Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 56, Ayat: 75-82)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } . قرأ العامة : " فَلاَ " لام ألف . وفيه أوجه : أحدها : أنها حرف نفي ، وأنَّ النفي بها محذوف ، وهو كلام الكافر الجاحد ، تقديره : فلا حجة لما يقول الكُفَّار ، ثم ذكر ابتداء قسماً بما ذكر . وإليه ذهب كثير من المفسِّرين والنحويين . قال الفرَّاء : " هي نفي ، والمعنى : ليس الأمر كما تقولون ، ثم استأنف [ القسم ] ، كما تقول : " لا والله ما كان كذا " ولا يريد به نفي اليمين ، بل يريد به نفي كلام تقدم ، أي : ليس الأمر كما ذكر ، بل هو كذا " . وضعِّف هذا بأن فيه حذف اسم " لا " وخبرها . قال أبو حيَّان : " ولا يجوز ولا ينبغي ، فإنَّ القائل بذلك مثل سعيد بن جبير تلميذ خبر القرآن وبحره عبد الله بن عباس . ويبعد أن يقوله إلا بتوقيفٍ " . الثاني : أنَّها زائدة للتأكيد . والمعنى : فأقسم ، بدليل قوله : وإنه لقسم ، ومثله في قوله تعالى : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] ، والتقدير : ليعلم . وكقوله : [ الطويل ] @ 4706 - فَلاَ وأبِي أعْدائِهَا لا أخُونُهَا @@ الثالث : أنها لام الابتداء ، والأصل : فلأقسم ، فأشبعت الفتحة ، فتولّد منها ألف . كقوله : [ الرجز ] @ 4707 - أعُوذُ باللَّهِ مِنَ العَقْرَابِ @@ قاله أبو حيَّان . واستشهد بقراءة هشام : " أفئيدة " . قال شهاب الدين : " وهذا ضعيف جدًّا " . واستند أيضاً لقراءة الحسن وعيسى : " فلأقسم " بلام واحدة . وفي هذه القراءة تخريجان : أحدهما : أن " اللام " لام الابتداء ، وبعدها مبتدأ محذوف ، والفعل خبره ، فلما حذف المبتدأ اتصلت " اللام " بخبره ، وتقديره : " فلأنا أقسم " نحو : " لزيد منطلق " . قاله الزمخشري وابن جني . والثاني : أنها لام القسم دخلت على الفعل الحالي ، ويجوز أن يكون القسم جواباً للقسم ، كقوله : { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَآ } [ التوبة : 107 ] ، وهو جواب لقسم مقدر ويجوز أن يكون القسم كذلك وهذا هو قول الكوفيين ، يجيزون أن يقسم على فعل الحال . والبصريون يأبونه ، ويخرجون ما يوهم ذلك على إضمار مبتدأ ، فيعود القسم على جملة اسمية . ومنع الزمخشري أن تكون لام القسم . قال : لأمرين : أحدهما : أن حقها أن تقرن بالنون المؤكدة ، والإخلال بها ضعيف قبيحٌ . والثاني : أن " لأفعلن " في جواب القسم للاستقبال ، وفعل القسم يجب أن يكون للحال . يعني أن فعل القسم إنشاء ، والإنشاء حال . وأمَّا قوله : " إنَّ حقَّها أن تقرن بها النون " ، هذا مذهب البصريين أيضاً . وأمَّا الكوفيون فيجيزون التَّعاقب بين اللام والنون ، نحو : " والله لأضرب زيداً " كقوله : [ الطويل ] @ 4708 - لَئِنْ تَكُ قَدْ ضَاقَتْ عَليْكُم بُيُوتكُمْ ليَعْلَمُ ربِّي أنَّ بَيْتِيَ واسِعُ @@ و " الله اضربن زيداً " . كقوله : [ الكامل ] @ 4709 - وقَتِيلِ مُرَّة أثأَرَنَّ … … @@ وقد تقدم قريب من هذه الآية في قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ } [ النساء : 65 ] ، ولكن هناك ما لا يمكن القول به هنا ، كما أن هنا ما لا يمكن القول به هناك ، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - قريب منه في " القيامة " في قراءة ابن كثير : { لأُقْسِمُ بِيَومِ القِيامَةِ } [ القيامة : 1 ] . قال القرطبي : وقيل : " لا " بمعنى " ألاَ " للتنبيه ، كقوله : [ الطويل ] @ 4710 - ألا عِمْ صَبَاحاً أيُّهَا الطَّلَلُ البَالِي … @@ ونبَّه بهذا على فضيلة القرآن ليتدبروه ، فإنه ليس بشعر ، ولا سحر ، ولا كهانة كما زعموا . وقرأ العامة : " بمواقع " جمعاً . والأخوان : " بموقع " مفرداً بمعنى الجمع ؛ لأنه مصدر فوحَّد . ومواقعها : مساقطها ومغاربها . قاله قتادة وغيره . وقال الحسن : انكدارها وانتثارها يوم القيامة . وقيل : المراد نجوم القرآن . قاله ابن عباس والسدي ، ويؤيده : " وإنه لقسم " و " إنَّه لقُرآن كريم " . وقال عطاء بن أبي رباح : منازلها . وقال الضحاك : هي الأنواء التي كانت أهل الجاهلية ، تقول إذا مطروا : مطرنا بنوء كذا . وقال الماوردي : ويكون قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ } مستعملاً على الحقيقة من نفي القسم . وقال القشيري : هو قسم ، ولله أن يقسم بما يريد ، وليس لنا أن نقسم بغير الله - تعالى - وصفاته القديمة . قال القرطبي : " ويدلُّ على هذا قراءة الحسن : فلأقسم " . قوله : " وإنه قسم - لو تعلمون - عظيم " . الضمير عائد على القسم الذي تضمنه قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } ؛ لأن " أقسم " يتضمن ذكر المصدر ، ولهذا توصف المصادر التي لم تظهر بعد الفعل فيقال : " ضربته قويًّا " . فإن قيل : جواب " لو تعْلَمُونَ " ماذا ؟ . قال ابن الخطيب : ربما يقول بعض من لا يعلم بأن جوابه ما تقدم ، وهو فاسد في جميع المواضع ؛ لأن جواب الشرط لا يتقدم ؛ لأن عمل الحروف في معمولاتها لا يكون قبل وجودها ، فلا يقال : زيداً إن قام . فالجواب يحتمل وجهين : أحدهما : أن يقال : الجواب محذوف بالكلية بحيث لا يقصد لذلك جواب ، وإنما يراد نفي ما دخلت " لو " فكأنه قال : وإنه لقسمٌ عظيم لو تعلمون . وتحقيقه : أن " لو " تذكر لامتناع الشيء لامتناع غيره ، فلا بُدَّ فيه من انتفاء الأول ، فإدخال " لو " على " تعلمون " أفاد أن علمهم منتفٍ ، سواء علمنا الجزاء أم لم نعلم . وهذا كقولهم في الفعل المتعدِّي : فلان يعطي ويمنع ، حيث لا يقصد منه مفعولاً ، وإنما يراد إثبات القدرة . الثاني : أنَّ جوابه مقدر ، تقديره : لو تعلمون لعظَّمتموه ، لكنكم ما عظَّمتموه ، فعلم أنكم لا تعلمون ، إذ لو تعلمون لعظم في أعينكم ، ولا تعظيم فلا تعلمون . قوله : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } . هذا هو القسم عليه ، وعلى هذا فيكون في هذا الكلام اعتراضان : أحدهما : الاعتراض بقوله : " وإنه لقسم " بين القسم والمقسم عليه . والثاني : الاعتراض بقوله : " لو تعلمون " بين الصفة والموصوف . ومنع ابن عطية أن يجعل قوله : " وإنه لقسمٌ " اعتراضاً . فقال : " وإنه لقسم " تأكيد للأمر ، وتنبيه من المقسم به ، وليس هذا باعتراض بين الكلامين ، بل هذا معنى قصد التهكُّم به ، وإنما الاعتراض قوله : { لَّوْ تَعْلَمُونَ } . قال شهاب الدين : " وكونه تأكيداً ومنبّهاً على تعظيم المقسم به لا ينافي الاعتراض ، بل هذا معنى الاعتراض وفائدته " . " والهاء " في " إنه لقرآن " تعود على القرآن ، أي : إن القرآن لقسم عظيم . قاله ابن عبَّاس وغيره . وقيل : أي ما أقسم الله به عظيم { إنه لقرآن كريم } ذكر المقسم عليه ، أي : أقسم بمواقع النجوم أن هذا القرآن قرآن ليس بسحرٍ ولا كهانة ولا بمفترى ، بل هو قرآن كريم ، محمود جعله الله معجزة نبيه ، وهو كريم على المؤمنين ؛ لأنَّه كلام ربهم وشفاء صدورهم ، كريم على أهل السماء والأرض ؛ لأنه تنزيل ربهم ووحيه . وقيل : " كريم " أي : غير مخلوق . وقيل : " كريم " لما فيه من كرم الأخلاق ، ومعالي الأمور . وقيل : لأنه يكرم حافظه ، ويعظم قدره . فصل في تحرير معنى الآية قال ابن الخطيب : " كريم " أي : لا يهون بكثرة التلاوة ؛ لأن الكلام متى أعيد وكرر استهين به ، والقرآن يكون إلى آخر الدهر ، ولا يزداد إلاَّ عزاً . والقرآن إما كـ " الغُفْرَان " ، والمراد به المفعول ، وهو المقروء كقوله : [ هَذَا خلقُ اللَّه ] وإما اسم لما يقرأ كـ " القُرْبَان " لما يتقرب به ، والحُلْوان لما يحلى به فم الكاهن ، وعلى هذا يظهر فساد قول من رد على الفقهاء قولهم في باب الزَّكاة : يعطي شيئاً أعلى مما وجب ويأخذ الجبران أو شيئاً دونه ، ويعطي الجبران لأن الجبران مصدر لا يؤخذ ولا يعطى ، فيقال له : هو كالقرآن بمعنى المقرُوء . فمعنى " كريم " أي : مقروء ، قرىء : ويقرأ بالفتح ، فإن معنى " كريم " أي : لا يهون بكثرة التلاوة ، ويبقى أبد الدَّهر كالكلام الغضِّ ، والحديث الطَّري . وهو هنا يقع في وصف القرآن بالحديث ، مع أنه قديم يستمد من هذا مدداً ، فهو قديم يسمعه السَّامعون كأنه كلام [ الساعة ] . فصل قوله : { فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } . مصون عند الله . وقيل : " مَكْنُون " محفوظ عن الباطل ، والكتاب هنا : كتاب في السَّماء . قاله ابن عبَّاس . وقال جابر بن زيد وابن عباس أيضاً : هو اللوح المحفوظ . وقال عكرمة : التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن . وقال السدي : الزَّبُور . وقال قتادة ومجاهد : هو المصحف الذي في أيدينا . فصل في تفسير معنى الآية قال ابن الخطيب : قوله تعالى : { فِي كِتَابٍ } يستدعي شيئاً مظروفاً للكتاب وفيه وجهان : أحدهما : أنه القرآن ، أي : هو قرآن في كتاب ، كقولك : " فلان رجلٌ كريم في نفسه " لا يشك السامع بأن المراد منه أن في الدَّار قاعد ، وأنه لا يريد به أنه رجل إذا كان في الدَّار غير رجل إذا كان خارجاً ، ولا يشك أيضاً أنه لا يريد أنه كريم وهو في البيت ، فكذلك هاهنا معناه : أنه كريم في كتاب . فإذا قيل : " فلان رجل كريم في نفسه " يعلم كل أحد أن القائل لم يجعله رجلاً مظروفاً ، وأن القائل لم يرد أنه رجل في نفسه قاعد أو قائم ، وإنما أراد أن كرمه في نفسه ، وكذا قوله : " قرآن كريم ، في لوح " أي : أنه لم يكن كريماً عند الكُفَّار . الثاني : أن المظروف هو مجموع قوله تعالى : { لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } أي : هو كذا في كتاب كقوله تعالى { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ } [ المطففين : 19 ] ، كتاب أي : في كتاب الله تعالى . والمعنى : أن في اللوح المحفوظ مكتوب : إنه قرآن كريم . فصل في معنى الكتاب قال ابن الخطيب : فإن قيل : كيف سمي الكتاب كتاباً ، والكتاب " فِعَال " وهو إما مصدر كالحِساب والقِيام ونحوهما ، أو لما يكتب كاللِّباس ونحوه ، وكيفما كان ، فالقرآن لا يكون في القِرْطَاس ؛ لأنه بمعنى المصدر ، ولا يكون في مكتوب ، وإنما يكون مكتوباً في لوح ، أو ورق ، فالمكتوب لا يكون في الكتاب ، وإنما يكون في القرطاس ؟ . وأجاب بأن اللوح لما لم يكن إلاَّ لأن يكتب فيه صح تسميته كتاباً . وقوله : { فِي كِتَابٍ } إما خبر بعد خبر ، وإما صفة لـ " كريم " ، وإما معمول لـ " كريم " . والأصح أنَّ الكتاب المكنون هو اللوحُ المحفوظ ، لقوله تعالى : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [ البروج : 21 ، 22 ] . قوله : { لاَّ يَمَسُّهُ } . في " لا " هذه وجهان : أحدهما : أنها نافية ، فالضمة في " لا يمسُّه " ضمة إعراب . وعلى هذا القول ففي الجملة وجهان : أحدهما : أن محلها الجر صفة لـ " كتاب " ، والمراد به : إما اللوح المحفوظ ، و " المُطَهَّرون " حينئذ : الملائكة ، أو المراد به المصاحف ، والمراد بـ " المطهرين " : المكلفون كلهم . والثاني : أن محلها الرفع صفة لـ " قرآن " . والمراد بـ " المطهرين " : الملائكة فقط ، أي : لا يطلع عليه ، أو لا يمسّ لوحه ، لا بد من هذين التجوزين ؛ لأن نسبة المسّ إلى المعاني حقيقة متعذّر . ويؤيد كون هذه نفياً قراءة عبد الله : " ما يمسّه " بـ " ما " النافية . الوجه الثاني : أنها ناهية ، والفعل بعدها مجزوم ؛ لأنه لو فكّ عن الإدغام لظهر ذلك فيه ، كقوله تعالى : { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوۤءٌ } [ آل عمران : 174 ] ولكنه أدغم ، ولما أدغم حرك آخره بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب . ولم يحفظ سيبويه في نحو هذا إلا الضم . وفي الحديث : " إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عليك إلاَّ أنَّنَا حرمٌ " . وإن كان القياس يقتضي جواز فتحه تخفيفاً ، وبهذا يظهر فساد من ردّ بأن هذا لو كان نهياً لكان يقال : " لا يمسّه " بالفتح ؛ لأنه خفي عليه جواز ضم ما قبل " الهاء " في هذا النحو ، لا سيما على رأي سيبويه ، فإنه لا يجيز غيره . وقد ضعف ابن عطيَّة كونها نهياً بأنه إذا كان خبراً فهو في موضع الصفة ، وقوله بعد ذلك : " تَنْزِيل " صفة ، فإذا جعلناه نهياً كان أجنبيًّا معترضاً بين الصِّفات ، وذلك لا يحسن في وصف الكلام فتدبره ، وفي حرف ابن مسعود : " ما يمسه " . انتهى . وليس فيما ذكره ما يقتضي تضعيف هذا القول ؛ لأنا لا نسلّم أن " تنزيل " صفة ، بل هو خبر مبتدأ محذوف ، أي : " هو تنزيل " فلا يلزم ما ذكره من الاعتراض . ولئن سلّمنا أنه صفة فـ " لا يمسّه " صفة أيضاً ، فإن اعترض علينا بأنه طلب فيجاب بأنه على إضمار القول ، أي : نقول فيه : " لا يمسّه " كما قالوا ذلك في قوله : { فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ } [ الأنفال : 25 ] على أن " لا تُصِيبن " نهي . وهو كقوله : [ مشطور الرجز ] @ 4711 - جَاءُوا بمَذْقٍ هَلْ رأيْت الذِّئْبَ قَط ؟ @@ وقد تقدم تحقيقه في " الأنفال " . وهذه الآية يتعلق بها خلاف العلماء في مس المُحْدث المصحف ، وهو مبني على هذا . وقرأ العامة : " المُطَهَّرُونَ " بتخفيف الطَّاء ، وتشديد الهاء مفتوحة اسم مفعول . وعن سلمان الفارسي كذلك إلا أنه يكسر الهاء ، اسم فاعل ، أي : المطهرون أنفسهم ، فحذف مفعوله . ونافع وأبو عمرو في رواية عنهما ، وعيسى بسكون الطاء ، وفتح الهاء خفيفة اسم مفعول من " أطْهَر زيد " . والحسن وعبد الله بن عوف وسلمان أيضاً : " المطَّهِّرون " بتشديد الطَّاء والهاء المكسورة ، وأصله : " المُتطهرون " فأدغم . وقد قرىء بهذا على الأصل أيضاً . فصل في تحرير المسّ المذكور في الآية اختلفوا في المسّ المذكور في الآية ، هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى ؟ وكذلك اختلفوا في المطهرون مَنْ هم ؟ . فقال أنس وسعيد بن جبير : لا يمسّ ذلك إلاَّ المطهرون من الذنوب وهم الملائكة . وقال أبو العالية وابن زيد : هم الذين طهروا من الذنوب كالرّسل من الملائكة ، والرسل من بني آدم . وقال الكلبي : هم السَّفرة ، الكِرَام البررة ، وهذا كله قول واحد ، وهو اختيار مالك . وقال الحسن : هم الملائكة الموصوفون في سورة " عبس " في قوله تعالى : { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [ عبس : 13 - 16 ] . وقيل : معنى " لا يمسّه " لا ينزل به إلا المطهرون ، يعني : الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء ، ولا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلاَّ الملائكة المطهرون . ولو كان المراد طهر الحدث لقال : المتطهرون أو المطهرون بتشديد " الطاء " . والصحيح أن المراد بالكتاب : المصحف الذي بأيدينا ؛ لما روى مالك وغيره : أن في كتاب عمرو بن حزم : " لا يمسّ القرآنَ إلاَّ طاهرٌ " . وقال ابن عمر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تمسَّ القُرآنَ إلاَّ وأنْتَ طاهرٌ " . وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه ، وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } فقام واغتسل ، وأسلم . وعلى هذا قال قتادة وغيره : معناه : لا يمسه إلا المطهّرون من الأحداث والأنجاس . وقال الكلبي : من الشِّرْك . وقال الربيع بن أنس : من الذنوب والخطايا . وقال محمد بن فضيل وعبدة : لا يقرؤه إلا المطهرون ، أي : إلاَّ الموحدون . قال عكرمة : وكان ابن عباس ينهى أن يمكن اليهود والنصارى من قراءته . وقال الفراء : لا يجد نفعه وطعمه وبركته إلا المطهرون ، أي : المؤمنون بالقرآن ، وقال الحسين بن الفضل : معناه : لا يعرف تفسيره وتأويله إلاَّ من طهَّره الله من الشِّرْك والنفاق . وقال أبو بكر الورَّاقُ : لا يوفق للعمل به إلا السُّعداء . وروى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المعنى : لا يمسّ ثوابه إلا المؤمنون . فصل في مس المصحف لغير المتوضىء اختلف العلماء في مسِّ المصحف على غير وضوء . فالجمهور على المَنْع من مسِّه على غير طهارة لحديث عمرو بن حزم ، وهو مذهب علي ، وابن مسعود ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، وعطاء ، والزهري ، والنخعي والحكم وحماد ، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشَّافعي . واختلفت الرواية عن أبي حنيفة . فروي عنه أنه يمسّه المحدث ، وهذا مروي عن ابن عباس والشعبي وغيرهما ، وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه ، وما ليس بمكتوب . وأمَّا [ الكتاب ] فلا يمسّه إلاَّ طاهر . قال ابن العربي : وهذا يقوي الحجة عليه ؛ لأن جِرْمَ الممنوع ممنوع ، وكتاب عمرو بن حزم أقوى دليل عليه . وقال مالك : لا يحمله غير طاهر بعلامة ، ولا على وسادة . وقال أبو حنيفة : لا بأس بذلك . وروي عن الحكم وحماد وداود بن علي : أنه لا بأس بحمله ومسّه للمسلم والكافر طاهراً أو محدثاً ، إلاَّ أن داود قال : لا يجوز للمشرك حمله ، واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى " قيصر " ، ولا حجة فيه لأنه موضع ضرورة . والمراد بالقرآن : المصحف ، سمي قرآناً لقرب الجوار على الاتِّساع ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو . أراد به المصحف . قوله : { تَنزِيلٌ } . قرأ العامة : بالرفع . وقرأ بعضهم : " تنزيلاً " بالنصب ، على أنه حال من النكرة ، وجاز ذلك لتخصصها بالصفة . وأن يكون مصدراً لعامل مقدر ، أي : نزل تنزيلاً . وغلب التنزيل على القرآن . وقوله : " من ربّ " يجوز أن يتعلق به على الأول لا الثاني ؛ لأن المؤكد لا يعمل ، فيتعلق بمحذوف ؛ لأنه صفة له . وأما على قراءة " تَنزِيلٌ " بالرفع ، فيجوز الوجهان . قال القرطبي : " تنزيل " أي : منزل ، كقولهم : " ضَرْب الأمير ، ونَسْج اليمن " . وقيل : " تنزيل " صفة لقوله تعالى : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } . وقيل : خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو " تنزيل " . قال ابن الخطيب : قوله " تنزيل " مصدر ، والقرآن الذي في كتاب ليس بتنزيل ، إنما هو منزل لقوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [ الشعراء : 193 ] ، فنقول : ذكر المصدر ، وإرادة المفعول كثير ، كقوله تعالى : { هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ } [ لقمان : 11 ] وأوثر المصدر ؛ لأن تعلق المصدر بالفاعل أكثر . قوله : { أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } متعلق بالخبر ، وجاز تقديمه على المبتدأ ؛ لأن عامله يجوز فيه ذلك ، والأصل : أفأنتم مدهنون بهذا الحديث ، وهو القرآن . ومعنى " مُدْهِنُون " أي : متهاونون كمن يدهن في الأمر ، أي : يلين جانبه ، ولا يتصلب فيه تهاوناً به ، يقال : أدهن فلان ، أي : لاين وهاود فيما لا يجمل عنه المدهن . قال أبو قيس بن الأسلت : [ السريع ] @ 4712 - الحَزْمُ والقُوَّةُ خَيْرٌ من الْـ إدْهَانِ والفَهَّةِ والهَاعِ @@ وقال الراغب : والإدهان في الأصل مثل التدهين ، لكن جعل عبارة عن المداراة والملاينة وترك الجدّ ، كما جعل التَّقريد وهو نزع القراد عبارة عن ذلك . قال القرطبي : " وأدهن وداهن واحد ، وقال قوم : داهنت بمعنى واريت ، وأدهنت بمعنى غششت " . قال ابن عبَّاس : " مُدْهِنُون " أي : مكذبون . وهو قول عطاء وغيره . والمدهن : الذي ظاهره خلاف باطنه ، كأنه شبّه بالدهن في سهولة ظاهره . وقال مقاتل بن سليمان وقتادة : " مدهنون " كافرون ، نظيره : { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [ القلم : 9 ] . وقال المؤرِّج : المدهن : المنافق الذي يلين جانبه ليُخفي كفره . والإدْهَان والمُداهنَة : التكذيب والكفر والنِّفاق . وقال الضحاك : " مُدْهنون " معرضون . وقال مجاهد : مُمَالِئُون الكُفَّار على الكفر به . وقال ابن كيسان : المدهن : الذي لا يعقل ما حق الله عليه ، ويدفعه بالعللِ . وقال بعض اللغويين : " مُدْهنون " : تاركُون للجزمِ في قبول القرآن . قوله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } . فيه أوجه : أحدها : أنه على التهكم بهم ، لأنهم وضعوا الشيء غير موضعه ، كقولك : شتمني حيث أحسنت إليه ، أي : عكس قضية الإحسان . ومنه : [ الرجز ] @ 4713 - كَأنَّ شُكْر القَوْمِ عندَ المِنَنِ كيُّ الصَّحِيحاتِ ، وفقْءُ الأعيُنِ @@ أي : شكر رزقكم تكذيبكم . الثاني : أن ثمَّ مضافين محذوفين ، أي : بدل شكر رزقكم ، ليصح المعنى . قاله ابن مالك . وقد تقدم في قوله تعالى : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } [ النجم : 9 ] أكثر من هذا . الثالث : أنَّ الرزق هو الشكر في لغة " أزد شنوءة " يقولون : ما رزق فلان فلاناً ، أي : ما شكره ، فعلى هذا لا حذف ألبتة . ويؤيده قراءة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وتلميذه عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - : " وتَجْعَلُونَ شُكْركُمْ " مكان رزقكم . قال القرطبي : " وإنما صلح أن يوضع اسم الرزق مكان الشُّكر لأنَّ شكر الرِّزق يقتضي الزيادة فيه ، فيكون الشكر رزقاً لهذا المعنى " . قوله : { أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } . قرأ العامة : " تُكذِّبُونَ " من التكذيب . وعلي - رضي الله عنه - وعاصم في رواية المفضل عنه : " تكْذبُونَ " مخففاً من الكذب . ومعنى الآية : أنكم مكذبون بالرِّزق ، أي ؛ تضعون الكذب مكان الشُّكر ، كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } [ الأنفال : 35 ] ، أي : لم يكونوا يصلون ، ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصَّلاة . قال القرطبي : وفيه بيان أن ما أصاب العباد من خير ، فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسباباً ، بل ينبغي أن يروه من قبل الله - تعالى - ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة ، أو صبر إن كان مكروهاً تعبداً له وتذلُّلاً . وروى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { وتجعلون شكركم أنكم تكذبون } خفيفة . وعن ابن عباس أيضاً : أن المراد به الاستسقاء بالأنواء ، وهو قول العرب : مُطِرْنَا بنوءِ كذا ، رواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم . وفي " صحيح مسلم " عن ابن عبَّاس قال : " مطر النَّاس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أصْبَحَ من النَّاسِ شَاكِرٌ ومنهُمْ كَافرٌ " . فقال بعضهم : هذه رحمة الله ؛ وقال بعضهم : لقد صدق نَوْء كذا وكذا ، قال : فنزلت هذه الآية : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } حتى بلغ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } " . وعنه أيضاً : " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فعطشوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أرأيْتُمْ إن دعوْتُ اللَّهَ لكُم فسُقيْتُمْ لعلَّكمْ تقولون : هذا المطرُ بنَوْءِ كذا " ، فقالوا : يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء . فصلّى ركعتين ، ودعا ربه ، فهاجتْ ريح ، ثم هاجت سحابة فمطروا ، فمر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عصابةٌ من أصحابه برجل يغترف بقدح له ، وهو يقول : سقينا بنوء كذا ، ولم يقل هذا من رزق الله ، فنزلت : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } " . أي : شكركم لله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بالنعمة ، وتقولون : سقينا بنوء كذا ، كقولك : جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ ، وجعلت إنعامي إليك أن اتَّخذتني عدُوًّا . قال الشَّافعي : لا أحب لأحدٍ أن يقول : مُطِرنَا بنوء كذا ، وإن كان النَّوْءُ عندنا الوقت المخلوق لا يضر ، ولا ينفع ، ولا يمطر ، ولا يحبس شيئاً من المطر ، والذي أحبّ أن يقول : مطرنا وقت كذا ، كما تقول : مطرنا شهر كذا ، ومن قال : مطرنا بنوءِ كذا ، وهو يريد أن النَّوء أنزل الماء كما يقول بعض أهل الشِّرك فهو كافر ، حلال دمه إن لم يَتُبْ . وقيل : معنى قوله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } أي : معاشكم وتكسبكم تكذيب محمد ، كما يقال : فلان جعل قطع الطريق معاشه ، فعلى هذا التَّكذيب عام ، وعلى الأول التكذيب خاص والرزق في الأصل مصدر سمي به ما يرزق ، كما يقال للمأكول : رِزْق ، وللمقدور : قُدْرة وللمخلوق : خَلْق .