Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 35-35)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في كيفيَّة النَّظْمِ وجهان : أحدهما : أنَّه لما أخبر رسُولَه صلى الله عليه وسلم أن قوماً من اليَهُود هَمُّوا أن يَبْسُطُوا أيديهم إلى الرَّسُول وإلى أصحابه بالغدر والمكر ، ومَنَعَهُم الله تعالى من مُرَادهم ، وشرح للرَّسُول شدَّة تَعَصُّبِهم على الأنْبِيَاء وإصْرَارهم على إيذَائهم ، وامتدَّ الكلامُ إلى هذا الموضع ، فعند هذا رَجَع إلى المَقْصُود الأوَّل وقال { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبْتَغُوۤاْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ [ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ ] } ، كأنه قيل : قد عَرَفْتُمْ كمال جَسَارَةِ اليَهُودِ على المَعَاصِي والذُّنُوب ، وبُعْدهم عن الطَّاعَات الَّتِي هي الوَسَائِلُ للعبد إلى الرَّبِّ ، فكُونُوا يا أيُّها المُؤمِنُون بالضَّدِّ من ذلك فاتَّقوا معَاصِي اللَّه ، وتوسَّلُوا إليه بالطَّاعات . والثاني : أنهم لما قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] . أي : أبْنَاء أنبياء الله فكان افتخارهم بأعْمَال آبَائِهِم كأنَّه تعالى قال : " يا أيها الذين آمنوا [ اتّقوا الله ] ولتكن مفاخرتكم بأعمالكم لا بشرف آبائكم وأسلافكم ، فاتّقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة " . في قوله تعالى : " إليه " ثلاثةُ أوجُه : أحدها : أنه مُتعلِّق بالفِعْل قبله . الثاني : أنه متعلِّق بنفس " الوَسيلَة " . قال أبو البقاء : لأنَّها بمعنى المتوسَّل به ، فلذلك عَمِلَت فيما قبلها . يعني : أنَّها ليست بِمَصْدَر ، حتى يمتَنِع أن يتقدَّم مَعْمُولها عليها . الثالث : أنه مُتعلِّق بِمَحْذُوف على أنَّه حال من " الوَسِيلَة " ، وليس بالقَوِي . و " الوسيلة " أي : القُرْبة ، فَعِيلَة مِنْ توسَّل إليه فلانٍ بكذا إذا تقرَّب إليه ، وجمعها : وَسَائِل . قال لبيد : [ الطويل ] @ 1959 - أرى النَّاسَ لا يَدْرُونَ ما قَدْرُ أمْرِهِمْ ألاَ كُلُّ ذِي لُبٍّ إلى الله وَاسلُ @@ أي : متوسّل ، فالوسِيلة هي التي يتوسَّلُ بها إلى المَقْصُودِ . فصل قال ابن الخطيب : التَّكْلِيفُ نوعان : ترك المَنْهِيَّات : وهو قوله تعالى " اتَّقُوا الله " ، وفعل الطَّاعات : وهو قوله { وابْتَغُوا إليْهِ الوسِيلَة } ، والتَّرك مُقَدَّم على الفِعْل بالذَّات ؛ لأنه بَقَاء على العَدَم [ الأصلي ] ، والفعل إيجاد وتَحْصِيل ، والعَدَمُ سابق ، ولذلك قُدِّمَت التَّقْوى فإن قيل : لِمَ اختصّت الوسِيلَة بالفعل ، مع أنَّ ترك المَعَاصي قد يكون وَسِيلة ؟ فالجوابُ : أن التَّرك بقاء على العدم ، وذلك لا يُمْكِن التَّوَسُّل به ، بل من دَعَتْهُ الشهْوة [ إلى فعل القَبِيح ] ، فتركه مرضاة اللَّه حصل التَّوسُّل إلى اللَّه بذلك الامْتِنَاع ، لكنَّه من باب الأفْعَال ، ولذلك قال المُحَقِّقُون : تَرْك [ الشَّيء ] عبارة عن فعل ضِدِّه . ثم قال - تعالى - : { وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، لمّا أمر بِتَرْك ما لا يَنْبَغِي بقوله : " اتَّقُوا اللَّه " وفعل ما يَنْبَغِي بقوله { وابْتَغُوا إلَيه الوَسِيلة } وكل واحد منهما شاقٌّ ثَقِيل على النَّفْس فإن النَّفْس تَدْعُو إلى اللَّذَّات المَحْسُوسَة ، والعَقْل يدعو إلى خِدْمَة اللَّه وطاعتهِ والإعْرَاض عن المَحسُوسَات ؛ فكان بَيْن الحَالَتيْن تضَادٌّ وتناف ، وإذا كان الأمْر كذلك فالانْقِيَادُ لقوله تعالى { وَٱبْتَغُوۤاْ إِلَيْهِ ٱلْوَسِيلَةَ } من أشقِّ الأشْيَاء على النَّفْس وأشدها ثقلا على الطَّبع ، فلهذا أرْدَف ذلك التَّكْليف بقوله { وجاهدوا في سبيله الله لعلكم تفلحون } ، ولمّا أرشد المُؤمِنِين في هذه الآية إلى معاقدِ الخَيْرَات ومَفَاتِح السَّعاداتِ ، أتْبَعَهُ بشرح حَالِ الكُفَّار .