Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 26-26)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { فإنَّهَا مُحَرمَةٌ عَلَيْهِم } أي الأرْضَ المقدسة مُحَرَّمة عَلَيْهم أبَداً ، لم يرد تَحْريم تَعَبُّد ، وقيل تَحْرِيم مَنْع . [ في ] قوله : " أرْبَعين سَنَةً " وجهان : أظهرهما أنَّه منْصُوب لـ " مُحَّرَمة " ، فإنَّه رُوِي في القِصَّة أنهم بعد الأرْبَعين دخلوها ، فيكون قد قَيّد تَحْريمها عَلَيْهم بهذه المُدَّة ، وأخْبَر أنَّهم " يَتيهُون " ، ولم يُبَيِّنْ كَميَّة التِّيه ، وعلى هذا فَفِي " يَتيهُون " احتمالان : أحدهما : أنه مستَأنَفٌ . الثاني : أنَّه حالٌ من الضَّمِير في " عَلَيْهِم " . الوجه الثَّاني : أن " أرْبَعين " مَنْصُوب بـ " يتيهُون " ، فيكون قَيّد التِّيه [ بـ " الأرْبَعين " ] . [ وأمَّا ] التَّحْريم فمطلق ، فيحتمل أن يكُون مُسْتَمِراً ، أو يكون مُنقْطِعاً وأنَّهَا أحلت لهم . وقد قيل بِكُلٍّ من الاحتمالين ، رُوِي أنَّه لم يدخُلْها أحَدٌ ممَّن كان في التِّيهِ ، ولم يَدْخُلْها إلا أبْناؤُهُمَ [ وأمَّا الآبَاءُ فماتُوا ، وما أدْرِي ما الَّذي حَمَل أبَا مُحَمَّد بن عَطِيَّة على تَجويزه أن يكُون العَامِلُ في " أربعين " مُضْمَراً يفسره ] " يتيهُون " المتأخر ، ولا ما اضْطَرَّه إلى ذَلِك من مَانِعِ صِنَاعِي أو مَعْنَوِي ، وجَوَاز الوَقْف والابْتِدَاء بقوله : " عَلَيْهِمْ " ، و " يَتِيهُون " [ مفهومان ممَّا ] تقدم من الإعراب . والتِّيه : الحَيْرة ، ومنه : أرْضٌ تَيْهَاء [ لِحَيرةٍ سَالكها ] قال : [ الطويل ] @ 1950 - بتَيْهاءَ قَفْرٍ وَالمَطِيُّ كَأنَّهَا قَطَا الحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُها @@ ويقال : " تَاهَ يتيه وهو أتْيَهُ منه ، وتَاهَ يَتُوه وهو أتْوَهُ مِنْه " [ فقول من قال : يتيه ، وتوهْتُهُ ] من التَّدَاخل ، ومثله : " طَاحَ " في كونه سُمِع في عَيْنيه الوجهان ، وأن فيه التَّدَاخُلَ - أيضاً - فإنَّ من قال : " يَطِيحُ " قال : " طَوَّحْتُه " ، وهو " أطْوَحُ منه " . واختَلفُوا في التِّيه ، قال [ الرَّبيع : ] مقدار ستة فَرَاسِخ ، وقيل : تِسْعة فَرَاسِخ في ثلاثين فَرْسخاً ، وقيل : سِتَّة فَرَاسِخ في اثْنَيْ عشر فرسخاً . وقيل : كانوا ستمائة ألْفِ فارس . فإن قيل : كيف يعقل بَقَاءُ هذا الجَمْع العظيمِ في هذا القَدْر الصَّغِير من المفَازَة أرْبَعِين سنة بحيث لا يَتَّفِقُ لأحدٍ منهم أن يَجِد طَرِيقاً إلى الخُرُوج عنها ؟ ولو أنهم وضعُوا أعينَهُم على حركة الشَّمس أو الكواكب لَخَرجوا منها ، ولو كانُوا في البَحْر العَظِيم فكيف في المفازة الصغيرة ؟ . فالجواب فيه وَجْهَان : الأوَّل : أن انخراق العَادَات في زمن الأنْبِياء غير مُستبعد ، إذ لو فَتَحْنَا باب الاسْتِبْعَاد لزم الطَّعن في جميع المُعْجِزات ، وهو باطِلٌ . الثاني : إذا جعلْنَا ذلك التَّحْريم تحريم تعبد ، زال السَّؤال ؛ لأن الله تعالى حرَّم عليهم الرُّجوع إلى أوْطَانِهِم ، وأمرهم بالمكْثِ في تلك المفَازةِ أرْبعين سنة مع المشقة والمحنة جَزَاءً لهم على سُوء صنِيعِهم . قال القُرْطُبِي : [ قال ] أبو علي : قد يكونُ ذلك بأن يحول الله الأرْضَ التي هم عليها إذا نَامُوا فيردَّهم إلى المكان الذي ابْتَدؤوا منه ، وقد يَكُون بغير ذلك من الاشتباه والأسْبَاب [ المَانِعَة من ] الخُرُوج عنها على طَريق المُعْجِزة الخارجة عن العَادَة . قال بعضهم : إنَّ هارون وموسى لم يكُونَا فيهم ، والصَّحِيح : أنَّهما كانا فيهم ، ولم يكن لهما عُقُوبة لكن كما كَانَت النَّار على إبْرَاهيم بَرْداً وسَلاَماً وإنما كانت العقوبة لأولَئِك الأقْوام ، ومات في التِّيه كل من دَخَلها ممن جاز عشرين سنة غير يُوشَع وكالب ، ولم يدخل أريحاء أحَدٌ ممَّن قالوا : { إنا لن نَدْخُلَهَا [ أبداً ] } فلما هَلَكُوا وانْقَضت الأربعون سنة ، وَنَشَأت [ النَّواشئ ] من ذراريهم ساروا إلا حرب الجبَّارِين ، واخْتَلَفُوا فيمن تولَّى الحرب وعلى يدي من كان الفتح فقيل : إنَّما فَتَح أريحاء موسى ، وكان يُوشع على مقدمته ، فسار موسى عليه السلام إليهم فيمن بقي من بني إسرائيل فدخلها يوشع ، فقاتل الجَبَابِرَة ثم دَخَلَها موسى ، وأقام فيها ما شاء الله ، ثم قَبَضَهُ اللَّه إليه ، ولا يعلم قبره أحد ، وهذا أصَحُّ الأقوال . وقيل : إنما قاتل الجبَّارين يُوشع ، ولم يَسِر إليهم إلا بعد موت موسى - عليه السلام - ، وقالوا : مات مُوسى وهارون جميعاً في التِّيه . قال القُرْطُبِيُّ : روى مُسْلِمٌ عن أبِي هُرَيْرَة قال : " أرْسَلَ اللَّهُ ملك المَوْتِ إلى مُوسَى - عليه الصلاة والسلام - ، فلما جاءَهُ ، صَكَّهُ وفَقَأ عَيْنَه ، فرجع إلى رَبِّه فقال : " أرْسَلْتَنِي إلى عَبْدٍ لا يُريد الموْتَ " ، قال : فَرَدَّ الله إلَيْه عَيْنَهُ ، وقال : ارجع إلَيْه وقل له : يضع يده على مَتْن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سَنَة . قال : " أي رب ثم مَهْ " ، قال : " ثم الموت " قال : " فالآن " ؛ فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدّسة رمية بحجر ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فلو كنتُ ثَمَّ لأريتُكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثِيب الأحمر " " فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قد علم قبره ووصف موضعه ، ورآه فيه قائماً يصلي كما في حديث الإسراء ، إلا أنه يحتمل أن يكون أخفاه الله عن الخلق سواه ولم يجعله مشهوراً عندهم ؛ ولعل ذلك لئلا يُعبد ، والله أعلم . ويعني بالطريق طريق بيت المقدس . ووقع في بعض الروايات إلى جانب الطُّور مكان الطريق . واختلف العلماء في تأويل لَطْم موسى عين مَلك الموت وفَقْئها على أقوال ؛ منها : أنها كانت عيناً متخيلة لا حقيقة ، وهذا باطل ، لأنه يؤدّي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له . ومنها : أنها كانت عيناً معنوية وإنما فقأها بالحجة ، وهذا مجاز لا حقيقة . ومنها : أنه عليه السلام لم يعرف ملك الموت ، وأنه رأى رجلاً دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عن نفسه فلطم عينه ففقأها ؛ وتجب المدافعة في هذا بكل ممكن . وهذا وجه حسن ؛ لأنه حقيقة في العين والصّك ؛ قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة ، غير أنه اعترض عليه بما في الحديث ؛ وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال : " يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت " فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت ؛ وأيضاً قوله في الرواية الأخرى : " أجب ربك " يدلّ على تعريفه بنفسه . والله أعلم . ومنها : أن موسى عليه الصلاة والسلام كان سريع الغضب ، إذا غضب طلع الدّخان من قَلَنْسُوته ورفع شعرُ بدنه جبّته ؛ وسرعة غضبه كانت سبباً لصَكِّه مَلَك الموت . قال ابن العربي : وهذا كما ترى ، فإن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب . ومنها وهو الصحيح من هذه الأقوال : أن موسى عليه الصلاة والسلام عرف ملك الموت ، وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجازم بأنه قد أُمِر بقبض روحه من غير تخيير ، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من " أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخيِّره " فلما جاءه على غير الوجه الذي أُعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه ، فلطمه ففقأ عينه امتحاناً لملك الموت ؛ إذ لم يصرح له بالتخيير . ومما يدل على صحة هذا ، أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم ، والله بغيبه أحكم وأعلم . هذا أصح ما قيل في وفاة موسى عليه السلام . وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصاً وأخباراً الله أعلم بصحتها ؛ وفي الصحيح غُنْيَة عنها . انتهى . فصل وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة ، فيروى أن يوشع رآه بعد موته في المنام فقال له : كيف وجدت الموت ؟ فقال : " كشاة تسلخ وهي حية " . وقوله : { فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } أي لا تحزن . [ والأسى : الحُزْن ، يقال : أسِي - بكسر العين - يَأسَى ، بفتحها ، ولامُ الكلمة تحتمل أن تكونَ من واوٍ ، وهو الظاهرُ لقولهم : " رجل أسْوان " بزنة سكران ، أي : كثير الحزن ، وقالوا في تثنية الأسى : أسوان ، وإنما قُلبت الواوُ في " أسِيَ " يَاءً لانكسار ما قبلَها ، ويُحْتمل أن تكون ياءً فقد حُكي " رجل أسْيان " أي كثيرُ الحزن ، فتثنيتُه على هذا " أسَيان " . والله أعلم بغيبه ] .