Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 58, Ayat: 3-6)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ } مبتدأ . وقوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } مبتدأ ثان وخبره مقدم ، أي : فعليهم ، أو فاعل بفعل مقدر ، أي : فيلزمهم تحرير ، أو خبر مبتدأ مضمر ، أي : فالواجب عليهم تحرير . فصل ويلزم الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها عند مالك ، ولا يلزم عند غيره لقوله تعالى : { مِن نِّسَآئِهِم } . وإذا ظاهر صح ظهاره كما يصح طلاقه . وقال مالك : لا يلزم ظهاره ؛ لأنه لا يصح تكفيره بالصِّيام ، وهذا منقوض بظهار العبد ، وهو لا يكفر بالعتقِ والإطعام . فصل في عدم صحة ظهار المرأة من زوجها لا يصح ظهار المرأة من زوجها ، وعليها كفَّارة يمين ، إنما الظهار على الرجال ؛ لأن الحل والعقد في النكاح بيدِ الرجال ليس بيد المرأة منه شيء . وقال الحسن بن زياد : هي مظاهرة . وقال الزهري : أرى أن تكفر كفَّارة الظهار . وقال محمد بن الحسن : لا شيء عليها . فصل في المظاهرة حال الغضب والسكر وإذا ظاهر حال غضبه لزمه حكم الظِّهار ، للحديث ، ويصح ظهار السكران وطلاقه ، وإذا ظاهر من نسائه بكلمة واحدة فكفَّارة واحدة ، وإن ظاهر منهنّ بكلمات فعليه لكل واحدة كفَّارة ظهار ، وإذا قال لأربع نسوة : إن تزوجتكنّ فأنتن عليَّ كظهرِ أمي ، فتزوج إحداهن لم يقربها حتى يكفِّر ، ثم قد سقط اليمين فيه في سائرهن . وقيل : لا يَطَأُ البواقي منهن حتى يكفر فإن قال لامرأته : أنت عليَّ كظهرِ أمي ، وأنت طالق ألبتة ، لزمه الطلاق والظِّهار معاً ، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج ولا يطؤها إذا نكحها حتى يكفر ، فإن قال لها : أنت طالق ألبتَّة ، وأنت عليّ كظهر أمي لزمه الطَّلاق ، ولم يلزمه الظِّهار ؛ لأن المبتُوتةَ لا يلحقها طلاق ولا ظهار ، ويصح الظهار المؤقّت كما لو قال : أنت اليوم عليَّ كظهرِ أمي فإنَّه يصحّ ويبطل بمضيّ اليوم . وقال مالك : يتأبّد . قوله : " منكم " توبيخ للعرب ، وتهجين لعادتهم في الظِّهار ؛ لأنه كان من أيمان الجاهلية خاصة ، دون سائر الأمم . وقوله : { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } [ المجادلة : 2 ] أي : ما نساؤهم بأمهاتهم ، { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ } [ المجادلة : 2 ] أي إلا الوالدات . وعلى التقادير الثلاثة ، فالجملة خبر المبتدأ ، ودخلت " الفاء " لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط . قوله : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } . في هذه " اللام " أوجه : أحدها : أنها متعلقة بـ " يعودون " . وفيه معان : أحدها : والذين من عادتهم أنهم كانوا يقولون هذا القول في الجاهلية ، ثمَّ يعودون لمثله في الإسلام . الثاني : ثم يتداركون ما قالوا ؛ لأن المتدارك للأمر عائد إليه ، ومنه : " عَادَ غَيْثٌ عَلَى ما أفْسَدَ " أي تداركه بالإصلاح ، والمعنى : أن تدارك هذا القول وتلافيه بأن يكفر حتى ترجع حالهما كما كانت قبل الظِّهار . الثالث : أن يراد بما قالوا ما حرَّموه على أنفسهم بلفظ الظِّهار تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه نحو ما ذكر في قوله تعالى : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } [ مريم : 80 ] ، والمعنى : ثم يريد العود للتَّماسِّ . قاله الزمخشري . وهذا الثالث هو معنى ما روي عن مالك ، والحسن ، والزهري : ثم يعودون للوطءِ ، أي : يعودون لما قالوا : إنهم لا يعودون إليه ، فإذا ظاهر ثُمَّ وطىء لزمتِ الكفَّارة عند هؤلاء . الرابع : " لما قالوا " ، أي : يقولونه ثانياً ، فلو قال : أنت عليَّ كظهرِ أمي مرّة واحدة لم يلزمه كفارة ؛ لأنه لم يَعُدْ لما قال ، وهذا منقول عن بكير بن عبد الله الأشجّ ، وأبي حنيفة ، وأبي العالية ، والفراء في آخرين ، وهو مذهب أهل الظَّاهر . قال ابن العربي : وهذا القول باطل قطعاً ؛ لأن قصص المتظاهرين قد رويت ، وليس في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم ، والمعنى أيضاً بنقضه ؛ لأن الله - تعالى - وصفه بأنه مُنْكَر من القول وزور ، فكيف يقال : إذا أعدت القول المحرّم ، والسَّبب المحظور وجبت عليك الكفَّارة ، وهذا لا يعقل ألا ترى أنَّ كل سبب يوجب الكفَّارة لا يشترط فيه الإعادة من قتلٍ ووطءٍ في صوم ؟ . الخامس : أن المعنى أن يعزم على إمساكها فلا يطلقها بعد الظِّهار حتى يمضي زمن يمكن أن يطلقها فيه ، فهذا هو العودُ لما قال ، وهو مذهب الشافعي ، ومالك ، وأبي حنيفة أيضاً . وقال : العود هنا ليس بتكرير القول ، بل بمعنى العزم على الوطء . قال القرطبي : وهذا ينتقض بثلاثة أمور : أحدها : أنه قال : " ثُمَّ " وهي للتراخي . الثاني : قوله : " ثم يعُودُون " يقتضي وجود فعل من جهته ، ومرور الزمان ليس بفعل منه . الثالث : أن الطلاق الرَّجْعِي لا ينافي البقاء على الملك ، فلم يسقط حكم الظِّهار كالإيلاء . وقال مكي : " واللام متعلقة بـ " يَعُودُون " أي : يعودون لوطءِ المقول فيه الظهار ، وهن الأزواج فـ " ما " والفعل مصدر ، أي : لقولهم ، والمصدر في موضع المفعول به ، نحو : " هذا دِرْهم ضرب الأمير " أي : مضروبه ، فيصير المعنى ، كقولهم للمقول فيه الظِّهار ، أي : لوطئه " . وهذا معنى قول الزمخشري في الوجه الثالث الذي تقدم تقريره عن الحسن ، والزهري ، ومالك إلاَّ أن مكيًّا قيد ذلك بكون " ما " مصدرية حتى يقع المصدر المؤول موضع اسم المفعول ، وفيه نظر ؛ إذ يجوز ذلك وإن كانت " ما " غير مصدرية لكونها بمعنى " الذي " ونكرة موصوفة ، بل جعلها غير مصدرية أولى ؛ لأن المصدر المؤول فرع المصدر الصريح ، إذ الصريح أصل للمؤول به ، ووضع المصدر موضع اسم المفعول خلاف الأصل ، فيلزم الخروج عن الأصل بشيئين : بالمصدر المؤول ، ثم وقوعه موقع اسم المفعول ، والمحفوظ من لسانهم إنما هو وضع المصدر الصَّريح موضع المفعول لا المصدر المؤول فاعرفه . لا يقال : إن جعلها غير مصدرية يحوجُ إلى تقدير حذف مضاف ليصحّ المعنى ، أي : يعودون لوطء الذي ظاهر منها ، أو امرأة ظاهر منها ، أو يعودون لإمساكها . والأصل : عدم الحذف ؛ لأن هذا مشترك الإلزام لنا ولكم ، فإنكم تقولون أيضاً : لا بد من تقدير مضاف ، أي : يعودون لوطء أو لإمساك المقول فيه الظهار ، ويدل على جواز كون " ما " في هذا الوجه غير مصدرية ما أشار إليه أبو البقاء ، فإنه قال : يتعلق بـ " يعودون " بمعنى يعودون للقول فيه ، هذا إن جعلت " ما " مصدرية ، ويجوز أن تجعلها بمعنى " الذي " ونكرة موصوفة . الثاني : أن " اللام " تتعلق بـ " تحرير " ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : والذين يُظَاهرون من نسائهم فعليهم تحرير رقبة لما نطقوا به من الظِّهار ، ثم يعودون للوطء بعد ذلك . وهذ ما نقله مكي وغيره عن الأخفش . قال أبو حيَّان : " وليس بشيء ؛ لأنه يفسد نظم الآية " . وفيه نظر ؛ لأنا لا نسلم فساد النظم مع دلالة المعنى على التقديم والتأخير ، ولكن نسلم أن ادِّعاء التقديم والتأخير لا حاجة إليه ؛ لأنه خلاف الأصل . الثالث : أن " اللام " بمعنى " إلى " ، و " اللام " و " إلى " يتعاقبان ، قال تعالى : { هَدَانَا لِهَـٰذَا } [ الأعراف : 43 ] ، وقال : { فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْجَحِيمِ } [ الصافات : 23 ] وقال : { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا } [ الزلزلة : 5 ] وقال : { وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ } [ هود : 36 ] قاله الأخفش . الرابع : أنها بمعنى " في " ، نقلها أبو البقاء ، ومع ذلك فهي متعلقة بـ " يعودون " . الخامس : أنها متعلقة بـ " يقولون " . [ قال مكي : وقال قتادة : ثم يعودون لما قالوا من التحريم فيحلونه ، فاللام على هذا تتعلق بـ " يقولون " ] . قال شهاب الدين : " ولا أدري ما هذا الذي قاله مكي ، وكيف فهم تعلقها بـ " يقولون " على تفسير قتادة ، بل تفسير قتادة نص في تعلقها بـ " يعودون " ، وليس لتعلقها بـ " يقولون " وجه " . ونقل القرطبي عن الفرَّاء قال : اللام بمعنى " عن " والمعنى : ثم يرجعون عما قالوا ، ويريدون الوطء . وقال أبو مسلم : العود هو أن يحلف أولاً على ما قال من لفظ الظهار ، فلو لم يَحْلف لم تلزمه كفارة كما لو قال في المأكول : هو عليَّ حرام كَلَحْمِ الآدمي فلا كفَّارة عليه ، فإذا حلف عليه لزمته كفارة يمين . وهذا ضعيف ؛ لأن الكفَّارة قد تجب بالجماعِ في الحجّ ، وفي رمضان ، وفي قتل الخطأ ، ولا يمين هناك . قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي : فعلية إعتاق رقبةٍ ، يقال : حرَّرته ، أي : جعلته حرًّا ، ثم هذه الرقبة يجب أن تكون كاملة سالمة من كل عيب ، ومن كمالها إسلامها كالرَّقبة في كفَّارة القتل ، فإذا أعتق نصفي عبدين لم يجزه . وقال الشافعي : يجزيه لأنَّ النِّصفين في معنى العبد الواحد ؛ ولأن الكفَّارة في العتقِ طريقها المال ، فجاز أن يدخلها التَّبعيض كالإطعام ، ودليل الأول قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وهذا الاسم عبارة عن شخص واحد ، وبعض الرقبة ليس رقبة ؛ ولأنه لو أوصى رجلين أن يحجا عنه حجة لم يجز أن يحجّ واحد منهما نصفها ، ولو أوصى أن يشتري رقبة فيعتق عنه لم يجز أن يعتق نصف عبدين ، كذا ها هنا . وروي عن أحمد - رضي الله عنه - إن كان باقيهما حراً صح وأجزأ ، وإلاَّ فلا ؛ لأن المقصود تكميل الحرية وقد كملت ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : " لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيْكٌ فإنْ أعْتِقَ مُكَاتبٌ عَنِ الكفَّارةِ لَمْ يَجْزِهِ " . وقال أبو حنيفة : إن أعتقه قبل أن يؤدي شيئاً أجزأه ، وإن أعتق بعد أن أدى شيئاً لم يجزه ، فإن أعتق ذا رحمه المحرم عن كفارته عتق ، ولم يُجْزه عن الكفارة . قوله : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } ، أي : من قبل أن يجامعها ، فلا يجوز للمظاهر الوطء قبل التكفير فإن جامعها قبل التَّكفير عصى ، ولا يسقط عنه التكفير . وحكي عن مجاهد : أنه إذا وطىء قبل أن يشرع في التكفير لزمه كفَّارة أخرى ، وعن غيره أن الكفَّارة الواجبة بالظِّهار تسقط عنه ، ولا يلزمه شيء أصلاً ؛ لأن الله - تعالى - أوجب الكفَّارة ، وأمر بها قبل المسيسِ ، فإذا أخَّرها حتى مسَّ فقد فات وقتُها ، والصحيح ثبوت الكفَّارة ؛ لأنه بوطئه ارتكب إثماً ، وذلك ليس بمسقط للكفَّارة ، ويأتي بها قضاء كما لو أخَّر الصلاة عن وقتها ، وسواء كانت الكفَّارة بالعِتْقِ ، أو الصوم ، أو الإطعام . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : إن كانت بالإطعام جاز أن يطأ ثم يطعم ، فأما غير الوطء من القبلة والمباشرة والتلذُّذ فلا يحرم في قول أكثر العلماء . فصل فيمن ظاهر من امرأته مراراً إذا ظاهر مراراً من امرأته ولم يُكفر ، فكفَّارة واحدة إلا أن يكون قد كفَّر عن الأول ، فعليه للثاني كفَّارة . قال : وينبغي للمرأة ألا تدعه يقربها حتى يكفِّر ، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينها وبينه ، ويجبره على التكفير وإن كان بالضرب حتى يوفيها حقها من الجماع . قال الفقهاء : ولا شيء من الكفارة يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظِّهار وحدها ؛ لأن ترك التكفير إضرار بالمرأة ، وامتناع من إيفاء حقّها . قوله تعالى : { ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ } أي : تؤمرون به . { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } من التَّكفير وغيره . قوله تعالى : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } . وقوله تعالى : { فَإِطْعَامُ } كقوله في الأوجه الثلاثة المتقدمة من قبلُ ، متعلق بالفعل أو الاستقرار المتقدم ، أي : فيلزم تحرير ، أو صيام ، أو فعليه كذا من قبل تماسهما . والضمير في " يتماسَّا " للمظاهر والمظاهر منها لدلالة ما تقدم عليها . فصل إذا لم يجد الرقبة من لم يجد الرقبة ولا ثمنها ، وكان مالكاً لها إلاَّ أنه شديد الحاجة إليها لخدمته ، أو كان مالكاً لثمنها إلاَّ أنه يحتاج إليه لنفقته ، أو كان له مسكين ليس له غيره ، ولا يجد شيئاً سواه فله أن يصوم . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يصوم وعليه العتق ، ولو كان محتاجاً إلى ذلك . والصيام الواجب في هذه الكفَّارة أن يصوم شهرين متتابعين ، فإن أفطر في أثنائها بغير عُذْرٍ استأنفهما وإن أفطر بعذر من سفر أو مرض ، فقال ابن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي : يبني على ما مضى ، وهو الصحيح من مذهب الشافعي . فإن ابتدأ الصيام ، ثم وجد الرقبة لم يلزمه الانتقال عنه ؛ لأنه أمر به حين دخل فيه . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يعتق قياساً على الصغيرة المعتدة بالشهور إذا رأت الدَّم قبل انقضاء عدّتها ، فإنها تستأنف الحَيْض إجماعاً ، فإن وطىء المظاهر في خلال الشهرين نهاراً بطل التتابع ، وإن وطىء ليلاً لم يبطل ؛ لأنه ليس محلاًّ للصَّوم . وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - ومالك : يبطل بكل حال ، ويجب عليه ابتداء الكفَّارة لقوله تعالى : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } وهذا شرط عائد إلى جملة الشهرين . ومن طال مرضه طولاً لا يرجى بُرْؤه ، وكان بمنزلة العاجز من كبرٍ ، فيجوز له العدول عن الصيام إلى الإطعام . فإن كان يرجى بُرْؤه ، واشتدت حاجته إلى وَطْءِ امرأته فالاختيار له أن ينتظر البُرْءَ حتى يقدر على الصيام ، فإذا كفَّر بالإطعام ، ولم ينتظر القدرة على الصيام أجزأه . فإن ظاهر وهو موسرٌ ، ثم أعسر قبل أن يكفر صام ، وإنما ينظر إلى حاله يوم يكفر ، ولو جامعها في عدمه وعسره ، فلم يكفر حتى أيسر لزمه العِتْق . ولو ابتدأ بالصوم ثم أيسر ، قال القرطبي رحمه الله : فإن كان مضى من صومه صدر صالح كالجمعة وشبهها تمادى ، وإن كان يوماً أو يومين ترك الصوم ، وعاد إلى العتق ، وليس ذلك بواجب عليه . ولو ظاهر عن امرأتين له فأعتق رقبة عن إحداهما لا بعينها لم يجز له وطء واحدة منهما حتى يكفر الكفَّارة الأخرى ، ولو عين الكفَّارة عن إحداهما جاز له أن يطأها قبل أن يكفر الكفَّارة عن الأخرى . قال القرطبي : " ولو ظاهر من أربع نسوة ، فأعتق عنهن ثلاث رقاب ، وصام شهرين لم يجزه العِتْق ولا الصيام ؛ لأنه إنما صام عن كل واحدة خمسة عشر يوماً ، فإن كفر عنهن بالإطعام جاز أن يطعم عنهن مائتين مسكين ، فإن لم يقدر فرّق بخلاف العتق والصيام ؛ لأن صيام الشهرين لا يفرق والإطعام يفرق " . [ قوله تعالى : { فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً } الآية كقوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } في الأوجه الثلاثة المتقدمة ، و " مِنْ قَبْل " متعلق بالفعل ، أو الاستقرار المتقدم ، أي : فيلزمه تحرير ، أو صيام أو فعليه كذا من قبل تماسهما ، والضمير في " يتماسّا " للمظاهر والمظاهر منها لدلالة ما تقدم ] . فصل في الترتيب في كفَّارة الظهار اعلم أن الله - تعالى - أمر بكفَّارة الظهار مرتبة ، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الإعتاق ، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام ، فمن لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكيناً لكل مسكين مد من طعام بمدِّ النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن عبد البرّ : والأفضل مُدَّان بمُدِّ النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجزىء عند مالك ، والشافعي - رضي الله عنهما - أن يطعم أقل من ستين مسكيناً . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لو أطعم مسكيناً واحداً كل يوم نصف صاعٍ حتى يكمل العدد أجزأه . وعن أحمد - رضي الله عنه - إذا لم يجد إلاَّ مسكيناً واحداً ردد عليه بعدد الأيام . فصل في نسخ الظهار لما كانوا عليه حكم الظِّهار ناسخ لما كانوا عليه من كون الظِّهار طلاقاً في الجاهلية ، روي ذلك عن ابن عباس وأبي قلابة وغيرهما . قوله : { ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ } . قال الزَّجَّاج : " ذلك " فيه وجهان : الأول : أنه في محل رفع ، أي : الغرض ذلك الذي وصفنا من التَّغليظ في الكفَّارة ، " لتُؤمِنُوا " أي : لتصدقوا أن الله أمر به . الثاني : فعلنا ذلك للبيان والتعظيم للأحكام لتصدقوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم والعمل بشرائعه ، ولا تستمروا على أحكام الجاهلية من جعل الظهار أقوى أنواع الطَّلاق . فصل في أن الكفارة إيمان بالله تعالى استدلّ بعض العلماء على أنَّ هذه الكفَّارة إيمان بالله تعالى ؛ لأنه لما ذكرها وأوجبها ، قال جل ذكره : { لِتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، أي : ذلك لتكونوا مطيعين لله تعالى واقفين عند حدوده لا تتعدّوها ، فسمى التكفير إيماناً ؛ لأنه طاعة ، ومراعاة للحد ، فثبت أن كل ما أشبهه فهو إيمان . فصل في معنى الآية معنى قوله تعالى : { ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي : لئلا تعودوا للظِّهار الذي هو منكر من القول وزور . قيل له : قد يجوز أن يكون كلاهما مقصوداً ، فيكون المعنى : ذلك لئلا تعودوا ، فتقولوا المنكر والزور ، بل تدعونهما طاعة لله - سبحانه وتعالى - إذ كان قد حرمهما ، ولتجتنبوا المظاهر منها إلى أن تكفروا إذا كان الله منع من مَسِيْسهَا وتكفروا إذا كان الله - عز وجل - أمر بالكفَّارة ، وألزم إخراجها منكم ، فتكونوا بهذا كله مؤمنين بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم لأنها حدود تحفظونها وطاعات تؤدّونها ، والطَّاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم إيمان بالله ورسوله . فصل في إدخال العمل تحت مسمى الإيمان قال ابن الخطيب : استدل من أدخل العمل في مسمى الإيمان بهذه الآية ، فقال : إن الله - تعالى - أمرهم بها ليصيروا بعملها مؤمنين ، فدل على أن العمل من الإيمان ، ومن أنكر ذلك قال : إنه - تعالى - لم يقل : ذلك لتؤمنوا باللَّهِ بعمل هذه الأشياء ، ونحن نقول : المعنى " ذلك لتؤمنوا بالله " والإقرار بهذه الأحكام . فصل فيمن استدل بهذه الآية على أن أفعال الله معللة بالأغراض استدلت المعتزلة في قوله تعالى " لتؤمنوا " على أن فعل الله معلل بالغرض ، وعلى أن غرضه أن تؤمنوا ، ولا تستمروا على ما كانوا عليه من الكفر ، وهذا يدلّ على أنه - تعالى - أراد منهم الإيمان وعدم الكفر . قوله : { وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ } أي بيّن معصيته وطاعته ، فمعصيته الظِّهار ، وطاعته الكفارة . { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : لمن جحد هذا وكذاب به ، ولم يصدق بأحكام الله تعالى له عذاب جهنم . قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية . قال المبرد : أصل " المحادّة " الممانعة ، ومنه يقال للبواب : حداد ، وللممنوع الرزق : محدود . وقال أبو مسلم الأصفهاني : " المحادّة " : مفاعلة من لفظ الحديدِ ، والمراد المقاتلة بالحديد ، سواء كان ذلك في الحقيقة ، أو كان منازعة شديدة شبيهة للخصومة بالحديد . فصل في مناسبة الآية لما قبلها لما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادّين المخالفين لها ، قال المفسرون : المُحادة : المُعَاداة والمخالفة في الحدود ، وهو كقوله تعالى : { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [ الأنفال : 13 ] . وقيل : يحادون الله ، أي : أولياء الله كما جاء في الخبر ، " مَنْ أهَانَ لِي وليًّا فقدْ بَارَزَني بالمُحاربةِ " . قال الزجاج : المحادّة : أن تكون في حد يخالف حد صاحبك . والضمير في قوله " يحادّون " يمكن أن يرجع إلى المُنافقين ، فإنهم كانوا يوادّون الكافرين ، ويظاهرونهم على النبي صلى الله عليه وسلم فأذلهم الله سبحانه وتعالى ، ويحتمل أن يرجع لجميع الكُفَّار ، فأعلم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أنهم كبتوا ، أي خذلوا . قال المبرد رحمه الله تعالى : كبت الله فلاناً ، أي : أذلّه ، والمردود بالذل يقال له مكبوت . وقال أبو عبيدة والأخفش : أهلكوا . وقال قتادة : خزوا كما خزي الذين من قبلهم . وقال ابن زيد : عذبوا . وقال السدي : لعنوا ، وقال الفراء : غيظوا يوم الخندق . وقيل : يوم " بدر " . وقيل معنى كبتوا : أي سيكبتون ، وهو بشارة من الله للمؤمنين بالنصر ، وأخرج الكلام بلفظ الماضي تقريباً للمخبر عنه . وقيل : لغة مذحج . ويحتمل أن يكون لتحقق وقوعه ، والمراد بالذين من قبلهم أعداء الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - { وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } فيمن حاد الله ورسوله من الذين من قبلهم فيما فعلنا بهم { وَلِلْكَافِرِينَ } بهذه الآيات { عَذَابٌ مُّهِينٌ } يذهب بعزّهم وكبرهم ، فبين تعالى أن عذاب المحاربين في الدنيا الذُّل والهوان ، وفي الآخرة العذاب الشديد . قوله تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً } . فيه أوجه : أحدها : أنه منصوب بـ " عذاب مهين " . الثاني : أنه منصوب بفعل مقدر ، فقدره أبو البقاء : يهانون أو يعذبون ، أو استقر ذلك يوم يبعثهم ، وقدره الزمخشري بـ " اذكر " قال : تعظيماً لليوم . الثالث : أنه منصوب بـ " لهم " . قاله الزمخشري ، أي : بالاستقرار الذي تضمنه لوقوعه خبراً . الرابع : أنه منصوب بـ " أحصاه " ، قاله أبو البقاء ، وفيه قلق ؛ لأن الضمير في " أحصاه " يعود على " ما عملوا " . قوله : " جَمِيعاً " أي : الرجال والنساء ، أي : كلهم لا يترك منهم واحداً . وقيل : مجتمعين في حال واحدة { فَيُنَبِّئُهُم } أي : يخبرهم بما عملوا في الدنيا تخجيلاً لهم وتوبيخاً . { أَحْصَاهُ ٱللَّهُ } عليهم في صحائف أعمالهم " ونَسُوهُ " حتى ذكرهم به في صحائفهم ليكون أبلغ في الحجة عليهم . { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي شاهد مطلع وناظر لا يخفى عليه شيء .