Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 6-6)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله سبحانه وتعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } الآية اعلم أنَّ الله تعالى افتتح السورة بقوله : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } [ المائدة : 1 ] . فطلب الوَفَاءَ بعهد العبوديَّة ، فكأنَّ العبد قال : يا إلهي ، العهد نوعان : عهد الرُّبوبيّة منك ، وعهد العبوديّة منا ، فأنتَ أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الرُّبوبية والكرم ، [ نعم أنا أوفي بعهد الربوبية والكرم ] ومعلوم أنَّ منافع الدنيا محصورة في نوعين : لذات المطعم ، ولذات المنكح ، فبيَّن تعالى ما يحلُّ وما يحرم من المطاعم والمناكح ، ولما كانت الحَاجَةُ [ إلى ] المطعوم فوق الحاجة إلى المَنْكُوحِ قدم بيان المطعوم على المنكوح ، فلما تم هذا البيان فكأنه قال : قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب من منافع الدُّنيا ، فاشتغل أنت في الدُّنيا بالوفاء بعهد العبودية ، فلما كان أعظم الطَّاعات بعد الإيمان الصَّلاة ، ولا يمكن إقامتها إلا بالطَّهارة لا جَرَمَ بدأ اللَّهُ تعالى بذكر شرائط الوضوء . قوله تعالى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } . قالوا : تقديره : إذا أردتم القيامَ كقوله : { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ } [ النحل : 98 ] . وهذا من إقامَةِ المُسَبَّب مقام السبب ، وذلك أنَّ القيام متسبِّبٌ عن الإرادة ، والإرادة سَبَبُهُ . قال الزَّمَخْشَرِيُّ : فإن قلت : لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل ؟ قلت : لأنَّ الفعل يوجد بقدرة الفاعِلِ عليه ، وإرادته له ، وهي قصده إليه وميله ، وخلوص داعيته ، فكما عبر عن القدرة على الفعل [ بالفعل ] في قولهم : الإنسان لا يطير ، والأعمى لا يبصر ، أي : لا يقدران على الطَّيران والإبصار ؛ ومنه قوله تعالى : { نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 104 ] أي : قادرين على الإعادة ، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل ، وذلك لأنَّ [ الفعل ] مُسَبَّب عن القدرة ، فأقيم [ المسبب ] مقام السبب للمُلاَبَسَةِ بينهما ، ولإيجاز الكلام . وقيل : تقديره : إذا قصدتم الصلاة ؛ لأنَّ من تَوَجَّه إلى شيء وقام إليه كان قاصداً له ، فعَبَّر بالقيام عن القصد . والجمهورُ قدروا حالاً محذوفة من فاعل " قُمْتُمْ " ، أي : إذا قمتم إلى الصلاةِ مُحْدِثين ؛ إذ لا وضوء على غير المحدث ، وإن كان قال به جماعةٌ قالوا : وَيَدُلُّ على هذه الحال المحذوفة مقابلتها بقوله : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ } ، فكأنه قيل : إن كنتم محدثين الحدث الأصغر فاغسلوا كذا ، وامْسَحُوا كذا ، وإن كنتم محدثين [ الحدث الأكبر ] فاغْسِلُوا الجسد كُلَّهُ . قال شهابُ الدِّين : فيه نظر . فصل هل الأمر بالوضوء تكليف مستقل ؟ قال قوم : الأمر بالوضوء ليس تكليفاً مستقلاً بنفسه ، لأنَّ قوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ } جملة شرطية ، الشَّرط فيها القيام إلى الصلاة ، والجزاء الأمر بالغسل ، والمعلَّق على الشيء بحرف الشرط [ يعدم عند ] عدم الشَّرط ، فاقتضى أن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصَّلاة . وقال آخرون : المقصُودُ من الوضوء الطَّهارة ، والطَّهارة مقصودة بذاتها لقوله تعالى في آخر الآية : { وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : " [ بُنِيَ ] الدِّينُ على النَّظَافَةِ " ، وقال : " أمَّتِي غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ أثَرِ الوُضُوء يَوْمَ القِيَامَةِ " . والأخبار الواردة في كون الوضوء سبباً لغفران الذنوب كثيرة . فصل قال دَاوُد : يجبُ الوضوء لكلِّ صلاة لظاهر الآية لأن قوله تعالى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } يقتضي العموم ، [ وقال أكثر الفقهاء : لا يجب ] . قال الفقهاء كلمة " إذَا " لا تفيد العموم ؛ لأنَّهُ لو قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق ، فدخلت مرة طُلِّقَتْ ، فلو دخلت ثانية لم تطلق [ ثانياً ] وإذا قال السيِّد لعبده : إذا دَخَلْتَ السُّوقَ فادْخُلْ على فلان ، وقل له كذا وكذا ، فهذا لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة . ويمكن أن يجاب بأنَّ التَّكاليف الواردة في القرآن مبناها على التَّكرير وليس الأمر كذلك في الصور التي ذكرتم فإن القرائن الظاهرة دلت على أنه ليس مبنى الأمر فيها على التكرير ، وأما الفقهاء فاستدلوا على صحة قولهم بأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يوم الفتح صلّى صلوات كلّها بوضوء واحد ، وجمع يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد . وأجابَ داودُ بأنَّ خبر الواحد لا يَنْسَخُ القرآن ، وقال قومٌ : هو أمر على طريق النّدب ، ندب من قام إلى الصلاة أن يجدِّدَ الطَّهَارَة وإن كان على طهرٍ لما روى عبد الله بن حنظلة بن عامر أنَّ رسُولَ الله - صلّى الله عليه وعلى آله وسلم - أمر بالوضوء عند كلِّ صلاة طاهراً ، أو غير طاهر ، فلما شقّ ذلك عليه أمر بالسّواك عند كل صلاة ، وقال قوم : هو إعْلام من الله تعالى ورسوله أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصَّلاة دون غيرها من الأعمال ، فأذن له أن يفعل بعد الحدث ما بدا لَهُ من الأفعال غير الصلاة ، كما روى ابن عبّاسِ " قال : كنا عند النّبيِّ صلى الله عليه وسلم فرجع من الغائط ، فأتي بطعام فقيل : " ألا تتوضأ ، فقال : لَم أصَلِّ فأتَوضَّأ " " . قوله سبحانه : { فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } . وحدُّ الوجه من [ منابت الشَّعر ] إلى منتهى الذقنِ طولاً ، وما بين الأذنين عرضاً يجب غسل جميعه في الوُضوء ، ويجب إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين ، وأهداب العينين ، والشّارب ، والعذارِ ، والعَنْفَقَةِ وإن كان كثيفه . وأما العَارِضُ واللِّحية وإن كانت كثيفة لا ترى البَشْرَة من تحتها لا يجب غسل باطنها في الوُضُوءِ ، بل يجبُ غسل ظاهرها ، وهل يجبُ إمرار الماء لما على ظاهر ما استرسل من اللحية عن الذَّقْنِ ؟ . فقال أبُو حنيفة : لا يجب ؛ لأنَّ الشَّعر النازل عن حدِّ الرَّأس لا يكون حكمه حكم الرأس في جواز المَسْحِ ؛ كذلك النازِل عن حدِّ الوجه لا يكون حكمه حكم الوجه في وجوب غسله ، وقال غيره : يجب إمرار الماء على ظاهره ؛ لأنَّ الله تعالى أمَرَ بغسل الوَجْهِ ، والوجهُ ما يقع به المواجهة ، قال ابنُ عباسٍ : يجبُ غسل داخل العينين ؛ لأنَّهُ من الوجه ، وقال غيره : لا يجبُ للحرج . والمضمضة والاستنشاق يجبان في الوضوء . والغسلُ عند أحمد وإسحاق وعند الشَّافِعِيِّ لا يجبان بناء على أنهما من الباطِنِ ، ولو نبت للمرأة لحية ؟ وجب إيصال الماء إلى جلدَةِ الوجه ، وإن كانت كثيفة . قوله [ سبحانه ] : { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ } . في " إلى " هذه وجهان : أحدهما : أنَّها على بابها من انتهاء [ الغاية ] ، وفيها حينئذٍ خلاف . فقائل : إن ما بعدها لا يدخُلُ فيما قبلها . وقائل بعكس ذلك . وقائلٌ : لا تعرض لها في دخول ولا عدمه ، وإنَّما [ يدور ] الدخول والخروج مع الدَّليل وعدمه . وقائل : إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها [ دخل ] في الحكم ، وإلاَّ فلا ، ويُعْزَى لأبي العبَّاس . وقائل : إن كان ما بعدها من غير جنس ما قبلها لم يدخل ، وإن كان من جنسه ، فيحتمل الدخول وعدمه . وأوَّلُ هذه الأقوال هو الأصَحُّ عند النُّحاة . قال بعضهم : وذلك أنَّا حيث وجدنا قرينة مع " إلى " ، فإن تلك القرينة تقتضي الإخراج مما قبلها ، فإذا ورد كلام مجرد عن القرائن ، فينبغي أن يحمل على الأمر الفاشي الكثير ، وهو الإخراج ، وفرق هذا القائل بين " إلى " و " حتّى " فجعل " حتى " تقتضي الإدخال ، و " إلى " تقتضي الإخراج بما تقدَّم من الدَّليل . [ وهذه الأقوال دلائلها في غير هذا الكتاب ، وقد أوضحتها في كتابي " شرح التسهيل " ] . والوجه الثاني : أنَّهَا بمعنى " مع " أي : مع المرافِقِ ، وقد تقدَّمَ الكلامُ في ذلك عند قوله : " إلى أمْوالِكُمْ " . و " المرافِق " جمع " مَرْفِق " بفتح الميم وكسر الفاء على الفصيح من اللغة ، وهو مِفْصَلٌ بين العَضُدِ والمِعْصَمِ . فصل ذهب أكثرُ العلماء إلى وجوب غسلِ اليديْنِ مع المرفقين والرجلين مع الكعبين . وقال مالكٌ والشعبيُّ ومُحمَّد بنُ جرير وزفَرُ : لا يجب غسلُ المرفقين والكعبين في اليد والرجّل ؛ لأن حرف " إلى " للغاية ، والحدّ لا يدخل في المحدود ، وما يكون غاية للحكم يكون خارجاً عنه كقوله تعالى : { أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ } [ البقرة : 187 ] . والجوابُ : أنَّ حدَّ الشيء قد يكون منفصلاً عن المحدود بمقطع محسوس ، فهاهنا يكون الحد خارجاً عن المحدود كقوله : { أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ } [ البقرة : 187 ] فإنَّ النَّهار مُنفَصِلٌ عن الليل انفصالاً محسوساً ، وقد لا يكون منفصلاً كقولك : " بعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى ذلك الطرف " ، فإن طرف الثوب غير منفصل عن الثوب بمقطع محسوس فإذا كان كذلك فامتياز المرفق عن السَّاعد ليس له مفصل معين ؛ فوجب غسله . وثانياً : سلّمنا أنّ المرفق لا يجب غسله ، إلاَّ أنَّ المرفقَ اسم لما جاوز طرف العظم ؛ لأنَّهُ هو الذي يرتفق به أي يتَّكِىءُ عليه ، ولا نِزَاع أنَّ ما وراء طرف العظم لا يجب غسله ، قاله الزجاج . فصل في غسل ما أمكن مما هو دون المرفق فإن قطع ما دون المرفق ؛ وجب غسل ما بقي ؛ لأنَّ محل التكليف باقٍ وإن كان قطع مما فوق المرفق لم يجب ؛ لأنَّ محلّ التّكليف زال ، وإن كان قطع من المرفق ؛ فقال الشافعي : يجب إمساسُ [ الماء عند ملتقى العظمين ؛ وجب مساس ] لطرف العظم ؛ لأنَّ غسل المرفق كان واجباً ، وهو عبارة عن ملتقى العَظْميْنِ ، فوجب إمساسُ الماء عند ملتقى العَظْمَيْنِ ، وجب إمْسَاس لطرف العظم الباقي لا محالة . قوله عزَّ وعلا : { وَٱمْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ } . في هذه " الباء " ثلاثةُ أوْجُه : أحدها : أنَّها للإلصاق ، أي : ألصقوا المسح برؤوسكم . قال الزمخشريُّ : المرادُ إلصاق المَسْحِ بالرَّأسِ ، وما مسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما مُلْصق المسح برأسه . قال أبو حيَّان : وليس كما ذكر ، يعني أنَّهُ لا يطلق على [ الماسح ] بعض رأسه ، أنَّهُ ملصق المسح برأسه ، وهذا مُشَاحَّةٌ لا طَائِلَ تحتها . والثاني : أنها زائدة كقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] . وقوله : [ البسيط ] @ 1932 - … … لا يَقْرَأنَ بالسُّوَرِ @@ وهو ظاهرُ كلام سيبويْهِ ، فإنَّهُ حكى : خشَّنت صدره وبصدره ، ومسحت رأسه وبرأسه ، والمعنى واحد . وقال الفرَّاءُ : تقول العربُ : خذ الخِطَامَ ، و [ خذ ] بالخطام . وَهزَّهُ وَهزَّ به ، وخذ برأسه ورأسه . والثالث : أنَّها للتبعيضِ ، كقوله : [ الطويل ] @ 1933 - شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ … @@ وهذا قول ضعيفٌ ، وتقدَّم الكلامُ في ذلك في أول البسملة . فصل في ذكر الخلاف في القدر الواجب من مسح الرأس اختلف العلماء في قدر الواجب من مَسح الرَّأسِ ، فقال مالكٌ وأحْمَدُ : يجب مسح جميع [ الرأس كما يجب مسح جميع ] الوجه في التيمم وقال أبو حنيفة : يجب مسح ربع الرَّأس . وقال الشافعيُّ : قدر ما يطلق عليه اسم المسح ، واحتج الشافعيُّ بأنَّهُ لو قال مسحت بالمنديلِ ، فهذا لا يصدق إلا عند مسحه بكلِّه ، ولو قال : مسحتُ يدي بالمنديلِ ، فهذا يكفي في صدقه مسح اليَدِ بجزء من أجْزَاءِ ذلك المنديل . فقوله [ سبحانه ] : { وَٱمْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ } يكفي في العملِ به مَسْحُ اليد بجزء من أجْزَاء الرَّأسِ وذلك الجزء غير مقدّر في الآية ، فإن قدَّرْناهُ بمقدار معين لم يتعين ذلك المقدار إلا بدليل غير الآية ، فيلْزَمُ صيرورة الآية مجملة ، وهو خلاف الأصل ، وعلى ما قلناه تكونُ الآية مبينةً مفيدة ، فهو أولى ، ويؤيِّده ما روي عن المغيرة بن شُعْبَةَ " أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخُفَّيْه " . وأجاز أحمد المسح على العمامَةِ ، ووافقه الأوزاعيُّ [ والنوويُّ ] والثوريُّ ، ومنعه غيره . وحمل الحديث على أنَّ فرض المسح سقط عنه بِمَسْحِ النَّاصية . فصل قال القرطُبِيُّ : لو غسل المتوضِّئ رَأسَهُ بدل المسح ، قال ابن العربيِّ : لا نعلم خلافاً في أن ذلك يجزئه إلا ما نُقِلَ عن بعضهم أنَّ ذلك لا يجزئ . وهذا مَذهَبُ أهل الظَّاهر . فإن قيل : هذه زيادة خرجت عن اللَّفظ المتعبَّد به . قلنا : ولم يخرج عن معناه في إيصال الفعل إلى المحلّ ، وكذلك لو مسح رأسه ثم حلقه لم يكن عليه إعادة المسح . قوله عزَّ وجلَّ : { وَأَرْجُلَكُمْ } . قرأ نافعٌ ، وابن عامرٍ ، والكسائيُّ ، وحفص عن عاصم " أرْجُلَكُمْ " نَصْباً ، وباقي السبعة " وَأرْجُلِكُمْ " جَرًّا . والحسن بن أبي الحسن " وَأرْجُلُكُمْ " رفعاً . فأمَّا قراءة النَّصْبِ ففيها تخريجان : أحدهما : أنها معطوفة على " أيْدِيكُم " ، فإن حكمها الغُسْل كالأوجه والأيدي . كأنه قيل : واغسلوا أرجلكم ، إلا أن هذا التَّخريج أفسده بعضهم ؛ بأنَّهُ يلزم منه الفصل بين المتعاطفين بجملة [ غير ] اعتراضية ؛ لأنها منشئة حكماً جديداً ، فليس [ فيها ] تأكيد للأول . وقال ابنُ عُصْفُورٍ - وقد ذكر الفصل بين المتعاطفين - : وأقبح ما يكون ذلك بالجمل ، فدل [ قوله ] على أنه لا يجوز تخريج الآية على ذلك . وقال أبو البقاء عكس هذا ، فقال : هو مَعْطُوفٌ على الوجوه ، ثم قال : وذلك جائز في العربيّة بلا خلاف . وجعل السنّة الواردة بغسل الرِّجلين مقوية لهذا التخريج ، فليس بشيء . فإنَّ لقائلٍ أن يقول : يجوز أن يكون النَّصب على محل المجرور [ وكان حكمها المسح ، ولكنه نسخ ذلك بالسُّنَّة ، وهو قول مشهور العلماء . والثاني : أنه منصوب عطفاً على قبله ] كما تقدم تقريره قبل ذلك . وأمَّا قراءة الجرِّ ففيها أربعة تخاريج : أحدها : أنها منصوب في المعنى عطفاً على الأيدي المغسولة ، وإنَّمَا خفض على الجوار ، كقولهم : هذا جُحْرُ ضَبٍّ خربٍ ، بجر " خَربٍ " ، وكان حقه الرفع ؛ لأنَّهُ صفة في المعنى لـ " الجحر " لِصحة اتصافه به ، والضَّب لا يوصف به ، وإنما جره على الجوارِ . وهذه المسألة عند النَّحويين لها شرط ، وهو أن يُؤمَنَ اللَّبْسُ كما تقدم تمثيله ، بخلاف : قام غلامُ زَيْدٍ العاقِلُ ، إذا جعلت العاقل نعتاً للغلام ، امتنع جره على الجوارِ لأجل اللَّبْسِ . وأنشدوا - أيضاً - قول الشاعر : [ البسيط ] @ 1934 - كأنَّمَا ضَرَبَتْ قُدَّامَ أعْيُنِهَا قُطْناً بِمُسْتَحْصِدِ الأوْتَارِ مَحْلُوج @@ وقول الآخر : [ الوافر ] @ 1935 - فإيَّاكُمْ وَحَيَّةَ بطنِ وَادٍ هَمُوزِ النَّابِ لَيْسَ لَكُمْ بِسِيِّ @@ وقول الآخر : [ الطويل ] @ 1936 - كَأنَّ ثَبِيراً فِي عَرَانِينِ وَبْلِهِ كَبِيرُ أنَاسٍ في بِجَادٍ مُزَمَّلِ @@ وقول الآخر : [ الرجز ] @ 1937 - كَأنَّ نَسْجَ العُنْكَبُوتِ المُرْمَلِ @@ بجر " مَحْلُوجٍ " وهو صفة لـ " قطناً " المنصوب وبجر " هموز " ، وهو صفة لـ " حية " المنصوب ، وبجر " المُزَمِّل " وهو صفة " كبير " ؛ لأنَّه بمعنى المُلْتَف ، وبجر " المُرْمَل " وهو صفة " نسج " ، وإنما جرت هذه لأجل المُجَاورة . وقرأ الأعمش : { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } بجر " المتين " مجاورة لـ " القوة " وهو صفة لـ " الرزاق " ، وهذا وإن كان وارداً إلا أن التخريج عليه ضعيفٌ لضعف الجوار من حيثُ الجملة . وأيضاً فإن الخفض على الجوار إنَّما وَرَدَ في النعت لا في العطف ، وقد ورد في التوكيد قليلاً في ضرورة الشِّعْر . قال : [ البسيط ] @ 1938 - يَا صَاحِ بَلِّغْ ذَوِي الزَّوْجَاتِ كلِّهم أنْ لَيْسَ وَصْلٌ إذَا انْحَلَّتْ عُرَى الذَّنَب @@ بجر " كلهم " وهو توكيدٌ لـ " ذوي " المنصوب ، وإذا لم يردا إلاَّ في النَّعت ، وما شذَّ من غيره ، فلا ينبغي أن يُخَرَّج عليه كتاب الله [ تعالى ، وهذا المسألة قد أوضحتها وذكرت شواهدها في " شرح التسهيل " ] ، وممن نص على ضعف تخريج الآية على الجوار مكي ابن أبي طالب وغيره . قال مكي ، وقال الأخفشُ ، وأبو عُبيدةَ : الخفضُ فيه على الجوارِ ، والمعنى للغُسْلِ ، وهو بعيد لا يُحْمَلُ القرآن عليه . وقال أبُو البقَاءِ : وهو الإعراب الذي يقال : هو على الجوار ، وليس بممتنع أنْ يقع في القرآن لكثرته ، فقد جاء في القرآن والشعر . فمن القرآن قوله تعالى : { وحُورٌ عِينٌ } [ الواقعة : 22 ] على قراءة من جَرَّ وهو معطوف على قوله : { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } [ الواقعة : 18 ] وهو مختلف المعنى ؛ إذ ليس المعنى يطوف عليهم ولدان مُخَلَّدون بحور عين . وقال النَّابِغَةُ : [ البسيط ] @ 1939 - لَمْ يَبْقَ إلاَّ أسيرٌ غَيْرُ مُنْفَلِتٍ أوْ مُوثقٍ في حِبَالِ الْقَوْم مَجْنُوبِ @@ والقوافي مجرورة ، والجِوَارُ مشهور عندهم في الإعراب [ ثم ذكر أشياء كثيرة زعم أنها مقوية لمدّعاه منها قلب الإعراب ] في الصفات كقوله تعالى : { عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } [ هود : 84 ] ، واليوم ليس بمحيطٍ ، وإنَّما المحيط هو العذابُ . ومثله قوله تعالى : { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [ إبراهيم : 18 ] ، وعاصف ليس من صفة اليوم بل من صفة الريح . ومنها قلب بعض الحُرُوفِ إلى بعض كقوله عليه السلام : " ارْجعْنَ مأزُورَاتٍ غَيْرَ مأجُورَاتٍ " ، والأصل : مَوْزُورَات ، ولكن أريد التَّوَاخي . وكذلك قولهم : [ إنَّهُ ] ليأتينا بالغدايا والعَشَايا ، يعني أن الأصل بالغَدَاوى ؛ لأنَّها من الغُدْوَة ، ولكن لأجل ياء العشايا جاءت بالياء دون الواو . ومنها تأنِيثُ المذكَّرِ كقوله تعالى : { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] ، فحذف التاء من " عشر " ، وهي مضافة إلى " الأمْثَالِ " ، وهي مذكرة ، ولكن لما جاورت الأمثال ضمير المؤنَّثِ أجري عليها حكمه ، وكذلك قوله : [ الكامل ] @ 1940 - لمَّا أتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تواضَعت سُورُ المدينَةِ والْجِبَالُ الْخُشَّعُ @@ وقولهم : ذهبت بَعْضُ أصابعه يعني أن " سور " مذكرة ، " وبعض " - أيضاً - كذلك ، ولكن لما جَاوَرَوا المؤنث أعْطِيَا حكمه . ومنها : قامت هندُ لما لم يفصلوا ، أتَوْا بالتَّاءِ ، ولمَّا فصلوا لم يأتوا بها ، ولا فَرْقَ إلا المجاورة وعدمها . [ ومنها : ] استحسانهم النَّصْبَ في الاشتغال بعد جملة فعليَّةٍ ، في قولهم : قام زيد وعمراً كلمته لمجاورة الفعل . ومنها : قلبهم الواو المجاورة للظّرف همزة نحو : أوائل بخلاف طواويس لبعدها من مجاورة الظرف . قال : وهذا مَوضِعٌ يحتمل أن يكتب فيه أوراق من الشواهد ، قد بوّب له النحويون له [ باباً ] ورتَّبُوا عليه مسائل ، وأصَّلُوه بقولهم : هذا جُحْر ضبٍّ خَرِبٍ . [ حتى ] اختلفوا في جواز جرِّ التثنية والجمع ، فأجاز الإتباع فيهما جماعة من حُذَّاقهم قياساً على المُفْرد المَسْمُوعِ ، ولو كان لا وجه له بحال لاقتصروا فيه على المسموع فقطْ ، ويتأيَّدُ ما ذكرناه أن الجرَّ في الآية قد أجيز غيره وهو الرّفع والنّصب ، والرّفع والنّصب غير قاطعين ولا ظاهرين ، على أن حكم الرِّجْلين المسح ، فكذلك الجرّ يجب أن يكون كالنَّصْبِ والرفع في الحكم دون الإعراب . انتهى . قال شهاب الدين : أمَّا قوله : إنّ { وَحُورٌ عِينٌ } [ الواقعة : 22 ] من هذا الباب فليس بشيء ؛ لأنَّهُ إمَّا أنْ يُقَدَّرَ عطفهما على ما [ تقدَّم بتأويل ] ذكره الناس كما سيأتي ، أو بغير تأويل . وإما ألاَّ يعطفهما ، [ فإن عطفهما على ما تقدم ، وجب الجر ، وإن لم يعطفهما لم يجب الجر ، وأمّا جرهما على ما ذكره الناس فقيل : لعطفهما ] على المجرور بالياء قبلهما على تضمين الفعل المتقدم " يتلذّذون وينعمون بأكواب وكذا وكذا " . أو لا يُضَمَّن الفعل شيئاً ، ويكون لطواف الولدان بالحور العين على أهل الجنَّةِ لَذَاذَةٌ لهم بذلك ، والجوَارُ إنَّمَا يكون حيث يستحقُّ الاسم غير الجر ، فيجر لمجاورة ما قبله ، وهذا كما ترى قد صَرَّح هو أنَّهُ معطوف على " بأكواب " . غاية ما في الباب أنَّه جعله مختلف المعنى ، يعني أن عنده لا يجوز عطفهما على " بأكْوَابٍ " إلا بمعنى آخر ، وهو تضمين الفعل ، وهذا لا يقدحُ في العطفية . وأمَّا البيتُ فجَرُّ " موثّق " ليس لجواره لـ " منفلت " وإنَّما هو مراعاة للمجرور بـ " غير " ؛ لأنَّهم نصوا على أنَّك إذا جئت بعد " غير " ومخفوضها يتابع جاز أن يتبع لفظ " غير " ، وأن يتبع المضاف إليه ، وأنشدوا البيت ، ويروى : [ البسيط ] @ 1941 - لَمْ يَبْقَ [ فيها طَرِيدٌ ] غَيْرُ مُنْفَلِتٍ أوْ موثقٍ في حِبَالِ الْقَوْمِ مَجْنُوبِ @@ وأما باقي الأمثلة التي أوردها فليس من المجاورة التي تؤثر في التغيير ، أي تغيير الإعراب ، وقد تقدَّم أنَّ النَّحويين خصَّصوا ذلك بالنَّعت ، وأنَّهُ قد جاء في التوكيد ضرورة . والتَّخْرِيج الثاني : أنَّهُ معطوف على " بِرءُوسِكُم " لفظاً ومعنى ، ثم نسخ ذلك بوجوب الغسل ، وهو حكم باقٍ ، وبه قال جماعة ، أو يحمل مسح الأرْجُلِ على بعض الأحوال ، وهو لُبْسُ الخُفِّ ، ويُعْزَى للشافعيِّ . التخريج الثالث : أنَّها جُرَّتْ مَنْبَهَةً على عدم الإسراف باستعمال الماء ؛ لأنَّها مظنَّةٌ لصبِّ الماء [ كثيراً ] ، فعطفت على الممسوح ، والمرادُ غسلها كما تقدّم . وإليه ذهب الزمخشريُّ ، قال : " وقيل : إِلَى ٱلْكَعْبَينِ " فجيء بالغاية إمَاطَةً لظن ظَانٍّ يحسبهما مَمْسُوحَةً ؛ لأنَّ المسح لم تُضْرَبْ له غاية في الشريعة . وكأنَّهُ لم يَرْتَض هذا القول الدافع لهذا الوَهْمِ ، وهو كما قال . التخريج الرابع : أنها مجرورة بحرف جر مقدر ، دَلَّ عليه المعنى ، ويتعلّق هذا الحرف بفعل محذوفٍ أيضاً يليق بالمحلّ ، فيُدَّعى حذف جملةٍ فعليةٍ وحَذْفُ حرف جر ، قالوا : وتقديره : " وافعلوا بأرْجُلِكُم غَسْلاً " . قال أبُو البَقَاء : وحَذْفُ حرف الجَرِّ ، وإبقاء الجرّ جائزٌ ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 1942 - مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحينَ عَشِيرَةً وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا @@ وقال الآخر : [ الطويل ] @ 1943 - بَدَا لِيَ أنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى ولا سَابِقٍ شَيْئاً إذَا كَانَ جَائِيَا @@ فجر بتقدير الباء ، وليس بموضع ضرورة . قوله : وإبقاء [ الجرّ ] ليس على إطلاقه ، وإنَّما يطردُ منه مواضع نصَّ عليها أهل اللِّسَانِ ليس هذا منها . وأمَّا البيتان فالجرُّ فيهما عند النُّحَاةِ يسمَّى العطف على التوهُّم يعني كأنَّهُ توهم وجود الباء زائدة في خبر " لَيْسَ " ، لأنها يكثر زيادتها ، ونظَّروا ذلك بقوله تعالى : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ المنافقون : 10 ] بجزْمِ " أكن " عَطْفاً على " فأصَّدقَ " على توهُّم سقوط الفاء من " فأصَدَّق " نص عليه سيبويه وغيره ، فظهر فسادُ هذا التخريج . وأما قراءة الرَّفْع فعلى الابتداء ، والخبرُ محذوفٌ ، أي : وأرْجُلكم مغسولة ، أو ممسوحة على ما تقدَّم في حكمها [ والكلام ] في قوله " إلى الكَعْبَيْنِ " كالكلام في " إلى المرفقين " . " والكَعْبَان " فيهما قولان [ مشهوران ] . أشهرهما : أنَّهُما العظمان الناتئان عند مفصل السَّاق والقَدمِ في كل رجل كعبان . والثاني : أنَّهُ العظم النّاتئ في وجه القَدَمِ ، حيث يجتمع شراك النَّعْلِ ، ومراد الآية هو الأوَّل . والكَعْبَةُ ، كُلُّ بيت مُرَبَّع ، وسيأتي [ بيانه ] في موضعه إن شاء الله - تعالى - . فصل قد تقدَّم كلام النُّحاة في الآية . وقال المُفَسِّرون : من قرأ بالنصْب على تقدير : " فاغْسِلُوا وجوهكم ، وأيديكم ، واغسلوا أرجلكم " ومن قرأ بالجرِّ فذهب بعضهم إلى أنَّه يمسح على الرجلين . روي عن ابن عباس أنَّه قال : " الوُضُوء غَسْلتَانِ وَمَسْحَتَانِ " ، ويروى ذلك عن عكرمة وقتادةَ . قال الشَّعبيُّ : نزل جبريل بالمسحِ ، وقال : ألا ترى التيمُّمَ ما كان غسلاً ، ويلقى ما كان مسحاً . وقال مُحَمَّدُ بْنُ جرير : يتخيرُ المتوضئ بين المسح على الخفين وبين غسل الرجلين ، وذهب جماعةُ من أهل العلم من الصحابَةِ والتابعين وغيرهم إلى وجوب غسل الرجلين ، وقالوا : خفض اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ لا على موافقة الحكم كقوله : { عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } [ هود : 26 ] ، فالأليم صفة العذاب ، ولكنَّه جرّ للمجاورة كقولهم : " جُحْرُ ضَبٍّ خَرِب " . ويدلُّ على وجوب غسل الرِّجلين ما روى عبد الله بن عمرو ، قال : " تخلفَ عنا رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في سفر سافرناهُ ، فأدركناه وقد راهقتنا صلاة العصر ونحن نتوضّأ ، فجعلنا نمسحُ على أرْجُلِنَا ، فَنَادَانَا بأعلى صوته : " وَيْلٌ للأعْقَابِ مِنَ النَّار " " . والأحاديثُ الواردة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كثيرة ، وكلهم وصفوا غسل الرجلين . وقال بعضهم : أراد بقوله " وأرْجلكُم " : المسح على الخفين ، كما " رُوي أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - " كَانَ إذا رَكَع وضَعَ يَدَهُ على رُكْبَتَيْهِ " وليس المرادُ منه أنَّهُ لم يكن بينهما حائل ، ويقالُ : قبَّلَ فلان رأس الأمير ويده ، وإنْ كانت العمامة على رأسِهِ ويده في كمه فالواجب في غسل أعضاء الوضوء هذه الأربعة . فصل : حكم النيّة في الوضوء اختلفوا في وجوب النية فذهب أكثر العلماء إلى وجوبها لأن الوضوء عبادة فيفتقر إلى النية كسائر العباداتِ ، ولقوله عليه السلام : " إنَّما الأعْمَالُ بالنيَّات " وذهب النووي وأصحاب الرّأي إلى عدم وجوبها . فصل [ حكم الترتيب ] واختلَفُوا في وجوب الترتيب وهو أن يغسل أعضاءه على التَّرْتيب المذكور في الآية فذهب مالكٌ والشافعيُّ ، وأحمد وإسحاق إلى وجوبه ، ويروى ذلك عن أبي هريرة ، واحتجُّوا بقول الله تعالى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } فاقتضى وجوب الابتداء بغسل الوجه ؛ لأنَّ الفاء للتّعقيب ، وإذا أوجب الترتيب في هذا العضو ؛ وجب في غيره ، إذ لا قائل بالفرق . [ قالوا : فاء التعقيب إنما دخلت ] في جملة هذه الأعمال ، فجرى [ الكلام ] مجرى قوله : إذا قُمتمْ إلى الصلاةِ ، فأتوا بمجموع هذه الأفعال . قلنا : فاء التّعقيب إنّما دخلت على الوجه لالتصاقها بذكر الوجه ، وبواسطة دخولها على الوجْهِ ، دخلت على سائر الأفعالِ ، فكان دخولها على الوجه أصل ، ودخولها على المجموع تبع لدخولها على غسل الوجه ، فنحنُ اعتبرنا دلالة الفاء في الأصْلِ ، واعتبرتموها في التبع ، فكان قولنا أولى . وأيضاً فقوله - عليه الصلاة والسلام - : " ابْدَءوا بما بَدَأ اللَّهُ بِه " يقتضي العموم ، وأيضاً فإهمال الترتيب في الكلام مستقبح فيجب تنزيه كلام الله تعالى عنه ، وكونه تعالى أدرجَ ممسوحاً بين مغسولَيْن ، وقطع النّظير عن النظير ، يدلُّ على أنَّ التَّرتيب مراد . وأيضاً فإن وجوبَ الوضُوءِ غير معقول المعنى ؛ لأنَّ الحدث يخرج من موضع والغسل يجب في موضع آخر ، وأعضاء المحدث طَاهِرَةٌ ، لأنَّ الميت لا ينجس حيّاً ولا ميتاً ، وتطهير الطَّاهر محالٌ . وأقيم التيمم مقام الوضوء وهو ضدّ النظافة والوضاءة ، وأقيم المَسْح على الخفين مقام الغسل ، وذلك لا يفيدُ في نفس العُضْوِ نظافة ألْبَتَّةَ . والماء [ العَفِن ] الكَدِرُ يفيد الطَّهارة ، وماء الورد لا يفيدها ، وإذا كان غير معقول المعنى وجب الاعتماد فيه على مورد النَّصِّ لاحتمال أن يكون الترتيب المذكور إما لمحض التعبد ، أو لحكمة خفية لا نعرفها ، ولهذا السّبب أوجبنا الترتيب في أركان الصلاة ، وذهب جماعة منهم أبو حنيفة إلى أن الترتيب ليس بواجب ، قالوا : لأنَّ ذلك زيادة على النَّصِّ فلا يجوز ؛ لأنَّه نَسخٌ . والواوات المذكورة [ في الآية للجمع ] لا للترتيب كالواوات في قوله : { إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ } الآية [ التوبة : 60 ] . واتفقوا على أنه لا يجب الترتيب في صَرْفِ الصَّدقاتِ ، فكذلك هنا . وأجيبوا بأن قولهم : الزيادة على النّص نسخٌ ، ممنوع على قيد في علم الأصول . وأمَّا الصَّدقات : فلم يرو عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ راعى التّرتيب فيها . وفي الوُضُوءِ لم ينقل أنَّهُ توضَّأ إلا مرتباً ، وبيان الكتاب يؤخذ من السُّنَّةِ ، قال تعالى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] وقال [ الله ] تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ } [ الحج : 77 ] ، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أنه قدم السُّجود على الرُّكوع ، بل راعى الترتيب ، فكذلك هاهنا . فصل حكم المولاة الموالاة أوجبها مالكٌ وأحْمَدُ ، وقال أبو حنيفة والشَّافِعيُّ [ في الجديد ] ليست شرطاً لصحة الوُضُوء . فصل لو كان على وجهه أو بدنه نجاسة فغسلها أو نوى الطَّهارة عن الحدث بذلك الغُسْلِ ، فقال بعض العلماء : يكفي لأنَّه أمر بالغسل ، وقد أتى به ، فيخرج عن العهدة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " فيجب أن يحصل له المنوي . فصل لو وَقَفَ تحت ميزاب حتى سال عليه الماء ، ونَوَى رفْع الحدثِ ، فقيل : لا يَصِحُّ ؛ لأنه أمر بالغسلِ ، والغَسْلُ عملٌ وهو لم يَأتِ بالعَملِ ، وقيل : يَصِحُّ ؛ لأنَّ الغَسْلَ عِبارَةٌ عن الفِعْلِ المُفْضِي [ إلى الانغسال ] وُوُقُوفُهُ تَحْتَ الميزَابِ فعلٌ مُفْضٍ إلى الاغتسال ، فكان غُسْلاً . فصل إذا غَسَلَ هذه الأعْضَاء ثم بعد ذلك تَقَشَّرَت الجلْدَة عنها ، فَمَا ظَهَر من تحت الجلْدَة غير مَغْسُولٍ ، فالأظْهَرُ وجُوب غَسْلِهِ ؛ لأنَّه تعالى أمَرَ بِغَسْلِ هذه الأعْضَاءِ ، وذلك الموْضِعُ غير مَغْسُول ، إنَّما المغْسُول هو الجِلْدَة التي زَالَت . فصل لو أخَذَ الثَّلْج وأمَرَّه على هذه الأعْضَاءِ ، فإن كان الهَوَاءُ حَارًّا يُذيبُ الثَّلْجَ ويُسِيلُهُ جاز وإلا فلا ، خِلافاً للأوْزَاعِي . لنا : أنَّ هذَا لا يُسَمَّى غُسْلاً ، فأُمِرَ بالغسْلِ . فصل في التسمية في الغسل التَّسْمِيَةُ في أوَّل الغسل والوُضُوءِ : قال أحْمَد وإسْحَاق : واجِبَةٌ . وقال غَيْرُهُما : هي سُنَّةٌ ؛ لأنَّهَا لَيْسَت مَذْكُورة في الآيَةِ ، واسْتَدلُّوا عليه بقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا صَلاَة إلاَّ بِوُضُوءٍ ، ولا وُضُوءَ لِمَن لم يَذْكُرِ اسْمَ الله عليْه " . قوله - سبحانه - : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ } . قال الزَّجَّاج : مَعْنَاهُ تَطَهَّرُوا ؛ لأن " التَّاء " تُدْغَمُ في " الطَّاءِ " ؛ لأنَّهُمَا من مَكَانٍ واحِدٍ ، فإذا أدْغِمَت " التَّاء " في " الطَّاء " سُكِّنَ أوَّلُ الكَلِمَة فَزيدَ ألِفُ وصْلٍ ليُبْتَدَأ بها ، فَقِيل : " اطَّهَّرُوا " . ولمَّا ذَكَر تعالى كَيْفِيَّة الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى ، ذكر بعدَهَا الطَّهارة الكُبْرَى ، وهي الغُسْلُ من الجَنَابَةِ . ولمَّا كانت الطَّهَارَةُ الصُّغْرى مَخْصُوصَة ببعض الأعْضَاءِ ، لا جَرَم ذكر تِلْكَ الأعْضَاء على التَّعْيين ، ولما كانت الطَّهَارَةُ الكُبْرَى في كُلِّ البَدَنِ أُمِرَ بها على الإطْلاَقِ . رَوتْ عَائِشَةُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كان إذا اغْتَسَل من الجَنَابَةِ بَدَأ فَغَسَل يَدَيْهِ ، ثم تَوَضَّأ كما يتوَضَّأ للصَّلاة ، ثم يُدْخِلُ أصَابِعَهُ في الماءِ فَيُخَلِّل بها أصُولَ شَعْرِهِ ، ثم يَصُبُّ المَاءَ على رَأسِهِ ثلاثَ غَرْفَاتٍ بيدهِ ، ثم يَفيضُ الماءَ عَلى جِلْدِهِ كُلِّهِ . فصل قال القُرْطُبِي : قوله تعالى : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ } أمر بالاغْتِسَالِ بالمَاءِ ، وكذلك رأى عُمَرُ وابْنُ مَسْعُودٍ : أنَّ الجُنُبَ لا يَتَيَّممُ ألْبَتَّةَ ، بل يَدَعُ الصَّلاة حتى يَجِد المَاءَ ، وهذا يَرُدُّهُ قوله - عليه الصلاة والسلام - : " وجُعِلَ لِيَ الأرْضُ مَسْجِداً وتُرَابُها طهُوراً " وقوله : " التُّرَابُ طهُورُ المُسْلِمِ ، ما لم يَجِدِ المَاءَ عَشْرَ سِنين " ، وحديثُ عُبَادة ، وحديثُ عمرَان بن الحصين أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - رأى رَجُلاً معهُ ماء لم يصلّ في القومِ الحديث . فصل ولِحُصُولِ الجَنَابَةِ سَبَبَانِ : الأوَّلُ : نُزُول المَنِيِّ ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " إنَّما الماءُ من المَاءِ " . والثاني : في التِقَاءِ الختانَيْنِ ، وقال زَيْدُ بن ثابتٍ ، ومُعاذ [ وأبو سعيد الخُدْرِي : ] لا يَجِبُ الغُسْلُ إلاَّ عِنْد نُزُولِ المَاءِ . لنا : قوله - عليه الصلاة والسلام - : " إذا الْتَقَى الخِتَانَان وجَبَ الغُسْلُ وإنْ لَمْ يُنْزِلْ " ، وختانُ الرَّجُلِ : هو المَوْضِعُ الذي يقطع منه جِلْدَةُ القلفَةِ ، وأما خِتَانُ المرْأةِ فَشَفْرَان مُحِيطَانِ بِثَلاثَةِ أشْيَاء : ثُقْبَةٌ في أسْفَلِ الفَرْجِ وهو مَدْخَلُ الذَّكَرِ ومَخْرَجُ الحَيْضِ والولدِ ، وثُقْبَةُ [ أخْرَى ] فَوْقَ [ هذه ] مثل إحْلِيلِ الذَّكَرِ وهي مَخْرجُ البَوْلِ لا غير ، [ وفوق ] ثُقْبَة البَوْل مَوْضِعُ خِتَانِهَا ، وهُنَاكَ جِلْدَةٌ رَقيقَةٌ قَائِمَةٌ مِثْل عُرْف الدِّيك ، وقَطْعُ هذه الجِلْدةِ هُو خِتَانُها ، فإذا غَابَتِ الحَشْفَةُ حتى حَاذَى خِتَانُهُ خِتَانها ، فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ . فصل في حكم الدلك الدَّلْكُ غير واجبٍ ؛ لأنَّه لم يُذْكَر في الآيةِ ، وقال - عليه الصلاة والسلام - لما سُئِلَ عن الاغْتِسَالِ من الجنابَةِ - قال : " أمَّا أنَا فأحْثِي على رَأسِي ثلاثَ حَثَيَاتٍ فأنَا قد طَهُرْت " ولم يَذْكُر الدَّلْك . قال مالكٌ : هُوَ وَاجِبٌ . فصل والمَضْمَضَةُ والاسْتِنْشَاقُ واجبانِ في الغُسْلِ عِنْد أبِي حَنِيفَة وأحْمد ، وقال الشَّافِعِيُّ : لا يَجِبَانِ ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : " أمَّا أنَا فأحْثِي على رَأسِي ثلاثَ حَثَيَاتٍ " ولمْ يَذْكُرْهُمَا ، واحتَجَّ الأوَّلُون بقوله : " فاطَّهَّرُوا " فأمر بِتَطهِير جَمِيع الأجْزَاءِ وترك العَمَل به في الأجْزَاء البَاطِنَة لتعذُّرِ تَطْهِيرها ، وداخِلِ الأنْفِ والفَمِ يُمْكِنُ تَطْهِيرُها فدخَلا تَحْتَ النَّصِّ ، وبِقَوْلِه - عليه الصلاة والسلام - : " بلُّوا الشَّعْرَ وانْتِفُوا البَشَرة ، فإنَّ تَحْتَ كلِّ شَعْرةٍ جَنَابَة " ، فيدخل الأنْفُ ؛ لأنَّ في داخِلِهِ شَعْرٌ ، وقوله : " وانتفِوا البَشَرة " يَدْخُلُ فيه جِلْدَة داخل الفَمِ ؛ لأنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الظَّاهِرِ بحيث لَوْ وُضِعَ في فَمهِ لم يفطر ، ولوْ وضع فيه خَمْراً لم يُحَدَّ . والأكثَرُون على عَدَمِ وُجُوبِ التَّرْتيبِ في الغُسْلِ ، وقال إسحاق : يَجِبُ البَدَاءَةُ على البَدَنِ . قوله تعالى : { وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } . قال مَكِّي : من جعل الصَّعيد : الأرْضَ ، أو وَجهَ الأرْضِ نصب " صعيداً " على الظَّرْف ، ومنْ جَعَل الصَّعيد : التُّرَاب نَصَبَ على أنَّهُ مَفْعُولٌ به ، حذف مِنْهُ حرف الجَرِّ : بِصَعِيدٍ ، و " طَيِّباً " نَعْتُهُ ، أي : نَظِيف . وقيل : طيِّباً مَعْنَاهُ : حَلالاً ، فَيَكُون نَصْبُهُ على المَصْدَرِ ، أو على الحَالِ . فصل وهذا يَدُلُّ على جَوَازِ التَّيَمُّم للمَرِيضِ ، ولا يُقَال : إنَّه شَرَط فيه عَدَمَ المَاءِ ؛ لأنَّ عدم المَاءِ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ بِغَيْرِ مَرَضٍ ، وإنَّما يَرْجِع قوله : { فَلَمْ [ تَجِدُواْ ] مَآءً } إلى المُسَافِر . والمَرضُ ثلاثةُ أقْسَامٍ : أحدها : أن يَخَافَ الضَّرَر والتَّلَفَ باسْتِعْمَال الماءِ ، فهذا يجُوزُ له التَّيَمُّم بالاتِّفَاقِ . والثاني : ألاَّ يخافَ الضَّرَرَ [ ولا ] التَّلَفَ ، فقال الشَّافِعِيُّ : لا يجُوزُ له التَّيَمُّمُ ، وقال مالِكٌ وأبُو حَنِيفَة : يجُوزُ لِقَوْلِهِ : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى } . الثَّالِثُ : أنْ يَخَافَ الزِّيَادَةَ في العِلَّةِ ، وبُطْءَ البرءِ ، فيجوزُ لَهُ التَّيَمُمُ عند أحْمد ، وفي أصَحِّ القَوْلَيْن للشَّافِعِيِّ ، وبه قال مالكٌ وأبو حنيفة ، فإن خَافَ بقاء شين في العُضْوِ ، فقال بَعْضُهُم : لا يَتَيممُ ، وقال آخَرُون : يتَيممُ وهو الصَّحِيحُ . فصل يجوز التيمم في السَّفَرِ القَصِيرِ ، للآيَة ، وقال بَعْضُهُم : لا يجوزُ ؛ إذا كان مَعَهُ مَاءٌ وحيوانٌ مُشْرِفٌ على الهَلاك جَازَ له التَّيَمُّمُ ، ووَجَب صَرْفُ المَاء إلى [ ذَلِكَ ] الحَيَوان . فصل فإن لَمْ يكنْ مَعَهُ ماءٌ ، وكان مع غيره ، ولا يُمْكِنه أن يشْتَرِيَهُ إلاَّ بالغَبْنِ الفَاحِشِ جَازَ لَهُ التَيمُّم ، لقوله : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] ، فإن وَهَبَ منه ذلك الماء ، فقيل : لا يَجِبُ قُبُولُه لِمَا فِيهِ مِن المنَّة ، فإن أُعِير [ منه ] الدَّلْو والرشاء ، فقال الأكْثَرُون : لا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لِقِلَّةِ المِنَّة في هَذِه العَادَةِ . فصل إذا جَاءَ من الغَائِط وَجَب عَلَيْه الاستنْجَاءُ ، إمَّا بالحَجَارَةِ ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - " فليَسْتَنْجِ بِثَلاثَةِ أحْجَارٍ " . وقال أبُو حَنِيفَة : لا يَجِبُ ؛ لأنَّهُ تعالى أوْجَبَ عِندَ المَجِيءِ مِن الغَائِطِ الوُضُوءَ والتَّيَمُّمَ ؛ ولم يُوجِبْ غُسْلَ مَوْضِعِ الحَدَثِ . [ فصل انتقاض وضوء اللامس والملموس ظاهِرُ قوله { أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } يَدلُّ على انتقاضِ وضوء اللاَّمس ، وأمَّا انتقاض وضوء الملمُوس فَغَيْرُ مَأخُوذٍ من الآيَة ، وإنَّما أُخِذَ من الخَبَرِ أو مِن القياسِ الجَليِّ ] . فصل يَجُوزُ الوُضُوءُ بِمَاء البَحْرِ ، وقال عَبْدُ الله بن عَمْرو بن العاصِ : " لا يَجُوزُ بل يَتَيممُ " . ولنَا : أنَّ التَيَمُّمَ شَرْطُهُ عدم المَاءِ ، ومن وَجَدَ مَاءَ البَحْرِ فإنَّهُ واجِدٌ لِلمَاءِ . فصل قال أكثرُ العُلَمَاء : لا بُدَّ في التَّيَمُّمِ من النِّيَّةِ ؛ لأنَّ التَّيَمُّمَ عِبَارَةٌ عن القَصْدِ ، وقال زفر : لا تَجِبُ . فصل في الخلاف في حد تيمم المرفقين قال الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة : [ التيمُّمُ ] في اليَدَيْن إلى المِرْفَقَيْنِ ، وعن عَلِيٍّ وابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهم - إلى الرُّسْغَيْنِ ، وعن مَالِكٍ وغيرِهِ إلى الكُوعَيْن ، [ وعن ] الزُّهرِي إلى الآبَاطِ . فصل في وجوب استيعاب العضو بالتراب يجب اسْتِيعَابُ العُضْوين في التَّيَمُّمِ ، ونَقَل الحسنُ بنُ زِيادٍ عن أبِي حنيفة : إذا يَمَّمَ الأكْثَر جَازَ ؛ لأن " البَاء " في قوله : " بِرُؤوسِكُمْ " يَقْتَضِي مَسْحَ البَعْضِ ، فكذا هَاهُنَا . فصل في صفة التراب إذا لَمْ يَكُن لِلتُّرابِ غُبَارٌ يَعْلَقُ بالْيَدِ لم يَجُزِ التَّيَممُ به وهو قَوْل الشَّافِعِيِّ وأبي يُوسُف ، وقال أبُو حَنيفَة ومالِكٌ : [ يجزئه ، وقال الشافعي : لا يجُوزُ التِّيَمُّمُ إلا بالتُّرَابِ الخَالِصِ ، وقال أبو حنيفَة ] : يَجُوزُ بالتُّرَاب وبالرَّمْلِ وبالخَزَفِ المَدْقُوقِ والجَصّ والمدر والزَّرنِيخ . لنا : ما روى ابْنُ عبَّاسٍ أنه قال : " الصَّعِيدُ هُو التُّرَابُ " . فصل لو وَقَفَ في مَهَبِّ الرِّيَاحِ ، فَسَفَتْ عليه التُّرابَ وأمَرَّ يَدَهُ [ عليه ] أوْ لَمْ يُمِرَّهَا ، فظَاهِرُ مَذْهَب الشَّافِعِيّ أنَّهُ لا يَكْفي . وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقين : إنَّهُ لا يَكْفِي ؛ لأنَّهُ قَصَدَ اسْتِعْمال الصَّعيدِ في أعْضَائِهِ . فصل قال الشَّافِعِيُّ وأحمَد : لا يجُوز التَيَمُّمُ إلا بَعْدَ دُخُول الوَقْتِ ، لقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } [ والقِيَامُ إلى الصلاة ] لا يكُونُ إلاَّ بَعْدَ دُخُولِ وقتها . فصل إذَا ضَرَب ثَوْباً فارْتَفَع مِنْهُ غُبَارٌ ، فقال أبُو حنيفة : يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ ، وقال أبُو يُوسف : لا يَجُوزُ . فصل لا يُجُوزُ التَّيَمُّمُ بتُرَابٍ نَجِسٍ ، لقوله تعالى : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } والنَّجِسُ لا يكُونُ طيِّباً . وفُرُوع [ التَّيَمُّم ] كثيرة مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ الفِقْهِ . قوله - سبحانه - " مِنْهُ " في مَحَلِّ نَصْبٍ مُتَعَلِّقاً بـ " امْسَحُوا " ، و " مِنْ " فيها وجهان : أظْهَرُهُمَا : أنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ . والثاني : أنَّها لابْتِدَاء الغَايَةِ ، ولهذا لا يُشْتَرَطُ عند هؤلاءِ أنْ يتعلَّقَ [ باليَدِ ] غُبَارٌ . وقوله تعالى : " لِيَجْعَلَ " : الكلام في هذه " اللاَّم " كالكلام عَلَيْهَا في قوله { يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [ النساء : 26 ] ، إلا أنَّ مَنْ جَعَل مَفْعُولَ الإرَادَةِ مَحْذوفاً ، وعلَّق به " اللاَّم " من " لِيَجْعَلَ " زاد " من " في الإيجَابِ في قوله : " مِنْ حَرَجٍ " ، وسَاغَ ذَلِكَ ؛ لأنَّهُ في حَيِّزِ النَّفْي ، وإنْ لَمْ يَكُنِ النَّفْي واقعاً على فِعل الحَرَجِ ، و " مِنْ حَرَجٍ " مَفْعُولٌ " لِيَجْعَلَ " . و " الجَعْلُ " : يحتمل أنَّهُ بمعنى الإيجَادِ والخَلْقِ ، فَيَتَعَدَّى لواحد وهو " من حرج " و " من " مزيدة فيه كما تقدَّم ، ويتعَلّق " عَلَيْكُم " حينئذٍ بالجَعْلِ ، ويجُوزُ أن يتعلَّق بـ " حَرَجٍ " . فإن قِيلَ : هُو مَصْدَرٌ ، والمَصْدَرُ لا يَتَقَدَّم معمولُه عليه ، قيل : ذلك في المَصَدرِ المُؤوَّلِ بحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وفعل ، لأنه بِمَعْنَى المَوْصُول ، وهذا لَيْسَ مُؤوَّلاً بِحَرْف مَصْدَرِيٍّ ، [ ويجُوز أن يكون الجَعْلُ بِمَعْنَى التَّصْيير ] ، فَيَكُون " عَلَيْكُم " هُوَ المَفْعُول الثَّانِي . فصل في معنى الآية المَعْنَى { مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم } : بما فَرَضَ من الوُضُوء والغُسْلِ والتَّيَمُّمِ ، " من حَرَجٍ " : من ضِيق ، { ولَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } : من الأحْدَاثِ والجَنَابَات والذُّنُوبِ . فصل قالت المعتزِلَةُ : دلَّت هذه الآيَةُ على أنَّ الأصْلَ في المضارِّ ألاَّ تكون مَشْرُوعَةً ، فإنَّه تعالى ما جعل عَلَيْنَا في الدِّين مِنْ حَرَجٍ ، وقال تعالى : { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : " لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ في الإسلام " وأيْضاً فَدَفْع الضَّررِ مُسْتَحْسَنٌ في العُقُول ، فوجَبَ أن يَكُونَ كَذَلِكَ في الشَّرع . قوله - سبحانه - : { وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } . اخْتَلَفُوا في تَفْسِير هذا التَّطْهِير ، قال جُمْهُور الحَنفيَّةِ : إنَّ عند خُرُوجِ الحَدَثِ تنجس الأعْضَاءُ نَجاسَةً حُكْمِيَّةً ، والمَقْصُود من هذا التَّطْهِير إزَالَةُ [ تلك ] النجاسَةِ الحُكْمِيَّةِ ، وهذا بَعِيدٌ لِوُجُوه : إحداها : قوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] ، وكَلِمَةُ " إنَّما " للِحَصْر ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ المُؤمن لا تَنْجُسُ أعْضَاؤُه . وثانيها : قوله - عليه الصلاة والسلام - : " المُؤمِنُ لا تَنْجُسُ أعْضَاؤُه لا حَيَّا ولا مَيِّتاً " . وثالثها : أجمَعَتِ الأمَّةُ على أنَّ بَدَن المُحْدِثِ لو كَانَ رَطْباً ، فأصَابَهُ ثَوْبٌ لَمْ يَنْجس الثَّوْب ، ولَوْ حَمَلَهُ إنْسَانٌ وصَلَّى به لم تفسد صلاتُه . ورابعها : لو كان الحدثُ يُوجِبُ نجاسَةُ الأعْضَاءِ ، ثم كَانَ تَطْهِيرُ الأعْضَاءِ الأرْبَعَة يُوجِبُ طَهَارة كُل الأعْضَاء ، لوَجَبَ ألاَّ يَخْتَلِفَ ذَلِكَ باخْتِلاَف الشَّرَائِعِ ، والأمْرُ لَيْس كذلِكَ . وخامسها : أنَّ خُروج النَّجَاسَةِ من مَوْضِع ، كيف يُوجِبُ تَنَجُّسَ مَوضِعٍ آخَر ؟ . وسادسها : أنَّ المَسْح على الخُفَّيْنِ قَائِمٌ مقَامَ غَسْلِ الرِّجْلَيْن ، ومَعْلُومٌ أنَّ هذا لا يُزِيلُ شَيْئاً ألْبَتَّةَ عن الرِّجْلَين . وسابعها : أنَّ الذي يُرَاد زوالُهُ إنْ كانَ جِسْماً ، فالحسّ يَشْهَدُ ببُطْلاَن ذلك ، وإنْ كان عَرَضاً فَهُوَ مُحَالٌ ، لأنَّ انتِقَالَ الأعْرَاضِ مُحَالٌ . القولُ الثاني : أنَّ المُرَادَ به التَّطْهِير من المَعَاصِي والذُّنُوب ، وهو المُرَادُ بقوله - عليه الصلاة والسلام - : " إذَا تَوَضَّأ العَبْدُ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ من وَجْهِهِ وكذا يَدَيْهِ ورَأسِهِ ورِجْلَيْه " . وقوله تعالى : { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } . قال مُحَمَّد بن كَعْبٍ : إتمَامُ النِّعْمةِ تَكْفِيرُ الخَطَايَا بالوُضُوءِ ، وهَذَا الكَلاَمُ مُتَعَلِّق بما ذَكَرَهُ أوَّل السّورةِ من إبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ من المَطَاعِم والمَنَاكِح ، ثُمَّ بَيَّن بَعْدَه كَيْفِيَّة فَرْضِ الوُضُوءِ ، كأنَّهُ قال : إنَّما ذَكَرْت ذلِكَ لتتمَّ النَّعْمَة المَذْكُورَةُ أوَّلاً ، وهِيَ نِعْمَةُ الدُّنْيَا ، وهذه النِّعْمَةُ المَذْكُورة الثَّانِيَةُ وهي نِعْمَة الدِّين . وقيل : المُرادُ { ليتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } بالرخص بالتَّيَمُم ، والتَّخْفِيفِ في حالِ المَرَضِ والسَّفَر ، فاسْتَدَلُّوا بذلك على أنَّه تعالى يُخَفِّفْ عَنْكُمْ يَوْمَ القيامةِ ، بأنْ يَعْفُوَ عَنْ ذُنُوبِكُمْ . ويَتَجَاوَز عَن سَيِّئَاتِكُمْ . قوله - جلا وعلا - : " عَلَيْكُمْ " فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ : أظهرُهَا : أنَّهُ مُتَعلِّقٌ بـ " يُتِمّ " . والثاني : أنَّهُ مُتعلِّق بـ " نِعْمَتِهِ " . والثالث : أنَّهُ مُتَعلِّقٌ بمحذُوفٍ على أنَّهُ حالٌ من " نِعْمَتِهِ " . ذكر هَذَيْن الوَجْهَيْنِ الأخِيرَيْن أبُو البَقَاءِ ، وهَذِه الآيَةُ بِخِلاف التي قَبْلَها [ في قوله ] : { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [ المائدة : 3 ] ، حَيْثُ امْتَنَعَ تَعَلُّقُ الجَارِّ بالنِّعْمَةِ ؛ لتَقَدُّم مَعْمُول المصْدَر [ عليه ] كما تَقَدَّم بَيَانُهُ . قال الزَّمَخشَرِيُّ : وقُرِىءَ " فأطْهِرُوا " أي : أطْهِرُوا [ أبْدَانَكُمْ ] ، وكَذِلِكَ " لِيُطْهِرَكُمْ " ، يعني : أنَّهُ قُرِىءَ " أطْهِرُوا " أمْرٌ من " أطْهِرْ " رُبَاعِيّاً كـ " أكْرِمْ " ، ونسب النَّاسُ القِرَاءَةَ الثَّانِية ، أعني قوله : " لِيُطْهِرَكُم " لسَعِيدِ بن المُسَيَّب . ثم قال تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، والكَلاَمُ في لَعَلَّ مَذْكُور في البقرة عند قوله { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 183 ] .