Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 83-83)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وهذا نوع آخر من أعْمَال المُنَافِقِين الفَاسِدة ، وذَلِك أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَبْعَث السَّرايا فإذا غَلَبُوا أو غَُلِبُوا بَادَرَ المُنَافِقون يستَخْبِرُونَ عن حَالِهِم ، فَيُفْشُون ويُحَدِّثُون به قَبْل أنْ يُحْدِّثَ به رسُول الله صلى الله عليه وسلم فَيُضْعِفُون به قُلُوبَ المُؤمِنين ، فأنْزَل الله - تعالى - { وَإِذَا جَآءَهُمْ } يعني : المُنَافِقِين " أمر من الأمن " أي : الفَتْح والغَنِيمَة " أو الخوف " أي : القتل والهزيمَة " أذاعوا به " أشاعُوه وأفشوْه ، وذلك سَبَبٌ للضَّرر من وُجُوهٍ : أحدها : أن مِثْل هذه الإرْجَافَات لا تنفَكُّ عن الكَذِب . وثانيها : إن كان ذلك الخَبَر من جَانِبِ الأمْن زَادُوا فيه زِيَادات كَثِيرة ، [ فإذا لَمْ تُوجد تلك الزَّيَادات ، أوْرَث ذلك شُبْهَة للضُّعَفَاءِ في صدق الرَّسول - عليه السلام - ] ؛ لأن المنافِقِين كانوا يروون تلك الإرْجَافَات عن الرسُول ، وإن كان ذَلِك الخَبَر خَوْفاً ، تشوَّشَ الأمر على ضُعَفَاء المُسْلِمين بسبَبِه ، ووقعوا في الحَيْرَة والاضْطراب ، فكان ذلك سَبَباً للفِتْنَة . وثالثها : أن العَداوَة الشَّدِيدة كانت قَائِمَةً بين المُسْلِمين وبين الكُفَّار ، فكان كلّ وَاحِد من الفريقين مُجدًّا في إعْداد آلات الحَرْب وانْتِهَاز الفُرْصَة ، فكل ما كان [ أمْناً ] لأحد الفَرِيقَيْن ، كان خَوْفاً للفَريقِ الثَّانِي ، وإن [ وقع خَبر الأمْن للمُسْلِمين ، أرجَفَ بذلك المُنَافِقُون ، فوصل الخَبَر في أسْرَع مُدَّة إلى الكُفَّار ؛ فاحترزوا وتحصَّنُوا من المُسْلمين ، وإن ] وَقَعَ خبر الخَوْف للمُسْلِمِين بالَغوا في ذلك وزادوا فيه ، وألْقوا الرُّعب في قُلُوب الضَّعْفَة ، فظهر أن الإرْجَافَ مَنْشَأ الفِتَنِ والآفَاتِ . قوله : { أَذَاعُواْ بِهِ } : جواب إذا ، وعَيْنُ أذَاعَ ياء ؛ لقولهم : ذاع الشَّيء يذِيع ، ويُقال : أذاع الشَّيْء ، أيضاً بمعنى المُجَرَّد ، ويكونُ متعدِّياً بنفسه وبالبَاءِ ، وعليه الآيةُ الكريمة ، وقيل : ضَمَّن " أذاع " مَعْنَى " تَحَدَّثَ " فعدَّاه تعديتَه ، أي : تحدَّثوا به مُذيعين له ، والإذاعة : الإشاعةُ ، قال أبو الأسْوَد : [ الطويل ] @ 1842 - ب - أذَاعُوا بِهِ فِي النَّاسِ حَتَّى كَأنَّهُ بِعَلْيَاءَ نَارٌ أوقِدَتْ بِثُقُوبِ @@ والضَّمِيرُ في " به " يجُوزُ أن يعودَ على الأمْر ، وأن يعُودَ على الأمن أو الخَوْفِ ؛ لأنَّ العَطْفَ بـ " أو " والضَّميرُ في " رَدُّوهُ " للأمْر . قوله : " لو ردوه " أي الأمْر ، " إلى الرسول " أي : [ لَمْ ] يحدِّثوا به حَتَّى يكُون النَّبي صلى الله عليه وسلم هو الذِي يُحدِّث به ، و " إلى أولي الأمر [ منهم ] " أي : ذَوِي الرأي من الصَّحَابة ؛ مثل أبي بكْر وعُمر وعُثْمَان وعلي ، وقيل : أمَرَاء السَّرَايا ؛ لأنَّهم الَّذِين لَهُم أمر على النَّاسِ ، وأهل العِلْم لَيْسوا كذلِك . وأجيب عن هَذَا : بأن العُلَمَاء يجبُ على غَيْرِهم قُبُول قولِهِم ؛ لقوله - تعالى - : { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [ التوبة : 122 ] فأوجب الحَذَر بإنْذَارِهِم ، وألزَم المُنْذرين قُبُول قولهم ، فجاز لهذا المَعْنَى إطْلاق اسم أولي الأمْرِ عَلَيهم . قوله : { لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي : يستخْرِجُونه ، وهُم العُلَماء عَلِمُوا ما يَنْبَغِي أنْ يُكْتَم ، وما يَنْبَغِي أن يُفْشَى ، والاستِنْبَاط في اللُّغَةِ : الاستِخْراج ، وكذا " الإنباط " يقال : استَنْبَطَ الفَقِيهُ : إذا استَخْرَجَ الفِقْهَ البَاطِنَ باجْتِهَادِهِ وفهمه ، وأصله من النّبط وهو الماءُ الذي يَخْرج من البَئْرِ أوّلَ حَفْرها قال : [ الطويل ] @ 1843 - نَعَمْ صَادِقاً والفَاعِلُ القَائِلُ الذي إذَا قَالَ قَوْلاً أنْبَطَ المَاءَ في الثَّرَى @@ ويقال : نَبَطَ المَاءُ يَنْبطُ بفتحِ البَاءِ وضمها . والنبط أيضاً : جِيلٌ من الناس سُمُّوا بذلك ؛ لأنهم يستخرجون المياه والنبات . ويقال في الرَّجُل الذي يكُونَ بعيد العِزِّ والمنعة : " ما يجِدُ عَدُوُّه لَهُ نَبَطاً " . قال كَعْبٌ : [ الطويل ] @ 1844 - قَرِيبٌ ثَرَاهُ مَا يَنَالُ عَدُوُّهُ لَهُ نَبَطاً ، آبِي الْهَوَانِ قَطُوبُ @@ و " منهم " حَالٌ : إمَّا من الَّذِين ، أو من الضَّمير في " يَسْتَنْبِطُونه " فيتعلق بمَحْذُوفٍ . وقرأ أبو السَّمال : " لَعَلْمه " بسُكُون اللام ، قال ابن عَطِيَّة : هو كتَسْكِين { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ النساء : 65 ] وليس مِثْله ؛ لأنَّ تسْكِين فعل بكَسْر العين مَقِيسٌ ، وتسكينَ مَفْتُوحها شاذٌّ ؛ ومثلُ تسكين " لَعَلْمَهُ " قوله : [ الطويل ] @ 1845 - فَإنْ تَبْلُهُ يَضْجَرْ كَمَا ضَجْرَ بَازِلٌ مِنَ الأدمِ دَبْرَتْ صَفْحَتَاهُ وغَارِبُهْ @@ أي : دَبِرت ، فِسَكَّن . فصل معنى " يستنبطونه " [ قيل المراد بـ " يستنبطونه " : يَسْتَخْرِجونَهُ ، وقال عِكْرمة : يَحْرِصُون عليه ويسألون عنه ] ، وقال الضَّحَّاك : يتتبّعونه ، يريد : الذين سَمِعُوا تلك الأخْبَار من المُؤمنين والمُنَافِقين ، لو رَدُّوه إلى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وإلى ذَوِي الرَّأي والعِلْم ، لعلمه الذين يَسْتَنْبِطُونه ، أي : يُحِبون أي يَعْلَمُوه على حَقِيقَتِهِ كما هُو . وقيل : المُراد بـ " الذين يستنبوطه " أولئك المُنَافِقُون المُذِيعُونَ ، والتقدير : ولو أن هؤلاء المُنَافِقِين المُذِيعِينَ رَدُّوا أمر الأمْنِ والخَوْف إلى الرَّسُول وإلى أولي الأمْر ، وطلبوا مَعْرِفَة الحَالِ [ فيه ] من جهتِهِم ، لعلمه الَّذين يستَنْبِطُونه مِنْهُم و [ هم ] هؤلاء المُنَافِقُون المُذِيعُون منهم ، أي : من جَانب الرَّسُول ، ومن جَانب أولي الأمْر [ منهم ] . فإن قِيلَ : إذا كَان الَّذين أمَرَهُم الله - تعالى - برد هذه الأخْبَارِ إلى الرَّسُول وإلى أولي [ الأمر مِنْهُم وهم المُنَافِقُون ، فكَيف جَعَل أولي الأمْر منهم في قوله : { وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ } . الجواب : إنما جَعَل أولي ] الأمْر مِنْهُم على حَسَب الظَّاهِر ؛ لأن المُنَافِقين يظْهِرُون من أنْفسهم أنَّهم مؤمِنُون ، ونَظِيرُه : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } [ النساء : 72 ] وقوله : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] . قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } قال أبو العَباس [ المُقْرِئ ] : وَرَدَت الرَّحْمَة [ في القُرْآن ] عَلَى سَبْعَة أوجه : الأوّل : القُرْآن ، قال - تعالى - : { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أراد بالفَضْلِ الإسْلام ، وبالرَّحْمَة القُرْآن . الثاني : بمعنى الإسْلام ؛ قال - تعالى - : { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } [ الإنسان : 31 ] أي : في الإسلام [ ومثله { وَلَـٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } [ الشورى : 8 ] أي : في دين الإسلام ] . الثالث : [ بمعنى ] : الجنة ؛ قال - تعالى - : { أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي } [ العنكبوت : 23 ] أي : من جَنَّتِي . الرَّابع : المَطَر ؛ قال - تعالى - : { يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ الأعراف : 57 ] . الخامس : النِّعمة ؛ قال - تعالى - : { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } . السادس : النبوة ؛ قال - تعالى - : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } [ الزخرف : 32 ] ، أي : النُّبُوَّة . السابع : الرِّزْق ؛ قال - تعالى - : { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [ فاطر : 2 ] : من الرِّزْقِ ؛ ومثله { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا } [ الإسراء : 28 ] أي : رِزْقاً . فصل اعلم : أن ظَاهِر هذا الاسْتِثْنَاء يوهِمُ أنَّ ذلك القليل وَقَع لا بِفَضْل الله ولا بِرَحْمَتِه ، وذلك محال . قوله : " إلا قليلاً " ذكر المفسَِّرُونَ فيها عشرة أوجه : الأول : قال بعضهم : إنه مُسْتَثْنَى من فَاعِل " اتبعتم " أي : لاتَّبعتم الشيطان إلا قليلاً منكم ، فإنه لم يتَّبع الشَّيْطَان ، على تقدِير كَوْن فَضْل الله لم يأته ، ويكونُ أرادَ بفضل الله الإسلام وإرسَالَ محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ويكون قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ } كلام تامٌّ ، [ وذلك القَلِيلُ ؛ كقِسٍّ بن سَاعِدة الإيَادِي ، وزَيْد بن عَمْرو بن نُفَيْل ، وورقة بن نوفل ، وجماعة سِوَاهم مِمَّن كان على دِين المَسِيحِ قَبل بَعْثَةِ الرسول ] . وقال أبو مُسِلم : المراج بِفَضْل اللَّه ورحمته في هذه الآية : هو نُصْرتهُ ومعُونتهُ اللَّذان تمنَّاهُما المُنَافِقُون ؛ بقولهم : { فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } [ النساء : 73 ] بيَّن - تعالى - أنَّه لولا حُصُول النَّصْر والظّفَرِ على سبيل التَّتَابُع ، لاتَّبَعْتُم الشَّيْطَان وتركتم الدين إلاَّ قليلاً مِنْكُم ، وهم أهْل البَصَائِر النَّافِذة ، والنِّيَّات القويَّة ، والعَزَائم المُتَمكِّنَةِ من أفَاضِل المُؤمِنِين ، الذين يَعْلَمُون أنه لَيْس من شَرْطِ كونه حَقّاً هو الدَّوْلَة في الدُّنْيَا ، فلأجل تَوَاتُر الفَتْح والظَّفر في الدُّنْيَا يدل على كَوْنه حَقاً ؛ ولأجل تواتر الهَزِيمَة والانكِسَار يدلُّ على كونه بَاطِلاً ، بل الأمْر في كونه حَقاً وباطلاً على الدَّلِيل ، وهو أحْسَن الوُجُوه . [ وقيل : المُرَادُ مَنْ مَنْ لم يَبْلغ التكْلِيف ، وعلى ذها التَّأويل قيل : فالاستثْنَاء مُنْقَطِع ؛ لأن المُسْتَثْنَى لم يَدْخُل تحت الخِطَاب ، وفيه نظر يظهر في الوَجْهِ العَاشِر . الثاني : أنه مُسْتَثْنى من فَاعِل " أذاعوا " أي : أظْهَرُوا أمرَ الأمْن أو الخَوْف إلا قَليلاً فأخرج بعض المُنَاقِقِين من هَذِه الإذاعَة . الثالث : أنه مُسْتَثْنى من فَاعِل " عَلِمه " أي : لعلمه المُسْتَنْبِطُون منهم إلا قَلِيلاً ] . قال الفرَّاء والمبرد : [ وأما ] القَوْل بأنَّه مستَثْنى من فاعل " أذاعوا " أوْلى من هَذَا ؛ لأن ما يُعْلَم بالاسْتِنْبَاطِ ؛ فالأقلُّ يعلمُه والأكْثَر يجهله ، وصرف الاسْتِِثْنَاء إلى المسْتَنْبِطِين يَقْتَضِي ضِدَّ ذَلِك . قال الزَّجَّاج : هذا غَلَطٌ ؛ لأنه لَيْسَ المراد من هَذَا الاستِثْنَاء شيئاً يَسْتَخْرِجُه بنظر دَقيق وفكْرٍ غَامِضٍ ، إنما هو استِنْبَاط خَبَر ، وإذا كَانَ كَذَلِك فالأكثرون يَعْرِفُونه إنَّما البالغ في البَلاَدة والجَهَالة هُو الَّذي لا يَعْرِفُه ، ويمكن أن يُقَال : كلام الزَّجَّاج إنما يَصِحُّ لو حَمَلْنا الاستِنْبَاطَ على مُجَرَّد تعرُّف الأخْبَارِ والأرَاجِيف ، [ أمَّا ] إذا حملناه على الاستِنْبَاطِ في جَميع الأحْكَام ، كان الحَقُّ ما ذكره الفَرَّاء والمُبرِّد . الرابع : أنه مُسْتَثْنَى من فاعل " لوجدوا " أي : لوجدوا فيما هَو من عِنْد غير الله التناقض إلا قليلاً مِنْهُم ، وهو مَنْ لم يُمْعِنِ النَّظَرَ ، فيظنُّ البَاطِلَ حقاً والمتناقضَ مُوَافِقاً . الخامس : أنه مُسْتَثْنى من الضَّمِير المَجْرُور في " عَلَيْكُم " ، وتأويلُه كتأويل الوَجْه الأول . السادس : أنه مُسْتَثْنى من فاعل " يستنبطونه " ، وتأويله كتأويل الوجه الثَّالث . السابع : أنه مُسْتَثْنَى من المَصْدَر الدالِّ عليه الفعْلُ ، والتقدير : لاتَّبَعْتُم الشيطانَ إلا اتِّباعاً قليلاً ؛ ذكر ذلك الزَّمَخْشَري . الثَّامن : أنه مُسْتَثْنَى من المتَّبع فيه ، والتقدير : لاتبعتم الشَّيْطَان كلكم إلا قليلاً من الأمُور كُنْتم لا تتِّبِعُون الشَّيْطَان فيها ، فالمعنى : لاتبعتم الشَّيْطان في كل شَيْء إلا في قَليلٍ من الأمُور ، فإنكم كُنْتُم لا تتَّبِعُونه فيها ، وعلى هَذَا فهو استِثْناء مفرَّغ ؛ ذكر ذلك ابن عَطِيَّة ، إلا أنَّ في كلامه مناقشةً : وهو أنَّه قال " أي : لاتَّبعتُم الشَّيْطَان كلّكم إلا قَلِيلاً من الأمور كنتم لا تتبعون الشيطان فيها " ، فجعله هنا مُسْتَثْنَى من المتَّبعِ فيه المَحْذُوف على ما تَقَدَّم تقريره ، وكان تَقَدَّم أنه مُسْتَثْنى من الاتِّباع ، فتقديُره يؤدِّي إلى اسْتِثْنَائِه من المتَّبَع فيه ، وادِّعاؤه أنه استثنَاء من الاتباع ، وهما غيران . التاسع : أن المُرَاد بالقلة العدمُ ، يريد : لاتَّبعْتُم الشَّيْطان كلكم وعدمَ تخلُّفِ أحَدٍ منكم ؛ نقله ابن عطية عن جَمَاعةٍ وعن الطَّبِري ، ورَدَّه بأن اقْتِران القِلَّة بالاسْتِثْنَاء يقتضي دُخُولَها ؛ قال : " وهذا كَلاَمٌ قَلِقٌ ولا يشبه ما حَكَى سيبَويْه من قَوْلِهِم : " هذه أرضٌ قَلَّ ما تُنْبِتُ كذا " أي : لا تُنْبِتُ شيئاً " . وهذا الذي قاله صَحيحٌ ، إلا أنه كان تَقَدَّم له في البَقَرَةِ في قوله - تعالى - : { بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 88 ] أن التَّقْليل هنا بِمَعْنَى العدم ، وتقدَّم الردُّ عليه هُنَاك ، فَتَنَبَّهَ لهذا المَعْنَى هُنَا ولم ينتبه له هناك . العاشر : أن المُخَاطب بقوله : " لاتبعتم " جميعُ النَّاس على العُمُوم ، والمُرَادُ بالقَلِيل : أمةُ محمَّد صلى الله عليه وسلم خاصةً ، وأيَّد صَاحِبُ هذا القَوْلِ قوله بقوله - عليه السلام - : " ما أنْتُم في سِوَاكُم من الأمَمِ إلاَّ كالرَّقْمَة البَيْضاء في الثَّور الأسود " . فصل دلالة الآية على حجية القياس دلت هذه الآية على أنَّ القياس حُجَّة ؛ لأن قوله : { ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } صفة لأولي الأمْر ، وقد أوْجَب اللَّه على الذين يجيئُهُم أمْرَيْن : الأمن ، أو الخوف أن يَرْجَعُوا في مَعْرِفتِه إليهم ولا يَخْلُو إمَّا أن يَرْجِعُوا إليهم في مَعْرِفَة هذه الوَقَائِع مع حُصُول النَّصِّ فيها أوْ لا ، والأوَّل باطل ؛ لأن من استدلَّ بالنَّصِّ في واقِعةٍ لا يُقَال : إنه استنبط الحكم ؛ فثبت أنه - تعالى - أمَر المكَلَّف بِرَدِّ الوَاقعة إلى من يَسْتَنْبِط الحُكْم فيها ، ولَوْلاَ أن الاسْتِنبَاط حُجَّة ، لما أمَر المُكَلَّف بذلك ؛ فَثَبت أن الاستِنْبَاط حُجَّة ، وإذا ثبت ذلك فَنَقُول : دلت الآيَةُ على أمُورٍ : منها : أن في الأحْكام ما لا يُعْرف بالنَّصِّ ، بل بالاستِنْبَاطِ . ومنها : أنَّ الاستنباط حُجَّة . ومنها : أن العَامِيِّ يجِب عليه تَقْلِيد العُلَمَاء في أحْكَام الحَوَادِث . ومنها : أن النَّبِيَّ - عليه الصلاة والسلام - كان مُكَلَّفاً باستِنْبَاط الأحْكَام ؛ لأن الله - تعالى - أمَر بالرَّدِّ إلى أولي الأمْرِ ، ثم قال : { لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ولم يخصّص أولي الأمْر دون الرَّسُول ، وذلك يُوجِب الرَّسُول وأولي الأمْر كلهم مُكَلَّفُون بالاسْتِنْبَاطِ . فإن قيل : لا نُسَلَّم أن المراد بـ { ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أولي الأمْر ، لكن هذه الآيَة إنَّما نزلت في بَيَان الوَقَائع المُتَعَلِّقة بالحُرُوب والجِهَاد ، فهَبْ أن الرُّجُوع إلى الاستنبَاط جَائِزٌ فيها ، فَلِمَ قُلْتُم بجوازِه في الوَقَائِع الشَّرْعِيَّة ؛ فإن قِيْسَ أحد البَابَيْن على الآخَر ، كان ذَلِك إثْبَاتاً للقِيَاس الشَّرْعِيِّ بالقِياس ، وأنَّه لا يجُوز أن الاسْتِنْبَاط في الأحْكَام الشَّرْعِيَّة داخل تحت الآية فلمَّا قُلْتُم يلزم أن يكُون القِيَاس حُجَّة ، فإنَّه يمكنُ أن يكُون المُرَاد بالاسْتِنْبَاط : استخراج الأحْكَام من النُّصُوص الخَفِيَّة ، أو مِنْ تركيبَاتِ النُّصوصِ ، أو المراد منه استخراج الأحكام من البَرَاءة ، الأصليَّة ، أو مما ثَبَت بحكم العَقْلِ ، كما يقول الأكَثُرون إن الأصْل في المَنَافِع الإبَاحَة ، وفي المَضَارِّ الحُرْمَة . سلمنا أنَّ القِيَاس الشَّرْعِي داخلٌ في الآية ، لكن بِشَرْط أن يكون القياسُ مُفِيداً للعِلْم ؛ لقوله - تعالى - : { لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } . فاعتبر حُصُول العِلْم من هذا الاستِنْبَاط ، ونِزَاع في مثل هذا القِيَاس ، إنما النِّزاع في القِياس الَّذِي يفيد الظَّنَّ : هل هو حُجَّة في الشرع ، أمْ لا . والجواب : أمَّا الأوَّل فلا يصح ؛ لأنَّه يَصِيرُ التقدير : أو رَدُّوه إلى الرَّسُول وَإلى أولِي الأمْر مِنْهُم لَعَلِمُوه ، وعَطْف المظهر على المُضْمَر ، وهو قوله : " ولو ردوه " قَبِيح مستكره . وأما الثَّاني فَمَدْفُوع من وَجْهَيْن : أحدهما : أن قوله : { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ } حاصل في كل ما يتعلَّق بباب التَّكْلِيف ، فَلَيْس في الآيَة ما يوجِبُ تَخْصِيصها بأمر الحُرُوبِ . وثانيها : هَبْ أن الأمْر كما ذكرْتُم ، لكن لمَّا ثَبَت تَعَرُّف أحْكَام الحروب بالقِيَاس الشَّرعيِّ ، وجب أن يتَمسَّك بالقِيَاس الشَّرْعِيِّ في سَائِر لوَقَائِع ، لأنه لا قائل بالفَرْق . وأما الثَّالث : وهو حَمْل الاستِنْبَاط على اسْتِخْرَاج النُّصُوص الخَفِيَّة أو على تَرْكِيبات النُّصُوص فكلُّ ذلك لا يُخْرِجُه عن كونه مَنْصُوصاً ، والتَّمَسُّك بالنَّصِّ لا يُسَمَّى استِنْبَاطاً . وأما قوله : لا يجوزُ حَملُه على التَّمسُّكِ بالبَرَاءة الأصْلِيَّة . قلنا : لَيْس هذا استِنْبَاطاً ، بل هذا إبقاء لما كان على ما كان ، ومثل هذا لا يُسَمَّى استِنْبَاطاً . وأما الرابع : وهو أن هذا الاستِنْبَاط إنَّما يجُوز عند حُصُول العِلْم ، والقياس الشَّرْعِيِّ لا يفيد العِلْم . فنقول : جوابُه من وجهين : أحدُهُما : أنَّه عندنا يُفِيدُ العِلْم ؛ أن ثُبُوت إن القِيَاسَ حجَّة يقطع بأنَّهُ مهما غَلَب على الظَّنِّ أنَّ حُكْم اللَّه في الأصْل معلَّل بكذا ، ثمَّ غَلَب على الظَّنِّ أنَّ ذلك المَعْنَى قَائِمٌ في الفَرْع ، فهنا يحصل ظنُّ أنَّ حُكْم الله في الفَرْعِ مُسَاوٍ لحُكْمِه في الأصْل ، وعند هذا الظَّنِّ يُقْطَع بأنَّه مكَلَّفٌ بأن يعمل على وَفْقِ هذا الظَّنِّ ؛ فالحاصل : أن الظَّنَّ واقع في طَرِيق الحُكْم ، وأما الحُكْمُ فمقطوع به ، وهو يجري مَجْرَى ما إذا قَالَ الله - تعالى - : مهما غَلَب عَلى ظنِّك كذَا ، فاعلم أنَّ حُكْمِي في الوَاقِعَة كذا ، فإذا غَلَب الظَّنُّ قَطَعْنَا بثُبُوت ذلك الحُكْمِ . وثانيهما : أن العِلْم قد يُطْلَق ويراد به الظَّنَّ ؛ وقال - عليه الصلاة والسلام - : " إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فاشْهَد " شَرَطَ العِلْمَ في جواز الشَّهَادَةِ ، وأجْمَعْنَا على أنَّ عند الظَّنِّ تُجُوزُ الشَّهَادة ؛ فثبت أنَّ الظَّنِّ قد يُسَمَّى بالعِلْمِ . فصل في رد شبهة للمعتزلة دلَّت [ هذه ] الآية على أنَّ الذين اتَّبعوا الشَّيْطَان ، قد مَنَعَهُم الله فَضْلَه ورحمته وإلا ما كان يتبع ، وهذا يَدُلُّ على فَسَادِ قول المُعْتَزِلَة : في أنَّه يجب على اللَّه رعاية الأصْلَحِ في الدِّين . أجابُوا : بأن فَضْلَ اللَّهِ ورَحْمَتَه [ عامَّات في حق الكُلِّ ، لكن المُؤمنِين انْتَفَعُوا به ، والكَافِرِين لم ينْتَفِعُوا به فَصَحَّ عَلَى سبيل المجاز أنه لم يَحْصُل للكَافِرين فَضْل الله ورَحْمَته ] في الدِّين . والجواب : أن حَمْل اللَّفظ على المَجَاز خِلاف الأصْل .