Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 48-48)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما توعَّدَ الكُفْرُ ، وبين أنَّ ذلك التقديرَ لا بُدَّ من وُقُوعِهِ ، يَعْنِي : أنَّ ذلك إنَّما هو مِنْ خَواص الكُفْرِ ، أمَّا سَائِرُ الذُّنُوبِ غيرَ الشِّرْكِ ، فإنه يَغْفِرُها ، إن شاءَ . قال الكَلْبِيُّ : " نزلتْ في وَحْشِيّ بن حَرْبٍ ، وأصحابه ؛ وذلك أنَّهُ لما قُتِل حَمْزَةُ ، كان قد جُعِلَ له على قَتْلِه أنْ يُعْتَقَ ، فلم يُوفَّ له بذلك ، فلما قَدمَ مَكَّةَ ، نَدِمَ على صُنْعِهِ ، هُوَ ، وأصحابُهُ ؛ فكتَبُوا إلى رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم : إنَّا قَدْ نَدِمْنَا على الذي صَنَعْنَا ، وإنَّه لَيْسَ يَمْنَعُنَا عن الإسلامِ إلاَّ أنَّا سَمعناكَ تَقُولُ بِمَكَّةَ : { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا آخَرَ } [ الفرقان : 68 ] الآياتِ ، وقد دعونا مع الله إلهاً أخر ، وقتلنا النفس التي حرم الله قتلها وزنينا ، فلوْلا هذه الآياتُ ، لاتَّبَعْنَاك ؛ فنزلت : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } [ الفرقان : 70 ] ، الآيتين ، فبعثَ بهما [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] إليهم فلما قرءُوا ، كتبوا إليْهِ : إنَّ هذا شَرْطٌ شَدِيدٌ نَخَافُ ألاَّ نَعْمَلَ عَمَلاً صالحاً فنزلَ : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } ، فَبَعَثَ بها إليهمْ ، فبَعَثُوا إليه : إنَّا نَخَافُ ألاَّ نكون مِنْ أهْلِ المشيئةِ ؛ فنزلتْ : { يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } [ الزمر : 53 ] فبعث بها إليهم ؛ فَدَخَلُوا في الإسلامِ ، ورجعُوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَبِل مِنْهم ، ثم قال [ عليه الصلاة والسلام ] لِوَحْشِي : " أخْبِرْنِي : كَيْفَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ " ؟ فلَمَّا أخْبَرَهُ ، قال : " وَيْحَكَ ! غَيِّبْ وَجْهَكَ عَنِّي " فَلَحِقَ وَحْشِيٌّ بالشَّامِ ، وكانَ بِهَا إلى أنْ ماتَ . وروى أبُو مِجْلَز ، عن ابْنِ عُمَر : " لمَّا نزلت : { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } الآية ، قام رَجُلٌ ، فقال : والشِّرْك يا رسُولَ الله ، فَسَكَتَ ، ثم قام إلَيْهِ مَرَّتَيْنِ ، أو ثلاثاً ؛ فنزلتْ : " إن الله لا يغفر أن يشرك به " الآية ، قال مُطْرِّفُ بنُ الشَّخِّير : قال ابنُ عُمَرَ : كُنَّا على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذَا مَاتَ الرجلُ على كَبِيرَةٍ ، شَهِدْنَا أنَّه مِنْ أهْلِ النَّارِ ، حتى نزلتْ هذه الآيةُ ، فأمْسَكْنَا عن الشَّهَادَاتِ . حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أنَّ هذه الآيةَ أَرْجَى آيةٍ في القُرْآنِ . قوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } ، كلامٌ مُسْتأنفٌ ، ولَيْسَ عَطْفاً على { َيَغْفِرُ } الأوَّلِ ؛ لفسادِ المعنى ، والفَاعِلُ في { يَشَآءُ } ضميرٌ عَائِدٌ على اللَّه تعالى ، ويُفْهَمُ مِنْ كلام الزمَخْشريّ : أنَّهُ ضميرٌ عائِدٌ على مَنْ في " لمنْ " لأنَّ المعنى عِنْدَه : إنَّ الله لا يغفرُ الشِّرْكَ لمن لا يشاء أن يغفر له ؛ لِكَوْنِه مَاتَ على الشِّرْكِ ، غَيْر تائِب مِنْه ، ويغفرُ ما دُونَ ذَلِك لِمَنْ يشاءُ أنْ يغفرَ له ، بكونه ماتَ تَائباً مِنَ الشِّرْكِ ، و { لِمَن يَشَآءُ } متعلِّقٌ بـ { َيَغْفِرُ } . قوله : { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً } أيْ : اختلق ذَنْباً غيرَ مَغْفُورٍ . يُقالُ : افْتَرَى فُلانٌ الكَذِبَ ، إذا اعْتَمَلَهُ ، واخْتَلَقَهُ ، وأصْلُه : من الفَرْي ، بمعنى القَطْعِ . رَوَى جَابرٌ قال : " أتى النبيِّ صلى الله عليه وسلم رَجَلٌ ، فقال : يا رسُول الله ، ما المُوجِبتان ؟ قال مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بالله شيئاً ، دَخَلَ الجَنَّة ، ومَنْ مَاتَ يُشْرِكُ باللَّهِ شَيْئاً ، دَخَلَ النَّارَ " . وقال ابنُ عبَّاسٍ : إنَّي لأرْجُو ، كَمَا لا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلٌ ؛ كَذلِكَ لا يَضُرُّ مَعَ التَّوحِيد ذَنْبٌ ، ذَكَرَ ذلك عِنْدَ عُمَر بْنَ الخطَّابِ ؛ فَسَكَتَ عُمَرُ . وروى أبُو ذَرٍّ ، " قالَ : أتَيْتُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ، وعليه ثَوْبٌ أبْيَض ، وهو نَائِمٌ ، ثُمَّ أتَيْتُهُ ، وقد استَيْقَظَ ؛ فقال : " مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لا إله إلا اللَّهُ ، ثُمَّ مَاتَ على ذَلِكَ ؛ إلاَّ دَخَلَ الجنَّة " . قُلْتُ : وَإنْ زَنا ، وإنْ سَرَقَ ! قَال : " وإنْ زَنَا ، وإنْ سَرَقَ " . [ قُلْتُ : وَإنْ زَنَا ، وإنْ سَرَقَ ! قَال : " وإنْ زَنَا ، وإنْ سَرَقَ " ، قُلْتُ : وَإنْ زَنا ، وإنْ سَرَقَ ! قَال : " وإنْ زَنَا ، وإنْ سَرَقَ ] ، عَلَى [ أنْفِ ] أبِي ذَرٍّ " وكانَ أبُو ذَرٍّ إذا حدث بهذا ، قال : وإنْ رَغم أنْفُ أبِي ذَرٍّ . فصل قال القُرطُبِيُّ : قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } من المُحْكَمِ المتفقِ عليه ، الذي لا خلاف فيه بَيْنَ الأمةِ ، وقوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } ، من المُتَشَابَهِ ، الَّذي قد تَكَلَّمَ العلماءُ فيه . فقال مُحَمدُ بن جَريرٍ الطَّبريّ : قد أبَانَتْ هذه الآيةُ كُلَّ صَاحِبِ كَبيرةٍ ، فَفِي مَشِيئةِ اللَّه عز وجل إن شاء [ عفَا لَهُ ، وَإنْ شَاءَ ] ، عاقَبهُ ، مَا لَمْ تَكُنْ كَبِيرتُهُ شِرْكاً ، وقالَ بعضُهُم : قد بين الله تعالى ، بقوله عز وجل : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [ النساء : 31 ] . فأعْلَمَ أنَّهُ : يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ لمن اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ ، لمنْ يشاءُ ، ولا يَغْفِرُ الصغَائِرَ لمنْ أتَى الكَبَائِرَ . وقال بعضُهم : هذه الآيةُ ناسِخَةٌ للتي في آخرِ الفُرْقَانِ . قال زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ : نزلتْ سُورةُ النِّسَاءِ بَعْدَ سُورَةِ الفُرقَانِ بِسِتَّةِ أشْهُرٍ . قال القُرِطُبِيُّ : والصحيح أنَّهُ لا نَسْخَ ، لأنَّ النَّسْخَ فِي الأخْبَارِ مُسْتَحِيلٌ ، وسيأتي الجمعُ بَيْنَ الآي ، في هذه السُّورةِ ؛ وَفِي الفُرْقَانِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى . فصل هل يسمى اليهودي مشركاً في الشرع ؟ قال ابنُ الخطيب : دلتْ هذه الآيةُ على أنَّ اليَهُودِيِّ يُسَمَّى مُشْرِكاً في الشَّرْعِ ؛ لأنها دالَّةٌ على أنَّ مَا سِوَى الشركِ من الكَبَائِرِ يُغْفَرُ ، فَلَوْ كَانتِ اليهوديَّةُ مُغَايِرة للشِّرْكِ ، كَانَتْ ] مَغْفُورَةً بحكم الآية ، وهو خِلاَفُ الإجْمَاعِ ، ولأنَّ هذه الآيةَ مُتَّصِلَةٌ بوعِيِدِ اليَهُودِ ، فَلَوْلاَ دُخُوُل اليهوديةِ تحتَ اسْمِ الشِّرْكِ ، لم يحْصُل الالتئامُ . فإنْ قيلَ : عَطْفُ " الذين أشركوا " على " الذين هادوا " في قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ } [ الحج : 17 ] ثُمَّ قَالَ [ بعده ] : " والذين أشركوا " يَقْتَضِي المُغَايَرَةَ . قُلْنَا : المغايرةُ في المفهومِ اللُّغَويِّ ، والاتِّحاد في الشرعي ؛ دَفْعَاً للتَّنَاقُضِ ، ويتفرَّعُ عليه أنَّ المسلمَ لا يُقْتَلُ بالذمِّي ؛ لأنَّ المشركَ مُبَاحُ الدَّمِ ؛ لقوله تعالى : { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 5 ] ، ومُبَاحُ الدَّمِ لا يُقْتَصُّ مِنْ قَاتِلِهِ ، ولا يتوجَّهُ النَّهْيُ عن قَتْلِه ، ترك العَملِ بهذا الدليلِ في حقِّ النهي فَبَقِيَ مَعْمُولاً به في سُقُوطِ القِصَاصِ عَنْ قَاتله . فصل في دلالة الآية على العفو عن أصحاب الكبائر هذه الآيةُ أقْوَى الدلائلِ على صِحَّة العَفْوِ عن أصْحَابِ الكَبَائِرِ ، من وجوه : الأوَّلُ : أنَّ قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } أيْ لا يغفرُهُ فَضْلاً معَ عدمِ التوبةِ ؛ لأنَّهُ يُغْفَرُ وُجُوباً عند التوبةِ بالإجماع ؛ فيكون قوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } على سَبِيلِ الفَضْلِ ، حَتَّى يتواردَ النَّفْيُ والإثباتُ على مَعْنَى واحدٍ ؛ كما لو قال : إنَّ فُلاناً شَاءَ لا يُعْطِي على سبيلِ فَضْلِ الوُجُوبِ ، كان رَكِيكاً ، وحينئذٍ : يَجِبُ أنْ يكُونَ المرادُ أصْحابَ الكَبَائِرِ ، قَبْلَ التَّوْبَةِ ؛ لأنَّ عند المعتزِلةِ ، غُفْرَانَ الصَّغائِرِ ، والكبائِرِ بَعْدَ التَّوْبَةِ - وَاجِبٌ عَقْلاً ، فلا يُمْكن حَمْلُ الآيةِ عَلَيْهِ ، فلم يَبْقَ إلاَّ الكَبَائِرُ قَبْلَ التَّوْبَةِ . الثّاني : أنَّ ما سِوَى الشِّرْكِ ، يَدْخُلُ فيه الكبائرُ قَبْلَ التوبةِ ، وبعدَهَا ، ثُمَّ حَكَمَ على الشِّرْكِ بأنَّهُ غيرُ مَغْفُورٍ ، وَعَلَى غَيْرِ الشِّرْكِ بأنَّهُ مَغْفورٌ لمنْ يشاءُ ، فَوَجَبَ أنْ تكونَ الكبيرةُ قَبْلَ التوبةِ مَغْفُورةٌ . الثالثُ : أنَّه علَّقَ الغُفْرَان بالمشيئَةِ ، وغُفْرَانُ الكَبِيرةِ بعد التوبةِ والصَّغِيرَةِ مَقْطُوعٌ به ، فوجب أنْ يكونَ المعلَّق الكبيرة قبْلَ التوبةِ . فإن قيلَ : إنَّ تَعْلِيقَهُ على المشِيئَةِ ، لا يُنَافِي وُجُوبَهُ ، كقوله تعالى : { بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } [ النساء : 49 ] ، ثُمَّ إنَّا نَعْلَمُ أنَّه لا يُزَكِّي إلاّ مَنْ يكونُ أهْلاً للتَّزكِية ، وإلاَّ فكانَتْ كَذِباً . واعلمْ : أنه ليس للمعتزلةِ في مُقَابلة هذه الوُجُوهِ كلامٌ يُلْتفتُ إليه ، [ إلا المعَارَضَة بآياتِ الوعِيدِ ] .