Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 128-128)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما بين حال من يتمسَّكُ بالصِّراط المسْتَقِيم ، بيَّن بعده حال من يكُونُ بالضِّدِّ من ذلك ؛ ليكون قِصَّة أهْل الجنَّة مُرْدَفَة بقِصَّة أهْل النَّارِ ، وليَكُون الوَعِيدُ مذْكُوراً بعد الوَعْدِ . قوله : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُم } يَجُوز أن يَنْتَصِب بفِعْل مقَدَّر ، فقدَّره أبو البقاءِ تارة بـ " اذْكُرْ " وتارة بالقَوْلِ المَحْذُوف العَامِل في جُمْلَة النِّداءِ من قوله : " يَا مَعْشَر " أي : ويقُول : " يا مَعْشَر يَوْمَ نَحْشُرُهُم " ، وقدَّره الزَّمَخْشَرِي : " ويَوْمَ يَحْشُرُهم وقلنا يا معشر كان ما لا يُوصَفُ لفظَاعتِهِ " . قال أبُو حيَّان : " وما قُلْنَاه أوْلَى " يعني : من كَوْنِه مَنْصُوباً بـ " يَقُولُ " المحكي به جُمْلَة النِّداء ، قال : " لاسْتِلْزَامِه حذف جُمْلَتَيْن : إحْداهما جُمْلَة " وقُلْنَا " ، والأخْرى العَامِلة في الظَّرْف " وقدَّره الزَّجَّاج بفِعْل قَول مبْنِي للمفْعُول : " يقال لَهُم : يا مَعْشَر يَوْم نَحْشرهُم " وهو مَعْنًى حَسَن ؛ كأنه نَظَر إلى مَعْنَى قوله : " ولا يُكَلِّمُهُم ولا يُزَكِّيهم " فبَنَاه للمفْعُول ، ويجوز أن يَنْتَصب " يَوْمَ " بقوله : " وَلِيُّهُم " لما فِيهِ من مَعْنَى الفِعْل ، أي : " وهُوَ يتولاَّهُم بما كَانُوا يَعْمَلُون ، ويتولاَّهُم يوم يَحْشُرُهُم " ، و " جَمِيعاً " حَالٌ أو تَوْكِيدٌ على قَوْل بَعْض النَّحْويِّين . وقرأ حفص : " يَحْشُرُهُم " بياء الغَيْبَة رداً على قوله : " ربهم " أي : " ويوم يَحْشرُهُم ربُّهُم " والضِّمِيرُ في " يَحْشُرُهُم " يعود إلى الجنِّ والإنْسِ بجمعهم في يَوْم القِيامَةِ . وقيل : يعود إلى الشَّياطينِ الَّذِين تقدم ذِكْرُهم في قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ } [ الأنعام : 112 ] . قوله : " يا مَعْشَر " في مَحَلِّ نصْبٍ بذلك القَوْل المضْمَر ، أي : " نقول أو قُلْنَا " ، وعلى تَقْدير الزَّجَّاج يكون في مَحَلِّ رفعٍ ؛ لقيامه مقامَ الفَاعِل المَنُوب عَنْهُ ، والمعشر : الجَمَاعةَ ؛ قال القائل : [ الوافر ] @ 2311 - وأبْغَضُ مَنْ وَضَعْتُ إليَّ فِيهِ لِسَانِي مَعْشَرٌ عَنْهُم أذُودُ @@ والجمع : مَعَاشِر ؛ كقوله - عليه الصلاة والسلام - : " نَحْنُ مَعَاشِر الأنْبيَاء لا نُوَرَّث " قال الأودي : [ البسيط ] @ 2312 - فِينَا مَعَاشِرُ لَنْ يَبْنُوا لِقَومِهِمُ وإنْ بَنَى قَوْمُهُم مَا أفْسَدُوا عَادُوا @@ قوله تعالى : " مِنَ الإنْسِ " في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، أي : أوْلِيَاؤهُم حال كَونهم من الإنْسِ , ويجُوز أن تكُون " مِنْ " لبَيَانِ الجِنْس ؛ لأن أوْلِيَاءَهُم كانوا إنْساً وجِناً ، والتقدير : أوْلِيَاؤهم الذين هم الإنْسُ ، و " ربِّنا " حُذِفَ منه حَرْف النِّدَاء . وقوله : { وَقال أوْلِيَاؤهُم مِّنَ ٱلإنْس } يعني : أوْلياء الشَّياطين الَّذِين أطاعُوهُم من الإنْسِ ، { ربَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْض } والمَعْنَى : استَكْثَرْتُم من الإنْسِ بالإضلالِ والإغْواء ، أي : أضْلَلْتُم كَثِيراً . وقال الكَلْبِيّ : استِمْتَاع الإنْس بالجنِّ هو الرَّجُل كان إذا سَافر وتُرِكَ بأرض قَفْر ، وخاف على نَفْسِهِ من الجِنِّ ، قال : أعوذ بسَيِّد هذا الوَادِي من سُفَهاء قَوْمه ، فيبيتُ آمناً في جوارهم ، وأما استِمْتَاعُ الجنِّ بالإنْسِ ، فهو أنَّهُم قالُوا : قد سَعْدْنَا الإنس مع الجِنِّ ، حتى عاذوا بِنَا فَيَزْدَادوا شَرَفاً في قَوْمِهِم وعظماً في أنْفُسِهِم ، كقوله - تبارك وتعالى - : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً } [ الجن : 6 ] . وقيل : استِمْتَاعُ الإنْس بالجِنِّ ما كَانُوا يلْقُون إليهم من الأرَاجِيفِ ، والسِّحْرِ والكَهَانَةِ ، وتزيينهم لهم الأمور التي يَهْوُونَها ، وتَسْهيل سَبيلِها عليهم ، واستِمْتَاع الجن بالإنْس طاعة الإنْسِ لهم فيما يُزيِّنُون لَهُمْ من الضَّلالة والمَعَاصِي . وقال محمد بن كَعْبٍ القُرَظي : هو طاعةُ بعضِهِمْ بَعْضاً ، وقيل : قوله : { ربِّنَا ٱسْتَمْتَع بَعْضُنَا بِبَعْض } كلام الإنْس خَاصَّة . قوله : { وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا } قرأ الجمهور : " أجَلَنا " بالإفْرَاد ؛ لقوله : " الَّذِي " وقُرِئ : " آجَالَنا " بالجَمْع على أفْعَال " الَّذِي " بالإفْرَاد والتَّذْكير وهو نَعْتُ للجَمْعِ . فقال ابو عَلِيّ : هو جنْس أوقع " الَّذِي " مَوْقِع " الَّتِي " . قال أبو حيَّان : وإعْرابه عِنْدِي بدل ؛ كأنه قيل : " الوَقْتُ الَّذِي " وحينئذٍ يكون جِنْساً ولا يَكُون إعْرَابُه نَعْتاً ؛ لعدم المُطابَقَة بينَهُمَا ، وفيه نَظَر ؛ لأن المُطَابقة تُشْتَرطُ في البَدَلِ أيْضاً ، وكذلك نصُّ النُّحَاة على قَوْل النَّابِغة : [ الطويل ] @ 2313 - تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةٍ أعْوَام وَذَا العَامُ سابعُ رَمَادٌ كَكُحْلِ العَيْنِ لأياً أبِينُهُ وَنُوي كجذْم الحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ @@ أي : رماد ونَوَى مَقْطُوعان على " هما رمادٌ ونوى " لا بدل من آياتٍ لِعَدم المُطابَقَة ، ولِذلكِ لم يُرْوَيَا إلاَّ مرْفُوعَيْن لا مَنْصُوبَيْن . فصل في المراد بالآية معنى الآيةِ : أن ذلك الاستمتاع كان إلى أجَلٍ معيَّن ووقْتٍ مَحْدودٍ ، ثمَّ جَاءَت الخَيْبَة والحَسْرَة والنَّدامَة من حَيْثُ لا دَفع , واخْتَلَفُوا في ذَلِك الأجَلِ . فقيل : هو وقْتُ الموْتِ . وقيل : هو وَقْتُ البَعْثِ والقِيامة ، والَّذين قَالُوا بالقَوْل الأوَّل قالوا : إنه بَدَلٌ على أن كُلَّ من مَاتَ من مَقْتُول وغَيْرِه ، فإن يَمُوتُ بأجَلِهِ ؛ لأنهم أقَرُّوا بأنَّا بلغْنَا أجَلَنا الَّذِي أجَّلْت لنا , وفيهم المَقْتُول وغير المَفْتُول ، ثم قال - تعالى - : " النَّارُ مَثْوَاكُم " أي : المَقَام والمَقرّ والمَصِير . قوله : " خَالِدينَ فِيَهَا " مَنْصُوبُ على الحالِ ، وهي حالٌ مُقَدَّرة ، وفي العامل فيها ثلاثة أوْجُه : أحدها : أنه " مَثْواكم " لأنه هُنَا مَصْدرٍ لا اسم مكان ، والمعنى : النَّارُ ذات ثُوائِكُم ، أي : إقامتكم في هذه الحالِ , ولذلكِ ردَّ الفَارِسيّ على الزَّجَّاج ؛ حيث قال : المَثْوَى " المَقَام " أي : " النَّار مَكَان ثُوَائِكُم " أي : إقامتكُم . قال الفَارسِيُّ : " المَثْوى عِنْدي في الآية : اسْمٌ للمصْدرِ دون المكان ؛ لحُصُول الحالِ مُعْمَلاً فِيهَا واسْمُ المكانِ لا يَعْمَل عمل الفِعْلِ ؛ لأنه لا مَعْنَى للفِعْل فيه ، وإذا لم يَكُن مَكَاناً ، ثبت أنَّه مَصْدر ، والمَعْنَى : " النَّار ذاتِ إقامَتِكُم فيها خَالِدين " . فالكَاف والميم في المَعْنَى فاعِلُون , وإن كان في اللَّفْظِ خَفْضاً بالإضَافَةِ ؛ ومثله قول الشاعر : [ الطويل ] @ 2314 - ومَا هِي إلاَّ في إزَارٍ وعِلْقَةٍ مَغَارَ ابْنِ هَمَّام عَلَى حَيِّ خَثْعَمَا @@ وهذا يدلُّ على حَذْفِ المُضافِ ، المعنى : " ومَا هِي إلا إزَارٌ وعِلْقَةٌ وقت إغَارَة ابن همَّام " ، ولذلك عدَّاه بـ " عَلَى " ولو كان مَكَاناً ، لما عدَّاه ؛ فثَبَت أنَّهُ اسْمُ مصدر لا مَكَان ، فهو كقولك : " آتِيكَ خُفُوقَ النَّجْم ومَقْدِم الحَاجِّ " ، ثم قال " وإنَّما حَسُن ذَلِك في المَصَادِر لمُطَابقتِهَا الزَّمان ، ألا ترى أنَّه مُنْقض غير باقٍ كما أنَّ الزِّمان كَذَلِك " . والثاني : أن العَامِل فيها فِعْلٌ مَحْذُوف ، أي : يَثْوُون فيها خَالِدِين ، ويَدُلُّ على هذا الفِعْلِ المقدَّرِ " مَثْوَاكُمْ " ويراد بـ " مَثْوَاكُمْ " مكان التَّواءِ ، وهذا جوابٌ عن قول الفَارِسيَ المعْتَرِض به على الزَّجَّاج . الثالث : قاله ابو البقاء : أنَّ العَامِل معنى الإضافة ، ومعنى الإضافةِ لا يَصْلُح ان يكون عَامِلاً ألْبَتَّة ، فليس بِشَيْءٍ . قوله : { إلاَّ مَا شَاءَ ٱللَّهُ } اختلفُوا في المسْتَثْنَى منه : فقال : الجُمْهُور : هو الجُمْلَة التي تَلِيها ، وهي قوله : { ٱلنَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدين فِيهَا } وسيأتي بيانه عن قُرْب . وقال أبو مُسْلِم : " هو مستَثْنَى من قوله : { وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا } أي : إلا مَنْ أهْلَكْتَهُ واخْتَرَمْتَه قبل الأجَلِ الذي سَمَّيْتَه لِكُفْره وضلاله " . وقد ردَّ النَّاس عليه هذا المَذْهَب من حَيْثُ الصِّناعة ، ومن حَيْثُ المَعْنى . أمَّا الصِّناعة فَمِنْ وَجْهَين : أحدهما : أنَّه لو كان الأمْرُ كذلك ، لكان التَّرْكيبُ " إلاَّ ما شِئْتَ " ليُطابق قوله : " أجَّلْتَ " . والثاني : أنه قَدْ فصل بين المْسَتثْنَى والمسْتَثْنَى منه بقوله : { قَالَ ٱلنَّارُ مَثْواكُمْ خَالِدينَ فيها } ومثل ذلك لا يَجُوزُ . وأما المَعْنَى : فلأن القَوْل بالأجَلَيْن : أجل الاخْتِرام ، والأجَل المسَمَّى باطل ؛ لدلائل مقرَّرَة في غَيْر هذا الموضع . ثم اختلفوا في هذا الاسْتِثْنَاء : هل هو مُتَّصِلٌ أو مُنْقَطِعٌ ؟ على قولين : فذهب مَكِّي بن أبي طالب , وأبُو البقاءِ في أحد قَوْلَيْهما : إلى أنَّه منْقَطِعُ , والمعنى : " قال النَّار مَثْواكُم إلاَّ مَنْ آمَنَ مِنْكُمْ في الدُّنْيَا " كقوله : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ } [ الدخان : 56 ] أي : لكن الموْتَة الأولى ، فإنهم قَدْ ذَاقُوهَا في الدنيا كذلك هذا ؛ لكن الِّذِين شَاءَهُم الله أن يُؤمِنُوا مِنْكُم في الدُّنيا ، وفيه بُعْدٌ ، وذهب آخرُون إلى أنَّه مُتَّصِلٌ ، ثم اخْتَلَفُوا في المسْتَثْنَى منه مَا هُو ؟ فقال قوم : هو ضمير المخَاطَبِين في قوله : " مَثْوَاكُمْ " أي : إلا من آمن في الدُّنْيَا بعد أن كان من هؤلاء الكفرة ، علله ابن عبَّاسٍ ، و " ما " هُنَا بمعنى " مَنْ " التي لِلْعُقلاءِ ، وساغ وُقُوعها هُنَا ؛ لأن المراد بالمسْتَثْنَى نوع وصنف ، و " ما " تقع على أنْواعِ من يَعْقِلُ ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله : { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } [ النساء : 3 ] . ولكن قد اسْتُبِعد هذا ؛ من حيث إن المسْتَثْنَى مخالِفٌ للمسْتَثْنَى مِنْه في زمان الحُكْم عليهما ، ولا بُدَّ أن يَشْترِكَا في الزَّمَانِ ، لو قلت : " قاَمَ القَوْمُ إلاَّ زَيْداً " ، وكان مَعْنَاه [ إلا زَيْداً فإنه لم يَقُمْ ، ولا يَصِحُّ أن يكون المَعْنَى : فإنه سيَقُومُ في المسْتَقْبل ، ولو قلت : " سأضْرِب القَوْم إلا زَيْداً " ] , كان مهناه : فإنِّي لا أضربه في المسْتَقْبل , ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى : فإني ضَرَبْتُه فيما مَضَى اللَّهُم إلا أنْ يُجْعَلَ استِثْنَاء منْقَطِعاً كما تقدَّم تَفْسيره . وذهب قَوْمٌ : إلى أن المسْتَثْنَى منه زمان ، ثم اخْتلف القَائِلُون بذلك : فمنهم من قال : ذلك الزَّمان هو مُدَّة إقامتهم في البَرْزَخِ ، أي : " القُبُور " . وقيل : " هو المُدَّة التي بَيْن حَشْرِهم إلى دُخُولِهِم النَّار " . وهذا قول الطَّبري قال : " وساغَ ذلك من حَيْثُ إنّ العِبَارة بقوله : " النَّارُ مَثْواكُم " لا يخصُّ بها مسْتَقْبَل الزَّمَان دون غيره " . وقال الزجاج : " هو مَجْمُوع الزمَانَينِ ، أي : مدَّة إقامتهم في القُبُور ، ومُدَّة حَشرِهم إلى دخُولهم النَّارِ " . وقال الزمخشري : " إلا ما شاء الله ، أي : يُخَلِّدون في عَذَاب النَّارِ الأبد كُلّه إلا ما شاء الله إلا الأوْقَات الَّتِي يُنْقَلُون فيها من عذاب النَّارِ إلى عذاب الزَّمْهَرير ؛ فقد رُويَ : أنهم يَدْخُلون وادياً فيه من الزَّمْهَرير ما يَقْطَعُ أوْصَالَهُم ، فيتعاوَوْن ويطْلُبُون الرَّدَّ إلى الجَحِيم " . وقال قوم : " إلا ما شاء اللَّه " هم العُصَاةُ الِّذِين يدخُلُون النَّار من أهل التَّوحيد ، ووقعت " مَا " عليهم ؛ لأنَّهم نوع كأنه قيل : إلا النَّوع الذي دَخَلَها من العُصَاة ، فإنهم لا يُخَلِّدون فيها ، والظاهر أن هذا استِثْنَاء حَقِيقَة ؛ بل يجب أن يَكُون كذلِك . وزعم الزَّمَخْشَريّ : أنه يكون من بابِ قَوْل المْوتُور الذي ظَفَر بواتِرِه ، ولم يَزَلْ يُحَرِّقِ عليه أنْيَابَه ، وقد طلب أن يُنَفِّسَ عن خِنَاقهِ : " أهْلَكَنِي اللَّه إن نَفَّسْتُ عَنْكَ إلا إذا شِئْت " وقد عَلِم أنه لا يَشَاءُ ذلك التَّشَفِّي منه بأقْصَى ما يَقْدِر عليه من التَّشْديد والتَّعْنِيفِ ، فيكون قوله : " إلاَّ إذا شِئْت " من أشد الوعيد مع تهَكُم . قال شهاب الدين : ولا حاجة إلى ادِّعَاء ذلك مع ظُهُور مَعْنَى الاسْتِثْنَاء فيه ، وارتكاب المجازِ وإبْرازِ ما لم يَقَعُ في صُورةِ الواقِعِ . وقال الحسن البَصْرِيُّ : " إلا ما شَاء اللَّه ؛ أي : من كَونهم في الدُّنْيَا بغير عذابٍ " فجعل المسْتَثْنى زمن حَيَاتهم ، وهو أبْعد ممَّا تقدَّم . وقال الفرَّاء - وإليه نحا الزَّمخْشَري - : " والمعنى : إلا ما شَاءَ اللَّه من زيادة في العذابِ " . وقال غيره : إلا ما شاء اللَّهُ من النِّكال ، وكُلُّ هذا إنَّما يتمَشَّى على الاستِثْنَاء المنقَطِع . قال أبو حيَّان : " وهذا رَاجِعٌ إلى الاسْتِثْنَاء من المصْدَر الذي يَدُلُّ عليه مَعْنَى الكلام ؛ إذ المْعْنَى : يُعَذِّبون في النَّارِ خَالِدين فهيا إلا ما شَاء اللَّهُ من العذاب الزَّائد على النَّارِ ، فإنه يُعَذِّبهم ، ويكُون إذ ذاك استِثْنَاء منقطعاً ، إذ العذابُ الزَّائد على عذابِ النَّارِ لم ينْدَرج تَحْتَ عذاب النَّار " . وقال ابن عطيَّة : " ويتَّجه عندي في هذا الاستِثْنَاء أن يكون مُخَاطَبَة للنَّبِي صلى الله عليه وسلم وأمته ، ولَيْس مما يُقالُ يوم القيامة ، والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم اللَّهِ ؛ كأنه لما أخْبَرَهُم أنه يُقَال للكُفَّار : " النَّارُ مَثْوَاكُم " استثنى لهم من يُمْكِن أن يُؤمِن ممَّن يَرَوْنَهُ يومئذ كافراً ، وتقع " مَا " على صِفَة من يَعْقل ، ويؤيِّد هذا التَّأويل أيضاً قوله : { إنَّ ربَّك حَكِيمٌ عَلِيمٌ } أي : بمن يُمْكِنُ أن يُؤمِنَ منهم " . قال أبو حيان : " وهو تَأويلٌ حسن ، وكان قد قال قبل ذلك : " والظَّاهر أن هذا الاسْتِثْنَاء هو من كلام اللَّه - تعالى - للمخَاطَبِين ، وعليه جَاءَت تفاسير الاستِثْنَاء " وقال ابن عطيَّة " ثم ساقه إلى أخِرِه ، فكيف يسْتَحْسِنُ شيئاً حُكِم عليه بأنَّه خلاف الظَّاهِر من غير قَرِينَةٍ قويَّة مُخْرِجة للَّفْظِ عن ظَاهِرِه ؟ قوله : { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } أي : فيما يَفْعَلهُ من ثواب وعقاب وسائر وُجُوه المجازِ ، أو كأنَّه ، يقول : إنما حَكَمْتُ لهؤلاء الكُفَّارِ بعذاب الأبَدِ ، لعلمي أنَّهُم يستَحِقُّونَ ذلك . وقيل : " عليم " بالَّذي استَثْنَاهُ وبِمَا في قُلُوبهم من البرِّ والتَّقْوَى .