Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 51, Ayat: 15-19)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } لما بين حال المجرمين بين بعده حال المتقين ، والمتقي له مقامات ، أدناها أن يتقي الشرك ، وأدناها أن يتقي ما سِوَى الله ، وأدنى دَرَجَات المُتقِي الجنة فما من أحد اجتنب الكفر إلا ويدخل الجنة . قوله : " آخِذِينَ " حال من الضمير في قوله : " جَنَّاتٍ " و " مَا آتَاهُمْ " يعني مما في الجنة فيكون حالاً حقيقية ، وقيل : مَا آتاهُمُ من أوامره ونواهيه فيكون في الدنيا فتكون حالاً محكيةً ، لاختلاف الزمانين . وجعل الجار خبراً ، والصفة فضلة ، وعكس هذا في قوله تعالى : { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } [ الزخرف : 74 ] ، قيل : لأن الخبر مقصور الجملة ، والغَرَضُ هناك الإخبار عن تخليدهم ، لأن المؤمن قد يدخل النار ، ولكن لا بد من خروجه ، وأما آية المتقين ، فجعل الظرف فيها خبراً لأمنهم الخروج منها ، فجعل ذلك محط الفائدة ليحصل لهم الطمأنينة فانتصبت الصفة حالاً . فصل اعلم أنه تعالى وحد الجنة تارة ، قال تعالى : { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } [ الرعد : 35 ] و [ محمد : 15 ] وأخرى جمعها كقوله ههنا : { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ } وتارة ثَنَّاها ، قال تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] ، والحكمة فيه أن الجنة في توحيدها لاتصال المنازل والأشجار والأنهار كجنة واحدة ، وأما جمعها فلأنها بالنسبة إلى الدنيا وبالإضافة إليها جنّات لا يحصرها عدد ، وأما تثنيتها فسيأتي في سورة الرحمن . قال ابن الخطيب : غيرَ أنَّا نقول ههنا : إن الله تعالى عند الوعد وحَّد الجنة وعند الإعطاء جمعها إشارة إلى أن الزيادة في الوعد موجودة بخلاف ما لو وعد بجَنَّات ثم يقول إنه في جنة ، لأنه دون الموعود ، وقوله : " وَعُيُونٍ " يقتضي أن يكون المُتَّقِي فيها ولا لذة في كون الإنسان في ماءٍ ؛ فالمعنى في خلال العيون ، أي بين الأنهار كقوله : " في جَنَّاتٍ " معناه بين الجنات وفي خلالها ؛ لأن الجنة هي الأحجار ، ونكرها مع كونها معرفة للتعظيم كقولك : فُلاَنٌ رَجُلٌ أي عظيم في الرجولة . ومعنى : " آخذين " أي قابضين ما آتاهم شيئاً فشيئاً ولا يستوفونه بكماله ، لامتناع استيفاء ما لا نهاية له . وقيل : معنى آخذين أي قابلين قبول راضٍ كقوله تعالى : { وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ } [ التوبة : 104 ] أي يقبلها ، قاله الزمخشري . وقال ابن الخطيب : وفيه وجه ثالث ، وهو أن قوله : فِي جَنَّاتٍ يدلّ على السُّكْنَى حيث قال : آخِذينَ بلادَ كذا ، أو قَلْعَة كذا ، أي دخلها متملّكاً لها ، وكذا يقال لمن اشترى داراً أو بستاناً أخذه بثمن قليلٍ أي تملكه ، وإن لم يكن هناك قبص حسًّا ولا قبول برِضًى . وحيئذ فائدته بيان أن دخولهم فيها ليس دخول مستعيرٍ أو من يسترد منه ذلك بل هو ملكُه الذي اشتراه بماله ونفسه من الله . وقوله : " آتاهُمْ " لبيان ( أن ) أخذهم ذلك لم يكن عَنْوَةً ، وإنما نال ذلك بإعطاء الله تعالى . وعلى هذا الوجه " ما " راجعة إلى الجَنَّاتِ والعُيُون . وقوله : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } إشارة إلى أنهم أخذوها بثَمنها وملكوها بالإحسان في الدنيا ، والإشارة بذلك إما لدخول الجنة ، وإما لإيتاء الله ، وإما ليوم الدين ، والإحسان هو قول لا إله إلا الله ؛ ولهذا قيل في معنى كلمة التقوى : إنها لا إله إلا الله ، وفي قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ } [ فصلت : 33 ] وقوله : { هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ } [ الرحمن : 60 ] هو الإتيان بكلمة لا إله إلا الله . قوله : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّنَ ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } وهذا كالتفسير لكونهم مُحْسِنِينَ ، وفيه أوجه : أحدها : أن الكلام تَمَّ على " قَلِيلاً " ولهذا وقف بعضهم على قليلاً ليؤاخي بها قوله تعالى : { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ ص : 24 ] { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [ سبأ : 13 ] ويبتدىء : { مِّنَ ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } أي ما يهجعون من الليل . والمعنى كانوا من الناس قليلاً ، ثم ابتدأ فقال : ما يَهْجَعُون وجعله جَحْداً أي لا ينامون بالليل ألبتة يقومون للصلاة والعبادة . وهو قول الضحاك ومقاتل . وهذا لا يظهر من حيث المعنى ، ولا من حيث الصناعة ، أما الأول فلا بد أن يهجعوا ، ولا يتصور نفي هجوعهم ، وأما الصناعة فلأن " ما " في حيز النفي لا يتقدم عليه عند البصريين . هذا إن جعلتها نافية ، وإِن جعلتها مصدرية صار التقدير من الليل هُجُوعُهُمْ . ولا فائدة فيه ، لأن غيره من سائر الناس بهذه المثابة . الثاني : أن تجعل " ما " مصدرية في محلِّ رفع " بِقَلِيلاً " ، والتقدير : كَانُوا قليلاً هُجُوعُهُمْ . الثالث : أن تجعل ما المصدرية بدلاً من اسم كان بدل اشتمال أي كان هُجُوعُهُمْ قليلاً . و " مِنَ اللَّيْلِ " على هذين لا يتعلق بـ " يهجعون " لأن ما في حَيِّز المصدر لا يتقدم عليه على المشهور . وبعض المانعين اغتفروا في الظرف فيجوزُ هذا عنده والمانع يقدر فعلاً يدل عليه : " يَهْجَعُونَ مِنَ اللَّيْل " . الرابع : أن " ما " مزيدة و " يَهْجَعُون " خبر كان ، والتقدير : كَانُوا يهجعون من الليل هُجُوعاً قَلِيلاً ، أو زمناً قليلاً ، فـ " قَليلاً " ، نعت لمصدر أو ظرف . الخامس : أنها بمعنى الذي ، وعائدها محذوف تقديره : كَانُوا قليلاً من الليل الوقت الذي يهجعونه . وهذا فيه تَكَلُّفٌ . فصل قال ابن الخطيب : " قليلاً " منصوب على الظرف تقديره يهجَعونَ قليلاً يقال : قام بَعْضَ الليل ، فنصب " بعض " على الظرف ، وخبر كان هو قوله : " يَهْجَعُونَ " و " ما " زائدة هذا هو المشهور ، وفيه وجه آخر : وهو أن يقال : كانوا قليلاً معناه كانوا من الناس قليلاً ، فيكون " قليلاً " خبر كان . و " ما يهجعون " معناه نفي النوم عنهم . وهذا منقول عن الضَّحَّاك ومقاتل . وأنكر الزمخشري كون " ما " نافية ، وقال : لا يجوز أن تكون نافية ؛ لأن ما بعدها لا يعمل فيها قبلها لا تقول : زَيْداً ما ضَرَبْتُ ويجوز أن يعمل ما بعد " لم " فيما قبلها ، تقول : زَيْداً لَمْ أَضْرِبْ وذلك أن الفعل المتعدي إنما يعمل في النفي حملاً له على الإثبات لأنك إذا قلت : ضَرَبَ زيدٌ عمراً ثبت تعلق فعله بعمرو . فإذا قلت : مَا ضَرَبَهُ لم يوجد منه فعل حتى يتعلق به ويتعدى إليه ، لكن النفي محمول على الإثبات ، فإذا ثبت هذا فالنفي بالنسبة إلى الإثبات كاسم الفاعل بالنسبة إلى الفعل فإنه يعمل عَمَل الفعل لكن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل فلا تقول : زَيْداً ضاربٌ عَمْراً أمس ، وتقول : زَيْدٌ ضَاربٌ عَمْراً غداً واليَوْمَ والآنَ ؛ لأن الماضي لم يبقَ موجوداً ولا مُتوقَّع الوجود ، فلا يتعلق بالمفعول حقيقة ، لكن الفعل لقوته يعمل واسم الفاعل لضعفه لم يَعْمَلْ . إذا عرف هذا فقوله : مَا ضَرَبْتُ للنفي في الماضي ، فاجتمع فيه النفي والمضيّ فَضَعُفَ . وأما : لَمْ أَضْرِبْ فإِن كان يقلب المستقبل فوجد فيه ما وجد في قول القائل : زَيْدٌ ضَارِبٌ عَمْراً غَداً فأُعْمِلَ . قال ابن الخطيب : غير أن القائل بذلك القول يقول : قليلاً ليس منصوباً بقوله : يَهْجَعُونَ ، وإِنما ذلك خبر ( كانوا ؛ أي ) كانوا قَلِيلِينَ . فصل تقديم قليلاً في الذكر ليس لمجرد السَّجع حتى يقع يهجعون ويستغفرون في آخر الآيات ، بل لأن الهجوع راحة لهم والمقصود بيان اجتهادهم وتحملهم السهر لله تعالى ، فلا يناسبه تقديم ( راحتهم ) ، وقد يَغْفَلُ السامع عما بعد الكلامِ فيعتقد كونهم محسنين بسبب هجوعهم ، فقدم قوله : " قَلِيلاً " ليسبق إلى الفهم أولاً قلةُ الهجوع وقوله : " مِنَ اللَّيْل " إشارة إلى أنه الزمن الذي يهجع الناس فيه ولا يسهر في الطاعة إلا متعبد . فإن قيل : الهجوع لا يكون إلا بالليل والنوم نهاراً لا يقالُ له : هُجُوع ! . فالجواب : أن ذِكرَ العام وإِردافه بالتخصيص حَسَنٌ ، تقول : رأيتُ حَيَوَاناً نَاطِقاً فَصِيحاً . وأما ذكر الخاص وإردافه بالعام فلا يَحْسُن إلا في بعض المواضع ، فلا تقول : رأيتُ ناطقاً فصيحاً حيواناً . وإذا عرف هذا فقوله تعالى : كَانُوا قليلاً من الليل ذكر أمراً هو كالعام يحتمل أن يكون بعده : كَانُوا من الليل يسبحون أو يستغفرون أو يسهرون ، أو غير ذلك ، فلما قال : يَهْجَعُون فكأنه خصّص ذلك بالأمر العام المحتمل له ولغيره فأَزَال الاحْتِمَال . قوله : " وَبِالأَسْحَارِ " متعلق بـ " يَسْتَغْفِرُونَ " ، والباء بمعنى " فِي " . وقدم متعلق الخبر على المبتدأ لجواز تقديم العامل . فصل معنى قوله : { قَلِيلاً مِّنَ ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } أي يصلون أكثر الليل . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس : يعني كانوا قل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئاً إما من أولها وإما من أوسطها . وقال أنس بن مالك : كانوا يصلون العَتَمَةَ . وقال مُطرفُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بنِ الشَّخِير : قَلَّ ليلة أتت عليهم يهجعونها كلها . وقال مجاهد : كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله ، وربما نَشِطُوا فَمَدُّوا إلى السَّحَر ، ثم أخذوا بالأسحار في الاستغفار . وقال الكلبي ومجاهد ومقاتل : وبالأسحار يصَلّونَ ؛ وذلك لأن صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة . روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاء كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْل فَيَقُولُ : أَنَا المَلِكُ أَنَا المَلِكُ ، مَنِ الَّذي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَنِ الَّذِي يسَأَلُنِي فَاعْطِيَهُ ؟ مِنَ الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ " . فصل في قوله : { وبالأسحار هُمْ يستغفرون } إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه ، فهم يستغفرون من التقصير . وهذه سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويَسْتَقِلُّه ويعتذر من التقصير واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويَمُنُّ به . وفي الآية لطائف : الأولى : أنه تعالى لما ذكر قلة هجوعهم ، والهجوع مُقْتَضى الطبع قال : يَسْتَغْفِرُونَ أي من ذلك القدر من النوم القليل . الثانية : أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع ولم يمدحْهم بكَثْرة السَّهر فلم يقل : كَانُوا قليلاً من الليل ما يسهرون مع أن السَّهَر هو الكَلَفَةُ والاجتهاد لا الهجوع ، وهذا إشارة إلى أن نَوْمَهم عبادةٌ حيث مدحهم الله بكونهم هاجعين قليلاً ، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى ، والاستغفار بالأسحار ، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم . فصل الباء في قوله : " بالأسحار " استعملت للظرف هنا ، وهي ليست للظرف . قال بعض النحاة : إن حروف الجر ينوب بعضُها عن بعض يقال في ظرف الزمان : خَرَجْتُ لِعَشْرٍ بَقِينَ ، وبالليل ، وفي شهر رمضان . فتستعمل اللام والباء ، وفي ، وكذلك في ظرف المكان تقول : قُمْتُ بِمدينة كذا ، وفيها ، ورأيته ببَلْدَةِ كذا ، وفيها . قال ابن الخطيب : والتحقيقُ فيه أن نقول : الحروف لها معانٍ مختلفة كما أن الأسماء والأفعال كذلك غير أن الحروف مستقلة بإفادة المعنى والاسم والفعل مُسْتَقِلاَّنِ ، لكن بين بعض الحروف وبعضها تنافرٌ ( و ) تباعد كما في الأسماء والأفعال ، فإن البيتَ والسَّكَن متخالفان ومتقاربان ، وكذلك مَكَثَ ، وسَكَنَ ( وَأَلَمَّ ) ، وكذلك كل اسمين أو كل فعلين يوجد كان بينهما تقارب وتباعد ، لأن الباء للإِلصاق ، واللام للاختصاص ، و " في " للظرف ، والظرف مع المظروف ملتصق ومختص به . إذا عرف هذا فنقول : بين " الباء " و " اللام " و " في " مشاركة ، أما الباء فلأنها للإِلصاق ، والمتمكن في مكان ملتصق به متصل ، وكذلك الفعل بالنسبة إلى الزمان فإِذا قال : سَارَ بالنَّهَارِ معناه ذهب ذَهَاباً مُتَّصِلاً بالنهار . فقوله : { وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } أي متصلاً بالأسحار ، أخبر عن الاقتراب ، وذلك أدل على وجود الفعل مع أول جزء من أجزاء الوقت من قوله : " فِي اللَّيْلِ " ؛ لأنه يستدعي احتواء الزمان بالفعل وكذلك قول القائل : أقمتُ ببَلْدَة كذا ، لا يفيد أنه كان مخالطاً بالبلد . وقوله : أقمتُ فيها يدل على إحاطتها به ، فإذن قول القائل : أَقَمْتُ بالبَلَدِ ، ودَعَوْتُ بالأَسْحَارِ أعمُّ مِنْ قوله : أقمتُ فِيهِ ؛ لأن القائم فيه قائمٌ به والقائم به ليس قائماً فيه . وإِذا علم هذا فقوله : { وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } إشارة إلى أنهم لا يُخْلُونَ وقتاً عن العبادة وأنهم بالليل لا يهجعون ، ومع أول جزء من السحر يتسغفرون فيكون فيه بيان كونهم مستغفرين من غير أن يسبق منهم ذنب ، لأنهم وقت الانتباه لم يُخْلوا الوقت للذنب . ولا يطرد استعمال الباء بمعنى " في " ، فلا تقول : خَرَجْتُ بِيَوْم الجُمُعَةِ لأن يوم الجمعة مع أنه زمان فيه خُصُوصيَّات وتقييدات زائدة على الزمان ، لأنك إذا قلت : خَرَجْتُ بِنَهَارِنَا وبلَيْلَةِ الجُمُعَةِ ، لم يحسن . ولو قلت : خَرَجْتُ بِيَوْم سَعْدٍ وخَرَجَ ( بِيَوْمِ ) نَحْسٍ حَسُن فالنهارُ والليل لمّا لم يكن فيهما خُصُوصٌ وتقييد جازَ استعمالُ الباء فيهما ، فإِذا قيدتهما وخصصتهما زال الجوازُ ، و " يَوْمُ الجمعة " لمَّا كان فيه خصوص لم يجز استعمال الباء فيه ، والفعل حدث مُقْتَرن بزمان لا ناشئاً عن الزمان فإذا زال الخصوص وقلت : خَرَجْتُ بِيَوْم سَعْدٍ جاز . وأما " فِي " فيصح مطلقاً ؛ لأن ما حصل في العام حصل في الخاص ، لأن العام جزءٌ داخل في الخاص ، فتقول : فِي يَوْم الجُمُعَةِ وفِي هذِهِ السَّاعة . وأما اللام فتقدم الكلام عليها عند قوله : { وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا } [ يس : 38 ] . فصل وفائدة قَوْلِهِ : " هم " ؛ قال الزمخشري : فائدتها انْحِصَار المستغفرين أي هم الكاملون فيه لا غيرهم كقولك : زَيْدٌ العَالِمُ ، لكماله في العلم كأنه تفرد به ، وأيضاً : فلو عطف بدون هم لأوهم أنهم يستغفرون قليلاً . والاستغفار إما طلب المغفرة ، كقولهم : رَبَّنا اغْفِرْ لَنَا ، وإما إتيانهم بعبارات يتقربون بها طلباً للمغفرة ، وإما أن يكون من باب قولهم : اسْتَحْصَد الزَّرْع أي ذلك أوان المغفرة . قوله : { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } لمّا تقدم التعظيم لأم الله ثَنَّى بالشفقة على خلق الله ، وأضاف الأموال إليهم ، لأنه مدح لهم ، وقال في موضع آخر { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [ الحديد : 7 ] ؛ لأن ذلك تحريض وحث على النفقة وذلك يناسبه . فإن قيل : كون الحق في المال لا يوجب مدحاً ؛ لأن كون المسلم في ماله حقّ وهو الزكاة ليس صفة مدح ، لأن كل مسلم كذلك بل الكافر إذا قلنا : إنه مخاطب بفروع الإسلام في ماله حق معلوم ، غير أنه إذا أَسْلَمَ سقط عنه ، وإن مات عُوقِبَ على ما تركه الأداء . وإن أَدَّى من غير إسلام لا يقع الموقع فكيف يفهم كونه مدحاً ؟ فالجواب : أنا نفسر السائل بمن يطلب جزءاً من المَال وهو الزكاة والمَحْرُومُ من لا يطلب جزءاً معيّناً وهو طالب صدقة التطوع كأنه قال : في ماله زكاةٌ وصَدَقَةٌ . أو يقالُ : بأن " في " للظرفية ، والمعنى أَنّهم لاَ يجمعون المال ولا يجعلونه ظرفاً للحُقُوق ، والمطلوب من الظرف والمظروف إنما هو المظروف وهذا مدح عظيم . فإن قيل : لَو قيل : مالهم للسائل كان أبلغ ! فالجواب : لا نسلم ، فإن صرف جميع المال حتى يبقى فقيراً محتاجاً منهيٌّ عنه ، وكذلك الصلاة والصوم الاقتصاد فيهما أبلغ لقوله : - عليه الصلاة والسلام - : " إنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ ، فَادْخُلُوا فِيهِ بِرفقٍ ؛ فَإنَّ المُنْبَتَّ لاَ أَرْضاً قَطَعَ وَلاَ ظَهْراً أَبْقَى " . فصل في السائل والمحروم وجوه : أحدها : أن السائل هو الآدمي ، والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوانات المحترمة ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " فِي كُلّ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ " وهذا ترتيب حسن ؛ لأن الآدمي يُقدَّمُ على البهائم . الثاني : أن السائل هو الذي يَسْأَل ، والمَحْرُوم هو المتعفّف يظن أنه غنيٌّ فيُحْرَمُ . وقدَّمَ السائلَ ؛ لأن حاله يعرف بسؤاله ، أو يكون إشارة إلى كثرة العَطَاء فيعطي السؤّال ، فإذا لم يجدهم يسأل عن المحتاجين فيكون سائلاً ومسؤولاً . الثالث : قدم السائل ؛ لتجانس رُؤُوس الآي . فصل قال ابنُ عباس وسعيدُ بن المُسيّب : السّائل الذي يسأل الناس ، والمحروم الذي ليس له في الغنائم سهمٌ ولا يُجْرَى عليه من الفَيء شَيءٌ . وقال قتادة والزُّهْري : المحروم المتعفّف الذي لا يسأل . وقال زيد بن أسلم : هو المصاب ثمره أو زرعه أو تشَلُّ ماشيتُه ، وهو قول مُحَمّد بن كَعْب القُرَظيِّ . قال : المحروم صاحب الحاجة ، ثم قرأ : { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } [ الواقعة : 66 - 67 ] .