Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 56, Ayat: 41-56)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَأَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ } . لما ذكر منازل أهل الجنة وسمَّاهم أصحاب اليمين ، ذكر منازل أهل النَّار ، وسمَّاهم أصحاب الشمال ؛ لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم ، ثم عظم ذكرهم في البلاء والعذاب ، فقال : { مَآ أَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ فِي سَمُومٍ } وهي الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن ، والمراد بها حر النار ولهيبها . وقيل : ريح حارة تهب فتمرض أو تقتل ، وأصله من السم كسمّ الحية والعقرب وغيرهما . قال ابن الخطيب : " ويحتمل أن يكون هو السّم ، والسّم يقال في خرم الإبرة ، قال تعالى : { حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلْخِيَاطِ } [ الأعراف : 40 ] ؛ لأن سم الأفعى ينفذ في مسام البدن " . وقيل : السموم يختص بما يهبّ ليلاً ، وعلى هذا فقوله : " سَمُومٍ " إشارة إلى ظلمة ما هم فيه . و " الحَمِيم " : هو الماء الحارّ الذي قد انتهى حره ، فهو " فَعِيل " بمعنى " فاعل " من حَمِمَ الماء ، أو بمعنى " مفعول " من حم الماء إذا سخنه . وقوله : { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } . " اليَحْمُوم " وزنه " يَفْعُول " . قال أبو البقاء : " من الحمم ، أو الحميم " . قال القرطبي : " هو " يَفْعُول ، من الحم ، وهو الشحم المسود باحتراق النار ، وقيل : مأخوذ من الحُمَم وهو الفحم . و " اليَحْمُوم " : قيل : هو الدُّخان الأسود البهيم . وقيل : هو وادٍ في جهنم . وقيل : اسم من أسمائها . والأول أظهر . وقيل : إنه الظُّلمة ، وأصله من الحمم ، وهو الفَحْم ، فكأنه لسواده فحم ، فسمي باسم مشتق منه ، وزيادة الحرف فيه لزيادة ذلك المعنى فيه ، وربما تكون الزيادة فيه جامعة بين الزيادة في سواده ، والزيادة في حرارته . قال ابن الخطيب : وفي الأمور الثلاثة إشارة إلى كونهم في العذاب دائماً ؛ لأنهم إن تعرَّضوا لمهبّ الهواء أصابهم السَّمُوم ، وإن استكنُّوا كما يفعله الذي يدفع عن نفسه السموم بالاستكنان في الكِنِّ يكون في ظل من يحموم ، وإن أراد التبرُّد بالماء من حرّ السموم يكون الماء من حميم ، فلا انفكاك له من العذاب ، أو يقال : إنَّ السموم يعذبه فيعطش ، وتلتهب نار السَّموم في أحشائه ، فيشرب الماء ، فيقطع أمعاءهُ ، فيريد الاستظلال بظلّ ، فيكون ذلك الظلّ ظل اليَحْمُوم . وذكر السموم دون الحميم دون النَّار تنبيهاً بالأدنى على الأعلى ، كأنه قيل : أبرد الأشياء في الدنيا حارّ عندهم فكيف أحرها . قال الضَّحاك : النار سوداء ، وأهلها سُود ، وكل ما فيها أسود . قوله : { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } صفتان للظلّ ، كقوله : " مِنْ يَحْمُومٍ " . وفيه أنه قدم غير الصريحة على الصريحة ، فالأولى أن تجعل صفة لـ " يحموم " ، وإن كان السياق يرشد إلى الأول . وقرأ ابن أبي عبلة : { لا بَارِدٌ ولا كريمٌ } برفعهما : أي : " هُوَ لا بَارِدٌ " . كقوله : [ الكامل ] @ 4692 - … فَأبِيتُ لا حَرجٌ ولا مَحْرُومُ @@ قال الضَّحاك : " لا بَارِدٍ " بل حار ؛ لأنه من دخان سعير جهنم ، " ولا كَرِيم " عذب . وقال سعيد بن المسيّب : ولا حسن منظره ، وكل ما لا خير فيه ، فليس بكريم . وقيل : { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } أي : من النَّار يعذبون بها كقوله تعالى : { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [ الزمر : 16 ] . قال الزمخشري : " كرم الظل نفع الملهوف ، ودفع أذى الحرّ عنه " . قال ابن الخطيب : ولو كان كذلك لكان البارد والكريم بمعنى واحد ، والأقوى أن يقال : فائدة الظل أمران : أحدهما : دفع الحر . والآخر : كون الإنسان فيه مكرماً ؛ لأن الإنسان في البرد يقصد الشمس ليدفأ بحرّها إذا كان قليل الثِّياب ، وفي الحرّ يطلب الظِّل لبرده ، فإذا كان من المكرمين يكون أبداً في مكان يدفع الحر والبرد عن نفسه ، فيحتمل أن يكون المراد هذا . ويحتمل أن يقال : الظل يطلب لأمر حسّي ، وهو يرده ، ولأمر عقلي وهو التّكرمة ، وهذا معنى ما نقله الواحدي عن الفرَّاء بنفي كل شيء مستحسن ، فيقولون : " الدار لا واسعة ولا كريمة " . قوله : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } . أي : إنما استحسنوا هذه العقوبة ؛ لأنهم كانوا في الدنيا متنعّمين بالحرام . و " المُتْرَف " : المنعم . قاله ابن عباس وغيره . وقال السُّدي : " مُتْرَفينَ " أي : مشركين . قوله : { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ } . الحِنْثُ في أصل كلامهم : العدل الثقيل ، وسمي به الذنب والإثم لثقلهما ، قاله الخطابي . وفلان حَنِثَ في يمينه ، أي لم يَفِ به ؛ لأنه يأثم غالباً ، ويعبر بالحِنْثِ عن البُلُوغ ، ومنه قوله : " لَمْ يَبْلغوا الحِنْثَ " . وإنما قيل ذلك ؛ لأن الإنسان عند بلوغه إيَّاه يؤاخذ بالحنث ، أي : بالذنب ، وتَحَنَّثَ فلان ، أي جانب الحِنْث . وفي الحديث : " كَانَ يَتَحَنَّثُ بِغَارِ حِرَاءَ " ، أي : يتعبّد لمُجانبته الإثم ، نحو : " تَحَرَّجَ " فتفعَّل في هذه كلِّها للسَّلْب . فصل في تفسير الآية قال الحسن ، والضحاك ، وابن زيد : { يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ } أي : يقيمون على الشرك . وقال قتادة ومجاهد : الذَّنْب العظيم الذي لا يتوبون منه . وقال الشَّعبي : هو اليمين الغَمُوس ، وهي من الكبائر ، يقال : حنث في يمينه ، أي : لم يبرّها ورجع فيها ، وكانوا يقسمون أن لا بعث ، وأن الأصنام أنْداد الله فذلك حنثهم . فصل في الحكمة من ذكر عذاب هذه الطائفة قال ابن الخطيب : والحكمة في ذكره سبب عذابهم ، ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم ، فلم يقل : إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين ، وذلك تنبيه على أن ذلك الثواب منه فضل ، والعقاب منه عدل ، والفضل سواء ذكر سببه ، أو لم يذكره لا يتوهّم بالمتفضل نقص وظلم . وأمَّا العدل إن لم يعلم سبب العقاب ، يظن أن هناك ظلماً ، ويدلّ على أنه تعالى لم يقل في أصحاب اليمين : { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الواقعة : 24 ] كما قاله في السَّابقين ؛ لأن أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل ، بخلاف من كثرت حسناته يحسن إطلاق الجزاء في حقه . واعلم أن المترف هو المنعم ، وذلك لا يوجب ذمًّا ، وإنما حصل لهم الذم بقوله : { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ } ، فإن صدور المعاصي ممن كثرت النِّعم عليه [ من ] أقبح القبائح ، فقال : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } ، ولم يشكروا نعم الله ، بل أصروا على الذنب العظيم . وفي الآية مبالغة ؛ لأن قوله : { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ } يقتضي أن ذلك عادتهم ، والإصرار على مُدَاومةِ المعصية والحنث أبلغ من الذنب ؛ لأن الذنب يطلق على الصغيرة ، ويدل على ذلك قولهم : " بَلَغَ الحِنْثَ " أي : بلغ مبلغاً تلحقه فيه الكبيرة . وأما الصغيرة فتلحقُ الصغير ، فإن وليَّهُ يعاقبه على إسَاءَة الأدب ، وترك الصلاة ، ولأن وصفه بالعظيم مبالغة . قاله ابن الخطيب . قوله تعالى : { وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا } الآية . هذا استبعاد منهم للبعث وتكذيب له ، وقد تقدّم الكلام على ذلك في " والصَّافات " ، وتقدم الكلام على الاستفهامين في سورة " الرَّعْد " . فإن قيل : كيف أتى بـ " اللام " المؤكدة في قوله تعالى : { لَمَبْعُوثُونَ } ، مع أن المراد هو النفي ، وفي النفي لا تدخل " اللام " في خبر " إنَّ " ، تقول : " إنَّ زيداً ليجيء ، وإنَّ زيداً لا يجيء " فلا تذكر " اللام " ، ومرادهم بالاستفهام : الإنكار ، بمعنى إنا لا نبعث ؟ . فالجواب من وجهين : أحدهما : عند التصريح بالنفي وصيغته ، يجب التصريح بالنفي وصيغته . والثاني : أنهم أرادوا تكذيب من يخبر عن البعث ، فذكروا أن المخبر عنه يبالغ في الإخبار ، ونحن ننكر مبالغته وتأكيده ، فحكوا كلام المخبر على طريقة الاستفهام والإنكار ، ثم إنهم أشاروا في الإنكار إلى أمور اعتقدوها مقررة لصحة إنكارهم ، فقالوا : " أئِذَا مِتْنَا " ثم لم يقتصروا عليه ، بل قالوا بعده : { وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً } أي : وطال عهدنا بعد كوننا أمواتاً حتى صارت اللحوم تراباً ، والعظامُ رفاتاً ثم زادوا وقالوا : مع هذا يقال لنا : إنكم لمبعوثون بطريق التأكيد من ثلاثة أوجه : أحدها : استعمال " إنَّ " . ثانيها : إثبات " اللام " في خبرها . ثالثها : ترك صيغة الاستقبال ، والإتيان بالمفعول كأنه كائن ، ثم زادوا وقالوا : { أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } فقال الله تعالى لهم : " قُلْ " يا محمد { إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ } من آبائكم ، و { وَٱلآخِرِينَ } منكم { لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } يعني : يوم القيامة . ومعنى الكلام : القسم ودخول " اللام " في قوله تعالى : { لَمَجْمُوعُونَ } هو دليل القسم في المعنى ، أي : إنكم لمجمُوعون قسماً حقًّا ، بخلاف قسمكم الباطل . قوله : { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ٱلضِّآلُّونَ } عن الهدى { ٱلْمُكَذِّبُونَ } بالبعث { لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } ، وهو شجر كريه المَنْظَر كريه الطعم ، وهو المذكور في سورة " والصَّافَّات " . وهذا الخطاب عامّ ، وقيل : لأهل " مكة " ، وهو من تمام كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقدم هنا الضَّالين على المكذبين في آخر السورة ، قال : { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ } [ الواقعة : 92 ] ، فقدم المكذبين على الضَّالين ؛ لأنهم هنا أصرُّوا على الحنث العظيم فضلوا عن السبيل ، ثم كذبوا الرسول ، وقالوا : " أئذا مِتْنَا " . وفي آخر السورة قدم المكذبين بالحشر على الضالين عن طريق الخلاص ، أو يقال : إنَّ الكلام هنا مع الكُفَّار وهم ضلوا أولاً ، وكذبوا ثانياً ، وفي آخر السورة الكلام مع النبي صلى الله عليه وسلم فقدم التكذيب به إظهاراً للعناية به صلى الله عليه وسلم . قوله : { مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } . فيه أوجه : أحدها : أن تكون " من " الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للبيان ، أي : مبتدئون الأكل من شجر هو زقوم . الثاني : أن تكون " من " الثَّانية صفة لـ " شجر " فيتعلق بمحذوف أي : مستقر . الثالث : أن تكون الأولى مزيدة ، أي : لآكلون شجراً ، و " من " الثانية على ما تقدم من الوجهين . الرابع : عكس هذا ، وهو أن تكون الثانية مزيدة ، أي : لآكلون زقُّوماً ، و " من " الأولى للابتداء في محل نصب على الحال من " زقّوم " أي : كائناً من شجر ، ولو تأخَّر لكان صفة . الخامس : أن " من شجر " صفة لمفعول محذوف ، أي : لآكلون شيئاً من شجر و " مِنْ زقُّومٍ " على هذا نعت لـ " شجر " أو لشيءٍ محذوف . السادس : أن الأولى للتبعيض ، والثانية بدل منها . قوله : { فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ } . الضمير في " منها " عائد على الشجر ، وفي " عليه " للشجر أيضاً . وأنه يجوز تذكير اسم الجنس وتأنيثه ، وأنهما لغتان . وقيل : الضمير في " عليه " عائد على " الزَّقُّوم " . وقال أبو البقاء : للمأكول . وقال ابن عطية : " للمأكول أو الأكل " انتهى . وفي قوله : " الأكْل " بُعْد . وقال الزمخشري : " وأنّث ضمير الشجر على المعنى ، وذكره على اللفظ في " منها " و " عليه " ، ومن قرأ : { مِن شَجَرَةٍ مِّن زَقُّومٍ } فقد جعل الضميرين للشجرة ، وإنما ذكر الثاني على تأويل الزقوم ؛ لأنه تفسيرها " . فصل في تحرير معنى الزقوم قال ابن الخطيب : " اختلفت أقوال الناس في " الزقوم " ، وحاصل الأقوال يرجع إلى كون ذلك في الطَّعم مرًّا ، وفي اللمس حارًّا ، وفي الرائحة منتناً ، وفي المنظر أسود لا يكاد آكله يَسيغهُ . والتحقيق اللغوي فيه أن الزَّقوم لغة عربية ، ودلنا تركيبه على قبحه ؛ لأن " ز ق م " لم يجتمع إلا في مهمل ، أو في مكروه . يقال منه : مَزَقَ يَمْزقُ ، ومنه : زَمَقَ شعره إذا نتفه ، ومنه " القَزْمُ " للدَّناءة واللؤم . وأقوى من هذا أن " القاف " مع كل حرف من الحرفين الباقيين يدل في أكثر الأمر على مكروه ، فالقاف مع " الميم " كـ " القمامة والتَّقَمْقُم والقُمْقُمة " ، وبالعكس " المقامق " لتغليظ الصوت ، و " المَقْمَقَة " هو الشق . وأما القاف مع الزاي فـ " الزق " رمي الطائر بذرقه ، والزَّقْزقة : للخفة ، وبالعكس - القزنوب - فينفر الطَّبع من تركيب الكلمة من حروف اجتماعها دليل الكراهة والقُبْح ، ثم قرن بالأكل ، فدلَّ على أنه طعام ذو غُصَّة . وأما ما يقال : بأن العرب تقول : " زَقَمْتَنِي " بمعنى : أطعمتني الزّبد والعسل واللَّبن ، فذلك للمجانة ، كما يقال : ارشقني بثوب حسن ، وارجمني بكيس من ذهب " . وقد تقدم الكلام على الزَّقُوم في " والصَّافات " . وقوله : { فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ } . بيان لزيادة العذاب ، أي : لا يكتفى منكم بنفس الأكل ، كما يكتفى ممن يأكل الشَّيء لتحلّة القسم ، بل يلزمون منها بأن يملئوا منها البطون . وقوله : " البُطُون " إما مقابلة الجمع بالجمع ، أي : يملأ كل واحد منكم بطنه . وإما أن يكون لكل واحد بطون ، ويكون المراد منه ما في بطن الإنسان ، وهم سبعة أمعاء فيملئون بطون الأمعاء ، والأول أظهر ، والثاني أدخل في التعذيب . قوله : { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ } أي : على الأكل ، أو على الزَّقوم لأجل مرارته وحرارته يحتاجون إلى شرب الماء فيشربون من الماء الحار . قوله : { فَشَارِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ } . وهذا أيضاً بيان لزيادة العذاب ، أي : لا يكون شربكم كمن شرب ماء حارًّا مُنْتِناً ، فيمسك عنه ، بل يلزمون أن يشربوا منه مثل ما يشرب الأهْيم ، وهو الجمل العطشان ، فيشرب ولا يروى . وقرأ نافع وعاصم وحمزة : بضم الشين من " شُرْب " . وباقي السبعة بفتحها . ومجاهد وأبو عثمان النهدي : بكسرها . فقيل : الثلاث لغات في مصدر " شرِبَ " ، والمقيس منها إنما هو المفتوح ، والمضموم والمكسور اسمان لما يشرب كـ " الرَّعْي " و " الطَّحْن " . قال القرطبي : " تقول العرب : " شَرِبْتُ شُرْباً وشَرْباً وشِرْباً وشُرُباً " بضمتين " . قال أبو زيد : سمعت العرب تقول : بضم الشِّين وفتحها وكسرها . والفتح هو المصدر الصحيح ؛ لأن كل مصدر من ذوات الثلاثة فأصله " فَعْل " ؛ ألا ترى أنك تردّه إلى المرة الواحدة ، فتقول : " فَعْلَة " نحو " شَرْبة " . وقال الكسائي يقال : " شربت شُرْباً وشَرْباً " . ويروى قول جعفر : " أيَّامُ مِنى أيَّام أكْلٍ وشَرْب " . ويقال : بفتح الشين ، والشرب في غير هذا اسم للجماعة الشَّاربين . قال : [ البسيط ] @ 4693 - كأنَّهُ خَارِجاً مِنْ جَنْبِ صَفْحَتِهِ سَفُّودُ شَرْبٍ نَسُوهُ عندَ مُفتأدِ @@ و " الهِيْم " فيه أوجه : أحدها : أنه جمع " أهْيَم أوْ هَيْمَاء " ، وهو الجمل والنَّاقة التي أصابها الهيام ، وهو داء معطش تشرب الإبل منه إلى أن تموت ، أو تسقم سقماً شديداً . والأصل : " هُيْم " - بضم " الهاء " - كـ " أحْمر وحُمْر ، وحَمرَاء وحُمْر " فقلبت الضمة كسرة لتصح " الياء " ، وذلك نحو " بِيض " في " أبْيَض " . وأنشد لذي الرّمة : [ الطويل ] @ 4694 - فأصْبَحْتُ كالهَيْمَاءِ ، لا المَاءُ مُبْرِدٌ صَداهَا ، ولا يَقْضِي عليْهَا هُيَامُهَا @@ الثاني : أنَّه جمع " هَائِم وهَائمة " من " الهيام " أيضاً ، إلا أن جمع " فَاعِل وفاعِلَة " على " فُعل " قليل ، نحو : " نَازِل ونُزُل ، وعائذ وعُوذ " . ومنه : [ الطويل ] @ 4695 - … عُوذٍ مَطَافِلِ @@ وقوله : " العوذ المطافيل " . وقيل : هو من " الهيَام " وهو الذهاب ؛ لأن الجمل إذا أصابه ذلك هَامَ على وجهه . الثالث : أنه جمع " هَيَام " بفتح الهاء ، وهو الرمل غير المتماسك الذي لا يروى من الماء أصلاً ، فيكون مثل " سَحَاب وسُحُب " - بضمتين - ثم خفف بإسكان عينه ثم كسرت فاؤه لتصحّ " الياء " كما فُعِلَ بالذي قبله . [ الرابع : أنه جمع " هُيَام " - بضم الهاء - وهو الرمل المتماسك ، مبالغة في " الهيام " بالفتح . حكاها ثعلب . إلا أن المشهور الفتح ، ثم جمع على " فُعُل " نحو : " قَرَاد وقُرُد " ، ثم خفف وكسرت فاؤه ] [ لتصح " الياء " ] . وفي " الصحاح " : " والهُيَام - بالضَّم - أشدّ العطش ، و " الهيام " كالجنون من العشق ، و " الهَيْمَاء " أيضاً : المفازة لا ماء بها ، و " الهِيَام " - بالكسر - العطاش " . والمعنى : أنَّهم يصيبهم من الجُوع ما يلجئهم إلى أكل الزَّقُّوم ، ومن العطش ما يضطرهم إلى شُرْب الهيم . وقال الزمخشري : " فإن قلت : كيف صح عطف الشاربين على الشاربين ، وهما لذوات واحدة ، وصفتان متفقتان ، فكان عطفاً للشيء على نفسه ؟ . قلت : ليستا متفقتين من حيث إن كونهم شاربين على ما هو عليه من تناهِي الحرارة وقطع الأمعاء أمر عجيب ، وشربهم له على ذلك كما تشرب الماء أمر عجيب أيضاً ، فكانتا صفتين مختلفتين " . انتهى . يعني قوله : { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ } . وهو سؤال حسن ، وجوابه مثله . وأجاب بعضهم عنه بجواب آخر ، وهو أن قوله : { فَشَارِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ } تفسير للشرب قبله . ألا ترى أنَّ ما قبله يصلح أن يكون [ مثل ] شرب الهيم ، ومثل شرب غيرها ، ففسره بأنه مثل شرب هؤلاء البهائم أو الرمال ، وفي ذلك فائدتان : إحداهما : التنبيه على كثرة شربهم منه . والثانية : عدم جَدْوى الشرب ، وأن المشروب لا ينجع فيهم كما لا ينجع في الهِيْمِ على التفسيرين . وقال أبو حيَّان : " " والفاء " تقتضي التعقيب في الشربين ، وأنهم أولاً لما عطشوا شربُوا من الحميم ظنًّا منهم أنه ليسكن عطشهم ، فازدادوا عطشاً بحرارة الحميم ، فشربوا بعده شرباً لا يقع بعده ريٌّ أبداً ، وهو مثل شرب الهيم ، فهما شربان من الحميم لا شرب واحد اختلفت صفتاه فعطف ، والمقصود : الصفة ، والمشروب منه في { فَشَارِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ } محذوف لفهم المعنى ، تقديره : فشاربون منه " انتهى . قال شهاب الدين : " والظَّاهر أنه شرب واحد ، بل الذي يعتقد هذا فقط ، وكيف يناسب أن يكون زيادتهم العطش بشربة مقتضية لشربهم منه ثانياً " . قوله : { ٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ ٱلدِّينِ } . قرأ العامة : " نُزُلُهُمْ " بضمتين . وروي عن أبي عمرو من طرق . وعن نافع وابن محيصن : بضمة وسكون ، وهو تخفيف . و " النُّزُل " : ما يعدّ للضيف . وقيل : هو أول ما يأكله ، فسمي به هذا تهكّماً بمن أعد له . وهو في المعنى كقول أبي الشعر الضَّبي : [ الطويل ] @ 4696 - وكُنَّا إذا الجَبَّارُ أنْزَلَ جَيْشَهُ جعلنَا القَنَا والمُرهفاتِ لَهُ نُزْلا @@ ومعنى الآية : هذا أول ما يلقونه من العذاب يوم القيامة كالنُّزل الذي يعد للأضياف تكرمة لهم ، [ وفيه ] تهكم ، كقوله تعالى : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ التوبة : 34 ] .