Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 9-10)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ } . تقدمت قراءتا " يُنْزِلُ " تخفيفاً وتشديداً في " البقرة " . وزيد بن علي : " أنْزَلَ " ماضياً . وقوله : { آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } يعني القرآن . وقيل : المعجزات ، أي : لزمكم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لما معه من المعجزات والقرآن أكبرها وأعظمها . { لِّيُخْرِجَكُم } أي : بالقرآن . وقيل : بالرسول . وقيل : بالدعوة ، { مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ } ، وهو الشرك والكفر . { إِلَى ٱلنُّورِ } وهو الإيمان { وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } . فصل في إرادة الله للإيمان قال القاضي : هذه الآية تدل على إرادته للإيمان ، أكد ذلك بقوله : { وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } . فإن قيل : أليس يدل ظاهرها على أنه يخرج من الظلمات إلى النور ، فيجب أن يكون الإيمان من فعله ؟ . قلنا : إذا كان الإيمان بخلقه لا يبقى لقوله : { هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم } [ الحديد : 9 ] معنى ؛ لأن ما يخلقه لا يتغير ، بل المراد أنه يلطف بهم . قال ابن الخطيب : وهذا على حسنه معارض بالعلم ؛ لأنه علم أن إيمانهم لا يوجد فقد كلفهم بما لا يوجد ، فكيف يعقل مع هذا أنه أراد منهم الخير والإحسان ، وحمل بعضهم قوله : { وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ولا وجه لهذا التخصيص . قوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ } . الكلام فيه كالكلام في قوله : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ } [ البقرة : 246 ] ، فالأصل : " في ألا تنفقُوا " . فلما حذف حرف الجر جرى الخلاف المشهور ، وأبو الحسن يرى زيادتها كما تقدم تقريره في البقرة . قوله : { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ } جملة حالية من فاعل الاستقرار أو مفعوله ، أي : وأي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله ، والحال أن ميراث السموات والأرض له ، فهذه حال منافية . فصل في الكلام على الإنفاق لما أمر أولاً بالإيمان وبالإنفاق ، ثم أكَّده في الآية المتقدمة بإيجاب الإيمان بالله أتبعه في هذه الآية بتأكيد إيجاد الإنفاق ، والمعنى : أنكم ستموتون فتورثون ، فهلا قدّمتموه في الإنفاق على طاعة الله ؟ . وتحقيقه : أن المال لا بد وأن يخرج من اليد ، إما بالموت وإما بالإنفاق في سبيل الله ، فإن خرج بالموت كان أثره اللَّعنُ والمقتُ والطرد والعقاب ، وإن خرج بالإنفاق في سبيل الله كان أثره المدح والثواب وإذا كان لا بد من خروجه من اليد ، فكل عاقل يعلم أن خروجه عن اليد بحيث يستعقب المدح والثواب أولى منه مما يستعقب اللعن والعقاب ، ثم لما بين تعالى أن الإنفاق في سبيل الله فضيلة بيَّن أن المسابقة في الإنفاق تمام الفضيلة ، فقال : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ } . قوله : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ } . في فاعل " يستوي " وجهان : أظهرهما : أنه " مَنْ أنفق " وعلى هذا فلا بد من حذف معطوف يتم به الكلام ، فقدره الزمخشري : لا يستوي منكم من أنفق قبل فتح " مكة " وقوة الإسلام ، ومن أنفق من بعد الفتح ، [ فحذف لوضوح الدلالة ] . [ وقدره أبو البقاء : " ومن لم ينفق " . قال : ودلّ على المحذوف قوله : { مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ } ] . والأول أحسن ؛ لأن السِّياق إنما جيء بالآية ليفرق بين النَّفقتين في زمانين . والثاني : أن فاعله ضمير يعود على الإنفاق ، أي : لا يستوي جنس الإنفاق إذ منه ما وقع قبل الفتح ، ومنه ما وقع بعده . فهذان النَّوعان متفاوتان ، وعلى هذا فيكون " من " مبتدأ ، و " أولئك " مبتدأ ثاني ، و " أعظم " خبره ، والجملة خبر " من " . وهذا ينبغي ألاَّ يجوز ألبتة . وكأن هذا المعرب غفل عن قوله : " منكم " ، فلو أعرب هذا القائل " منكم " خبراً مقدماً ، و " من " مبتدأ مؤخراً ، والتقدير : منكم من أنفق من قبل الفتح ، ومنكم من لم ينفق قبله ولم يقاتل ، وحذف هذا لدلالة الكلام عليه لكان سديداً ، ولكنه سَهَا عن لفظة " منكم " . فصل في المراد بالفتح أكثر المفسرين على أن المراد بالفتح فتح " مكة " . وقال الشعبي والزهري : فتح " الحديبية " . قال قتادة : كان قتالان ، أحدهما أفضل من الآخر ، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى ؛ لأن القتال والنفقة قبل فتح " مكة " أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك ، وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم ، لأن حاجة النَّاس كانت أكثر لضعف الإسلام ، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق ، والأجر على قدر النَّصب . قال مالك رضي الله عنه : ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم لقوله تعالى : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ } . قال الكلبي : نزلت في أبي بكر وفيها دليل واضح على تفضيل أبي بكر وتقديمه ؛ لأنه أوَّل من أسلم ، وأول من أنفق في سبيل الله . وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أوَّل من أظهر الإسلام بسيفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر . وعن ابن عمر قال : " كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر ، وعليه عباءة قد خلَّلها في صدره بخلالٍ ، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال : يا نبي الله ، ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال ؟ قال : " أنْفَقَ مالهُ عليَّ قَبْلَ الفَتحِ " ، قال : فإن الله تعالى يقول لك : اقرأ على أبي بكر السلام ، وقل له : أنت راضٍ في فقرك أم ساخط ؟ فقال أبو بكر : إني عن ربي لَراضٍ ، قال : فإن الله - تعالى - يقول لك قد رضيت عنك كما أنت عني راضٍ ، فبكى أبو بكر ، فقال جبريل : والذي بعثك يا محمد بالحق لقد تخلَّلت حملةُ العرش بالعبى منذ تخلَّل صاحبك هذا بالعباءة " . ولهذا قدمه الصحابة على أنفسهم وأقرُّوا له بالتقدم والسبق . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : سبق النبي صلى الله عليه وسلم وثنى أبو بكر وثلث عمر ، فلا أوتى برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد [ المفتري ] ثمانين جلدة وطرح الشهادة . فصل في التقدم والتأخر في أحكام الدين فإن قلت : التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدنيا ، فأما في أحكام الدين فقالت عائشة رضي الله عنها : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل النَّاس منازلهم . وأعظم المنازل مرتبة الصلاة . وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه : " مُرُوا أبَا بَكْر فليُصَلِّ بالنَّاسِ " . وقال : " يَؤم القَوْمَ أقرؤهُم لِكتابِ اللَّه " . وقال : " وليؤمكما أكبركما " . وفهم منه العلماء أنه أراد كبر المنزلة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " الوَلاَء للْكِبَرِ " ولم يَعْنِ كبر السن . وقد قال مالك وغيره : إن للسن حقًّا ، وراعاهُ الشَّافعي وأبو حنيفة ، وهو أحق بالمراعاة . وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين ، فمن قدم في الدين قدم في الدنيا . وفي الحديث : " ليْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوقِّر كبِيْرنَا ويرْحَمْ صَغِيْرَنا ويَعرفْ لِعَالِمنَا حقَّهُ " . وفي الحديث أيضاً : " مَا أكْرَمَ شابٌّ شَيْخاً لسنِّهِ إلاَّ قيَّضَ اللَّهُ لهُ عِندَ سنِّهِ مَنْ يُكرمهُ " . قوله : { وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } . قراءة العامة : بالنَّصب على أنَّه مفعول مقدم ، وهي مرسومة في مصاحفهم " وكلاًّ " بألف . وابن عامر : برفعه . وفيه وجهان : أظهرهما : أنه ارتفع على الابتداء ، والجملة بعده خبره ، والعائد محذوف أي : وعده الله . ومثله : [ الرجز ] @ 4716 - قَدْ أصْبَحَتْ أمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي عَلَيَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أصْنَعِ @@ برفع " كلُّه " أي : لم أصنعه . والبصريون [ رحمة الله عليهم ] لا يجيزون هذا إلاَّ في شعر ، كقوله : [ السريع ] @ 4717 - وخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتِنَا بالحَقِّ لا يَحْمَدُ بالبَاطِلِ @@ ونقل ابن مالك الإجماع من البصريين والكوفيين على جواز ذلك إن كان المبتدأ " كُلاًّ " وما أشبهها في الافتقار والعموم . قال شهاب الدين لم أره لغيره وقد تقدم نحو من ذلك في سورة " المائدة " ، عند قوله تعالى : { أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } [ المائدة : 50 ] ولم يرو قوله : " كله لم أصنع " إلا بالرفع مع إمكان أن تنصبه ، فتقول : " كله لم أصنع " مفعولاً مقدماً . قال أهل البيان : لأنه قصد عموم السَّلب لا سلب العموم ، فإن الأول أبلغ ، وجعلوا من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام " كُلُّ ذلِكَ لَمْ يَكُنْ " . ولو قال : لم يكن كل ذلك ، لكان سلباً للعموم ، والمقصود عموم السَّلب . قال الشيخ عبد القاهر : المعنى يتفاوت بالرفع والنصب ، فمع الرفع يفيد أنه لم يفعل شيئاً من الأشياء ، ومع النَّصْب يفيد أنه يفعل المجموع ، ولا يلزم أنه لم يفعل البعض ، بل إن قلنا بدليل الخطاب دل على أنه فعل البعض . والثاني : أن يكون " كلّ " خبر مبتدأ محذوف ، و { وعد الله الحسنى } صفة لما قبله ، والعائد محذوف ، أي : " وأولئك كل وعد الله الحسنى " . فإن قيل : الحذف موجود أيضاً فقد عدتم لما فررتم منه ؟ . فالجواب : أن حذف العائد من الصفة كثير بخلاف حذفه من الخبر . ومن حذفه من الصفة قوله : [ الوافر ] @ 4718 - ومَا أدْرِي أغَيَّرَهُمْ تَنَاءٍ وطُولُ العَهْدِ أمْ مَالٌ أصَابُوا @@ أي : أصابوه ، ومثله كثير ، وهي في مصاحف " الشام " مرسومة : " وكلّ " دون ألف فقد وافق كل مصحفه ، و " الحسنى " مفعول ثان ، والأول محذوف على قراءة الرفع . وأمَّا النصب فالأول مقدّم على عامله . ومعنى الآية : أن المتقدمين السَّابقين والمتأخرين اللاَّحقين وعدهم الله جميعاً الجنة مع تفاوت الدرجات . { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : أنه لما وعد السَّابقين والمحسنين بالثواب فلا بد وأن يكون عالماً بالخيرات ، وبجميع المعلُومات حتى يمكنه إيصال الثَّواب إلى المستحقين ، إذ لو لم يكن عالماً بهم ، وبأفعالهم على سبيل التفصيل لما أمكن الخروج من عهدة الوعد بالتَّمام ، فلهذا السَّبب أتبع هذا الوعد بقوله : { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .