Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 58, Ayat: 10-15)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلنَّجْوَىٰ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } . تقدم قراءتنا " ليحزن " بالضم والفتح في " آل عمران " [ آل عمران 176 ] . وقرىء : " بفتح الياء والزاي " على أنه مسند إلى الموصول بعده ، فيكون فاعلاً . فصل في تحرير معنى الآية قال ابن الخطيب : الألف واللام في لفظ " النجوى " لا يمكن أن يكون للاستغراق ؛ لأن في " النجوى " ما يكون من الله ولله ، بل المراد منه : المعهود السابق ، وهو النجوى بالإثم ليحزن المؤمنين إذا رأوهم متناجين . قال المفسرون : معنى قوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلنَّجْوَىٰ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } وتوهموا أن المسلمين أصيبوا في السَّرايا ، أو إذا رأو اجتماعهم على مكايدة المسلمين ، وربما كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم فيظن المسلمون أنهم ينتقصونهم عند النبي صلى الله عليه وسلم { وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ } أي : التناجي { شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } أي : بمشيئته . وقيل : بعلمه . وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - بأمره . { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } أي : يكلون أمرهم إليه ، ويفوضون [ جميع ] شئونهم إلى عونه . فصل في النهي عن التناجي روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذَا كَانَ ثلاثةٌ فَلا يَتَنَاجَى اثْنانِ دُونَ الواحدِ " . وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذَا كَانَ ثَلاثَةٌ فَلا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ حتَّى يَخْتلطُوا بالنَّاسِ من أجْلِ أنْ يُحْزِنَهُ " . فبين في هذا الحديث غاية المنع ، وهو أن يجد الثالث من يتحدث معه كما فعل ابن عمر ، وذلك أنه كان يتحدث مع رجل ، فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يُناجِهِ حتى دعا رابعاً ، فقال له وللأول : تأخَّرا وناجى الرجل الطَّالب للمناجاة . خرجه في " الموطأ " ونبه فيه على العلة بقوله : " مِنْ أجْلِ أن يُحْزِنَهُ " أي : يقع في نفسه ما يحزن لأجله ، وذلك بأن يقدر في نفسه أن الحديث عنه بما يكره ، أو أنهم لم يروه أهلاً بأن يشركوه في حديثهم ، إلى غير ذلك من ألقيات الشيطان ، وأحاديث النفس ، ويحصل ذلك كله من بقائه وحده ، فإذا كان معه غيره أمن ذلك ، وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد ، فلا يتناجى أربعة دون واحد ، ولا عشرة ولا ألف مثلاً ، لوجود ذلك المعنى في حقه ، بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع ، فيكون بالمنع أولى ، وإنما خص الثلاثة بالذكر ؛ لأنه أول عدد يتأتى ذلك فيه . قال القرطبي : " وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال " . وذهب إليه ابن عمر ومالك والجمهور وسواء كان التناجي في مندوب ، أو مباح ، أو واجب فإن الحزن يقع به . وقد ذهب بعض الناس إلى أن ذلك في أول الإسلام ؛ لأن ذلك كان حال المنافقين ، فيتناجى المنافقون دون المؤمنين ، فلما فشا الإسلام سقط ذلك . وقال بعضهم : ذلك خاصّ بالسفر ، وفي المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه ، فأما في الحضر وبين العمارة فلا ؛ لأنه يجد من يعينه ، بخلاف السفر فإنه مظنَّة الاغتيال وعدم الغوث . والله أعلم . قوله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ } الآية . وجه التعلق ، لما نهى المؤمنين عما يكون سبباً للتباغُضِ والتنافر ، أمرهم الآن بما يصير سبباً لزيادة المحبَّة والمودة . وقال القرطبي : لما بين أنَّ اليهود يحيوه بما لم يحيّه الله ، وذمّهم على ذلك وصل به الأمر بتحسين الأدب في مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يضيقوا عليه المجلس ، وأمر المسلمين بالتَّعاطف والتَّآلف حتى يفسح بعضهم لبعض حتى يتمكّنوا من الاستماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر إليه . فصل في نزول الآية قال قتادة ومجاهد والضحاك رضي الله عنهم : كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب . وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه - رضي الله عنهم - على الصف الأول فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال والشهادة ، فنزلت ، فيكون كقوله تعالى : { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [ آل عمران : 121 ] . وقال مقاتل : كان النبي صلى الله عليه وسلم في " الصفة " وكان في المكان ضيق ، وكان يكرم أهل " بدر " من المهاجرين والأنصار فجاءنا أناس من أهل " بدر " وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا قبالة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام ، وشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم لمن حوله من غير أهل " بدر " : " قُمْ يا فُلانُ " بعدد القائمين من أهل " بدر " فشقّ ذلك على من قام ، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم . فقال المنافقون : والله ما عدل على هؤلاء أن قوماً أخذوا مجالسهم ، وأحبوا القرب منه ، فأقامهم وأجلس من أبْطَأ ، فنزلت الآية يوم الجمعة . وروي عن ابن عبَّاس قال نزلت الآية في ثابت بن قيس بن شماس ، وذلك أنه دخل المسجد ، وقد أخذ القوم مجالسهم ، وكان يريد القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم للوَقْر الذي كان في أذنيه ، فوسعوا له حتى قرب من النبي صلى الله عليه وسلم ثم ضايقه بعضهم وجرى بينهم وبينه كلام ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم محبته للقرب منه ليسمع كلامه ، وإن فلاناً لم يفسح له ، فنزلت هذه الآية . قوله تعالى : { تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ } . قرأ الحسن ، وداود بن أبي هند ، وعيسى ، وقتادة : " تَفَاسحُوا " ، والباقون : " تَفَسَّحوا " أي : توسعوا والفُسْحة : السَّعة ، وفسح له : أي وسع له ، ومنه قولهم : " بلد فسيحٌ " ولك في كذا فسحة ، وفسح يَفْسَحُ ، مثل : " مَنَعَ يَمْنَعُ " أي : وسع في المجلس ، و " فَسُحَ يَفْسُحُ فَسَاحَةً " مثل : " كَرُمَ يَكْرُمُ كرامة " أي : صار واسعاً ، ومنه مكان فسيح . وقرأ عاصم : " في المجالس " جمعاً اعتباراً بأن لكلّ واحد منهم مجلساً . والباقون : بالإفراد إذ المراد مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أحسن من كونه واحداً أريد به الجمع ، وقرىء : " في المَجْلَس " - بفتح اللام - وهو المصدر ، أي : تفسحوا في جلوسكم ، ولا تتضايقوا . فصل في أن الآية عامة في كل مجلس خير قال القرطبي : الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير ، والأجر ، سواء كان مجلس حَرْب أو ذكر ، أو مجلس يوم الجمعة ، وإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ سَبَقَ إلى مَا سَبَقَ إليْهِ فَهُوَ أحقُّ بِهِ ولكِنْ يُوسِّعُ لأخيهِ ما لم يتأذَّى بذلكَ فيُخْرجهُ الضَّيْقُ من موضعه " . روى البخاري ومسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يُقِيمُ الرَّجلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيْه " . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ، ويجلس فيه آخر ، ولكن تفسّحوا وتوسّعوا . وكان ابن عمر رضي الله عنهما يكره أن يقيم الرجل من مجلسه ، ثم يجلس مكانه . وروى أبو هريرة عن جابر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يُقِيمنَّ أحَدُكُمْ أخَاهُ يَوْمَ الجُمعَةِ ثُمَّ يُخَالفُ إلى مَقْعَدهِ ، فَيقْعُدَ فِيْهِ ، ولكِنْ يقُولُ : أفسحوا " . فصل إذا قام من مكانه ، فقعد غيرهُ نظرنا ، فإن كان الموضع الذي قام إليه مثل الأول في سماع كلام الإمام ، لم يكره له ذلك ، وإن كان أبعد من الإمام كره له ذلك ؛ لأن فيه تفويت حظه . فصل إذا أمر رجل إنساناً أن يبكر إلى الجامع ، فيأخذ له مكاناً يقعد فيه لا يكره ، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع ؛ لأن ابن سيرينَ كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة ، فيجلس فيه ، فإذا جاء قام له منه ، وعلى هذا من أرسل بساطاً أو سجَّادة ، فيبسط له في موضع من المسجد أنه لا يزعج منه . وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذَا قَامَ أحَدُكُمْ " - وفي حديث أبي عوانة : " مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلسهِ - ثُمَّ رَجَعَ إليْهِ فَهُوَ أحَقُّ بِهِ " ذكره القرطبي في " تفسيره " . قوله : { يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ } . قال ابن الخطيب : هذا مطلق فيما يطلب النَّاس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة ، قال : ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسُّح في المجلس بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه . قوله : { وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ } . قرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر بخلاف عنه بضم شين " انْشُزُوا " في الحرفين ، والباقون : بكسرهما ، وهما لغتان بمعنى واحد ، يقال : نشز أي : ارتفع ، يَنْشِزُ ويَنْشُزُ كـ " عَرَشَ يَعْرِشُ ويَعْرُشُ ؛ وعَكَفَ يَعْكفُ ويَعْكُفُ " وتقدم الكلام على هذا في " المائدة " . فصل في معنى انشزوا قال ابن عباس : معناه إذا قيل لكم : ارتفعوا فارتفعوا . قال مجاهد والضحاك : إذا نودي للصَّلاة فقوموا إليها ، وذلك أن رجالاً تثاقلوا عن الصلاة ، فنزلت . وقال الحسن ومجاهد أيضاً : انهضوا إلى الحرب . وقال ابن زيد والزَّجَّاج : هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ } عن النبي صلى الله عليه وسلم " فانْشُزُوا " أي ارتفعوا عنه فإن له حوائج فلا تمكثوا . وقال قتادة : معناه : أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بالمعروف . قال القرطبي : " وهذا هو الصحيح لأنه يعم ، والنَّشْز : الارتفاع ، مأخوذ من نَشْزِ الأرض ، وهو ارتفاعها " . قوله : { يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بطاعاتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامهم في مجالسهم ، وتوسّعهم لإخوانهم . وقوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } يجوز أن يكون معطوفاً على " الَّذين آمنوا " ، فهو من عطف الخاص على العام ؛ لأن الذين أوتوا العلم بعض المؤمنين منهم ، ويجوز أن يكون " الذين أوتوا " من عَطْف الصفات ، أي : تكون الصفتان لذات واحدة ، كأنه قيل : يرفع الله المؤمنين العلماء ، و " درجات " مفعول ثان . وقد تقدم الكلام على نحو ذلك في " الأنعام " . وقال ابن عباس رضي الله عنه : تم الكلام عند قوله تعالى : " منكم " ، وينصب " الذين أوتوا " بفعل مضمر ، أي : ويخصّ الذين أوتوا العلم بدرجات ، أو يرفعهم درجات . فصل في تحرير معنى الآية قال المفسرون في هذه الآية : إن الله - تعالى - رفع المؤمن على من ليس بمؤمن ، والعالم على من ليس بعالم . قال ابن مسعود رضي الله عنه : مدح الله العلماء في هذه الآية والمعنى : أن الله - تعالى - يرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به . وقيل : كان أهل الغنى يكرهون أن يزاحمهم من يلبس الصوف ، فيسبقون إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فالخطاب لهم . " ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجُلاً من الأغنياء يقبض ثوبه نفوراً من بعض الفقراء أراد أن يجلس إليه ، فقال : " يا فُلاَنُ أخَشِيْتَ أنْ يتعدَّا غِناكَ إليْهِ أوْ فَقْرُه إلَيْكَ " " . وبيّن في هذه الآية أن الرِّفعة عند الله - تعالى - بالعلم والإيمان لا بالسَّبْق إلى صدور المجالس . وقيل : أراد بالذين أوتوا العلم الذين قرأوا القرآن . وروى يحيى بن يحيى عن مالك - رضي الله عنه - { يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } الصحابة ، { وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } يرفع الله - تعالى - بها العالم والطالب . قال القرطبي : ثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يقدم عبد الله بن عباس على الصحابة فكلموه في ذلك ، فدعاهم ودعاه ، وسألهم عن تفسير : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } [ النصر : 1 ] فسكتوا فقال ابن عباس : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله إيَّاه ، فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بَيْنَ العَالمِ والعَابدِ مائَةُ دَرَجَةٍ ، بَيْنَ كُلِّ دَرَجتيْنِ حَضْر الجَوادِ المُضمَّرِ سَبْعِيْنَ سَنَة " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فَضْلُ العَالمِ عَلى العَابِدِ كَفضْلِ القَمَرِ ليْلَةَ البَدْرِ عَلى سَائِرِ الكَواكِبِ " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يَشْفَعُ يَوْمَ القِيامَةِ ثلاثةٌ : الأنْبِيَاءُ ثُمَّ العلماءُ ثُمَّ الشُّهداءُ " . فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن ابن عباس رضي الله عنه : " خُيِّرَ سليمان - صلوات الله وسلامه عليه - بين العلم والمال والملك ، فاختار العلم فأعطي المال والملك معه " . " ومر النبي صلى الله عليه وسلم بمجلسين في مسجده ، أحد المجلسين يدعون الله عز وجل ويرغبون إليه ، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كِلاَ المَجْلِسيْنِ عَلَى خَيْرٍ ، وأحَدُهُمَا أفْضَلُ مِنْ صَاحبهِ ، أمَّا هؤلاءِ فَيَدْعُونَ اللَّهَ - عزَ وجلَّ - ويرغبُون إليه ، وأمَّا هؤلاءِ فيتعلَّمونَ الفقهَ ويُعَلِمُّونَ الجاهلَ ، فهؤلاءِ أفضلُ ، وإنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّماً " ثم جلس فيهم " . قوله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } الآية . قال ابن عباس في سبب النزول : إن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه فأنزل الله - تعالى - هذه الآية فكفَّ كثير من الناس . وقال الحسن : إن قوماً من المسلمين كانوا يستخلون بالنبي صلى الله عليه وسلم يناجونه ، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النَّجوى ، فشق ذلك عليهم ، فأمرهم الله - تعالى - بالصَّدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه . وقال زيد بن أسلم : إن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون : إنه أذُن يسمع كلَّ ما قيل له ، وكان لا يمنع أحداً مُناجاته ، فكان ذلك يشقّ على المسلمين ؛ لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعاً اجتمعت لقتاله ، فأنزل الله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ } [ المجادلة : 9 ] الآية ، فلم ينتهوا فأنزل الله هذه الآية فانتهى أهل الباطل عن النجوى ؛ لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة ، وشقّ ذلك على أهل الإيمان ، وامتنعوا عن النجوى لضعف مقدرة كثير منهم عن الصدقة ، فخفف الله - تعالى - عنهم بما بعد الآية . قال ابن العربي : وهذا الخبر يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح ، فإن الله - تعالى - قال : { ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ } ثم نسخه مع أنه كونه خيراً وأطهر ، وهذا يرد على المعتزلة في التزام المصالح . فصل فيمن اعتبر الصدقة واجبة أو مندوبة ظاهر الآية يدلّ على أن تقديم الصَّدقة كان واجباً ؛ لأن الأمر للوجوب ، ويؤكد ذلك بعده قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وهذا لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه . وقيل : كان مندوباً بقوله تعالى : { ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ } وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الواجب ، ولأنه لو كان واجباً لما أزيل وجوبه لكلام متصل به وهو قوله تعالى : { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ } [ إلى آخر الآية ] . وأجيب عن الأول : أن المندوب كما يوصف بأنه خير وأطهر ، فكذلك أيضاً يوصف به الواجب . وعن الثاني : أنه لا يلزم من اتصال الآيتين في التلاوة كونهما متَّصلتين في النزول كما قيل في الآية الدَّالة على وجوب الاعتداد أربعة أشهر وعشراً أنها ناسخة للاعتداد بحول ، وإن كان الناسخ متقدماً في التلاوة على المنسوخ . انتهى . فصل اختلفوا في مقدار تأخُّر الناسخ عن المنسوخ في هذه الآية ، فقال الكلبي رحمه الله : ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من النهار ثم نسخ . وقال مقاتل بن حيان : بقي ذلك التكليف عشرة أيام ، ثم نسخ لما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : إنَّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا عمل بها أحد بعدي كان لي دينار ، فاشتريت به عشرة دراهم ، وكلما ناجيت النبي صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهماً ، ثم نسخت فلم يعمل بها . وروي عن ابن جريج ، والكلبي ، وعطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أنَّهم نهوا عن المُناجاة حتى يتصدقوا ، فلم يُناج أحد إلاَّ عليٌّ تصدق بدينار ، ثم نزلت الرخصة . وقال ابن عمر : لقد كانت لعلي - رضي الله عنه - ثلاثة ، لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إليَّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة - رضي الله عنها - وإعطاؤه الرَّاية يوم " خيبر " ، وآية النجوى . { ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ } من إمساكها ، " وأطْهَرُ " لقلوبكم من المعاصي { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ } يعني : الفقراء { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . روى الترمذي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : " لما نزلت { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَا ترى دِيْنَاراً ؟ " قلت : لا يطيقونه ، قال : " نِصْف دِيْنَارٍ " ، قلت : لا يطيقونه ، قال : " فَكَمْ " ؟ قلت : شعيرة ، قال : " إنَّك لزَهِيدٌ " فنزلت { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ } الآية " . ومعنى قوله : " شعيرة " من ذهب ، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : " إنَّك لزَهِيْدٌ " أي : لقليل المال فقدّرت على حسب حالك . قال ابن العربي : " وهذا يدلّ على نسخ العبادة قبل فعلها ، وعلى النَّظر في المقدّرات بالقياس " . قال القرطبي : " والظَّاهر أنَّ النسخ إنما وقع بعد فعل الصَّدقة كما تقدم " . فصل فيمن استدل بالآية على عدم وقوع النسخ أنكر أبو مسلم وقوع النسخ ، وقال : إنَّ المنافقين كانوا يمتنعون عن بذل الصدقات ، وإن قوماً من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهراً وباطناً إيماناً حقيقيًّا ، فأراد الله أن يميزهم عن المنافقين ، فأمر بتقديم الصَّدقة على النَّجْوَى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا على من بقي على نفاقه الأصلي ، فلما كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة لذلك الوقت ، لا جرم يقدر هذا التكليف بذلك الوقت . قال ابن الخطيب : وحاصل قول أبي مسلم : أن ذلك التكليف مقدر بغاية مخصوصة ، ووجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى تلك الغاية المخصوصة ، ولا يكون هذا نسخاً ، وهذا كلام حسن ، والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله : { أَأَشْفَقْتُمْ } . وقيل : منسوخ بوجوب الزكاة . قوله تعالى : { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ } . هذا استفهام معناه التقرير . قال ابن عباس رضي الله عنهما : " أأشفقتم " أي : أبخلتم بالصدقة . وقيل : خفتم . و " الإشفاق " : الخوف من المكروه ، أي : خفتم بالصدقة ، وشقّ عليكم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات . قوله تعالى : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } . في " إذ " هذه ثلاثة أقوال : أحدها : أنها على بابها من المعنى : أنكم تركتم ذلك فيما مضى ، فتداركوه بإقامة الصَّلاة . قاله أبو البقاء . الثاني : أنها بمعنى " إذا " كقوله تعالى : { إِذِ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ } [ غافر : 71 ] وتقدم الكلام فيه . الثالث : أنها بمعنى " إن " الشرطية ، وهو قريب مما قبله ؛ إلا أن الفرق بين " إن " ، و " إذا " معروف . فصل في معنى الآية المعنى : فإن لم تفعلوا ما أمرتم به ، { وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي : ونسخ الله ذلك الحكم ، ورخص بكم في ألاَّ تفرطوا في الصَّلاة والزكاة ، وسائر الطاعات ، وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به ، وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل . قال القرطبي : وما روي عن علي - رضي الله عنه - ضعيف ؛ لأن الله - تعالى - قال : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } وهذا يدلّ على أن أحداً لم يتصدق بشيء . فصل في أنَّ الآية لا تدل على تقصير المؤمنين فإن قيل : ظاهر الآية يدل على تقصير المؤمنين في ذلك التكليف ، وبيانه من وجوه : الأول : قوله تعالى : { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ } يدل على تقصيرهم . الثاني : قوله تعالى : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } . الثالث : قوله عز وجل : { وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } . فالجواب : قال ابن الخطيب : ليس الأمر كما قلتم ؛ لأن القوم لم يكلفوا بأن يقدموا على الصَّدقة ، ويشتغلوا بالمناجاة ، بل أمروا أنهم لو أرادوا المناجاة ، فلا بد من تقديم الصَّدقة فمن ترك المناجاة ، فلا يمكن أن يكون مقصراً ، فأما لو قيل بأنهم ناجوا من غير تقديم الصدقة ، فهذا أيضاً غير جائز ؛ لأن المناجاة لا تمكن إلا إذا مكن الرسول صلى الله عليه وسلم من المناجاة فإذا لم يمكنهم من ذلك لم يقدروا على المناجاة ، فعلمنا أن الآية لا تدل على صدور التقصير منهم . فأما قوله تعالى : { أَأَشْفَقْتُمْ } فلا يمنع من أنه - تعالى - علم ضيق صدور كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل لو دام الوجوب . فقال هذا القول . وأما قوله عز وجل : { وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } فليس في الآية أنه تاب عليهم من هذا التقصير ، بل يحتمل أنكم إن كنتم تائبين راجعين إلى الله تعالى ، وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة ، فقد [ كفاكم ] هذا التَّكليف . قوله تعالى { وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } . روي عن أبي عمرو : { خبير بِمَا يعْملُونَ } بالياء من تحت ، والمشهور عنه كالجماعة بتاء الخطاب . والمعنى : يحيط بأعمالكم ونيَّاتكم . قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم } . قال قتادة : هم المنافقون تولّوا اليهود . وقال السدي ومقاتل : هم اليهود . { مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } يعني : المنافقين ليسوا من المؤمنين في الدين والولاء ، ولا من اليهود والكافرين ، كما قال جل ذكره : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ } [ النساء : 143 ] . { وَيَحْلِفُونَ عَلَى ٱلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } . قال السدي ومقاتل رضي الله عنهما : " نزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، وعبد الله بن نبتل المنافقين ، كان أحدهما يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حُجْرة من حُجَره ، إذ قال : " يَدْخُلُ الآنَ عَليْكُم رجُلٌ قلبهُ قَلْبُ جبَّارٍ ، وينْظرُ بِعَيْني شَيْطانٍ " ، فدخل عبد الله بن نبتل ، وكان أزرق ، أسمر قصيراً ، خفيف اللحية ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " علاَمَ تَشْتُمنِي أنْتَ وأصْحَابُكَ " ؟ فحلف بالله ما فعل ، وجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما شتموه ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية " فقال عز وجل : { وَيَحْلِفُونَ عَلَى ٱلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم كذبة . قال ابن الخطيب رحمه الله : والمراد من هذا الكذب ، إما ادِّعاؤهم كونهم مسلمين ، وإما أنهم كانوا يسبُّون الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم ويكيدون المسلمين ، وإذا قيل : إنكم فعلتم ذلك خافوا على أنفسهم من القتل ، فيحلفون أنهم ما قالوا ذلك وما فعلوه ، فهذا هو الكذب الذي يحلفون عليه ، وهذه الآية تدلّ على فساد قول الجاحظ : إن الكذب هو الخبرُ المخالف لاعتقاد المخبر . قوله : { مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } يجوز في هذه الجملة ثلاثة أوجه : أحدها : أنها مستأنفة ، لا موضع لها من الإعراب ، أخبر عنهم بأنهم ليسوا من المؤمنين الخُلَّص ، بل كقوله تعالى : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ } [ النساء : 143 ] فالضمير في " ما هم " عائد على { ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ } ، وهم المنافقون ، وفي " مِنْهُمْ " عائد على اليهود ، وهم الكافرون الخلص . والثاني : أنها حالٌ من فاعل " تولوا " والمعنى على ما تقدم أيضاً . والثالث : أنها صفة ثانية لـ " قوماً " فعلى هذا يكون الضمير في " ما هم " عائداً على " قوماً " وهم اليهود ، والضمير في " منهم " عائد على " الذين تولّوا " يعني اليهود ليسوا منكم أيها المؤمنون ، ولا من المنافقين ، ومع ذلك تولاَّهم المنافقون . قاله ابن عطية . إلا أن فيه تنافر الضمائر ، فالضمير في " وَيَحْلِفُونَ " عائد على " الذين تولّوا " فعلى الوجهين الأولين تتحد الضمائر لعودها على " الَّذيْنَ تولّوا " وعلى الثالث : تختلف كما عرفت . وقوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملة حالية ، أي : يعلمون أنه كذب ، فيمينهم يمين غَمُوس ولا عُذر لهم فيها . قوله : { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } أي : لهؤلاء المنافقين عذاباً شديداً في جهنم ، وهو الدَّرْك الأسفل من النَّار . وقيل : عذاب القبر . قال ابن الخطيب : لأنا إذا حملنا هذا على عذاب القَبْر ، وحملنا قوله جل ذكره : { فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ المجادلة : 16 ] على عذاب الآخرة لا يلزم منه تكرار . { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : بئست الأعمال أعمالهم .