Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 56, Ayat: 4-26)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ } . يجوز أن يكون بدلاً من " إذا " الأولى ، أو تأكيداً لها ، أو خبراً لها على أنها مبتدأ . كما تقدم تحريره . وأن يكون شرطاً ، والعامل فيه إما مقدر ، وإما فعلها الذي يليها ، كما تقدّم في نظيرتها . وقال الزمخشري : " ويجوز أن ينتصب بـ " خافضة رافعة " أي تخفض وترفع وقت رجِّ الأرض وبس الجبال ؛ لأنه عند ذلك يخفض ما هو مرتفع ، ويرفع ما هو منخفض " . قال أبو حيَّان : " ولا يجوز أن ينتصب بهما معاً ، بل بأحدهما ، لأنه لا يجوز أن يجتمع مؤثران على أثر واحد " . قال شهاب الدِّين : معنى كلامه أن كلاًّ منهما متسلّط عليه من جهة المعنى ، وتكون المسألة من باب التنازع ، وحينئذ تكون العبارةُ صحيحة ، إذ يصدق أن كلاًّ منهما عامل فيه ، وإن كان على التَّعاقُب . والرَّج : التحريك الشديد بمعنى زلزلت . قال مجاهد وغيره : يقال : رجَّه يرُجُّه رجًّا ، أي : حرّكه وزلزله . وناقة رجاء : أي عظيمة السّنام . والرَّجْرجَة : الاضطراب . وارتجّ البحر وغيره : اضطرب . وفي الحديث : " مَنْ ركِبَ البَحْرَ حينَ يَرتجُّ فلا ذمَّة لهُ " . يعني : إذا اضطربت أمواجه . قال الكلبي : وذلك أن الله - تعالى - إذا أوحى إليها اضطربت فرقاً من الله تعالى . قال المفسرون : ترتج كما يرتجّ الصبي في المهد حتى ينهدم ما عليها ، وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الرَّجَّة : الحركة الشديدة يسمع لها صوت . قوله : { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } . أي : سيرت ، من قولهم : بسَّ الغنم ، أي : ساقها . وأبْسَسْتُ الإبل أبُسُّهَا بَسَّاً ، وأبْسَسْتُ وبَسِسْتُ لغتان إذا زجرتها وقلت : بَسْ بَسْ . قاله أبو زيد . أو بمعنى " فُتّت " ، كقوله : { يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] ، ويدل عليه : { فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } . قال ابن عباس ومجاهد : كما يبسّ الدقيق ، أي : يُلتّ . والبَسِيْسَةُ : السَّويقُ أو الدقيق يُلَتُّ بالسَّمن أو الزيت ، ثم يؤكل ولا يطبخ ، وقد يتخذ زاداً . قال الراجز : [ الرجز ] @ 4670 - لا تَخْبِزَا خُبْزاً وبُسَّا بَسَّا ولا تُطِيْلا بِمُنَاخٍ حَبْسَا @@ وقال الحسن : " وبسّت " قلعتْ من أصلها فذهبت ، ونظيرها : يَنْسِفُهَا ربِّي نسفاً وقال عطية : بُسِطَتْ كالرَّمل والتراب . وقال مجاهد : سالت سيلاً . وقال عكرمة : هدّت . وقرأ زيد بن علي : " رجَّت " ، و " بَسَّت " مبنيين للفاعل . على أن " رَجَّ " و " بَسَّ " يكونان لازمين ومتعديين ، أي : ارتجت وذهبت . قوله : { فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } . قرأ النَّخعي ومسروق وأبو حيوة : " منبتًّا " بنقطتين من فوق ، أي : منقطعاً من البَتِّ . ومعنى الآية لا ينبو عنه . قال علي رضي الله عنه : الهباء المُنْبَثّ : الرَّهجُ الذي يسطع من حوافر الخيل ثم يذهب ، فجعل الله تعالى أعمالهم كذلك . وقال مجاهد : " الهَبَاء " : الشعاع الذي يكون في الكُوة كهيئة الغُبَار ، وروي نحوه عن ابن عباس . وعنه أيضاً : أنه ما تطاير من النَّار إذا اضطربت يطير منها شرر فإذا وقع لم يكن شيئاً . وقال عطية : " المنبث " : المتفرق ، قال تعالى : { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } [ البقرة : 164 ] أي : فرق ونشر . قوله : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } . أي : أصنافاً ثلاثة ، كل صنف يشاكل كل ما هو منه كما يشاكل الزوج الزوجة ، ثم بين من هم ، فقال : { فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } ، { وَأَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } ، { وَٱلسَّابِقُونَ } . قوله : { فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } . " أصحاب " الأول مبتدأ ، و " ما " استفهامية - فيه تعظيم - مبتدأ ثاني ، و " أصحاب " الثاني خبره ، والجملة خبر الأول ، وتكرار المبتدأ الأول هنا بلفظه مغنٍ عن الضمير ، ومثله : { ٱلْحَاقَّةُ مَا ٱلْحَآقَّةُ } [ الحاقة : 1 ، 2 ] ، { ٱلْقَارِعَةُ مَا ٱلْقَارِعَةُ } [ القارعة : 1 ، 2 ] ولا يكون ذلك إلا في مواضع التَّعظيم . فإن قيل : إن " ما " نكرة وما بعدها معرفة ، فكان ينبغي أن يقال : " ما " خبر مقدم ، و " أصحاب " الثاني وشبهه مبتدأ ؛ لأن المعرفة أحق بالابتداء من النكرة ؟ وهذا السؤال واردٌ على سيبويه في مثل هذا . وفي قولك : " كَمْ مالك ، ومرَرْتُ بِرَجُلٍ خَيْرٍ منهُ أبُوه " فإنه يعرب " ما " الاستفهامية ، و " كم " و " أفعل " مبتدأ وما بعدها خبرها . والجواب : أنه كثر وقوع النكرة خبراً عن هذه الأشياء كثرة متزايدة ، فاطَّرد الباب ، ليجري على سنن واحدة ، هكذا أجابوا . وهذا لا ينهض مانعاً من جواز أن يكون " ما " و " كَمْ " و " أفْعَل " خبراً مقدماً ولو قيل به لم يكن خطأ ، بل أقرب إلى الصَّواب . و " الميمنة " " مَفْعَلَة " من لفظ اليمين ، وكذلك " المشأمة " من اليد الشؤمى وهي الشمال لتشاؤم العرب بها ، أو من الشُّؤم . فصل في تحرير معنى الآية قال السدي : " أصحاب الميمنةِ " هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ، و " أصحاب المَشْأمة " هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النَّار . و " المَشْأمة " : الميسرة ، وكذلك الشَّأمة ، يقال : قعد فلان شأمة . ويقال : شائم بأصحابك أي : خذ بهم شأمة أي : ذات الشمال والعرب تقول لليد الشمال : الشؤمى ، وللجانب الشمال : الأشأم . وكذلك يقال لما جاء عن اليمين : اليمن ، ولما جاء عن الشمال : الشُّؤم . قال البغوي : " ومنه سمي " الشَّام واليمن " ؛ لأن " اليمن " عن يمين الكعبة ، و " الشام " عن شمالها " . قال ابن عباس والسدي : " أصْحَابُ المَيْمَنَةِ " هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذُّرية من صلبه ، فقال الله لهم : هؤلاء في الجنة ولا أبالي . وقال زيد بن أسلم : هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن يومئذ ، وأصحاب المشأمة الذين أخذوا من شق آدم الأيسر . وقال عطاء ومحمد بن كعب : " أصْحَابُ الميمنةِ من أوتي كتابه بيمينه ، وأصحاب المشأمة من أوتي كتابه بشماله " . وقال ابن جريج : " أصحاب الميمنة " هم أصحاب الحسنات ، وأصحاب المشأمة ؛ هم أهل السيئات . وقال الحسن والربيع : " أصحاب الميمنة " الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة ، وأصحاب المشأمة : المشائيم على أنفهسم بالأعمال السيئة . وفي صحيح مسلم من حديث " الإسراء " عن أبي ذرٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فَلمَّا عَلوْنَا السَّماء الدُّنيا ، فإذَا رجلٌ عن يَمينهِ أسْودةٌ ، وعنْ يَسارِهِ أسودةٌ ، قال فإذَا نظر قبل يَمينِه ضَحِكَ ، وإذَا نَظَرَ قبلَ شمالِهِ بكَى ، قال : فقال : مَرْحَباً بالنبيِّ الصَّالحِ والابْنِ الصَّالح ، قال : فقُلْتُ : يا جِبْريلُ منْ هذَا ؟ . قال : هذا آدمُ - عليه الصلاة والسلام - وهذه الأسودةُ عن يمينه وعن شمالهِ بَنُوه فأهْلُ اليَمِينِ أهْلُ الجنَّةِ ، والأسودةُ الَّتي عن شمالهِ أهْلُ النَّارِ " وذكر الحديث . وقال المبردُ : " أصحاب الميمنة " أصحاب التقدم ، وأصحاب المشأمة أصحاب التأخُّر والعرب تقول : اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك أي : اجعلني من المتقدمين ولا تجعلني من المتأخرين . ثم عجب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } وهذا كما يقال : " زَيْدٌ مَا زَيْدٌ " ، يريد " زيد شديد " فالتكرير في { مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } ، و { مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } للتَّفخيم والتعجُّب ، كقوله : { ٱلْحَاقَّةُ مَا ٱلْحَآقَّةُ } [ الحاقة : 1 ، 2 ] ، و { ٱلْقَارِعَةُ مَا ٱلْقَارِعَةُ } [ القارعة : 1 ، 2 ] كما يقال : " زَيْدٌ ما زيدٌ " . وفي حديث أم زرع رضي الله عنها : " مالك ، وما مالك ؟ " . والمقصود : تكثير ما لأصحاب الميمنة في الثواب ، وأصحاب المشأمة من العقاب . والفاء في قوله : " فأصْحَاب " تدل على التقسيم ، وبيان ما ورد عليه التقسيم ، كأنه قال : أزواجاً ثلاثة : أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة ، والسابقون ، وبين حال كل قسم فقال : { مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } وترك التقسيم أولاً ، واكتفى بما يدل عليه بأن تُذكر الأقسام الثلاثة مع أحوالها . فإن قيل : ما الحكمة في اختيار لفظ " المشأمة " في مقابلة " الميمنة " مع أنه قال في بيان أحوالهم { وَأَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ } ؟ [ الواقعة : 41 ] . فالجواب : أنَّ اليمين وضع للجانب المعروف ، واستعملوا منها ألفاظاً في مواضع فقالوا : " هذا ميمون " تيمناً به ، ووضعوا مقابلة اليمين اليسار من الشيء اليسير إشارة إلى ضعفه ، ولفظ الشمال في مقابلته ، واستعملوا منه ألفاظاً تشاؤماً به ، فذكر " المشأمة " [ في ] مقابلة [ " الميمنة " ] [ وذكر الشمال في مقابلة اليمين ] فاستعمل كل لفظ مع ما يقابله . قوله : { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ } . فيه أوجه : أحدها : أنها مبتدأ وخبر ، وفي ذلك تأويلان : أحدهما : أنه بمعنى : السابقون هم الذين اشتهرت حالتهم بذلك . كقولهم : " أنت أنت ، والناس الناس " . وقوله : [ الرجز ] @ 4671 - أنَا أبُو النَّجْمِ وشِعْرِي شِعْرِي @@ وهذا يقال في تعظيم الأمر وتفخيمه ، وهو مذهب سيبويه . التأويل الثاني : أن متعلق السابقين مختلف ؛ إذ التقدير : والسَّابقون إلى الإيمان السابقون إلى الجنة ، أو السابقون إلى طاعة الله السَّابقون إلى رحمته ، أو السابقون إلى الخير السابقون إلى الجنَّة . الوجه الثاني : أن يكون السَّابقون الثاني تأكيداً للأول تأكيداً لفظيًّا ، و " أولئك المُقرَّبُون " جملة ابتدائية في موضع خبر الأول ، والرابط : اسم الإشارة ، كقوله تعالى : { وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ } [ الأعراف : 26 ] ، في قراءة برفع " لِبَاس " في أحد الأوجه . الثالث : أن يكون " السابقون " الثاني نعتاً للأول ، والخبر الجملة المذكورة . وهذا ينبغي ألا يعرج عليه ، كيف يوصف الشيء بلفظه ، وأي فائدة في ذلك ؟ . قال شهاب الدين : والأقرب عندي إن وردت هذه العبارة ممن يعتبر أن يكون سمى التَّأكيد صفة ، وقد فعل سيبويه قريباً من هذا . الرابع : أن يكون الوقف [ على قوله ] " والسَّابقون " ، ويكون قوله { السَّابقون ، أولئك المقربون } ابتداء وخبراً . وهذا يقتضي أن يعطف " والسَّابقون " على ما قبله ، لكن لا يليق عطفه على ما قبله ، وإنما يليق عطفه على أصحاب الميمنة ، كأنه قيل : وأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة والسابقون ، أي : وما السابقون ؟ تعظيماً لهم ، فيكونون شركاء أصحاب الميمنة في التعظيم ، ويكون قوله على هذا : { وأصحاب المَشْأمة ما أصحاب المشأمة } اعتراضاً بين المتعاطفين ، وفي هذا الوجه تكلف كثير جداً . فصل في المراد بالسابقين قال عليه الصلاة والسلام : " السَّابقُون الَّذينَ إذَا أعْطُوا الحقَّ قبلوهُ ، وإذا سُئِلُوه بذلُوهُ ، وحَكمُوا للنَّاسِ كحُكْمِهِمْ لأنفُسِهِمْ " . ذكره المهدوي . وقال محمد بن كعب القرظي : هم الأنبياء . وقال الحسن وقتادة : هم السابقون إلى الإيمان من كل أمة . وقال محمد بن سيرين : هم الذين صلّوا إلى القبلتين ، قال تعالى : { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ } [ التوبة : 100 ] . وقال مجاهد والضحاك : هم السَّابقون إلى الجهاد ، وأول الناس رواحاً إلى صلاة الفرائض في الجماعة وقال علي رضي الله عنه : هم السابقون إلى الصَّلوات الخمس . وقال سعيد بن جبير : إلى التوبة ، وأعمال البر ، قال تعالى : { وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ } [ آل عمران : 133 ] ثم أثنى عليهم فقال : { أُوْلَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } [ المؤمنون : 61 ] . وقيل : إنهم أربعة : منهم سابق أمة موسى ، وهو حزقيل مؤمن آل فرعون ، وسابق أمة عيسى ، وهو حبيب النَّجَّار صاحب " أنْطَاكية " ، وسابقان في أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهما أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - قاله ابن عباس . حكاه الماوردي . وقال شميط بن العجلان : النَّاس ثلاثة : فرجل ابتكر للخير في حداثة سنه ، ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا ، فهذا هو السَّابق المقرب ثم طول الغفلة ثم رجع بتوبته حتى ختم له بها ، فهذا من أصحاب اليمين ، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ، ثم لم يزل عليها حتى ختم له بها ، فهذا من أصحاب الشمال . وروي عن كعب قال : هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة . وقيل : هم أول الناس رواحاً إلى المسجد ، وأولهم خروجاً في سبيل الله { أولئك المقربون في جنات النعيم } . قوله : { فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } . يجوز أن يكون خبراً ثانياً ، وأن يكون حالاً من الضمير في " المُقَرَّبُون " ، وأن يكون متعلقاً به ، أي : قربوا إلى رحمة الله في جنات النعيم . ويبعد أن تكون " في " بمعنى " إلى " . وقرأ طلحة : " في جنَّةٍ " بالإفراد . وإضافة الجنة إلى النعيم من إضافة المكان إلى ما يكون فيه ، كما يقال : " دار الضِّيافة ، ودار الدَّعوة ، ودار العدل " . وذكر النعيم هنا معرفاً ، وفي آخر السورة منكراً ؛ لأن السَّابقين معلومون ، فعرفهم باللام المستغرقة لجنسهم ، وأما هنا فإنهم غير معروفين لقوله : { إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } [ الواقعة : 88 ] فجعل موضعه غير معروف ، أو يقال : إن المذكور هنا جميع السَّابقين ، ومنزلتهم أعلى المنازل ، فهي معروفة ، لأنها لا حدّ فوقها . وأما باقي المقربين فلكل واحد مرتبة ودرجة ، فمنازلهم متفاوتة ، فهم في جنات متباينة في المنزلة ، لا يجمعها صفة ، فلم يعرفها . قوله : { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } . " ثلّة " خبر مبتدأ مضمر ، أي " هم " . ويجوز أن يكون مبتدأ خبره مضمر ، أي منهم ثلّة . أي : من السابقين ، يعني أن التقسيم وقع [ بينهم ] . وأن يكون مبتدأ خبره { فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } . أو قوله : { عَلَىٰ سُرُرٍ } . فهذه أربعة أوجه . و " الثُلّة " : الجماعة من الناس ، وقيدها الزمخشري بالكثيرة . وأنشد : [ الطويل ] @ 4672 - وجَاءَتْ إليْهِمْ ثُلَّةٌ خِندفيَّةٌ بِجَيْشٍ كتيَّارٍ من البَحْرِ مُزْبدِ @@ ولم يقيدها غيره ، بل صرح بأنها الجماعة قلّت أو كثرت . وقال الرَّاغب : الثلّة : قطعة مجتمعة من الصُّوف ؛ ولذلك قيل للمقيم : " ثَلَّة " يعني بفتح الثَّاء . ومنه قوله : [ الرجز ] @ 4673 - أمْرَعَتِ الأرْضُ لَوْ انّ مالا لوْ أنَّ نُوقاً لَكَ أو جِمَالا أوْ ثلَّةً مِنْ غَنَمٍ إمَّا لا @@ انتهى . ثم قال : " ولاعتبار الاجتماع ، قيل : { ثلّة من الأولين ، وثلّة من الآخرين } أي جماعة ، وثللت كذا : تناولت ثلّة منه ، وثلَّ عرشُه : أسقط ثلّة منه والثّلل : قصر الأسنان لسقوط ثلَّة منها ، وأثل فمُه : سقطت ، وتَثَلَّلَتِ الرُّكبَة : تَهَدَّمت " انتهى . فقد أطلق أنها الجماعة من غير قيد بقلّة ولا بكثرة . والكثرة التي فهمها الزمخشري قد تكون من السياق . وقال الزجاج : الثلّة : الفرقة . و " مِنَ الأوَّلِينَ " صفة لـ " ثُلَّة " ، وكذلك " من الآخرين " صفة لـ " قَلِيل " . فصل في المراد بقوله : ثلّة من الأوّلين قوله تعالى : { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } . أي جماعة من الأمم الماضية . { وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } أي : ممن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم قال الحسن : " ثُلَّةٌ " ممن قد مضى قبل هذه الأمة ، " وقليلٌ " من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اللهم اجعلنا منهم بكرمك . وسموا قليلاً بالإضافة إلى من كان قبلهم ؛ لأن الأنبياء المتقدمين كثروا ، فكثر السابقون إلى الإيمان بهم ، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمتنا . ( قيل : لما نزلت هذه الآية شقَّ على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ) فنزلت { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنِّي لأرجُو أن تكُونُوا رُبْعَ أهْلِ الجنَّةِ ، بَلْ نِصْف أهلِ الجنَّة ، وتُقاسِمُونهُم في النِّصْفِ الثانِي " رواه أبو هريرة ذكره الماوردي وغيره ، ومعناه ثابت في " صحيح مسلم " ، من حديث عبد الله بن مسعود ، وكأنه أراد أنها منسوخة . قال ابن الخطيب : وهذا في غاية الضعف من وجوه : أحدها : أن عدد أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان في ذلك الزمان ، بل إلى آخر الزمان بالنسبة إلى ما مضى في غاية القلة ، فالمراد بالأولين : الأنبياء وكبار أصحابهم ، وهم إذا جمعوا أكثر من السَّابقين من هذه الأمة . الثاني : أن هذا خبر ، والخبر لا ينسخ . الثالث : أن هذه الآية في السَّابقين ، والتي بعدها في أصحاب اليمين . الرابع : أنه إذا جعل قليل منهم مع الأنبياء والرسل المتقدمين كانوا في درجة واحدة ، وذلك يوجب الفرح ؛ لأنه إنعام عظيم ، ولعلّ الإشارة إليه بقوله عليه الصلاة والسلام : " عُلَمَاءُ أمَّتِي كأنْبِيَاءِ بَنِي إسْرائِيْلَ " . قال القرطبي : " والأشبه أنها محكمة ؛ لأنها خبر ، والخبر لا ينسخ ؛ لأن ذلك في جماعتين مختلفتين " . قال الحسن : سابقو من مضى أكثر من سابقينا ، فلذلك قال : { وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } ، وقال في أصحاب اليمين ، وهم سوى السابقين : { ثلّة من الأولين وثلّة من الآخرين } . ولذلك [ قال عليه الصلاة والسلام : " إنِّي لأرجُو أن تكُونَ أمَّتِي شطْرَ أهْلِ الجنَّةِ " ، ثم تلا : { ثلة من الأولين ، وثلة من الآخرين } ] . وقال أبو بكر رضي الله عنه : كلا الثُّلتين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فمنهم من هو في أول أمته ، ومنهم من هو في آخرها . وهو مثل قوله تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ } [ فاطر : 32 ] . وقيل : المراد { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، فإن أكثرهم لهم الدَّرجة العليا ، كما قال تعالى : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ } [ الحديد : 10 ] . { وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } لحقوهم ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " خَيْرُكُمْ قرني ثم الذينَ يَلُونَهُم " ثم سوى في أصحاب اليمين بين الأولين والآخرين . قال ابن الخطيب : وعلى هذا فقوله : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } يكون خطاباً مع الموجودين وقت التنزيل ، ولا يكون فيه بيان الأولين الذين كانوا قبل نبينا - عليه الصلاة والسلام - وهذا ظاهر ؛ لأن الخطاب لا يتعلق إلاَّ بالموجودين من حيث اللفظ ، ويدخل فيه غيره بالدليل . ووجه آخر : أن المراد بالأولين الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وبالآخرين ، أي : ذرياتهم الملحقون بهم في قوله تعالى : { وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [ الطور : 21 ] . وقال الزَّجَّاج : الذين عاينوا جميع النبيين من لدُن آدم وصدقوهم أكثر مما عاين النبي صلى الله عليه وسلم . قوله تعالى : { عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } . أي : السَّابقون في الجنة على سرر ، أي : مجالسهم على سُرر ، جمع سرير . وقرأ زيد بن علي ، وأبو السمال : " سُرَر " بفتح الراء الأولى وقد تقدم أنها لغة لبعض بني " كلب " و " تميم " . و " المَوضُونَة " : قال ابن عباس : منسوجة بالذهب . وقال عكرمة : مشبكة بالدُّر والياقوت . وعن ابن عباس أيضاً : " مَوضُونةٌ " أي : مصفوفة ، لقوله تعالى في موضع : { عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ } [ الطور : 20 ] . وعنه ، وعن مجاهد أيضاً : مرمُولة بالذهب . وقيل : " مَوضُونة " : منسوجة بقضبان الذهب مُشَبَّكةٌ بالدّر والياقوت . و " الموضونة " : المنسوجة ، وأصله من وضَنْتُ الشَّيء ، أي ركبته بعضه على بعض . ومنه قيل للدِّرع : " موضونة " ؛ لتراكب حلقها . قال الأعشى : المتقارب ] @ 4674 - ومِنْ نَسْجِ دَاوُدَ موضُونَةً تَسِيرُ مَعَ الحَيِّ عِيراً فَعِيرَا @@ وعنه أيضاً : وضِينُ الناقة ، وهو حِزامُهَا لتراكُب طاقاته ؛ قال : [ الرجز ] @ 4675 - إلَيْكَ تَعْدُو قَلِقاً وضينُهَا مُعْتَرِضاً فِي بَطْنِهَا جَنينُهَا مُخَالِفاً دينَ النَّصارَى دِينُهَا @@ وقال الرَّاغب : " الوَضْن : نسْج الدِّرع ، ويستعار لكلّ نسج محكم " . فجعله أصلاً في نسيج الدروع . وقال الآخر : [ الوافر ] @ 4676 - أقُولُ وقَدْ دَرَأتُ لَهَا وَضِيني أهَذَا دِينُهُ أبداً وَدِينِي ؟ @@ أي حزامي . و " الوضينُ " : هو الحَبْل العريض الذي يكون منه الحَزْم لقوّة سداه ولُحْمته ، والسرير الموضون الذي سطحه بمنزلة المنسوج . قال القرطبي " ومنه الوضين بطانٌ من سُيُور ينسج ، فيدخل بعضه في بعض " . قوله : { مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ } . حالان من الضمير في " عَلى سُرُرٍ " . ويجوز أن تكون حالاً متداخلة ، فيكون " متقابلين " حالاً من ضمير " مُتَّكئِينَ " . فصل في معنى الآية " مُتَّكِئينَ " على السّرر ، " مُتَقَابلينَ " لا يرى بعضهم قفا بعض ، بل تدور بهم الأسرَّة . والمعنى : أنهم كائنون على سُرر متكئين على غيرها كحال من يكون على كرسي ، فيوضع تحته شيء آخر للاتِّكاء عليه . قال مجاهد وغيره : هذا في المؤمن وزوجته وأهله ، أي : يتكئون متقابلين . قال الكلبي : طول كل سرير ثلاثمائة ذراع ، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت ، فإذا جلس عليها ارتفعت . قوله : { يَطُوفُ } . يجوز أن يكون حالاً ، وأن يكون استئنافاً . { وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } أي : غلمان لا يموتون . قاله مجاهد . والمعنى : لا موت لهم ولا فناء ، أو بمعنى لا يتغير حالهم ، ويبقون صغاراً دائماً . وقال الحسن والكلبي : لا يهرمُون ولا يتغيرون . ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ] @ 4677 - وهَلْ يَنْعَمَنْ إلاَّ سَعِيدٌ مُخَلَّدٌ قَلِيلُ الهُمُومِ ما يَبِيتُ بأوْجَالِ @@ وقال سعيد بن جبير : " مخلّدون " مُقَرَّطُون . يقال للقُرْط : الخَلَدة ، ولجماعة الحُلِيّ : الخِلدة . وقيل : مسوَّرون ، ونحوه عن الفراء . قال الشاعر : [ الكامل ] @ 4678 - ومُخَلَّداتٍ باللُّجَيْنِ كأنَّمَا أعْجَازُهُنَّ أقَاوِزُ الكُثْبَانِ @@ وقيل : مقرطون ، يعني : مُمَنْطَقُون من المناطق . وقال عكرمة : " مخلّدون " منعمون . وقيل : على سنٍّ واحدة ، أنشأهم الله لأهل الجنة يطوفون عليهم ، كما شاء من غير ولادة ؛ لأن الجنة لا ولادة فيها . وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والحسن البصري : " الوِلْدَان " هاهنا ولدان المسلمين الذين يموتون صغاراً ، ولا حسنة لهم ولا سيّئة . وقال سلمان الفارسي : أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة . قال الحسن : لم يكن لهم حسنات يجازون بها ، ولا سيئات يعاقبون عليها ، فوضعوا هذا الموضع ، والمقصود أن أهل الجنة على أتم السرور والنعمة . قوله : " بِأكْوَابٍ " متعلق بـ " يَطُوفُ " . و " الأكواب " : جمع كوب ، وهي الآنيةُ التي لا عُرَى لها ولا خراطيم ، وقد مضت في " الزخرف " و " الأباريق " : جمع إبريق ، وهي التي لها عُرَى وخراطيم ، واحدها : إبريق ، وهو من آنِيَة الخَمْر ، سُمِّيَ بذلك لبريق لونه من صفائه . قال الشاعر : [ البسيط ] @ 4679 - أفْنَى تِلادِي ومَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ قَرْعُ القَوارِيرِ أفْواهُ الأبَارِيقِ @@ وقال عديُّ بن زيد : [ الخفيف ] @ 4680 - وتَدَاعَوْا إلى الصَّبُوح فَقَامَتْ قَيْنَةٌ فِي يَمينهَا إبْرِيقُ @@ وقال آخر : [ البسيط ] @ 4681 - كَأنَّ إبْرِيقَهُمْ ظَبْيٌ على شَرَفٍ مُقَدَّمٌ بِسَبَا الكتَّانِ مَلْثُومُ @@ ووزنه " إفْعِيل " لاشتقاقه من البريق . قوله : { وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } تقدم في " الصافات " . و " المعين " : الجاري من ماء أو خمر ، غير أن المراد هنا الخمر الجارية من العيون . وقيل : الظاهرة ، فيكون " مَعِين " مفعول من المعاينة . وقيل : هو " فَعِيل " من المَعْنِ ، وهو الكثرة . قال ابن الخطيب : هو مأخوذ من مَعن الماء إذا جرى . وقيل : بمعنى " مَفْعُول " ، فيكون من " عانه " إذا شخصه بعينه وميزه . قال : والأول أظهر ؛ لأن المعيون يوهم بأنه معيوب . يقال : ضربني بعينه أي : أصابني بعينه ؛ ولأن الوصف [ بالمفعول ] لا فائدة فيه . وأما الجريان في المشروب فإن كان في الماء فهو صفة مدح ، وإن كان في غيره ، فهو أمر عجيب لا يوجد في الدنيا ، فيكون كقوله تعالى : { وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } [ محمد : 15 ] وبين أنها ليست كخمر الدُّنيا يستخرج بتكلف ومعالجة . فإن قيل : كيف جمع الأكواب والأباريق ، وأفرد الكأس ؟ . فالجواب : أن ذلك على عادة أهل الشرب فإنهم يعدون الخمر في أوان كبيرة ، ويشربون بكأس واحدةٍ ، وفيها مباهاتهم لأهل الدنيا من حيث إنهم يطوفون بالأكواب والأباريق ، ولا ينتقل عليهم ، بخلاف الدنيا ، أو يقال : إنما أفردت الكأس لأنها إنما تُسَمَّى كأساً إذا كانت مملوءة ، فالمراد اتخاذ المشروب الذي فيها ، وأخر الكأس مناسبة لاتصاله بالشُّرب . قوله : { لاَّ يُصَدَّعُونَ } . يجوز أن تكون مستأنفة ، أخبر عنهم بذلك . وأن تكون حالاً من الضمير في " عليهم " . ومعنى { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } أي : بسببها . قال الزمخشري : وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها . والصُّدَاع ؛ هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان في رأسه ، والخمر تؤثر فيه . قال علقمةُ بن عبدة في وصف الخمر : [ البسيط ] @ 4682 - تَشْفِي الصُّدَاعَ ولا يُؤذيكَ حَالبُهَا ولا يُخالِطُهَا في الرَّأسِ تدويمُ @@ قال أبو حيان : هذه صفة خمر أهل الجنة ، كذا قال الشيخ أبو جعفر بن الزبير لما قرأت هذا الدِّيوان عليه . والمعنى لا يتصدع رءوسهم من شربها ، أي : أنها لذة بلا أذى ، بخلاف شراب الدنيا . وقيل : " لا يُصدَّعون " لا يتفرَّقُون كما يتفرق الشرب من الشراب للعوارض الدنيوية ، ومن مجيء " تصدع " بمعنى : تفرق ، قوله : فتصدع السحاب عن المدينة ، أي : تفرق . ويرجحه قراءة مجاهد : " لا يَصَّدعون " بفتح الياء وتشديد الصاد . والأصل : " لا يتصدعون " أي : لا يتفرقون ، كقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] . وحكى الزمخشري قراءة ، وهي : " لا يُصدِّعُون " بضم الياء ، وتخفيف الصَّاد ، وكسر الدَّال مشددة . قال : " أي لا يصدع بعضهم بعضاً ، لا يفرقونهم " . قوله : { وَلاَ يُنزِفُونَ } . تقدم الخلاف بين السبعة في " يُنْزِفُون " ، وتفسيره في " والصّافات " . وقرأ ابن إسحاق : بفتح الياء وكسر الزاي من نزف البئر ، إذا استقى ما فيها . والمعنى لا ينفدُ خمرهم . ومنه قول الشاعر : [ الطويل ] @ 4683 - لَعَمْرِي لَئِنْ أنْزَفْتُمُ أو صَحَوْتُمُ لَبِئْسَ النَّدامَى كُنْتُم آل أبْجَرَا @@ وقال أبو حيان : " وابن أبي إسحاق وعبد الله والجحدري والأعمش وطلحة وعيسى : بضم الياء وكسر الزاي ، أي : لا يقيء شرابهم " . قال شهاب الدين : وهذا عجيب منه فإنه قد تقدم في " الصَّافات " أنَّ الكوفيين يقرءون في " الواقعة " بكسر الزاي ، وقد نقل هو هذه القراءة في قصيدته . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : في الخمر أربع خصال : السُّكر ، والصُّداع ، والقَيء ، والبَوْل ، وقد نزّه الله - تعالى - خمر الجنة عن هذه الخصال . قوله : { وَفَاكِهَةٍ } . العامة على جر " فَاكِهَةٍ ولحْمٍ " عطفاً على " أكْوابٍ " . أي : يطوفون عليهم بهذه الأشياء المأكول والمشروب والمتفكه به ، وهذا كقوله : { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] . فإن قيل : الفاكهة لا يطوف بها الولدان ، والعطف يقتضي ذلك ؟ . فالجواب : أن الفاكهة واللحم في الدنيا يطلبان في حال الشرب فجاز أن يطوف بهما الولدان [ هنا ] فيناولونهم الفواكه الغريبة ، واللحوم العجيبة لا للأكل ، بل للإكرام ، كما يصنع المكرم للضيف أنواع الفواكه بيده ، أو يكون معطوفاً على المعنى في قوله : { جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } أي : مقربون في جنَّات ، وفاكهة ، ولحم ، وحور ، أي : في هذه النِّعم يتقلَّبون [ عليهم بهذه الأشياء : المأكول ، والمشروب ، والمتفكه ] . وقرأ زيد بن علي ، وأبو عبد الرحمن - رضي الله عنهم - ، برفعهما على الابتداء ، والخبر مقدر ، أي : ولهم كذا . والمعنى يتخيّرون ما شاءوا من الفواكه لكثرتها . وقيل : المعنى : وفاكهة متخيرة مرضية ، والتخير : الاختيار . وقوله : { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } . قال ابن عبَّاس : يخطر على قلبه لحم الطَّير ، فيصير ممتثلاً بين يديه على ما اشتهى ، ثم يطير فيذهب . قوله : { وَحُورٌ عِينٌ } . قرأ الأخوان : بجرّ " حُورٍ عينٍ " . والباقون : برفعهما . والنخعي : " وحيرٍ عينٍ " بقلب الواو ياء وجرهما . وأبيّ وعبد الله قال القرطبي والأشهب العقيلي وعيسى بن عمر الثقفي ، وهو كذلك في مصحف أبيّ : " وحُوراً عيناً " بنصبهما . فأما الجر فمن أوجه : أحدها : أنه عطف على " جنَّات النَّعيم " كأنه قيل : هم في جنات وفاكهة ولحم وحور ؛ قاله الزمخشري . قال أبو حيان : " وهذا فيه بعد وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض ، وهو فهم أعجمي " . قال شهاب الدين : " والذي ذهب إليه الزمخشري معنى حسن جدًّا ، وهو على حذف مضاف أي : وفي مقارنة حور ، وهو الذي عناه الزمخشري ، وقد صرح غيره بتقدير هذا المضاف " . وقال الفرَّاء : الجر على الإتباع في اللفظ ، وإن اختلفا في المعنى ؛ لأن الحور لا يُطاف بهنّ . قال الشاعر : [ الوافر ] @ 4684 - إذَا مَا الغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْماً وزَجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا @@ والعين لا تُزَجَّجُ ، وإنَّما تُكَحَّل . وقال آخر : [ مجزوء الكامل ] @ 4685 - ورَأيْتُ زَوْجَكِ في الوَغَى مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحَا @@ الثاني : أنه معطوف على " بِأكْوَابٍ " ، وذلك بتجوّز في قوله : " يَطُوفُ " ؛ إذ معناه ينعمون فيها بأكواب ، وبكذا ، وبحور . قاله الزمخشري . الثالث : أنه معطوف عليه حقيقة ، وأن الولدان يطوفون عليهم بالحور أيضاً فإن فيه لذة لهم إذا طافوا عليهم بالمأكول ؛ والمشروب ، والمتفكه به ، والمنكوح ، وإلى هذا ذهب أبو عمرو بن العلاء وقطرب . ولا التفات إلى قول أبي البقاء : عطفاً على " أكْوَاب " في اللَّفظ دون المعنى ؛ لأن الحور لا يُطافُ بها . وأما الرَّفْع فمن أوجه : أحدها : عطفاً على " ولْدَان " . أي : أن الحور يطفن عليهم بذلك كالولائد في الدُّنيا . وقال أبو البقاء : " أي يَطُفْن عليهم للتَّنعيم لا للخِدْمَة " . قال شهاب الدين : " وهو للخدمة أبلغ ؛ لأنهم إذا خدمهم مثل أولئك ، فما الظَّن بالمَوطُوءَات " . الثاني : أن يعطف على الضمير المستكنّ في " متكئين " ، وسوغ ذلك الفصل بما بينهما . الثالث : أن يعطف على مبتدأ وخبر حذفا معاً ، تقديره : " لهم هذا كله وحور عين " قاله أبو حيَّان . وفيه نظر ؛ لأنه إنما يعطف على المبتدأ وحده ، وذلك الخبر له ، ولما عطف هو عليه . الرابع : أن يكون مبتدأ خبره مضمر ، تقديره : ولهم ، أو فيها ، أو ثمَّ حور . وقال الزمخشري : " عطف على وفيها حور عين ، كبيت الكتاب " . يريد : كتاب سيبويه ، والمرادُ بالبيت قولهُ : [ الكامل ] @ 4686 - بَادَتْ وغَيَّرَ آيَهُنَّ مَعَ البِلَى إلاَّ رَواكِدَ جَمْرُهُنَّ هَبَاء ومُشَجَّجٌ أمَّا سواءُ قَذالِهِ فَبَدا وغيَّر سارهُ المَعْزاءُ @@ عطف " مشجج " وهو مرفوع على " رواكد " ، وهو منصوب . الخامس : أن يكون خبراً لمبتدأ مضمر ، أي : نساؤهم حور . قاله أبو البقاء . قال الكسائي : ومن قال : " وحُورٌ عينٌ " بالرَّفع ، وعلل بأنه لا يطاف بهن يلزمه ذلك في " فَاكِهَةٍ ولحْمٍ " ؛ لأن ذلك لا يطاف به ، وليس يطاف إلاَّ بالخمر وحدها . وأما النصب ففيه وجهان : أحدهما : أنه منصوب بإضمار فعل ، أي : يعطون ، أو يؤتون حوراً . والثاني : أن يكون محمولاً على معنى " يطُوفُ عَليْهِمْ " ؛ لأن معناه : يعطون كذا وكذا ، فعطف هذا عليه . وقال مكي : " ويجوز النَّصب على أن يحمل أيضاً على المعنى ؛ لأن معنى " يطوف عليهم ولدان " بكذا وكذا ، أي : يعطون كذا وكذا ، ثم عطف " حوراً " على معناه " ، فكأنه لم يطلع [ على أنها ] قراءة . وأمَّا قراءة : " وحِيرٍ " فلمُجاورتها " عِين " ، ولأن الياء أخف من الواو ، ونظيره في التَّعبير للمجاورة قولهم : " أخذه ما قدُم وما حدُث " - بضم دال - " حدُث " لأجل " قَدُم " ، وإذا أفرد منه فتحت داله فقط . وقوله عليه الصلاة والسلام : " ورَبَّ السَّمواتِ وما أظْلَلْنَ ، وربَّ الشَّياطين ومنْ أضْلَلْن " . [ وقوله : " أيَّتُكُنَّ صاحبةُ الجملِ الأدْبَبِ ، يَنْبَحُها كلاب الحوْأب " ، فكَّ الأدبب لأجل الحَوأبِ ] . وقرأ قتادة : " وحورُ عِينٍ " بالرفع والإضافة لـ " عين " . وابن مقسم : بالنَّصب والإضافة . وقد تقدم توجيه الرفع والنَّصْب . وأما بالإضافة : فمن إضافة الموصوف لصفته مؤولاً . وقرأ عكرمة : [ " وحَوْرَاء عَيْنَاء " بإفرادهما على إرادة الجنس ] . وهذه القراءة تحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون نصباً كقراءة عبد الله وأبيٍّ . وأن يكون جرًّا كقراءة الأخوين ؛ لأن هذين الاسمين لا يتصرَّفان ، فهما محتملان للوجهين . وتقدم الكلام في اشتقاق العين . " كأمْثَال " : صفة ، أو حال . و " جزاءً " : مفعول من أجله ، أو مصدر ، أي : يحزون جزاء . فصل في تفسير الآية قال المفسرون : " حورٌ " بيض ، " عينٌ " ضخام الأعين ، { كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } أي المخزون في الصدف لم تمسّه الأيدي ، ولم يقع عليه الغبار ، فهو أشدّ ما يكون صفاء . وقوله : { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } . قالت المعتزلة : هذا يدلُّ على أن يقال : الثواب واجب على الله - تعالى - لأن الجزاء لا يجوز الإخلال به . وأجيبوا بأنه لو صح ما ذكروا لما كان في الوعد بهذه الأشياء فائدة ؛ لأن العقل إذا حكم بأن ترك الجزاء قبيح ، وعلم بالعقل أن القبيح من الله تعالى لا يوجد ، علم أن الله تعالى يعطي هذه الأشياء ، لأنها أجزية ، وإيصال الثَّواب واجب ، وأيضاً فكان لا يصح التمدّح به . قوله : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } . قال ابن عبَّاس : باطلاً وكذباً . و " اللَّغْو " : ما يلغى من الكلام . و " التأثيم " : مصدر أثمته ، أي : قلت له : أثمت . قال محمد بن كعب : " ولا تأثيماً " ، أي : لا يؤثم بعضهم بعضاً . وقال مجاهد : { لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً } : شتماً ولا مأثماً . قوله : " إلاَّ قيلاً " ، فيه قولان : أحدهما : أنه استثناء منقطع ، وهذا واضح ؛ لأنه لم يندرج تحت اللغو والتأثيم . والثاني : أنه متصل . وفيه بعد ، وكأن هذا رأى أن الأصل : لا يسمعون فيها كلاماً ، فاندرج عنده فيه . وقال مكّي : وقيل : منصوب بـ " يَسْمَعُون " . وكأنه أراد هذا القول . قوله : { سَلاَماً سَلاَماً } . فيه أوجه : أحدها : أنه بدل من " قيلاً " أي : لا يسمعون فيها إلا سلاماً سلاماً . الثاني : أنه نعت لـ " قيلاً " . الثالث : أنه منصوب بنفس " قيلاً " ، أي : إلاَّ أن يقولوا : سلاماً سلاماً ، وهو قول الزَّجَّاج . الرابع : أن يكون منصوباً بفعل مقدّر ، ذلك الفعل محكيّ بـ " قيلاً " تقديره : إلا قيلاً سلموا سلاماً . وقرىء : " سلامٌ " بالرفع . قال الزمخشري : " على الحِكايَةِ " . قال مكي : " ويجوز أن يكون في الكلام الرفع على معنى " سلام عليكم " ابتداء وخبر " وكأنه لم يعرفها قراءة . فصل في معنى الآية معنى " قيلاً سلاماً " أي : قولاً سلاماً . وقال عطاء : يُحَيِّي بعضهم بعضاً بالسَّلام . قال القرطبي : " والسَّلام الثاني بدل من الأول ، والمعنى : إلا قيلاً يسلم فيه من اللغو ، وقيل : تحييهم الملائكة ، أو يحييهم ربهم عزَّ وجلَّ " . وكرَّر السَّلام إشارة إلى كثرة السلام عليهم ، ولهذا لم يكرر قوله : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] . و " القيل " مصدر كالقول . قال ابن الخطيب : فيكون " قيلاً " مصدراً ، لكن لا نظير له في " باب " فعل يفعل من الأجوف . وقيل : إنه اسم ، والقول مصدر .