، فهذا هُو المُرادُ بقوله : { لَّمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } وليس المُرَادُ ، أنه لو أتى بالإيمَان الصَّحِيح ، لم يكُن مُعْتَبَراً ، بل المراد مِنْهُ : الاستِبْعَاد ، وأكثر أهْل العِلْم على قُبُول تَوْبَتِه . وقال مُجَاهِدٌ : { ثم ازدادوا كفراً } أي : مَاتُوا عليه ، { لم يكن الله ليغفر لهم } : ما أقامُوا على ذلك ، { ولا ليهديهم سبيلاً } أي : طريقاً إلى الحَقِّ . وقيل : المُراد طائِفَة من أهل الكِتَاب ، قَصَدوا تَشْكِيك المُسْلِمينَ ، فكانوا يُظْهرُونَ الإيمانَ تارةً والكُفْر تارةً أخْرى ، على ما أخْبَر اللَّه - تعالى - عنهم قولهم : { آمِنُواْ [ بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ] وَجْهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكْفُرُوۤاْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ آل عمران : 72 ] وقوله : { ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً } أن بَلَغُوا في ذلك إلى حدِّ الاسْتِهْزَاء ، والسُّخْرية بالإسْلامِ . فصل دلَّت الآية على أنَّ الكُفْر يقبل الزِّيادة والنُّقْصَان ؛ فوجَب أنْ يَكُونَ الإيمان كَذلك ؛ لأنهما ضِدَّان متنافِيَانِ ؛ فإذا قَبِلَ أحدُهُما التَّفَاوُت ، فكذلك الآخَر . فإن قيل : الحُكْم المَذْكُور في هذه الآية : إمَّا أن يكون مَشْرُوطاً بما قبل التَّوبة ، أو بما بَعْدَها . والأوَّل : باطِلٌ ؛ لأن الكُفْر قبل التَّوْبَة غير مَغْفُور على الإطْلاق ، وحينئذٍ تضيع الشُّروطُ المَذْكُورَة . والثاني : باطل ؛ لأن الكُفْر [ يُغْفَر ] بعد التَّوْبَة ، ولو كَانَ بعد ألْفِ مَرَّة ، فعلى التَّقْديرين يلزم السُّؤالُ . والجوابُ من وُجُوه : أحدها : ألا نَحْمِل قوله : " إنَّ الَّذين " على الاسْتِغْرَاق ، بل على المَعْهُود السَّابق ، وهم أقْوام مُعَيَّنُون علم الله أنَّهم يَمُوتون على الكُفْر ، ولا يَتُوبون عَنْه ، فقوله : { لَّمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } إخبار عن مَوْتِهم على الكُفْر . وثانيها : أن الكلام خَرَج على الغَالِب المُعْتَاد ، فإن كان كَثِير الانْتِقَال من الإِسْلاَم إلى الكُفْر ، لم يكن للإيمان في قَلْبِه وَقْع ، ولا وَجَد حلاوَةَ الإيمان كما تقدَّم ، والظَّاهِر ممن حاله هذا أنَّه يمُوت كَافراً . وثالثها : أن الحُكْم على المَذْكُورِ في الآية مَشْرُوطٌ بعدم التَّوْبة عن الكُفْر ، وقول السائل إنَّه على هذا التَّقْدير تَضْييعُ الصِّفات المَذْكُورَة . قلنا : إنَّ إفْرادَهُ بالذِّكْر يدلُّ على أن كُفْرَهُم أفْحَش ، وخيانتهم أعْظَم ، وعُقُوبتهم في القِيَامَة أوْلَى ، فجرى مُجْرَى قوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] خصَّهُما بالذِّكر لأجل التشريف ، وكقوله : { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] . فإن قيل : اللاَّم في قوله : " لِيَغْفِرَ لَهُم " : للتأكيد ، وهو غَيْر لائقٍ بهذا المَوْضِع ، وإنَّما اللائِق به تَأكيد النَّفْي . فالجواب : إن نفي التَّأكيد على سَبِيل التَّهَكُم مُبَالَغَة في تَأكِيد النَّفْي ، وهذه اللاَّم تُشْبِه اللاَّم في قوله : { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 179 ] ، تقدَّم الكلام فيه ، ومَذَاهب النَّاس ، وأن لاَمَ الجحود تُفِيد التَّوْكِيد ، والفرق بَيْن قَوْلك : " مَا كَانَ زَيْد يَقُوم " ، و " ما كانَ لِيَقُوم " . قوله : { ولا ليهديهم سبيلاً } يدلُّ على أنه - تعالى - لم [ يَهْدِ ] الكافرين إلى الإيمَانِ . وقالت المُعْتَزِلَةُ : هذا مَحْمُول على زِيَادة الألْطَاف ، أو عَلَى أنَّه لا يَهْدِيهم إلى الجَنَّة في الآخِرة . قوله { بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً } البشارة : كل خبرٍ تتغيَّرُ به بشرَةُ الوجْهِ ، سارّاً كان أو غَيْر سَارٍّ . وقال الزَّجَّاج : مَعْنَاه : اجعل في مَوْضع بِشَارتك لَهُم العَذَاب ، كما تقول العرب : " تحيتك الضَّرْبُ وعِتَابُكَ السَّيْفُ " ، أي : بَدَلاً لكُم من التَّحِيَّةِ ، ثم وصَفَ المُنَافِقِين ، فقال : { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } يعني : يتَّخذون اليَهُود والنَّصَارى أولياء ، وأنْصاراً ، وبِطَانة من دُون المُؤمنين ، كان المُنَافقُون يوادُّونَهُم ، ويقول بَعْضهم لبَعْضٍ : إن أمر محمَّد لا يَتِمُّ . قوله : " الَّذِين " يجُوز فيه النَّصْب والرَّفْع ، فالنصب من وَجْهَيْن : أحدهما : كونه نعتاً للمُنَافِقِين . والثاني : أنه نَصْب بفعلٍ مُضْمَر ، أي أذمُّ الَّذِين ، والرَّفْع على خَبر مُبْتَدأ مَحْذُوف ، أي : هم الَّذِين . فصل قال القُرْطُبِيُّ : وفي الآيَة دَلِيلٌ على أنَّ من عَمِل مَعْصِيَةً من الموحّدين ، ليس بمنافِقٍ ؛ لأنَّه لا يتولّى الكُفَّار ، وتضمنت المَنْع من مُوالاة الكُفَّار ، وأنْ يتَّخِذُوا أعْواناً على الأعْمال المُتَعَلِّقة بالدِّين ، وفي الصَّحيح عن عَائِشَة - رضي الله عنها - : " أنّ رجلاً من المُشْرِكين لحق بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يُقَاتِل مَعَه ، فقال : ارجعْ ، فإنَّنا لا نَسْتَعِين بِمُشْرِكٍ " . قوله : { أيبتغون عندهم العزة } أي : المَعُونة ، والظُّهور على محمَّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقيل : أيطلبون عندهُم القُوَّة ، والغَلَبة ، والقُدْرة . قال الواحدي : أصَلُ العِزَّة في اللُّغَة : الشِّدَّة ، ومنه : قيل : للأرْضِ [ الصَّلْبَة ] الشَّديدة : عزَاز ويقال : قد استَعَزَّ المرضُ على المَرِيضِ : إذا اشتدَّ مَرَضُه وكاد أن يَهْلَكَ وعَزَّ الهَمُّ إذا اشْتَدَّ ، ومنه : [ عَزَّ ] عليَّ أن يكُون كذا بِمَعْنَى : اشتَدَّ ، وعز الشَّيْء : إذا قلَّ حتى لا يَكُادُ يُوجَد ؛ لأنه اشتدَّ مطلبُهُ ، واعتز فلانٌ بفلان : إذا اشتَدَّ ظَهْرُه به ، وشاةٌ عَزُوزٌ : إذا اشتَدَّ حَلْبُها ، والعِزَّة : القُوَّة ، منقولة عن الشِّدَّة ؛ لتقارب مَعْنَيْهما ، والعَزِيز : القوي المَنِيع بخلاف الذَّلِيل ، فالمُنَافِقُون كانوا يَطْلبون العِزَّة والقُوَّة ، بسبب اتِّصالهم باليَهُود ، فأبطل اللَّه عَلَيْهم هذا الرَّأي بقوله : { فإن العزة لله جميعاً } . والثاني : قوله : " فإن العزة " لِما في الكلام من معنى الشَّرْط ، إذ المَعْنَى : إن تَبْتَغُوا من هَؤلاء عِزَّةً { فإن العزة لله جميعاً } ، " جَمِيعاً " : حال من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في قوله : " لِلَّه " لوُقُوعهِ خَبَراً ، [ والمعنى : أنَّ العِزَّة ثبتَتْ لِلَّه - تعالى - حالة كونها جَمِيعاً ] . فإن قيل : هذا كالمُنَاقض لقوله : { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] . فالجواب : أن القُدْرة الكامِلَة للَّه ، وكل من سِوَاه فبإقداره صَار قادراً ، وبإعْزَازه صارَ عَزِيزاً ، فالعِزَّة الحَاصِلة للرسُول وللمُؤمنين لم تحصل إلا من اللَّه - تعالى - ، فكان الأمْر عند التَّحْقِيقِ : أنَّ العِزَّة للَّه جَمِيعاً .