Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 58, Ayat: 7-9)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم إنه - تعالى - أكد بيان كونه عالماً بكل المعلومات ، فقال جل ذكره : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } فلا يخفى عليه سرّ ولا علانية . قوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ } . " يكون " تامة ، و " من نجوى " فاعلها ، و " من " مزيدة فيه ، و " نجوى " في الأصل مصدر ، فيجوز أن يكون باقياً على أصله ، ويكون مضافاً لفاعله ، أي : ما يوجد من تناجي ثلاثة ، ويجوز أن يكون على حذف ، أي : من ذي نَجْوَى ، ويجوز أن يكون أطلق على الأشخاص المتناجين مبالغة . فعلى هذين الوجهين ينخفض " ثلاثة " على أحد وجهين : إما البدل من " ذوي " المحذوفة ، وإما الوصف لها على التقدير الثاني ، وإما البدل ، أو الصفة لـ " نجوى " على التقدير الثالث . وقرأ ابن أبي عبلة : " ثلاثة " ، و " خمسة " نصباً على الحال ، وفي صاحبها وجهان : أحدهما : أنه محذوف مع رافعه تقديره : يتناجون ثلاثة ، وحذف لدلالة " نجوى " . والثاني : أنه الضمير المستكن في " نجوى " إذا جعلناها بمعنى المتناجين [ قاله الزمخشري ، رحمه الله . قال مكي : " ويجوز في الكلام رفع " ثلاثة " على البدل من موضع " نجوى " ؛ لأن موضعها رفع و " من " زائدة ، ولو نصبت " ثلاثة " على الحال من الضمير المرفوع إذا جعلت " نجوى " بمعنى المتناجين جاز في الكلام " ] . قال شهاب الدين : " ولا يقرأ به فيما علمت ، وهو جائز في غير القرآن كما قال ، وأما النصب فقد قرىء به ، وكأنه لم يطلع عليه " . قوله : { إلا هو رابعهم } ، { إلا هو خامسهم } ، { إلا هو معهم } كل هذه الجمل بعد " إلا " في موضع نصب على الحال أي : ما يوجد شيء من هذه الأشياء إلا في حال من هذه الأحوال ، فالاستثناء مفرغ من الأحوال العامة . وقرأ أبو جعفر : " ما تكون " بتاء التأنيث لتأنيث النجوى . قال أبو الفضل : إلا أنَّ الأكثر في هذا الباب التذكير على ما في قراءة العامة ؛ لأنه مسند إلى " من نجوى " وهو اسم جنس مذكر . قال ابن جني : التذكير الذي عليه العامة هو الوجه ؛ لوقوع الفاصل بين الفعل والفاعل ، وهو كلمة " من " ، ولأن تأنيث النجوى غير حقيقي . قوله : " ولا أكْثرَ " . العامة على الجر عطفاً على لفظ " نجوى " . وقرأ الحسن ، والأعمش ، وابن أبي إسحاق ، وأبو حيوة ويعقوب : " ولا أكثر " بالرفع ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه معطوف على موضع " نجوى " لأنه مرفوع ، و " من " مزيدة ، فإن كان مصدراً كان على حذف مضاف كما تقدم ، أي : من ذوي نجوى ، وإن كان بمعنى متناجين ، فلا حاجة إلى ذلك . الثاني : " أدنى " مبتدأ ، و { إلاَّ هو معهم } خبره ، فيكون " ولا أكثر " عطفاً على المبتدأ ، وحينئذ يكون " ولا أدنى " من باب عطف الجمل لا المفردات . وقرأ الحسن ويعقوب أيضاً ومجاهد والخليل : " ولا أكبر " بالباء الموحدة والرفع على ما تقدم . وزيد بن علي : " ينبيهم " - بسكون النون - من أنبأ إلاَّ أنه حذف الهمزة وكسر الهاء . وقرىء كذلك إلا أنه بإثبات الهمزة وضم الهاء ، والعامة بالتشديد من " نبأ " . فصل في النجوى " النَّجْوَى " : التناجي ، وهو السرار وهو مصدر يوصف به ، يقال : قوم نجوى ، وذوو نجوى . قال تعالى : { وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ } [ الإسراء : 47 ] . قال الزجاج : " النجوى " مشتقة من النجوة وهي ما ارتفع وتنجى ، فالكلام المذكور سرًّا ، لما خلا عن استماع الغير صار كالأرض المرتفعة ، فإنها لارتفاعها خلت عن اتصال الغير ، والسرار ما كان بين اثنين . قوله : { إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } أي : يعلم ، ويسمع نجواهم بدليل افتتاح الآية بالعلم . فإن قلت : ما الحكمة في ذكره - سبحانه وتعالى - الثلاثة والخمسة ، وأهمل الأربعة ؟ . فالجواب من وجوه : الأول : أن ذلك إشارة إلى كمال الرحمة ؛ لأن الثلاثة إذا اجتمعوا ، فإذا تناجى اثنان منهم بقي الثالث ضائعاً وحيداً ، فيضيق عليه ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذَا كُنْتُمْ ثلاثَةً فَلا يَتَنَاجَى اثْنَان دُونَ الثَّالثِ إلاَّ بإذْنِهِ فإنَّ ذلِكَ يُحْزنهُ " . فكأنه - تعالى - يقول : أنا جليسك وأنيسك ، وكذا الخمسة إذا اجتمعوا بقي الخامس وحيداً فريداً . الثاني : أن العدد الفرد أشرف من الزوج ؛ لأن الله - تبارك وتعالى - وتر يحب الوتر ، فخص أعداد الفرد بالذكر تنبيهاً على أنه لا بد من رعاية الأمور الإلهية في جميع الأمور . الثالث : أن أقل ما لا بد منه في المشاورة التي يكون الغرض منها تمهيد مصلحة ثلاثة حتى يكون الاثنان كالمتنازعين في النفي والإثبات ، والثالث كالحاكم بينهما ، فحينئذ تكمل المشورة ، ويتم ذلك الغرض ، فلهذا السبب لا بد وأن يكون أرباب المشورة عددهم فرداً ، فذكر الله - تعالى - الفردين الأولين ، واكتفى بذكرهما تنبيهاً على الباقي . الرابع : أن الآية نزلت في قوم منافقين اجتمعوا على التناجي ، وكانوا على هذين العددين . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في ربيعة ، وحبيب بن أبي عمرو ، وصفوان بن أمية كانوا يتحدّثون ، فقال أحدهم : هل يعلم الله ما نقول ؟ وقال الثالث : يعلم البعض . الخامس : أنه في مصحف عبد الله بن مسعود : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلاَّ الله رابعهم ، ولا أربعة إلا الله خامسهم ، ولا خمسة إلا الله سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم إذا أخذوا في التناجي } . قوله : { ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي : يحاسب على ذلك ، ويجازي عليه . { إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وهذا تحذير من المعاصي ، وترغيب في الطاعات . قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجْوَىٰ } الآية . قيل : هم اليهود . وقيل : هم المنافقون . وقيل : فريق من الكفار . وقيل : فريق من المسلمين ، لما روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : " كنا ذات ليلةٍ نتحدَّث إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " مَا هَذِهِ النَّجْوَى " ؟ فقلنا : تُبْنَا إلى الله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا كُنَّا في ذكر المسيخ ، يعني : الدجال فرقاً منه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أخْوَفُ عِنْدِي مِنْهُ ؟ " قلنا : بلى ، يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " الشِّرْكُ الخَفِيُّ أن يَقُومَ الرَّجلُ يعْمَلُ لمكانِ رَجُل " ذكره الماوردي . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ، وينظرون للمؤمنين ، ويتغامزون بأعينهم ، فقال المؤمنون : لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والأنصار قتل ، أو مصيبة ، أو هزيمة ؛ ويسوؤهم ذلك ، وكثرت شكواهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا ، فنزلت الآية . وقال مقاتل : كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة ، فإذا مرَّ بهم رجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظنّ المؤمن شرًّا ، فيعرج عن طريقه فنهاهم الله - سبحانه - فلم ينتهوا فنزلت . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسأله الحاجة ويناجيه ، والأرض يومئذ خرب فيتوهّموا أنه يناجيه في حرب أو بليَّة أو أمر فيفزعون لذلك فنزلت . قال ابن الخطيب رحمه الله : والأولى أن تكون نزلت في اليهود ؛ لأنه - عز وجل - حكى عنهم ، فقال : { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ } وهذا إنما وقع من اليهود ، كانوا إذا سلموا على الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا : السَّامُ عليكم ، يعنون الموت . قوله : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } أي : يرجعون إلى المُناجاة التي نهوا عنها . قوله : " ويَتَنَاجَوْنَ " . قرأ حمزة : " وينْتَجُون " بغير ألف من " الانتجاء " من " النجوى " على وزن " يَفْتَعلُون " . والباقون : " ويتناجون " من " التَّناجي " من " النجوى " أيضاً . قال أبو علي : والافتعال ، والتفاعل يجريان مجرى واحداً ، ومن ثمَّ صححوا " ازْدَوجُوا واعتورُوا " لما كانا في معنى تزاوجوا وتعاوروا ، وجاء { حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ } [ الأعراف : 28 ] وادَّرَكُوا . قال شهاب الدين : ويؤيد قراءة العامة الإجماع على تناجيهم ، و " فلا تتناجوا " و " تناجوا " ، فهذا من " التفاعل " لا غير ، إلاَّ ما روي عن عبد الله ، أنه قرأ { إذا انْتَجَيْتُم فلا تنتجوا } . ونقل أبو حيان عن الكوفيين والأعمش : " فلا تنتجوا " كقراءة عبد الله . وأصل : " تَنْتَجُونَ " " تَنْتَجِيونَ " و " تَنَاجَوْن " فاستثقلت الضَّمَّة على الياء ، فحذفت فالتقى ساكنان فحذفت لالتقائهما ، أو تقول : تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله ، فقلبت ألفاً فالتقى ساكنان ، فحذف أولهما وبقيت الفتحة دالة على الألف . قوله : { بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } . قرأ أبو حيوة : " بالعِدْوان " بكسر العين . والمراد " بالإثم والعدوان " : الكذب والظلم ، { وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ } صلى الله عليه وسلم مخالفته . وقرأ الضَّحاك : " ومعصيات الرَّسُول " صلى الله عليه وسلم . قوله : { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ } . قال القرطبي : لا خلاف بين أهل النقل أن المراد به اليهود ، وكانوا إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : السَّام عليك يعنون الموت . كما روت عائشة - رضي الله عنها - " أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : السَّام عليك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " عَلَيْكُمْ " فقالت عائشة رضي الله عنها : السَّام عليكم ، ولعنة الله ، وغضبه عليكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَهْلاً يا عَائِشَةُ ، عليْكِ بالرِّفْقِ وإيَّاكِ والعُنْفَ والفُحْشَ " ، قالت : أو لم تسمع ما قالوا يا رسول الله ؟ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك " أو لَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ ورَدَدْتُ عليْهِمْ فَيُسْتجَابُ لي فيْهِمْ ولا يُسْتجابُ لهُمْ فِيْ ؟ " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك : " إذَا سَلَّمَ عَليْكُمْ أهْلُ الكتابِ ، فقُولُوا : علَيْكَ مَا قُلْتَ " ، فأنزل الله تعالى : { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ } " . وروى أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذَا سَلمَ علَيْكُمْ أهْلُ الكتابِ فقُولُوا : وعَليْكُمْ " بالواو . فقال بعض العلماء رضي الله عنهم : إن الواو العاطفة تقتضي التشريك ، فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت ، أو من سآمة ديننا وهو الهلاك ، يقال : سَئِمَ يَسْأمُ سَآمةً وسَآماً . وقال بعضهم " الواو " زائدة كما زيدت في قول الشاعر : [ الطويل ] @ 4732 - فَلَمَّا أجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى … @@ أي : لما أجزنا انتحى ، فزاد " الواو " . وقال آخرون : هي للاستئناف ، كأنه قال : والسام عليكم ، وقال آخرون : هي على بابها من العطف ولا يضرنا ذلك ؛ لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم لـ " عائشة " رضي الله عنها . فصل في رد السَّلام على أهل الذمة اختلفوا في ردّ السَّلام على أهل الذِّمة ، فقال ابن عباس والشعبي وقتادة : هو واجب لظاهر الأمْرِ بذلك . وقال مالك رضي الله عنه : ليس بواجب ، فإن رددت فقل : عليك . وقال بعضهم : نقول في الرد : علاك السَّلام ، أي : ارتفع عنك . وقال بعض المالكية : تقول في الرد : السلام عليك - بكسر السين - يعني الحجارة . قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا } . هذه الجملة التحضيضية في موضع نصب بالقول ، ومعنى الآية : أن اليهود - لعنهم الله - لما كانوا يقولون : السام عليك ، ويوهمون أنهم يسلمون ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بقوله : " عليكم " فإذا خرجوا قالوا : " لولا يعذبنا الله " أي : هلا يعذبنا بما نقول ، أي : لو كان نبيًّا لعذبنا الله بما نقول . وقيل : قالوا : إنه يرد علينا ، ويقول : وعليكم السَّام ، فلو كان نبيًّا لاستجيب له فينا ومتنا ، وهذا موضع تعجب منهم ، فإنهم كانوا أهل الكتاب ، وكانوا يعلمون أنَّ الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - قد يغضبون ، فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب . قوله : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ } أي : كافيهم جهنم عقاباً غداً { يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } . قوله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } . أي : كفعل المنافقين واليهود . قال مقاتل : أراد بقوله : " آمنوا " المنافقين آمنوا بلسانهم . وقال عطاء : يريد الذين آمنوا بزعمهم قال لهم : لا تتناجوا بالإثم والعدوان ، ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم . وقيل : يا أيها الذين آمنوا بموسى صلوات الله وسلامه عليه . قوله : { وَتَنَاجَوْاْ بِٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ } والمراد بالبر : الطاعة ، وبالتقوى : العفاف عما نهى الله عنه . { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ أي ] : تجمعون في الآخرة .